نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

ومعنى التجويز العقل أنّه لو قدّر ، لم يلزم منه محال لنفسه ، لا أنّه محتمل وليس بجبل ، لأنّ التجويز مناف للجزم.

والحقّ ما قلناه نحن أوّلا من أنّه ضروريّ.

المبحث الثالث : في أقسامه

العلم إمّا تصوّر ، وهو الحضور الذّهني.

أو تصديق ، وهو الحكم بمتصوّر على آخر إيجابا أو سلبا ، وكلّ منهما ضروريّ وكسبيّ.

فالضروريّ من التصوّر ما لا يتوقّف على طلب وكسب ، ومن التصديق ما يكفي فيه تصوّر طرفيه.

والكسبيّ من كلّ منهما ما يقابل البديهيّ.

والضروريات التصديقية :

إمّا أوّليّات ، وهي الّتي يحكم بها العقل بمجرّد تصوّر الطرفين.

أو محسوسات ، وهي ما يحكم بها العقل بمعاونة الحسّ الظّاهر.

وإمّا مجرّبات ، وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بكثرة التجربة والاعتبار.

وإمّا وجدانيّات ، وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بمساعدة القوى الباطنة.

وإمّا حدسيّات ، وهي قضايا الّتي يحكم بها العقل لأجل حدس قويّ من النفس.

٨١

وإمّا متواترات ، وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بتواتر الأخبار الّتي يحصل معها الحكم قطعا.

وإمّا نظريّة القياس ، وهي قضايا الّتي يحكم بها العقل لأجل متوسّط لا يخلو الذهن عنه ، وتسمّى قضايا قياساتها معها.

المبحث الرابع : في الظّنّ

حكم الذهن بمتصوّر على آخر إمّا أن يكون جازما أو لا ، والأوّل إمّا أن يكون مطابقا أو لا ، والمطابق إمّا أن يكون ثابتا أو لا.

والجازم المطابق الثابت هو العلم ، ويستجمع الجزم والمطابقة والثبات.

وإن خلا عن الجزم فهو الظنّ الصّادق.

وإن خلا عنه وعن المطابقة ، فهو الظّنّ الكاذب.

وإن خلا عن المطابقة والثبات خاصّة ، فهو اعتقاد الجهّال.

وإن خلا عن الثبات واحده ، فهو اعتقاد المقلّد للحق.

إذا عرفت هذا فالظّنّ ، ترجيح أحد الطرفين مع تجويز خلافه والوهم مرجوح الظن والشك هو سلب الرجحان.

واعلم أنّ رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان والظن هو الأوّل لا الثاني فإن كان الظنّ مطابقا كان حقّا ، وإلّا فهو كذب.

وأمّا اعتقاد الرّجحان كما إذا اعتقد ترجيح نزول المطر عن الغيم الرطب.

٨٢

فينقسم إلى العلم والظنّ وغيرهما ، والترجيح هنا راجع إلى المعتقد ، وفي الظنّ راجع إلى الاعتقاد.

وقيل (١) : ما عنه الذّكر الحكميّ إمّا أن يحتمل متعلّقه النقيض بوجه ما أو لا ، والثاني العلم.

والأوّل إمّا أن يحتمل النقيض عند الذاكر ، لو قدّره أو لا ، والثاني الاعتقاد ، فإن طابق ، فصحيح ، وإلّا ففاسد.

والأوّل إمّا أن يحتمل النقيض ، وهو راجح أو لا ، والراجح الظّنّ ، والمرجوح الوهم ، والمساوي ، الشّك.

المبحث الخامس : في الدليل والنّظر

الدّليل يطلق في اللغة على الدالّ ، وهو النّاصب للدليل.

وقيل (٢) : هو الذاكر للدليل وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد.

وعند الفقهاء : ما يمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبريّ.

والأمارة هي الّتي يمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيها إلى الظنّ.

فبالإمكان يدخل الدّليل الّذي لم ينظر فيه ، فإنّه لا يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر (٣) لأنّ التوصّل به ممكن.

وبالصحيح عن النظر الفاسد.

__________________

(١) القائل هو ابن الحاجب. لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٢٧٥ ، قسم المتن.

(٢) القائل هو ابن الحاجب. لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٢٥٢ قسم المتن.

(٣) في «أ» : لعدم النظر.

٨٣

وبالخبريّ عن الحدّ (١).

وقيل قول مؤلّف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر.

وقد يطلق على الاستدلال بالمعلول على العلّة.

وأقسام الدليل : لميّ وإنّيّ ، فالأوّل هو الاستدلال بالعلّة على المعلول ، والثاني هو الاستدلال بالمعلول على العلّة أو بأحد المعلولين على الآخر ، وهو مركّب من الأوّلين.

وأيضا فهو إمّا عقليّ محض أو مركّب من العقلي والسّمعي ، ولا سمعيّ محض ، لتوقّفه على صدق الرسول المكتسب عقلا لا سمعا وإلّا لزم الدّور.

وأمّا النظر فله تعريفات كثيرة ، أجودها ما قلناه نحن في كتبنا الكلاميّة ، وهو : أنّه ترتيب أمور ذهنيّة ليتوصّل بها إلى آخر ، فإنّ صحّت المادّة والصورة فصحيح ، وإلّا ففاسد ، فإن كانت مقدّمتاه علميّتين ، كانت النتيجة علميّة ، وإن كانتا أو إحداهما ظنّية فهي ظنيّة.

ولمّا كان محمول النتيجة مفتقرا في ثبوته لموضوعها إلى وسط ، وجبت مقدّمتان تشتركان في حدّ وسط ، فإن كان محمولا في الصغرى ، موضوعا في الكبرى فهو الأوّل ، وشرطه إيجاب الصّغرى وكليّة الكبرى.

وإن كان محمولا فيهما فهو الثاني ، وشرطه اختلاف ، مقدّمتيه كيفا وكليّة الكبرى.

وإن كان موضوعا فيهما فهو الثالث ، وشرطه إيجاب الصغرى وكلّيّة إحداهما.

__________________

(١) والمراد أنّ هذا القيد «الخبريّ» احتراز عن الحدّ الموصل إلى العلم التصوريّ.

٨٤

وإن كان موضوعا في الصغرى ، محمولا في الكبرى ، فهو الرابع ، وشرطه اتّفاق مقدّمتيه في الإيجاب مع كليّة الصغرى ، أو اختلافهما بالكيف مع كليّة إحداهما.

فهذه طرق اكتساب التّصديقات.

وأمّا اكتساب التصوّرات فإنّما يكون بالحدّ والرسم.

والحدّ منه تامّ يشتمل على مجموع المقدّمات من الأجناس والفصول ، ومنه ناقص يشتمل على بعضها.

والرّسم منه تامّ يفيد الامتياز عن كلّ شيء ، ومنه ناقص يفيد الامتياز عن البعض وشرطه الثلاثة الأول الاطّراد والانعكاس.

وبيان هذه المناهج ذكرناها في كتبنا المنطقيّة.

المبحث السادس : في الحكم

اختلف الناس هنا ، فالمعتزلة القائلون بحسن الأشياء وقبحها عقلا ذهبوا إلى أنّ الحكم صفة للفعل في نفسه.

والأشاعرة منعوا من ذلك ، وجعلوه أمرا شرعيّا لا صفة حقيقيّة للفعل.

واختلفوا في تعريفه ، فقال الغزالي : إنّه خطاب الشرع المتعلّق بأفعال المكلّفين. (١)

__________________

(١) المستصفى من علم الأصول : ١ / ١١٢.

٨٥

ويدخل فيه قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(١) فإنّه خطاب الشرع متعلّق بأفعال المكلّفين وليس حكما إجماعا.

وقال آخرون (٢) زيادة على ذلك بالاقتضاء ، أو التخيير (٣).

والخطاب قيل : إنّه الكلام الّذي يفهم السامع منه شيئا (٤).

وليس بجيّد ، لدخول ما لم يقصد المتكلّم إفهام السّامع.

وقيل : «اللفظ المفيد الّذي يقصد به إفهام من هو متهيّئ لفهمه ، فخرجت الحركات والإشارات المفهمة والمهملة وما لم يقصد به الافهام ، وقولنا «لمن هو متهيّئ له» احتراز به عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه» (٥).

وقال السيّد المرتضى : الخطاب هو الكلام إذا وقع على بعض الوجوه ، ويفتقر الخطاب في كونه كذلك إلى إرادة المخاطب لكونه خطابا لمن هو خطاب له ، لمشاركة ما ليس بخطاب له في جميع صفاته من وجود وحدوث وصيغة وترتيب.

ولا بدّ من زائد به يحصل مسمّى الخطاب ، وهو قصد المخاطب ، ولهذا قد يسمع الكلام جماعة والخطاب لبعضهم دون بعض لأجل القصد ، ولهذا جاز أن

__________________

(١) الصافات : ٩٦.

(٢) ومنهم محمد بن عمر المعروف بالرازي المتوفّى ٦٠٦ ه‍ في كتابه «المحصول في علم الأصول» : ١ / ١٥.

(٣) ما فيه الاقتضاء عبارة عن الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة. و «التخيير» هو الإباحة.

(٤) نقله الشيخ عليّ بن أبي علي المعروف بالآمدي عن بعض الأصوليّين. لاحظ الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٧١.

(٥) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٧١. نقله المصنّف ملخّصا.

٨٦

يتكلّم النائم ولم يجز أن يخاطب كما لم يجز أن يأمر وينهى (١).

ثمّ قسّم الخطاب إلى مهمل ومستعمل.

فالأوّل ما لم يوضع في اللغة الّتي أضيف أنّه مهمل بالنّسبة إليها لشيء من المعاني والفوائد.

والثاني هو الموضوع لمعنى وفائدة (٢) ، وهو إمّا أن يكون له معنى وإن كان لا يفيد فيما سمّي به كالألقاب ، مثل زيد وعمرو ، فانّه بدل من الإشارة ، ولهذا لا يستعمل في الله تعالى.

والفرق بينه وبين المفيد أنّ اللّقب يجوز تغييره ، واللغة على ما هي عليه ، ولا يجوز في المفيد ذلك ، ولهذا كان الحقّ أنّ لفظة شيء ليست لقبا ، بل هي من قسم مفيد الكلام ، إذ لا يجوز تبديلها ، واللغة على ما هي عليه.

وإنّما لم تفد لفظة شيء ، لاشتراك جميع المعلومات في معناها ، فتتعذّر فيها طريقة الإبانة والتمييز ، فعدم إفادتها لأمر يرجع إلى غيرها ، واللّقب لا يفيد لأمر ويرجع إليه.

وأمّا المفيد فهو المقتضي للإبانة فإمّا أن يبيّن نوعا من نوع كلون ، وكون ، واعتقاد ، وإرادة ، أو جنسا من جنس كجوهر ، وسواد ، أو عينا من عين كعالم وقادر وأسود وأبيض. (٣)

فالسيد المرتضى لم يشترط في الخطاب الفهم ، ولا تهيّؤ السامع له ، ولا

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٨.

(٢) في المصدر : «أو فائدة».

(٣) لاحظ الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٩ ـ ١٠. نقله المصنّف ملخّصا.

٨٧

بأس به ، ولهذا ذمّ العقلاء من خاطب بغير المفيد أو للجماد (١) وسمّوه خطابا ، أو أنّه استعمل في مورد القسمة الخطاب في معنى الكلام مجازا.

وقولنا : «الشارع» احتراز عن غيره.

وقولنا : «المتعلّق بأفعال المكلّفين» يخرج عنه ما عداه.

وقولنا : «بالاقتضاء [أ] والتخيير» يريد به الأحكام الخمسة ، فإنّ الاقتضاء ، قد يكون للوجود وللعدم إمّا مع الجزم أو بدونه ، فيتناول الواجب ، والحرام ، والمندوب ، والمكروه.

أمّا التخيير فهو الإباحة.

وقد اعترض عليه من وجوه : (٢)

الأوّل : إذا كان الحكم هو خطابه تعالى ، وخطابه كلامه ، وكلامه عند الأشاعرة قديم ، فيكون حكم الله تعالى بالحلّ والحرمة قديما ، وهو باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ حلّ وطء الزوجة وحرمة الأجنبيّة صفة فعل العبد ، فإنّه يقال : وطء حلال وحرام ، وفعل العبد محدث فيستحيل أن يكون وصفه قديما.

وأمّا ثانيا فلأنّه يقال : حلّت المرأة بعد أن لم تكن كذلك ، وهذا اعتراف بحدوث الحكم.

وأمّا ثالثا فلأنّ المقتضي هو العقد أو ملك اليمين ، ومعلول الحادث حادث.

__________________

(١) في «ج» : الجماد.

(٢) هذه الوجوه أوردها المعتزلة على الأشاعرة القائلين بأن الحكم الشرعي قديم. لاحظ الكاشف عن المحصول : ١ / ٢٢٥.

٨٨

الثاني : يخرج عن هذا الحدّ كون الشيء سببا ، وشرطا ، ومانعا ، وصحيحا ، وفاسدا.

الثالث : الحكم الشرعي قد يوجد في غير المكلّف ، كما يجعل إتلاف الصّبيّ سببا لوجوب الضمان ، والدلوك سببا لوجوب الصلاة.

الرابع : إدخال كلمة «أو» في الحدّ خطأ ، لأنّها للترديد والتشكيك ، والحدّ للإيضاح.

أجابوا عن الأوّل بالمنع من كون الحلّ والحرمة وصفين للفعل ، فإنّ معنى كون الفعل حلالا كونه مقولا فيه رفعت الحرج عن فعله ، وكونه حراما كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك ، فحكم الله تعالى هو كلامه ، والفعل هو متعلّق الكلام ، وليس لمتعلّق القول من القول صفة وإلّا لحصل للمعدوم باعتبار كونه مذكورا أو مخبرا عنه ، ومسمّى بالاسم المخصوص وصف ثبوتيّ ، وهو محال.

وقوله : «حلّت لزيد بعد أن لم تكن».

قلنا : حكم الله تعالى هو قوله في الأزل «سوّغت له حين وجوده في كذا» فحكمه قديم ومتعلّق حكمه محدث.

وقوله : «الحكم يعلّل بالأسباب».

قلنا : المراد من السبب المعرّف لا الموجب.

وعن الثاني المراد من كون الدلوك سببا : أنّا متى علمنا أنّه تعالى أمر بالصّلاة فلا معنى للسببيّة إلّا الإيجاب.

٨٩

وقولنا : «العقد صحيح» معناه أنّ الشرع (١) أذن في الانتفاع به ، وهو معنى الإباحة.

وقيل : يزاد في الحدّ أو الوضع.

وعن الثالث : أنّ معنى كون إتلاف الصّبي سببا لوجوب الضمان تكليف الولي بإخراج الضّمان من ماله.

ومعنى كون الدلوك سببا تكليف الرجل بأداء الصلاة عنده.

وعن الرابع : أنّ المراد أنّ كلّ ما وقع عليه أحد هذه الوجوه كان حكما.

وقيل : إنّ السببيّة والشرطيّة ليست حكما.

وقال بعضهم : الحكم خطاب الشارع المفيد فائدة شرعيّة تختص به أي لا يفهم إلّا منه ، لأنّه إنشاء فلا خارج له.

وهذه الحدود (٢) كلّها باطلة عندنا لما عرفت من أنّ كلامه تعالى عبارة عن الحروف والأصوات وهي حادثة ، وقد بيّناه في علم الكلام.

ولأنّ الحكم ليس هو الخطاب بل المستفاد منه ، فإنّ الحكم ليس قول الشارع : أوجبت عليك (٣) بل نفس الوجوب المستفاد من ذلك الخطاب.

__________________

(١) في «ب» : انّ الشارع.

(٢) لاحظ الأقوال حول تعريف الحكم الشرعيّ وما فيه من النقض والإبرام في «الكاشف عن المحصول في علم الأصول» : ١ / ١٩١ ـ ٢٣٣ ، تأليف محمد بن محمود العجلي الأصفهاني ، المتوفّى ٦٥٣ ه‍.

(٣) في «أ» : عليكم.

٩٠

الفصل السّابع

في تقسيم الحكم

وهو على وجوه ينظمها مباحث :

[المبحث] الأوّل : انقسامه إلى الأحكام الخمسة : الواجب ، والندب ، والمباح ، والمكروه ، والمحظور.

وطريق الحصر أن نقول : الخطاب إذا تعلّق بشيء فإمّا أن يكون طلبا للفعل أو الترك ، أو يتساوى الأمران.

فالأوّل إن كان جازما فهو الواجب ، وإلّا فهو المندوب.

والثاني إن كان جازما فهو الحرام ، وإلّا فالمكروه.

والثالث هو المباح.

أمّا الواجب ففي اللغة الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس والحائط : إذا سقطا ، والثبوت والاستقرار.

وأمّا في العرف الشرعي فعند المعتزلة أنّ الواجب ما يستحقّ تاركه الذمّ ، أو ما يستحقّ العقاب بتركه ، أو ما يكون على صفة باعتبارها يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، أو ما يكون تركه في جميع وقته سببا للذمّ.

٩١

فأمّا الأشاعرة فقد رسمه القاضي أبو بكر بأنّه ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه. (١)

فقولنا : «يذمّ» خير من قولنا : يعاقب تاركه ، لأنّ الله تعالى قد يعفو عن العقاب ، ولا يقدح ذلك في وجوب الفعل ، ومن قولنا : يتوعّد بالعقاب على تركه ، لأنّ الخلف في خبر الله تعالى محال ، وكان ينتفي (٢) العفو ، ومن قولنا : ما يخاف العقاب على تركه ، فإنّ المشكوك في وجوبه وحرمته يخاف من العقاب على تركه مع أنّه غير واجب.

وقولنا : «شرعا» ليخرج عنه مذهب من يوجب الأحكام عقلا.

وقولنا : «على بعض الوجوه» ليدخل فيه المخيّر ، فإنّه يلام على تركه إذا ترك معه بدله ، والموسّع لأنّه يذمّ إذا أخلّ به في جميع الوقت ، والواجب على الكفاية ، لأنّه يذمّ إذا أخلّ به الجميع.

وأورد على طرده السّاهي والنّائم والمسافر وغيرهم من أصحاب الأعذار ، فإنّ الصوم لا يجب عليهم ، ويذمّون على تركه على وجه وهو انتفاء الأعذار ، فهؤلاء يذمّون على تركه على وجه وليس واجبا.

فإن أجاب بأنّ الوجوب ثابت على ذلك التقدير وإنّما يسقط بالنوم والسهو والسفر.

قلنا : فالواجب على الكفاية والموسّع والمخيّر يسقط بفعل البعض وبفعل في آخر الوقت وبفعل بدله ، فلا حاجة إلى القيد في الكفاية ، كما لم يحتج في المسافر وغيره.

__________________

(١) لاحظ التقريب والإرشاد : ١ / ٢٩٣.

(٢) كذا في «أ» و «ب» ولكن في «ج» : فكان ينبغي.

٩٢

واعترض بالسنّة ، فإنّ الفقهاء قالوا : لو أنّ أهل البلد اتّفقوا على ترك الأذان قوتلوا عليه.

والجواب أنّه للاستهانة لا للوجوب.

والأقرب أن نقول : الواجب ما يذمّ تاركه عمدا مختارا ، ولا يرد المخيّر والموسّع والكفاية ، لأنّ الواجب في المخيّر والموسّع هو الأمر الكلّي لا الجزئيات ، وفي الكفاية فعل كلّ واحد يقوم مقام الآخر ، فكأنّ التارك فاعل ، أو نزيد في الحدّ قولنا : «لا إلى بدل».

واعلم أنّ الواجب يطلق عليه اللازم ، والمحتوم ، والفرض.

وقالت الحنفيّة : الفرض ما عرف وجوبه بدليل قطعيّ ، والواجب ما عرف وجوبه بدليل ظنيّ ، فان الفرض هو التقدير ، قال تعالى : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)(١) أي قدّرتم ، والوجوب السقوط ، فخصّصنا الفرض بما عرف وجوبه بدليل قطعيّ ، لأنّه هو الّذي علم منه أنّه تعالى (٢) قدّره علينا ، وأمّا الّذي عرف وجوبه فظنّي فإنّه الواجب ، لأنّه ساقط علينا ، ولا نسمّيه فرضا لعدم علمنا بأنّه تعالى قدّره علينا. (٣)

وهذا في غاية الضعف ، فإنّ الفرض هو التقدير سواء استند إلى علم أو ظنّ ، كما أنّ الواجب هو السّاقط من غير اعتبار سببه ، وكما أنّ اختلاف طرق

__________________

(١) البقرة : ٢٣٧.

(٢) في «ج» : هو الّذي علم أنّ الله تعالى.

(٣) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٩ ، تأليف الفخر الرازي المتوفّى ٦٠٦ ه‍ ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٤٩٤ والكاشف عن المحصول في علم الأصول : ١ / ٢٤٤.

٩٣

النوافل غير موجب لاختلاف حقائقها ، وكذا طرق الحرام ، فكذا طرق الواجب ، مع أنّه تعالى قد أطلق الفرض على الواجب في قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ)(١) أي أوجب ، وللإجماع على أنّه يقال لمن أدّى صلاة مختلفا فيها : انّه قد أدّى فرض الله تعالى ، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

وأمّا المحظور فهو ما يذمّ فاعله أو الّذي يستحقّ فاعله العقاب ، أو ما يشتمل على وصف باعتباره يستحقّ فاعله الذمّ.

ويطلق في اللغة على ما كثر افاته يقال : لبن محظور ، أي كثير الآفة ، وعلى المنع يقال : حظرت عليه كذا ، أي منعته ، و [على] القطع ومنه الحظيرة وهي البقعة المنقطعة الّتي تأتي إليها المواشي.

وقيل : انّه في العرف عبارة عمّا ينتهض فعله سببا للذمّ بوجه ما من حيث هو فعل له.

وخرج بقولنا «بوجه ما» المخيّر كما تقدّم في الواجب وقولنا «من حيث هو فعل له» المباح الّذي يستلزم فعله ترك واجب ، فإنّه يذمّ عليه لكن لا من جهة فعله بل لما يلزمه من ترك الواجب ويقال له محرّم ومعصية أيّ فعل ما كرهه الله تعالى ، وعند الأشاعرة فعل ما نهى الله تعالى عنه ، وذنب أي المنهي عنه الّذي يتوقّع عليه العقوبة ، فلا يوصف أفعال البهائم والأطفال به ، وربما وصف فعل المراهق به لاستحقاقه الأدب على فعله ، مزجور عنه ومتوعّد عليه وقبيح.

وأمّا المباح ، فهو في اللّغة مأخوذ من الإباحة ، وهي الإعلان ، ومنه باح

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

٩٤

بسرّه (١) ، ويطلق على الإطلاق والإذن ، يقال : أبحته كذا ، أي [أطلقته و] أذنت له فيه.

وأمّا في الشرع فقال قوم : إنّه ما خيّر المرء فيه بين فعله وتركه شرعا ، ونقض بخصال الكفّارة المخيرة ، فإنّه ما من خصلة منها إلّا والمكلّف مخيّر بين فعلها وتركها ، وبتقدير فعلها تكون مباحة لا واجبة ، وكذا الموسّع كالصّلاة في أوّل وقتها.

وقيل : ما استوى طرفاه في عدم الثواب والعقاب (٢) ونقض بفعله تعالى فانّه كذلك ولا يوصف بالاباحة.

وقيل : ما أعلم فاعله أو دلّ عليه أنّه لا ضرر في فعله ولا تركه ولا نفع له في الآخرة (٣) ونقض بالفعل الّذي خيّر الشارع فيه بين الفعل والترك مع إعلام فاعله ، أو دلالة السّمع على استواء فعله في المصلحة والمفسدة في الدّين والدنيا ، فإنّه مباح وإن اشتمل فعله وتركه على الضرر.

وقيل : ما دلّ السمع على تخيير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير بدل. ويخرج بالأخير الموسّع في أوّل الوقت والمخيّر.

وأمّا على قول المعتزلة فإنّه ما لا ذمّ في فعله وتركه ، ولا صفة له زائدة على حسنه.

ويقال له : حلال وطلق.

__________________

(١) إذا أظهره.

(٢) نقله الباقلاني عن كثير من الناس ثمّ ردّه ، لاحظ التقريب والإرشاد : ١ / ٢٨٩.

(٣) المحصول في علم الأصول : ١ / ٢٠.

٩٥

واعلم انّه قد يوصف الفعل بأنّه مباح وإن كان تركه محظورا ، كما نصف دم المرتدّ بأنّه مباح ، ومعناه : أنّه لا ضرر على من أراقه وإن كان الإمام ملوما بترك إراقته.

وأمّا المندوب فهو في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهمّ.

وفي العرف ما يكون فعله راجحا على تركه ، رجحانا غير مانع من النقيض.

وقيل : هو ما فعله خير من تركه (١) ونقض بالأكل قبل ورود الشرع ، فإنّه خير من تركه لما فيه من اللذّة واستبقاء المهجة ، وليس مندوبا.

وقيل : ما يمدح على فعله ولا يذمّ (٢) ويبطل بأفعاله تعالى ، فإنّها كذلك وليست مندوبة.

وقيل : هو المطلوب فعله شرعا من غير ذمّ على تركه مطلقا ، فالمطلوب فعله يخرج عنه ما عدا الواجب من الحرام والمكروه والمباح والأحكام الثابتة بخطاب الوضع ، ونفي الذمّ يخرج به الواجب المخيّر والموسّع في أوّل الوقت.

وذمّ الفقهاء من ترك النوافل جمع ، لأنّهم استدلّوا بذلك على استهانته بالطاعة.

ويسمّى «مرغّبا فيه» و «مستحبّا» أي انّ الله تعالى أحبّه ، و «نفلا» أي طاعة غير واجبة ، وأن للإنسان أن يفعله من غير حتم و «تطوّعا» أي انّ المكلّف انقاد

__________________

(١) القائل هو الباقلاني في التقريب والإرشاد : ١ / ٢٩١.

(٢) نقله الغزالي عن القدريّة ، لاحظ المستصفى : ١ / ١٣٠.

٩٦

لله تعالى فيه ، مع أنّه قربة من غير حتم و «سنّة» أي طاعة غير واجبة.

وقيل : انّه لا يختصّ المندوب بل يتناول كلّما علم وجوبه أو ندبيّته بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بإدامته فعله ، فإنّ السنّة مأخوذة من الإدامة ، ولهذا يقال : الختان سنّة ، ولا يراد به أنّه غير واجب (١) و «إحسانا» إذا كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى ايقاعه.

وأمّا المكروه فهو مشترك بين ثلاثة :

١. ما نهي عنه نهي تنزيه ، وهو ما أعلم فاعله أنّ تركه خير من فعله وإن لم يكن على فعله عقاب.

٢. والمحظور.

٣. وترك الأولى ، كترك النافلة.

وسمّي مكروها لا باعتبار النهي عن الترك ، بل لكثرة الفضل في فعلها.

وهو في اللّغة مأخوذ من الكريهة وهي الشّدة في الحرب ، ويقال : حمل كره أي شديد الرأس.

المبحث الثاني :

الحكم قد يكون بحسن العقل وقد يكون بقبحه.

قالت المعتزلة : الفعل وهو ما وجد بعد أن كان مقدورا إمّا ألا يكون له

__________________

(١) لاحظ المستصفى : ١ / ٢١.

٩٧

صفة زائدة على حدوثه نحو كلام النائم ، وهذا لا يوصف بحسن ولا قبح.

وإمّا أن يكون وينقسم إلى فعل الملجأ ولا يستحقّ به مدح ولا ذمّ وإلى فعل المخلّى.

فأمّا قبيح ، وهو الّذي من شأنه أن يستحقّ فاعله مع العلم به والتخلية الذمّ.

وأمّا حسن ، وهو ما لا يستحقّ فاعله به الذمّ ، ولا يجب في كل فعل أن يكون إمّا حسنا أو قبيحا وإلّا لكان المقتضي له مجرّد الحدوث ، وحينئذ يقبح كلّ محدث أو يحسن.

لا يقال : قد جعلتم فعل الساهي لا حكم له ، وعند الفقهاء يجب جبر الصلاة بالسجود ، والضمان على النائم لو كسر إناء غيره ، وجزاء الصيد على المحرم السّاهي ، والدية على عاقلة القاتل خطأ.

لأنّا نقول : السجود إنّما يجب لجبران السهو في الصلاة ، فهو حكم يلزم عند السّهو في الصّلاة ، لا أنّه يرجع عليه ، بل هو في الحقيقة سبب في التخفيف (١) حيث لم يأت بالمأمور به على وجهه ، فأسقط عنه التكليف ، وخرج عن العهدة بفعل السجود لأجل السهو.

وإنّما نفينا عن كلام النائم وحركته الّتي لا يتعدّاه الحسن والقبح ، وأمّا إذا أضرّ بغيره في حال نومه ، فلفعله حكم القبيح وإن كان لا ذمّ عليه ، كما لا يذمّ الصّبي والبهيمة ، لأنّ إمكان التحرز مفقود ، ولا استبعاد في تعلّق وجوب الضمان بذلك شرعا ، لأنّه لا نسبة بين ذلك وبين ما نفيناه من الذّم.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : التحقيق.

٩٨

وعلى هذا الوجه لزم العاقلة الدّية شرعا وإن لم يكن من جهتهم فعل لا قبيح ولا حسن ، وإنّما صار القتل سببا شرعيّا لوجوب ذلك عليهم.

والتحقيق أن نقول : الإنسان إمّا أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة تكليف ، كالنائم والساهي والمجنون والطفل ، وهذه لا يتوجّه عليها وعلى فاعلها لحوق مدح أو ذمّ (١) وإن تعلّق بها وجوب الضمان في مالهم ، ويخرجه الولي.

وإمّا أن يكون على حالة تكليف ، فإن كان للقادر عليه ، المتمكّن من العلم بحاله ، فعله فهو الحسن وإلّا فهو القبيح ، فالقبيح هو الّذي ليس للمتمكّن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ، ومعنى «ليس له [أن يفعله]» معقول ، ويتبع ذلك أن يستحقّ الذمّ بفعله.

ويعرّف أيضا بأنّه : الّذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذمّ.

والحسن ما هو للقادر عليه المتمكّن من العلم بحاله أن يفعله ، أو ما لم يكن على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ.

واعترض (٢) بأنّ العاجز يقال : ليس له أن يفعل ، وللقادر الممنوع عنه حسّا ، وللقادر مع النفرة ، وللقادر المزجور عنه شرعا.

والأوّلان غير مرادين ولا الثالث ، لأنّه قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعيّة عنه وبالعكس ، ولا الرابع لعوده إلى الشرع حينئذ ، ولا القدر المشترك وهو مطلق المنع إذ لا اشتراك ، فإنّ معنى الأوّل : نفي القدرة عليه ، وهو عدميّ ، والرابع : أنّه يعاقب عليه ، وهو وجوديّ ولا اشتراك بينهما.

__________________

(١) كذا في «ج» ولكن في «أ» و «ب» : وهذه لا يتوجّه عليها نحو فاعلها مدح.

(٢) المعترض هو الفخر الرازي في المحصول : ١ / ٢٢.

٩٩

وأمّا استحقاق الذمّ فقد يقال : الأثر يستحقّ المؤثّر بمعنى افتقاره إليه لذاته ، والمالك يستحقّ الانتفاع بملكه بمعنى أنّه يحسن منه ذلك الانتفاع.

والأوّل ظاهر الفساد ، والثاني يقتضي الدور ، والذمّ قول ، أو فعل ، أو ترك قول ، أو ترك فعل ينبئ عن اتّضاع حال الغير.

فإن عنيت بالاتّضاع ما ينفر الطبع عنه ، لم يتحقّق في حقّه تعالى حسن ولا قبح ، لانتفاء النفرة الطبيعيّة عنه ، وإن عنيت غيره فبيّنه.

والجواب : منع الحصر ، فإنّ المراد بقولنا : «ليس له أن يفعله» أي من حيث الحكمة لما يتبعه من الذّمّ ، وكذا يمنع الحصر في تغير الاستحقاق ، فإنّ المراد به هنا الطلب والاستحباب ، والاتّضاع انخفاض المنزلة.

وأمّا الأشاعرة فإنّهم يقولون : الفعل لا يوصف بحسن ولا قبح بذاته (١) بل باعتبارات خمسة إضافيّة غير حقيقيّة :

الأوّل : الحسن يقال على ما وافق الغرض ، والقبح على ما خالفه.

الثاني : الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ، والقبح على ما أمر بذمّ فاعله.

الثالث : الحسن على ما لا حرج في فعله ، والقبح مقابله.

الرابع : القبيح المنهيّ عنه شرعا ، والحسن ما لا نهي عنه شرعا ، فيندرج فيه أفعال الله تعالى ، وأفعال المكلّفين الواجبة والمندوبة والمباحة وأفعال السّاهي والنائم والبهائم.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : لذاته.

١٠٠