نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

المبحث السّادس : في أنّ الأمر المعلّق بشرط ، عدم عند عدمه (١)

اختلف النّاس في الأمر المعلّق على الشيء بحرف «إن» هل يعدم بعدم الشرط أم لا؟

فذهب قاضي القضاة إلى أنّه لا يلزم العدم ، وحكاه عن أبي عبد الله البصري (٢) ، (٣) وهو مذهب القاضي أبي بكر (٤).

وقال أبو الحسين البصري (٥) وابن سريج (٦) وجماعة من الشافعيّة وأبو الحسن الكرخي (٧) إلى العدم.

وهو الحقّ ، لنا وجوه :

الأوّل : أنّ كلمة «إن» تسمّى عند النّحاة حرف شرط ، والشّرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه.

أمّا المقدمة الأولى : فظاهرة.

وأمّا الثانية : فإنّهم يقولون : الوضوء شرط الصلاة ، والحول شرط وجوب

__________________

(١) هذه المسألة هي المعروفة بدلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم وعدمه ، ولعلّ المحلّ المناسب لها. هو باب المفاهيم ، لا الأوامر.

(٢) تقدمت ترجمته ص ٢١٩.

(٣) حكاه عنهما في المعتمد : ١ / ١٤٢ ؛ والإحكام في أصول الأحكام : ٣ / ٦١ ـ ٦٢.

(٤) التقريب والإرشاد : ٣ / ٣٦٣.

(٥) المعتمد : ١ / ١٤٢.

(٦) تقدّمت ترجمته ص ١٥٩.

(٧) تقدّمت ترجمته ص ٢١٩.

٤٦١

الزكاة ، ويعنون بذلك ما ينتفى الحكم بانتفائه ، والاستعمال دليل الحقيقة.

لا يقال : اصطلاح النّحاة ليس حجّة في الوضع ، فإنّهم قد اصطلحوا على أشياء ، لم توضع في اللغة ، كالحركات ، والفاعل ، والمفعول ، وغيرها.

سلّمنا ، لكنّ الشرط هو العلامة ، ومنه أشراط السّاعة ، ويلزم من ثبوته ثبوت المشروط دون العدم ، كما في العلامة.

سلّمنا ، لكن الشرط إنّما ينتفي الحكم بانتفائه لو لم يكن هناك شرط آخر يقوم مقامه ، أمّا مع وجود شرط آخر فلا ، وحينئذ لا يلزم من عدم الشرط عدم الحكم ، لجواز شرط آخر.

لأنّا نقول : لو لم يكن في وضع اللغة كذلك ، لكان منقولا ، والأصل عدمه ، ولو كان الشّرط ما يدلّ على ثبوت الشيء ، امتنع كون الوضوء يسمّى شرطا ، وكذا الحول ، والإحصان ، إذ لا يلزم من وجود الوضوء صحّة الصّلاة.

وسمّيت أشراط السّاعة ، لامتناع وجود السّاعة بدونها ، وهو المراد.

وإثبات شرط آخر ينفي كون الأوّل شرطا ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشرط ما ينتفي الحكم عند نفيه.

نعم يكون الشرط أحدهما لا بعينه.

الثاني : روي أنّ يعلى بن أميّة (١) سأل عمر بن الخطاب : ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنّا؟

__________________

(١) يعلى بن اميّة بن أبي عبيدة ، اسمه عبيد ويقال زيد ، التميمي الحنظلي ، قيل هو أوّل من أرّخ الكتب ، توفيّ سنة ٤٧ ه‍ انظر الاعلام للزركلي : ٨ / ٢٠٤ ؛ تهذيب التهذيب : ١١ / ٣٩٩ ؛ اسد الغابة : ٥ / ٥٢٣.

٤٦٢

فقال : عجبت ممّا عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته. (١)

ولو لا كون المشروط عدما عند عدم الشرط ، لما أقرّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك.

لا يقال : التعجّب باعتبار كون الصلاة تامّة في أصل الخطاب ، واستثنيت حالة الخوف ، فيبقى ما عداها على الأصل من وجوب الإتمام ، فلمّا حصل القصر عند عدم الخوف ، حصل التعجّب.

ثمّ هو دليل عليكم ، لوجود المشروط فيه عند عدم الشرط ، للإجماع على القصر في السفر عند عدم الخوف.

لأنّا نقول : آيات الصّلاة لا تدلّ على الإتمام ، وإلّا كان هو الأصل ، فقد روت عائشة : أنّ الصّلاة كانت ركعتين سفرا وحضرا ، فأقرّت صلاة السفر ، وزيدت في الحضر.

والتعجّب لمّا حصل لوجود المشروط عند عدم الشرط ، يصلح دليلا لنا لا علينا.

الثالث : لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط ، فلو لم يلزم من عدمه عدمه ، كان كلّ شيء شرطا لكلّ شيء ، والتالي باطل بالضّرورة ، فكذا المقدّم ، والشّرطيّة ظاهرة.

واحتج المخالف بوجوه :

الأوّل : لو كان المعلّق على الشيء عدما عند عدم الشيء ، لكان قوله تعالى :

__________________

(١) عوالي اللئالي : ٢ / ٣٢٦ وأخرجه الترمذي في سننه : ٥ / ٢٤٢ ، رقم الحديث ٣٠٣٤ ؛ وابن ماجة في سننه : ١ / ٣٣٩ ، رقم الحديث ١٠٦٥ ؛ والبيهقي في سننه : ٣ / ١٣٤.

٤٦٣

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) ، دليلا على تسويغ الإكراه عند عدم إرادة التحصّن.

الثاني : قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)(٢).

وقوله : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(٣).

وقوله : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ)(٤).

وقوله : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)(٥).

لا تدلّ على عدم المشروط عند عدم الشرائط فيها.

الثالث : لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ، لم يناف وقوعه قبل الدخول ، حتّى لو نجّز ، أو علّق على آخر لم يكن مناقضا للأوّل ، ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط لزم التناقض.

والجواب عن الأوّل : قال أبو الحسين ونعم ما قال : إنّ الظاهر يقتضي أن لا يحرم الإكراه على البغاء إذ لم يردن التحصّن ، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت الإباحة ، فإنّ انتفاء التحريم قد يكون بطريان المحلّ ، وقد يكون لامتناع وجوده عقلا ، وهو هناك كذلك ، فإنّ على تقدير عدم إرادة التحصّن يردن البغاء ، فيمتنع تحقّق الإكراه عليه حينئذ. (٦)

وعن الثاني : أنّ استحباب الكتابة إنّما يثبت عند علم (٧) الخير الّذي هو

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) النور : ٣٣.

(٣) البقرة : ١٧٢.

(٤) النساء : ١٠١.

(٥) البقرة : ٢٨٣.

(٦) لاحظ المعتمد : ١ / ١٤٤ ؛ والمحصول للرّازي : ١ / ٢٥٧.

(٧) في «ب» و «ج» : «عند عدم» والصحيح ما في المتن.

٤٦٤

المال ، أو الصّلاح ، والمجموع ، فعند انتفائه ينتفي استحباب الكتابة ، ويبقى الجواز ، وهو مذهبنا.

والأمر بالشكر لله تعالى إنّما يثبت على من يعبده ، أمّا من لا يعبده فلا يشكره ، ولأنّ الشرط هنا خرج مخرج الأغلب ، وكذا في الرهن.

وعن الثالث : أنّ القائلين بوقوع المشروط ، يذهبون إلى وقوع المعلّق لو دخلت وإن وقع المنجّز ، ولو كان المنجّز ثلاثا فتحلّلت ، ثمّ تزوّجت به ثمّ دخلت ، وقع المعلّق عندهم.

المبحث السابع : في الحكم المعلّق بعدد

اختلف الناس هنا :

فقال قوم : إنّ الحكم إذا علّق بعدد ، دلّ على أنّ ما عداه بخلافه.

ومنهم من قال : لا يدلّ.

والحقّ أن نقول : إذا كان العدد الناقص علّة لعدم أمر ، امتنع ثبوت ذلك الأمر في الزائد ، لأنّ الناقص موجود في الزائد ، ووجود العلّة يستلزم وجود المعلول ، فعدم ذلك الأمر متحقّق في الزائد ، كما لو حرّم الله تعالى جلد الزاني مائتين ، فالزّائد عليهما أولى بالتحريم ، لأنّ المائتين موجودة في الزائد.

وكما لو قال : إذا بلغ الماء كرّا لم يقبل نجاسة ، كان الزائد على الكرّ أولى في عدم قبول النّجاسة.

ولو كان العدد الناقص موصوفا بحكم ، لم يجب أن يكون الزّائد

٤٦٥

عليه موصوفا به ، إذ لا يلزم من وجوب عدد أو إباحته وجوب الزائد عليه أو إباحته ، هذا في جانب الزّيادة.

أمّا النقصان ، فالحكم إمّا أن يكون إباحة ، أو إيجابا ، أو حظرا.

فالأوّل ، يلزم منه إباحة ما دون ذلك العدد إن كان داخلا تحته على كلّ حال ، كإباحة جلد مائة ، فإنّه يستلزم إباحة الخمسين ، ولا يدلّ إذا لم يدخل في كلّ حال ، كإباحة الحكم بشاهدين ، فإنّه لا يدلّ على إباحة الحكم بالشاهد الواحد ، لأنّ الحكم بالشاهد الواحد غير داخل تحت الحكم بشهادة الشاهدين.

ولو كان يدخل تارة ، وتارة لا يدخل ، كاستعمال الكرّ إذا وقعت فيه نجاسة ، فإنّه قد أباح استعمال نصفه من ذلك الكرّ ، ولا يباح استعمال نصفه منفصلا إذا وقعت فيه نجاسة.

ولو حرّم الله تعالى عددا ، فقد يدلّ على تحريم ما دونه من طريق الأولى ، كما أنّه حرّم استعمال نصف كرّ إذا وقعت فيه نجاسة ، فإنّه يقتضي أولويّة تحريم استعمال ربعه.

وقد لا يدلّ ، كما لو حرّم جلد الزاني مائتين ، فإنّه لا يدلّ على تحريم المائة ، ولو أوجب جلد الزّاني مائة ، فإنّه يوجب جلد خمسين ، حيث لا يمكن فعل الكلّ إلّا بفعل الجزء ، لكنّه ينفي قصر الوجوب على الجزء.

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحكم المعلّق على عدد ، لا يدلّ تعليقه عليه على حال ما دونه ولا ما فوقه بثبوت أو نفي.

احتجّوا بقوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)(١) ،

__________________

(١) التوبة : ٨٠.

٤٦٦

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله لأزيدنّ على السّبعين» (١) فعلم أنّ الحكم منتف عن الزيادة.

ولأنّ الإجماع واقع على نفي زيادة على الثمانين في حدّ القاذف بمجرّد إباحة الثمانين.

ولأنّ الحكم لو ثبت فيما زاد ، لم يكن لتعلّقه على ذلك العدد فائدة.

والجواب عن الأوّل : أنّ تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد ، فكذا لا يوجبه ، فكان الاحتمال ثابتا فيما زاد على السّبعين ، فجوّز صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصول الغفران لو زاد على السّبعين.

وعن الثاني : أنّ النفي عقل بالبقاء (٢) على الأصل.

وعن الثالث : ما سيأتي في دليل الخطاب.

المبحث الثامن : في الأمر المقيّد بالاسم

ذهب المحقّقون من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ تقييد الأمر والخبر بالاسم ، لا يدلّ على حكم ما عداه نفيا ولا إثباتا ، وذلك نحو قول القائل : زيد في الدار ، فإنّه لا يدلّ على أنّ عمرا ليس فيها ، ولا أنّه فيها.

وكذا إذا أمر بشيء ، فإنّه لا يدلّ على عدم وجوب غيره.

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم والنسائي ، كما في جامع الأصول : ٢ / ١٦٧ ـ ١٦٨ ، رقم الحديث ٦٥٨ وأخرجه الطبري في جامع البيان : ١٠ / ١٤٢ في ذيل الآية ، والسيوطي في الدر المنثور : ٤ / ٢٥٤ في ذيل الآية ، ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني في التقريب والإرشاد : ٣ / ٣٤٠ ، هذا وقد ردّ السيد المرتضى قدس‌سره هذا الخبر في الذريعة : ١ / ٤١٠ فلاحظ.

(٢) في «أ» : «انّ النفي علق البقاء» والصحيح ما في المتن.

٤٦٧

وقال أبو بكر الدقّاق (١) من الأشاعرة : إنّه يدلّ على نفيه عن غيره فيهما. (٢)

لنا وجوه :

الأوّل : اتّفق الكلّ على جواز قول : زيد أكل ، مع العلم بأنّ عمرا أكل.

الثاني : لو دلّ لكان إمّا من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ، والقسمان باطلان.

أمّا اللفظ ، فلأنّه ليس فيه ذكر غير زيد ، فكيف يدلّ على حكم غير زيد.

وأمّا المعنى ، فلأنّه قد يشترك زيد وعمرو في فعل ، ويعلمه المخبر ، ويقصد إلى الإخبار عن أحدهما به ، لغرض له في ذلك ، فلا يدلّ لا من حيث المعنى ، ولا من حيث اللفظ.

الثالث : أكل زيد ليس موضوعا لعدم أكل عمرو ، ولا لمعنى هو جزؤه ، وليس ملزوما له ، لانفكاكهما وجودا وتصوّرا ، فانتفت الدلالات الثلاث.

الرابع : لو دلّ لزم الكفر إذا قلنا : زيد موجود ، لدلالته حينئذ على الحكم بنفي الوجود عن الله تعالى وعن الأنبياء عليهم‌السلام ، وكذا إذا قلنا : عيسى رسول الله ، لزم نفي رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو باطل بالإجماع.

الخامس : لو دلّ لبطل القياس ، فإنّ التنصيص على حكم الأصل ، يقتضي

__________________

(١) محمد بن محمد بن جعفر البغدادي الفقيه الشافعي المعروف ب «أبو بكر الدقاق» قيل : كان فقيها أصوليّا ولي القضاء ب «كرخ» بغداد ، توفّي سنة ٣٩٢ ه‍. لاحظ تاريخ بغداد : ٣ / ٢٢٩ ، رقم ١٢٩٤ (وفيه المعروف بابن الدقاق).

(٢) نقله عنه الرازي في محصوله : ١ / ٣٦٠.

٤٦٨

التنصيص على عدم الحكم عن الفرع ، فلا يجوز إثباته فيه بالقياس ، لأنّ النصّ مقدّم على القياس.

السادس : الدلالة فهم المعنى من اللفظ ، ونحن نعلم قطعا أنّا إذا سمعنا من مخبر بأنّ زيدا اكل ، لا يفهم منه أنّ عمرا ليس باكل ، فانتفت الدّلالة.

السابع : لو دلّ لما حسن من الإنسان أن يخبر به إلّا بعد أن يعلم أنّ غير زيد ليس باكل ، لأنّه إن لم يعلم ذلك ، كان قد أخبر بما يعلم أنّه كاذب فيه ، أو بما لا يأمن أن يكون كاذبا ، ونحن نعلم استحسان العقلاء الإخبار بأكل زيد ، مع جهل غيره.

احتجّ الدّقاق بأنّه لا بدّ في التخصيص من فائدة ، وليست إلّا نفي الحكم عمّا عداه.

ولأنّه لو قال لغيره : «أمّا أنا فليس لي أمّ ولا أخت ولا امرأة زانية» فهم نسبة الزّنا إلى زوجة خصمه وأمّه وأخته ، ولهذا أوجب أصحاب أحمد ومالك حدّ القذف (١).

والجواب : المنع في المقدّمة الثانية ، فإنّ الفائدة تعلّق الغرض بالإخبار عمّن أخبر عنه دون المسكوت عنه.

وفهم نسبة الزنا من قرينة الحال لا المقال ، ونمنع وجوب الحدّ.

__________________

(١) لاحظ الإحكام للآمدي : ٣ / ٦٧.

٤٦٩

المبحث التاسع : في الأمر المقيّد بالصّفة

اختلف الناس في أنّ تقييد الحكم بالوصف ، هل يدلّ على نفيه عمّا عداه أم لا؟

فقال الشافعي ومالك ، وأحمد بن حنبل ، وأبو الحسن الأشعري ، وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين ، وأبو عبيد ، (١) وجماعة من أهل العربية : إنّه يدلّ.

ومنع منه أبو حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر (٢) وابن سريج (٣) ، والقفّال (٤) وجماهير المعتزلة.

وقال أبو عبد الله البصري (٥) : إنّه يدلّ في مواضع ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الخطاب قد ورد للبيان ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الغنم السائمة زكاة».

الثاني : أن يكون للتّعليم ، كما في خبر «التحالف عند التخالف والسلعة قائمة».

__________________

(١) القاسم بن سلّام الهروي من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه ، توفّي سنة ٢٢٤ ه‍ ، وسيأتي نصّه عن قريب. وفي كثير من الكتب الأصولية : «أبو عبيدة» وهو معمر بن مثنى المتوفّى سنة ٢١١ ه‍ لكنه تصحيف لما سيأتي. انظر ترجمته في الأعلام للزركلي : ٥ / ١٧٦.

(٢) التقريب والإرشاد : ٣ / ٣٣٢.

(٣) تقدّمت ترجمته.

(٤) هو محمد بن أحمد بن الحسين ، أبو بكر الشاشي القفّال الفارقي رئيس الشافعيّة بالعراق في عصره ، ولد بميّافارقين ، سنة ٤٢٩ ه‍ وتوفّي سنة ٥٠٧ ه‍ لاحظ الأعلام للزركلي : ٥ / ٣١٦.

(٥) تقدّمت ترجمته.

٤٧٠

الثالث : أن يكون ما عدا الصفة داخلا تحتها ، كالحكم بالشاهدين ، فإنّه يدلّ على نفيه عن الشاهد الواحد ، لدخوله في الشاهدين ، ولا يدلّ [على النفي] فيما عدا ذلك.

والأقرب : أنّه لا يدلّ إلّا أن يكون علّة.

لنا وجوه :

الأوّل : أنّه لو دلّ على ثبوت الحكم مع الوصف على نفيه عمّا عداه ، لدلّ إمّا بلفظه ، أو بمعناه ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّ اللفظ الدالّ على ثبوت الحكم في أحد القسمين ، إن لم يكن موضوعا لنفي الحكم في قسم الثاني ، لم يكن [له] عليه دلالة لفظيّة.

وإن كان موضوعا له ، كان موضوعا لثبوت الحكم في أحد القسمين ، ونفيه عن الآخر ، ولا نزاع فيه.

وأمّا الثاني : فلأنّ الدّلالة المعنويّة هي دلالة الالتزام ، وهي مشروطة باللّزوم الذهني ، وهو منتف هنا ، فإنّ السائمة لا تدلّ على المعلوفة من حيث الوضع ، ولا يلزم من فهم أحدهما فهم الآخر ، لجواز انفكاكهما في التصوّر ، فثبوت الحكم في إحداهما لا يستلزم نفيه عن الآخر ، لجواز اشتراك الصورتين في الحكم ، وتختصّ إحداهما بالبيان ، إمّا لأنّ بيان الاخرى ليس بواجب ، أو إن كان واجبا ، لكن يبيّنه بطريق آخر.

ولأنّ المتكلّم خطر له أحد القسمين دون الثّاني ، وهذا لا يتأتّى في حقّ واجب الوجود تعالى.

٤٧١

أو لأنّ السّامع يحتاج إلى أحد القسمين ، كمن يملك السائمة ، ولا يملك المعلوفة ، فإنّه بعد حولان الحول يحتاج إلى معرفة حكم السّائمة خاصّة ، فيحسن من الشّارع تخصيص البيان له.

أو يكون أحد القسمين دليلا على الآخر ، كما في منع قتل الأولاد خشية الإملاق ، فإنّه يدلّ على المنع مع الغنى بطريق الأولى.

أو لقصد قوّة (١) البيان ، فإنّ دلالة العامّ على جزئيّاته ، أضعف من التنصيص على كلّ جزء ، لاحتمال تطرّق التخصيص إلى الأوّل دون الثّاني.

أو ليجتهد المكلّف في استخراج الدّليل ، بأن يستنبط من التنصيص على الجزئيّ عليّة المشترك ، فيحمل الاخرى عليها ، فيزداد ثوابه لزيادة المشتقّة.

أو بأن يبقى المجتهد على حكم الأصل ، كما لو قال : لا زكاة في السائمة ، فننفي نحن في المعلوفة على الأصل.

وإنّما خصّ نفي الزكاة بالسّائمة في الذكر لموضع الاشتباه ، فإنّ السائمة لمّا كانت مئونتها أخفّ ، كان احتمال الوجوب فيها أكثر من احتماله في المعلوفة.

لا يقال : دلالة الالتزام إذا كانت ظنّية لم تقدح في عدم اللّزوم في بعض الموارد ، فإنّ الغيم الرّطب لمّا دلّ على المطر ظاهرا ، لم تبطل دلالته بعدم المطر أحيانا.

ونحن نقول : إنّ ثبوت الحكم مقيّدا ، يدلّ ظاهرا على نفيه عند نفي القيد ، فلا يقدح العدم في بعض الصّور إلّا مع تساوي الاحتمالات ، ولم تثبتوه.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : أو يقصد فيه.

٤٧٢

لأنّا نقول : تعليق الحكم بالوصف لا يدلّ على نفيه عمّا عداه [لا] قطعا ولا ظاهرا ، لأنّه لو دلّ عليه ظاهرا لكان صرفه إلى الوجوه الّتي ذكرناها مخالفة للظّاهر ، والأصل عدمه (١).

وفيه نظر ، فإنّ هذا التقسيم إنّما يلزم لو قلنا : إنّ التقييد خاصّة يدلّ على النفي ، أمّا على تقدير أن يكون مقدّمة فلا ، وتقريره أن نقول : هذا تخصيص فلا بدّ له من فائدة ، ولا فائدة سوى النّفي.

الثاني : الأمر المقيّد بالوصف قد يرد مع نفي الحكم عمّا عداه اتّفاقا ، ومع ثبوته ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(٢).

(وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(٣).

والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل ، فيبقى حقيقة في القدر المشترك ، وهو ثبوت الحكم في المذكور ، مع عدم الدّلالة في غيره نفيا وإثباتا. (٤)

وفيه نظر ، إذ لا يلزم من عدم الإرادة في بعض المواضع لمانع عدم الوضع ، ونحن إنّما نقول بالعدم لو لم يكن للتخصيص فائدة سوى العدم ، أمّا مع وجود فائدة أخرى فلا ، وذلك كما إذا خرج التقييد مخرج الأغلب ، فإنّه لا يدلّ على النفي اتّفاقا ، كما في قتل الأولاد ، فإنّ الغالب أنّه

__________________

(١) الإشكال والجواب مذكوران في المحصول للرازي : ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٢) الإسراء : ٣١.

(٣) المائدة : ٩٥.

(٤) الاستدلال مذكور في المحصول للرازي : ١ / ٢٦٤ ، وتنظّر فيه المصنّف.

٤٧٣

لخشية الإملاق ، وكذا الغالب أنّ القتل إنّما يكون مع التعمّد.

الثالث : ثبوت الحكم في إحدى الصّورتين لا يلزم منه ثبوته في الاخرى ، والإخبار عن ثبوته في إحداهما لا يلزم منه الإخبار عنه في الاخرى.

فإذن الإخبار عن ثبوته في إحداهما ، لا يلزمه الحكم في الاخرى ثبوتا ولا عدما.

أمّا أنّ ثبوته في إحداهما لا يستلزم ثبوته في الاخرى ولا عدمه ، فلأنّه يمكن عقلا اشتراك المختلفين في بعض الأحكام كالاختلاف (١) ، ويمكن اختلافهما في بعض الأحكام.

فإذا ثبت الحكم في هذه الصورة ، لم يلزم من مجرّد ثبوته فيها ثبوته في الاخرى ولا عدمه.

وأمّا أنّ الإخبار عن حكم إحداهما لا يستلزم الإخبار عن حكم الاخرى ، لأنّ إحداهما مخالفة للاخرى [من بعض الوجوه] والمختلفان لا يجب تساويهما في الحكم ، فلا يلزم من كون إحداهما متعلّق غرض الإنسان بالإخبار عنه كون الاخرى كذلك ، بل المتساويان لا يجب تساويهما في الأغراض ، والإخبار عن الحكم عارض ، فثبت أنّ الإخبار عن إحداهما لا يستلزم الإخبار عن الاخرى.

وإذا ثبتت المقدّمتان ثبت أنّ الإخبار عن ثبوت الحكم في هذه الصورة لا يدلّ على حال الاخرى وجودا ولا عدما.

__________________

(١) أي نظير اشتراك القضيتين في أنّهما مختلفتان.

٤٧٤

الرابع : لو دلّ التخصيص بالصّفة على نفيه عمّا عداه ، لدلّ التخصيص باللّقب ، والتالي باطل لما تقدّم ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المقتضي للنّفي في صورة الصّفة ليس إلّا ثبوت غرض في التخصيص بالذّكر ، ولا غرض سوى نفي الحكم عمّا عداه ، والعلم بثبوت الغرض وأنّ هذا المعنى يصلح للغرضيّة يوجب الظّنّ بأنّ هذا هو الغرض ، والعمل بالظّنّ واجب ، لكن ذلك كلّه موجود في الاسم ، فوجب أن يكون التخصيص بالاسم موجبا لنفي الحكم عمّا عداه ، وليس كذلك.

احتجّ الخصم بوجوه :

الأوّل : قال أبو عبيد القاسم بن سلّام (١) : إنّ دليل الخطاب حجّة ، وهو من أهل اللغة ، فيكون قوله حجّة.

أمّا المقدّمة الأولى : فلأنّه قال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» (٢) ، إنّه أراد أنّ ليّ من ليس بواجد لا يحلّ عرضه ولا عقوبته ، واللّيّ : المطل ، والواجد : الغنيّ ، وإحلال عرضه : مطالبته ، وعقوبته : حبسه (٣).

وقال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مطل الغني ظلم» (٤) : مطل غير الغنيّ ليس بظلم. وقال في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لأنّ يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ، وقد قيل له : إنّما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهجاء من الشعر ، أو هجاء الرسول.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته آنفا.

(٢) عوالي اللئالي : ٤ / ٧٢.

(٣) غريب الحديث تأليف أبي عبيد القاسم بن سلّام : ١ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ونقله عنه العسقلاني في فتح الباري : ١٠ / ٥٤٩ والبيهقي في سننه الكبرى : ١ / ٢٤٤.

(٤) عوالي اللئالي : ٤ / ٧٢.

٤٧٥

فقال : لو كان ذلك هو المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف معنى ، لأنّ ما دون ملء الجوف من ذلك مثل كثيرة (١).

وأمّا المقدمة الثانية ، فلأنّه من أهل اللغة ، فيصدق في نقله.

واعترض (في نقله) (٢) بأنّ هذا القول منه إن كان عن اجتهاد ، لم يكن مقبولا منه ، ولا مقلّدا فيه.

وإن كان نقلا عن العرب ، فهو مسلّم ، لكن ليس في كلامه ما يدلّ على أنّه نقل من العرب ذلك.

مع أنّا نمنع قبول نقله ، فإنّه خبر واحد في هذه المسألة المشهورة.

ثمّ هو معارض بمذهب الأخفش (٣) ، وهو من أهل اللغة ، ولم يقل بدليل الخطاب (٤).

والجواب : أنّ هذه الدّلالات من توابع الوضع وأبو عبيد لغويّ أعرف بالوضع وفوائده من غيره.

وقول الأخفش هنا ليس حجّة ، لأنّه يرجع إلى الشّهادة على النفي.

الثاني : منع ابن عبّاس من توريث الأخت مع البنت بقوله تعالى : (إِنِ

__________________

(١) غريب الحديث : ١ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٢) ما بين القوسين يوجد في «ب».

(٣) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي ، المعروف بالأخفش الأوسط ، نحويّ ، عالم باللّغة والأدب ، أخذ العربيّة عن سيبويه ، وقيل : ينصرف لفظ «الأخفش» إليه عند الإطلاق ، توفّي سنة ٢١٥ ه‍ ، انظر ترجمته في الأعلام للزركلي : ٣ / ١٠١ ـ ١٠٢ ؛ وريحانة الأدب : ١ / ٩٠.

(٤) الاعتراض بطوله نسبه الآمدي إلى قائل ولم يسمّه ، لاحظ الإحكام : ٣ / ٥١.

٤٧٦

امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ)(١) فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع البنت ، لأنّها ولد.

الثالث : أجمع الصحابة على أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا التقى الختانان ، وجب الغسل» (٢) ناسخ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الماء من الماء» (٣) لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الماء من الماء» يدلّ على نفي الغسل من غير إنزال ، فكان نسخا له.

الرابع : لو قال لوكيله : «اشتر لي عبدا أسود» فهم منه عدم شراء الأبيض ، حتّى لو اشتراه لم يكن ممتثلا.

الخامس : تعليق الحكم بالوصف يفيد نفيه عن غيره عرفا ، فكذا لغة.

أمّا الأولى ، فلأنّ من قال : الإنسان الطويل لا يطير ، واليهودي الميّت لا يبصر ، استهزئ به ، ويقال : إذا كان القصير لا يطير ، والميّت المسلم لا يبصر ، فأيّ فائدة في القيد؟

وأمّا الثانية ، فلأنّ الأصل عدم النّقل.

السادس : التخصيص لا بدّ له من مخصّص ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح ، ونفي الحكم عن غيره صالح لذلك ، وليس هناك شيء آخر ، فيجب حمله على النّفي ، تكثيرا لفوائد كلام الشارع ، (٤) أو للمناسبة والاقتران.

__________________

(١) النساء : ١٧٦.

(٢) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده : ٦ / ٢٣٩ ؛ ولاحظ عوالي اللئالي : ٢ / ٩ و ٢٠٤ وج ٣ / ٢٩.

(٣) أخرجه أبو داود في سننه : ١ / ٥٦ ، برقم ٢١٧ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ٣ / ٢٩ وج ٤ / ٣٤٢.

(٤) في «ب» و «ج» : كلام الشرع.

٤٧٧

السابع : تعليق الحكم على الوصف يشعر بعليّته له ، فيلزم من نفيه نفيه.

ولأنّ تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة على خلاف الأصل.

الثامن : فرّق أهل اللّغة بين المطلق والمقيّد بالصّفة ، كما فرّقوا بين المطلق والمقيّد بالاستثناء ، وكما أنّ الاستثناء يدلّ على المخالفة ، فكذا الوصف.

التاسع : القول بالنفي يقتضي تكثير فائدة الكلام.

العاشر : نقل أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا» (١) لو كان ما دون السّبع مطهّرا لم يستند التّطهير إلى السّبع ، لورود السّابعة على محلّ طاهر ، فتبطل فائدة المنطوق ، وكذا «عشر رضعات يحرّمن» (٢).

والجواب عن الأوّل : ما تقدّم ، من أنّ قول أبي عبيد ليس حجّة ، لأنّ الظاهر أنّه لم ينقله لغة ، وإنّما فهم ذلك باجتهاده.

وعن الثاني : أنّ فهم ابن عبّاس إنّما هو باعتبار أنّ الأصل عدم التوريث ، فلمّا ورثت الأخت بشرط عدم الولد ، بقيت حالة وجود البنت الّتي هي ولد على أصل النفيّ.

وعن الثالث : أنّه لا نسخ هنا ، إذ الحكمان باقيان ، فإنّ الغسل يجب مع

__________________

(١) سنن أبي داود : ١ / ١٩ ، برقم ٧١ ؛ وسنن البيهقي : ١ / ٤٤٠ ؛ ومسند أحمد بن حنبل : ٢ / ٤٢٧ ؛ وبحار الأنوار : ٧٧ / ٦.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ٢٢٤ ، برقم ٦٠٦٢ وله ذيل ، والحديث عند أهل السنّة من الآيات الّتي نسخت تلاوتها ، بل حكمها أيضا. لاحظ المحلّى : ١٠ / ١٤ ـ كتاب الرّضاع ، المسألة ١٨٦٨ ـ والمشهور عند الإمامية هو اعتبار خمسة عشر رضعة.

٤٧٨

الإنزال وإن لم يحصل الالتقاء ، ومع الالتقاء وإن لم يحصل الإنزال.

وعن الرابع : أنّ الوكيل إنّما يعدّ مخالفا ، لأنّه ممنوع من التصريف فيما لم يأذن له الموكّل.

وعن الخامس : أنّ أهل العرف يضحكون من قول القائل : «زيد الطويل لا يطير» وبالإجماع التخصيص هنا لا يفيد نفي الحكم عمّا عداه ، وللمستدلّ أن يمنع عدم الإفادة ، لأنّ قوله : «زيد الطويل لا يطير» تعليق بالوصف ، وأنّه نفس النزاع.

نعم لو قال : «زيد لا يطير» كان تعليقا بالاسم ، وهنا لا يقولون : إنّ تعليقه بالاسم عبث ، بل إنّه بيان الواضحات ، وفرق بين أن يكون بيانا للواضح و [بين] عدم الفائدة في ذكر هذه الصفة ، وحينئذ يندفع النقض (١).

وفيه نظر ، فإنّ الاستهزاء هناك إنّما كان لأنّه بيان الواضحات.

وعن السادس : بالمنع من سبب التخصيص ، فإنّ الهارب من السّبع إذا عرضه (٢) طريقان سلك أحدهما لا لمرجّح.

والجائع إذا حضره رغيفان ، والعطشان إذا قدم إليه إناءان ، فإنّه يتناول أحدهما لا لمرجّح.

والله تعالى خصّص إحداث العالم بوقت حدوثه ، دون ما قبله وبعده ، من غير مرجّح.

__________________

(١) التفريق بين الأمرين للرازي في محصوله : ١ / ٢٦٧ وقد تنظر فيه المصنّف.

(٢) في «أ» : اعترضه.

٤٧٩

سلّمنا ، لكنّ الفائدة ما تقدّم ، ومع ذلك فينتقض الدّليل بالتّخصيص بالاسم.

وعن السابع : بالمنع من امتناع تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة ، فإنّ الاختلاف والتضادّ متساو في المختلفين والمتضادّين ، وهما مختلفان.

وعن الثامن : أنّا نقول بالفرق ، فإنّ الحكم في المطلق يثبت في جميع موارده ، قطعا أو ظنّا ، والمقيّد ينفي الظنّ والقطع ، ويبقى مشكوك في الباقي.

وعن التاسع : تكثير الفائدة لا يوجب (١) الوضع.

وعن العاشر : أنّه جعل العدد علّة للتطهير والتحريم ، فينتفيان عند عدم العدد.

تذنيبات

الأوّل : لو كان الوصف المعلّق على الحكم علّة ، لزم من عدمه عدم الحكم ، وإلّا لزم إمّا كون ما فرضناه علّة غير علّة ، أو وجود المعلول بدون العلّة ، واللازم بقسميه باطل ، فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : أنّ الوصف إذا انتفى ، فإن بقي الحكم فإمّا أن يستند إلى علّة أو لا ، والثاني يلزم منه وجود المعلول بدون العلّة ، وإن استند إلى غير تلك العلّة ، لم يكن ما فرضناه علّة ، بعلّة ، بل العلّة أحد الأمرين.

__________________

(١) في «أ» : لا يوجبه.

٤٨٠