نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

دالّا على طلب الفعل من غير بيان الواحدة ، والعدد ، والزّمان الحاضر ، والآتي ، بل على القدر المشترك بين الجميع.

وعن الخامس : أنّ المكلّف إذا علم عدم اقتضاء اللفظ التكرار أمن ، مع وجود الخوف في التكرار ، كما في شراء اللحم ، ودخول الدّار.

وعن السادس : أنّ صيغة المشركين للعموم في الأشخاص ، بخلاف «صم».

أمّا لو قال : «صم أبدا» ، أو في كلّ زمان ، أفاد التعميم.

وعن السابع : أنّ دوام اعتقاد الوجوب مع قيام دليل الوجوب ، مستفاد من أحكام الإيمان ، لا من مجرّد الأمر ، فتركه يكون كفرا ، والكفر منهيّ عنه دائما ، ولهذا (١) كان اعتقاد الوجوب دائما في الأمر المقيّد بالواحدة.

ولا نسلّم وجوب العزم ، ولهذا فإنّ من دخل عليه الوقت وهو نائم ، لا يجب على من حضره إنباهه ، ولو وجب العزم ، لوجب إنباهه.

سلّمنا وجوب العزم ، لكن نمنع وجوب دوامه ، فإنّه تبع لوجوب المأمور به.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم كونه مستفادا من نفس الأمر ، بل من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة ، ولهذا وجب في الأمر بالفعل مرّة واحدة.

وعن الثامن : أنّه إنّما يتمّ الاستدلال به لو قلنا : إنّ الزائد على المرّة مأمور به ، وهو ممنوع.

__________________

(١) والنسخ الّتي بأيدينا متفقة على لفظة «كذا» لكنّ الصّحيح ما أثبتناه.

٤٤١

وأيضا ، فإنّ دلالته على عدم التكرار أولى ، إذ جعل ذلك موكولا على استطاعتنا ومشيّتنا.

وعن التاسع : أنّ عمر حيث جوّز السّهو على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سأله عن التعمّد ، فحيث أجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، عرف أنّ الأمر بالطّهارة لا يتكرّر بتكرّر الصّلاة ، وقد كان محتملا.

سلّمنا ، لكنّ الأمر عقيب الشرط قد حمله قوم على التكرار ، وذلك غير محل النّزاع.

وعن العاشر : أنّ الأمر بحسن العشرة والتعظيم ، إنّما كان لوجود السبب ، وهو استحقاق المأمور بحسن عشرته للتعظيم ، والسّبب يدوم مسبّبه بدوامه ، لا من مجرّد الأمر.

وعن الحادي عشر : أنّ ذلك إنّما يلزم لو قلنا : الأمر للفور ، وهو الجواب عن الثاني عشر.

وعن الثالث عشر : بالمنع من المقدّمتين ، وسيأتي.

وعن الأوّل من حجج القائلين بالواحدة : بالمنع من إجماع أهل اللّغة على ما ذكرتم ، فإنّ من يقول بالتكرار يمنع ذلك.

سلّمنا ، لكن لمّا كانت المرّة من ضروريّات الفعل ، كانت مأمورا بها قطعا ، بخلاف الزائد ، فعدّ ممتثلا بالمرّة ، حيث أتى بما علم أنّه مأمور به ، ولم يعدّ مخالفا للأمر بترك الأزيد ، حيث لم يعلم الأمر به.

٤٤٢

وعن الثاني : أنّه مسلّم لا يقتضي التكرار ، لكن لا يقتضي الواحدة أيضا ، وهو مذهبنا ، وكذا عن الثالث.

وعن الرّابع : ما تقدّم في الأوّل.

وحسن السؤال لا يفيد الاشتراك ، لجواز التواطؤ ، ويكون القصد بالسؤال إزالة إبهام إرادة جزئيّ من الجزئيّات.

وكما أنّ الأصل الحقيقة ، فكذا الأصل عدم الاشتراك ، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك ، ولا يحمل على أحدهما إلّا بالدّليل ، ولا يلزم الوقف ، بل الجزم بإرادة المعنى الكليّ.

سلّمنا ، لكن يحمل على المرّة ، لدلالة الأمر على الطّلب المشترك بينهما وبين الزائد ، والأصل الدالّ على البراءة ، ينفي الزائد ، فتبقى المرّة مرادة.

المبحث الرّابع : في الأمر المعلّق بشرط أو صفة

أجمع القائلون بتكرار الأمر المطلق ، على تكرّره هنا ، واختلف الآخرون :

فذهب قوم إلى أنّه لا يفيده هنا أيضا ، وهو اختيار السيّد المرتضى (١) وجماعة من الفقهاء.

وقال آخرون : إنّه يتكرّر بتكرّر الشّرط والصّفة.

والأقرب أن نقول : إن كان الوصف علّة مؤثّرة ، اقتضى تكرّر الأمر بتكرّره ، وإلّا فلا.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٠٩.

٤٤٣

لنا وجوه :

الأوّل : إذا قال السيّد لعبده : اشتر اللّحم إن دخلت السوق ، لم يتكرّر بتكرّر الدّخول.

الثاني : لو قال : إن ردّ الله عليّ دابّتي أو صحّتي فلله عليّ كذا ، لم يتكرّر الجزاء بتكرّر الشرط ، وكذا لو قال لوكيله : طلّق زوجتي إن دخلت الدار.

الثالث : الخبر المعلّق على الشرط لا يتكرّر بتكرّره ، فكذا الأمر.

أمّا المقدّمة الأولى ، فللإجماع على أنّ من قال : سيدخل زيد الدار إن دخلها عمرو ، صدق بالمرّة وإن لم يتكرّر دخول زيد عند تكرّر دخول عمرو.

وأمّا الثانية ، فبالقياس بجامع دفع الضرر الحاصل بالتكرار.

الرّابع : اللّفظ دلّ على تعليق الأمر على الشيء ، والتعليق المطلق أعمّ من تعليقه عليه في كلّ صورة ، أو في صورة واحدة ، ولهذا يقبل القسمة إليهما ، ومورد التقسيم مشترك بين تلك الأقسام ، والمشترك لا دلالة فيه على أحد جزئيّاته.

الخامس : لو أفاد التكرار لكان إمّا أن يستفاد من مطلق الأمر ، وهو باطل ، لما تقدّم في المسألة الأولى من أنّ الأمر لا يقتضي التكرار ، أو من الشرط ، وهو باطل أيضا ، فإنّه ليس في لفظة «إن» و «إذا» إشعار بتكرار.

لا يقال : مستفاد من المجموع أو من المعنى.

لأنّا نقول : أمّا المجموع فإنّه لا يفيد إلّا تخصيص الأمر بالشرط ، وقد

٤٤٤

قلنا : إنّ الأمر إنّما يدلّ على الواحدة مع احتمال التعدّد ، فالمجموع ، إنّما يفيد تخصيص تلك المرّة بالشرط.

وأمّا المعنى ، فإنّه إنّما يفيد من حيث كان الشرط علّة ، وليس كذلك ، فإنّ الشرط ما يقف عليه تأثير المؤثّر ، ولا امتناع في أن يتكرّر الشرط ولا يتكرّر المؤثّر ، فلا يتكرّر الحكم.

وأمّا إذا كان الوصف علّة تامّة للحكم ، فإنّه يلزم من تكرّره تكرّر الحكم ، قضاء لملازمة المعلول العلّة.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : ورد في كتاب الله عزوجل أوامر معلّقة بشروط وصفات ، وقد تكرّرت بتكرّرها كقوله تعالى :

(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١).

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)(٢).

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)(٣).

ولو لم يكن مقتضيا للتكرار لم يكن متكرّرا.

الثاني : أنّ تكرّر الحكم بتكرّر العلّة ، تكرّر بتكرّر الشرط ، والمقدّم حقّ بالإجماع ، فالتالي مثله.

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) المائدة : ٣٨.

(٣) النور : ٢٤.

٤٤٥

وبيان الشرطيّة : أنّ الشّرط أقوى من العلّة ، لانتفاء الحكم بانتفاء الشرط ، بخلاف العلّة ، فكان اقتضاؤه للتكرار أولى.

الثالث : نسبة الحكم إلى أعداد الشرط [نسبة] واحدة ، فلا يختصّ بالموجود الأوّل منها ، دون ما بعده ، فإمّا أن يجب انتفاء الحكم عند وجود الشرط أوّلا ، كما انتفى عند وجوده ثانيا وثالثا ، أو وجوده في جميع صور وجود الشرط ، والأوّل باطل إجماعا ، فتعيّن الثاني ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

الرابع : لو لم يكن الأمر مقتضيا لتعليق الحكم بجميع الشروط ، بل بالأوّل (١) منها ، لزم أن يكون فعل العبادة مع [الشرط] الثاني أو الثالث ، دون الأوّل ، قضاء ، فكانت مفتقرة إلى دليل آخر ، وهو باطل إجماعا.

الخامس : قد بيّنا تشارك الأمر والنهي في الطّلب والاقتضاء ، والنّهي مع الشرط يقتضي التكرار ، فيكون الأمر كذلك.

بيان الأوّل : أنّه لو قال : «إن دخل فلا تعطه درهما» ، اقتضى التكرار ، فكذا الأمر ، لاشتراكهما في الطلب.

السادس : الأمر يدوم بدوام الشّرط ، فيكون تعليقه على الشرط المتكرّر يقتضي دوامه.

بيان الأوّل : أنّه لو قال : «إذا وجد شهر رمضان فصمه» فإنّ الصّوم يكون دائما بدوام الشّهر.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : بل الأوّل.

٤٤٦

وبيان الثاني : أنّ التعليق على الشرط المتكرّر ، في معناه ، فكان دائما.

والجواب عن الأوّل : أنّ المطلق لا ينافي جزئيّاته ، ومطلق التعليق يوجد مع التكرار وعدمه ، فلا يلزم من وجوده متكرّرا في بعض الصّور وضعه كذلك ، كما لا يلزم من عدم تكرّره بتكرّر الشرط في مثل الأمر بشراء اللّحم عند دخول السوق ، وضعه كذلك.

على أنّا نقول : نحن قد بيّنّا وجوب التكرار عند وجود الوصف أو الشرط إذا كان (١) علّة في الحكم ، ولا شكّ في كون الزّنا علّة لوجوب الحدّ ، والسّرقة علّة للقطع ، فالتكرار هنا لا من حيث التّعليق على مطلق الشرط والوصف ، بل لوجود العلّة ، إذ لو كان لمطلق التّعليق ، لوجب التكرّر في شراء اللّحم عند دخول السّوق ، والحجّ عند وجود الاستطاعة.

وعن الثاني : المنع من كون الشرط أقوى ، فإنّه لا يلزم من وجوده وجود الشرط ، بخلاف العلّة.

قوله : الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط.

قلنا : وكذا العلّة ، والحكم الموجود عقيب علّة أخرى ، إمّا مماثل نوعا ، أو أنّ العلّة ، الأمر الكلّي.

سلّمنا ، لكن لمّا لم يكن الشرط مؤثّرا في الحكم ، لم يلزم من تكرّر الحكم بتكرّر المؤثّر تكرّره بتكرّر غيره.

وعن الثالث : أنّه لازم على من يعتقد الفور ، وأمّا نحن فلا ، بل الأمر مقتض

__________________

(١) في «ب» و «ج» : كانا.

٤٤٧

للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه ، إذا علم تجدّد الشرط ، وغلب على الظّنّ بقاء المأمور ، ويكون الأمر قد اقتضى تعلّق المأمور به على الشروط كلّها على طريق البدل ، من غير اختصاص له ببعضها دون بعض.

وأمّا إن لم يغلب على الظّنّ تجدّد الشرط ، ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني ، فقد تعيّن اختصاص المأمور بالشرط الأوّل ، لعدم تحقّق ما سواه.

وبه يظهر الجواب عن الرابع.

وعن الخامس : أنّ قياس الأمر على النهي قياس في اللغة ، وهو باطل.

سلّمنا ، لكن دوام النّهي هنا لا باعتبار تكرّر الشرط ، بل لاقتضاء النّهي الدوام.

وعن السادس : أنّ المأمور به هنا واحد ، والشرط أيضا واحد ، بخلاف صورة النزاع.

واعلم أنّ مجوّزي القياس ذهب بعضهم (١) إلى أنّه يتكرّر الأمر بتكرّر الشرط والوصف من حيث القياس ، لأنّه لو قال : إن كان زانيا فارجمه ، دلّ على أنّه تعالى جعل الزّنا علّة الرّجم ، وحينئذ يتكرّر بتكرّر الوصف.

أمّا المقدّمة الأولى ، فلأنّ القائل لو قال : إن كان عالما فاقتله ، وإن كان جاهلا فأكرمه ، استقبحه العقلاء ، فإمّا أن يكون لأنّه جعل العلم موجبا للقتل ، والجهل موجبا للإكرام أو لا لذلك (٢).

__________________

(١) هو الفخر الرازي لاحظ المحصول : ١ / ٢٤٤.

(٢) في «ب» و «ج» : كذلك.

٤٤٨

فإن كان الأوّل ، فهو المطلوب ، وإن كان الثاني ، فهو باطل ، إذ لا امتناع في استحقاق العالم الإكرام باعتبار علمه ، والقتل بسبب آخر ، وكذا الجاهل يستحقّهما باعتبارين ، فلم يكن الاستقباح من العقلاء ثابتا.

ولمّا ثبت ، علمنا أنّ الاستقباح إنّما حصل ، لأنّه أفاد القائل بكلامه جعل العلم سببا للقتل ، والجهل سببا للإكرام.

فإذا صدر التّعليق من الله تعالى ، دلّ على جعل المعلّق علّة للمعلّق عليه ، فيتكرّر الحكم بتكرّره عند القائسين.

لا يقال : ينتقض بمثل : إن دخلت السوق فاشتر اللّحم ، وإن دخلت الدّار فأنت طالق وغيرهما من النظائر.

ونمنع تعليل الاستقباح بجعل الوصف علّة ، بل من حيث إنّ العلم مناف للقتل ، فإثبات الحكم مع قيام المنافي يوجب الاستقباح.

سلّمنا إفادة العليّة هنا ، فلم قلتم : إنّه في كلّ الصّور كذلك؟

سلّمنا ، لكن لا يلزم من تكرّر العلّة تكرّر الحكم ، لجواز توقّفه على شرائط ، كالسّرقة ، فإنّها موجبة للقطع ، لكن يتوقف إيجابها على شرائط متعدّدة.

لأنّا نقول : لا يلزم من جعل الإنسان شيئا علّة لحكم ، ترتّب ذلك الحكم عليه دائما ، فإنّه لو قال : أعتقت [عبدي] غانما لسواده ، ولعلّة كونه أسود ، لم يلزم عتق السّودان من عبيده.

والتنبيه على العلّة لا يزيد على التصريح ، فلا يلزم تعدّد الطلاق ، وشراء اللّحم بتعدّد الشرط.

٤٤٩

بخلاف الشارع ، فإنّا لو علمنا أو ظننّا أنّه جعل شيئا ما علّة لحكم ، فإنّه يتكرّر الحكم بتكرّرها عند القائسين ، فلا يكون هذا التكرير مستفادا من الأمر بل من الأمر بالقياس.

وفيه نظر ، لافتقار العتق إلى الصّيغة.

ونمنع المنافاة بين الفسق والإكرام ، فإنّ الفاسق قد يستحقّ الإكرام بجهات أخر ، والأصل تخريج الأحكام على وفق الأصول.

وإذا ثبت ظنّ العلّية هنا ، ثبت في الجميع بالقياس.

والجامع : أنّ الحكم إذا كان مذكورا مع علّته ، كان أقرب إلى القبول ، وذلك مصلحة للمكلّف ، فناسب المشروعيّة.

ولأنّا نذكر صورا كثيرة ، ثمّ نقول : لا بدّ من قدر مشترك ، وهو إمّا ترتّب الحكم على الوصف ، أو غيره.

والثاني باطل ، لأنّ الأصل عدم سائر الصفات ، فتعيّن الأوّل ، والحكم يتكرّر بتكرّر العلّة ، للإجماع بين القائسين (١).

واعلم أنّه لا فرق بين ما اخترناه وبين هذا القول ، لأنّ الشرط إنّما يكون علّة شرعيّة لو ناسب الحكم ، كما في قوله : «إن كان زانيا فارجمه» ، ومثل هذا يتكرّر الحكم بتكرّره (٢) عملا بالعلّة.

__________________

(١) الاستدلال مذكور في المحصول للرازي لاحظ : ١ / ٢٤٥ ـ ٢٤٧. نقله المصنّف بزيادة ونقصان واختلاف في الألفاظ.

(٢) في «ج» : ومثل هذا الحكم يتكرّر بتكرّره.

٤٥٠

أمّا فيما لا مناسبة فيه مثل : إن قام زيد فأكرمه ، فإنّه لا يدلّ على العليّة ، لعدم المناسبة ، وهنا لا يلزم من تكرّر الشّرط (١) تكرّر الحكم.

المبحث الخامس : في أنّ الأمر لا يقتضي الفور

اختلف الناس هنا ، (٢) فقال جماعة من الحنفيّة والحنابلة وكلّ من أوجب التكرار : إنّه يجب الفور.

وذهب الجبائيّان ، وأبو الحسين البصري (٣) ، والقاضي أبو بكر (٤) وجماعة من الشّافعيّة ، وجماعة من الأشاعرة إلى التراخي ، وجواز التأخير عن أوّل أوقات الإمكان.

وقال السيد المرتضى (٥) وجماعة بالوقف ، لكن منهم من قال : التوقّف إنّما هو في المؤخّر هل هو ممتثل أم لا؟ وأمّا المبادر فإنّه ممتثل قطعا ، لكن هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا :

فمنهم من قال بالتأثيم.

__________________

(١) في «ب» : من تكرار الشرط.

(٢) قال القرافي في نفائس الأصول : ٢ / ١٨٣ : في هذه المسألة خمسة مذاهب :

١. الفور.

٢. التراخي.

٣. الاشتراك بينهما.

٤. القدر المشترك.

٥. الوصف.

(٣) المعتمد : ١ / ١١١.

(٤) التقريب والإرشاد : ٢ / ٢٠٨.

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٣١.

٤٥١

ومنهم من لم يؤثم.

ومنهم من توقّف في المبادر أيضا ، وخالف في ذلك إجماع السّلف.

والحقّ : أنّ الأمر يدلّ على الطلب المشترك بين الفور والتراخي ، ولا دلالة على أحدهما إلّا من خارج ، وإنّ الآتي به على الفور والتراخي ممتثل.

لنا وجوه :

الأوّل : أنّه قد ورد فيهما ، فيكون حقيقة في القدر المشترك ، وهو مطلق الطلب ، دفعا للمجاز والاشتراك.

والموضوع للقدر المشترك لا إشعار فيه بخصوصيّة لأحد جزئيّاته ، لأنّ تلك الخصوصيّة مغايرة للمشترك ، وغير لازمة له ، فانتفت الدّلالات الثلاث.

الثاني : يحسن تقييده بكلّ منهما ، من غير نقض ولا تكرار ، فكان للمشترك بينهما.

الثالث : حكم أهل اللّغة بالتسوية بين «يفعل» و «افعل» إلّا في الخبريّة والأمريّة ، والخبر لا إشعار له بشيء من الأوقات ، لصدقه عند الإتيان به في أيّ وقت كان من المستقبل ، فكذا الأمر ، وإلّا لافترقا فيما عدا ذلك.

الرابع : قال أهل اللّغة : «افعل» أمر ، وهو مشترك بين الأمر بالشيء على الفور وعلى التراخي ، فإنّ الأمر على الفور مع قيد الفوريّة ، والأمر على التراخي مع قيد التراخي (١) ووجود المفرد لازم لوجود المركّب ، فمسمّى الأمر قدر مشترك.

__________________

(١) في «أ» : أو مع قيد الفورية ... أو مع قيد التراخي.

٤٥٢

وإذا ثبت أنّ «افعل» أمر ، وأنّ الأمر مشترك بينهما ، ثبت عدم دلالة «افعل» على غير المشترك.

احتجّ القائلون بالفور بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(١).

ذمّه على ترك السّجود عقيب الأمر ، ولو كان للتراخي لم يستحقّ الذّمّ ، إذ كان له أن يقول : إنّك أمرتني ، والأمر لا يقتضي الفور ، فلا يستحقّ الذمّ في الحال.

الثاني : قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(٢).

[وقوله :] (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٣).

الثالث : لو جاز التأخير ، لجاز إمّا إلى بدل ، أو لا إلى بدل ، والقسمان باطلان.

أمّا الأوّل ، فلأنّ البدل هو الّذي يقوم مقام المبدل من كلّ الوجوه ، فإذا أتى بهذا البدل ، وجب أن يسقط عنه التكليف ، وهو باطل إجماعا.

ولا يجوز أن يقوم [البدل] مقام المبدل في ذلك الوقت لا دائما ، لأنّ مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهيّة مرّة واحدة ، وهذا البدل يقوم مقامه ، وقد فعل ما هو المقصود من الأمر بتمامه ، فوجب سقوط الأمر بالكليّة.

وأمّا الثاني ، فإنّه يمنع من كونه واجبا ، فإنّه لا يفهم من قولنا : ليس بواجب ، إلّا جواز تركه لا إلى بدل.

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

(٢) آل عمران : ١٣٣.

(٣) المائدة : ٤٨.

٤٥٣

الرابع : لو جاز التأخير ، لجاز إمّا إلى غاية ، أو لا إلى غاية ، والقسمان باطلان ، فجواز التأخير باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّ تلك الغاية إمّا معيّنة أو غير معيّنة ، فإن كانت معيّنة ، فليست إلّا غلبة ظنّ المكلّف أنّه لو لم يشتغل [بأدائه] فاته ذلك الفعل ، فإنّ كلّ من جوّز التأخير إلى غاية معلومة قال : إنّ الغاية ذلك (١) فالقول بإثبات غاية غيرها خرق الإجماع.

لكنّ الظّنّ إن لم يكن لأمارة لم يتعدّ به ، وجرى مجرى الظّنّ السوداويّ.

وإن كان لأمارة فليست إلّا المرض الشّديد ، أو علوّ السنّ ، إذ لا قائل بغيرهما ، لكن ذلك باطل ، فإنّ كثيرا من الناس من يموت من غير كبر ولا مرض ، وذلك يقتضي خروجه عن هذا التكليف في علم الله تعالى ، مع أنّ ظاهر الأمر الوجوب.

وإن لم تكن [الغاية] معلومة ، أو لم تكن معيّنة لزم تكليف ما لا يطاق ، فإنّه يكون مكلّفا بتحريم التأخير عن وقت معيّن ، مع أنّه لا يعرفه ، أو عن وقت غير معيّن ، وهو غير معلوم أيضا ، ولا شكّ في كونه تكليفا بما لا قدرة عليه.

وأمّا الثاني فلأنّه (٢) يستلزم كون الواجب غير واجب ، لأنّه إذا جاز التأخير أبدا جاز الترك أبدا ، وهو مناف للوجوب.

الخامس : لو أخّر العبد أمر السيّد بشرب الماء ، ذمّه العقلاء ، ولو لا فهم التّعجيل ، لم يحسن ذمّه ، واسناد ذلك إلى القرينة على خلاف الأصل.

__________________

(١) أي هذا الوقت.

(٢) في «ب» و «ج» : فإنّه.

٤٥٤

السادس : يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور بالإجماع ، فيجب الفعل كذلك ، لأنّه أحد موجبي الأمر ، قياسا على الآخر بجامع تحصيل مصلحة المسارعة إلى الامتثال.

بل فوريّة الفعل أولى ، لأنّ الأمر يتناوله ، دون اعتقاد وجوبه ، فإذا كان ما لا يتناوله الأمر على الفور ، كان ما يتناوله أولى.

السابع : الأمر مشارك للعقد من حيث إنّه يقتضي إيقاع الفعل ، كما اقتضى الإيجاب والقبول في البيع وقوع العقد عندهما ، لأنّه استدعاء فعل بقول مطلق ، فاقتضى التعجيل ، كالإيجاب في البيع.

الثامن : الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، والنهي يقتضي الانتهاء في الحال ، والانتهاء عن تركه في الحال إنّما يكون بالإقدام على الفعل في الحال ، فيكون الأمر للفور.

التاسع : النهي والأمر ضدّان وقد اشتركا في حقيقة الطّلب ، وكما اقتضى النهي الفور ، فكذا الأمر.

العاشر : الاحتياط يقتضي وجوب الفور ، فإنّه لو سارع خرج عن العهدة بيقين ، بخلاف ما لو أخّر.

الحادي عشر : الأمر اقتضى (١) وجوب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ، فإنّ المكلّف لو أوقعه فيه لأسقط الفرض بذلك عن نفسه ، فجواز تأخيره عنه ، نقض لوجوبه فيه ، وإلحاق له بالنافلة فيه.

__________________

(١) في «ب» : يقتضي.

٤٥٥

الثاني عشر : لو جاز التّأخير لخرج الواجب عن كونه واجبا ، والتّالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ المكلّف لو فعله في ثاني وقت الأمر لسقط ، عنه الفرض وفعل ما وجب عليه ، فعلمنا أنّ الأمر قد تناول ذلك ، وهذا يمنع من الإخلال به ، لأنّه بالإخلال به يفوت ، إذ كان ما يقع فيما بعد ليس هو ذلك المأمور به بعينه ، وإنّما هو مثله ، لأنّ أفعال العباد يختص بالأوقات ، فما يصحّ أن يوجدوه في وقت ، لا يصحّ إيجاده في غيره.

وأمّا بطلان التّالي فظاهر ، وبعبارة أخرى : الإيجاب بالأمر يقتضي فعلا واحدا ، وقد ثبت بالدّليل العقليّ أنّ أفعال العباد لا يصحّ فيها التقديم والتأخير ، فيجب أن يكون المراد أن يقع عقيبه ، ليكون الفعل واحدا.

ولأنّ الفعل إذا علمنا أنّه واحد ، واتّفقنا على أنّ المفعول عقيبه مراد وصلاح ، وجب الحمل عليه.

الثالث عشر : القول بالتراخي والتخيير يقتضي إثبات بدل له ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه إذا خرج من كونه واجبا مضيّقا ، فلا بدّ له من بدل ، ليفصله عن النّدب.

وبيان بطلان التالي : أنّ البدل لا دليل عليه من جهة الأمر ، فيجب بطلان التخيير (١).

__________________

(١) في «ج» : التأخير.

٤٥٦

والجواب عن الأوّل : أنّه حكاية حال ، فجاز أن يكون ذلك الأمر للفور.

ولأنّ الفور مستفاد من قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(١).

رتّب السّجود على هذه الأوصاف بفاء التّعقيب ، وهي تقتضي الفور من غير مهلة.

ولأنّ التوبيخ باعتبار ترك الفعل مطلقا ، والامتناع من الإتيان به ، لا باعتبار التأخير ، لقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ)(٢).

وعن الثاني : أنّه مجاز ، من حيث إنّه ذكر المغفرة ، وأراد سببها ، وليس في الآية أنّ المقتضي لطلب المغفرة هو الإتيان بالفعل على سبيل الفور (٣).

وفيه نظر ، فإنّ المقتضي للمغفرة هو الفعل ، فالمسارعة إليه هو الفور.

ولأنّ هذه الآية لو دلّت على وجوب الفور لم يكن فيها حجّة على أنّ الأمر للفور ، لأنّ الفور حينئذ مستفاد منها لا من مطلق الأمر.

ولأنّها أمر ، فدلالتها على الفور نفس النزاع.

وعن الثالث والرابع : أنّهما واردان فيما نصّ فيه على تسويغ

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

(٢) البقرة : ٣٤.

(٣) الإجابة عن الدليل ، ذكرها الرّازي في المحصول : ١ / ٢٥٢ ، وتنظّر فيها المصنّف.

٤٥٧

التأخير ، كقضاء الواجبات الموسّعة ، كالنّذور ، والكفّارات ، وكلّ الواجبات الموسّعة ، وكما صرّح وقال : أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أيّ وقت شئت.

وعن الخامس : أنّ الفور هناك لقرينة الحاجة إلى الشرب ، ومعارض بما إذا أمر السيّد عبده ، ولم يعلم العبد حاجة السيّد إلى الفعل في الحال ، فإنّه لا يفهم التعجيل.

لا يقال : إنّ السيّد يعلّل مؤاخذته بأنّه أخّر الامتثال ، ولو لا الفوريّة لما صحّ ذلك.

لأنّا نقول : وقد يعتذر العبد بأنّي ما علمت التعجيل ، ولا أمرتني به ، ويكون مقبولا.

وعن السادس : المعارضة بما تقدّم من الكفّارات ، وبقوله : افعل في أيّ وقت شئت ، وبالخبر ، فإنّه لو قال الشارع : زيد يقتل عمرا ، وجب الفور في الاعتقاد دون الفعل.

ولأنّ وجوب الاعتقاد ليس مستفادا من الأمر ، بل كلّ عاقل يعلم بالنظر وجوب امتثال أوامره تعالى.

وعن السابع : أنّه يبطل بقوله : «افعل أيّ وقت شئت» ، ولأنّ جامعهم [وصف] طرديّ.

وعن الثامن : نمنع أنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، وسيأتي.

٤٥٨

وعن التاسع : أنّ النهي يفيد التكرار ، فأفاد الفور ، بخلاف الأمر.

وعن العاشر : بالمعارضة بقوله : «افعل في أيّ وقت شئت» ، وهو وارد على أكثر أدلّتهم.

وفيه نظر ، للنّص على جواز التأخير هنا (١).

وعن الحادي عشر : بتسليم أنّ الأمر يقتضي إيجاب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ، لكن لا عينا بل على وجه التخيير بينه وبين ثاني الحال وثالثه ، وهكذا ، ففي أيّ وقت فعله يكون مؤدّيا للواجب ، بخلاف النافلة ، وسيأتي زيادة تحقيق لذلك.

وعن الثاني عشر : بالمنع من اختصاص أفعال العباد بكلّ فعل بوقت ، بل نقول : إنّ الفعل الواحد يمكنه أن يوقعه في الزمن الأوّل ، أو الثاني ، أو الثالث ، وهكذا.

سلّمنا أنّ للوقف مدخلا في التشخّص ، لكنّه مكلّف بصورة الفعل ، فإذا فعله في الأوّل ، فقد أتى بتلك الصّورة وكذا في غيره.

سلّمنا أنّ للوقت مدخلا في التشخّص ، لكنّه مكلّف بصورة الفعل ، فإذا فعله في الأوّل ، فقد أتى بتلك الصورة ، وكذا في غيره.

سلّمنا ، لكن لو تناول الأمر الأفعال المختصّة بالأوقات ، لم يمتنع أن يتناول أعيان ما يختصّ بكلّ وقت على البدل ، فيجوز ترك ما يختصّ بكلّ وقت

__________________

(١) ذكر الرازي المعارضة في المحصول : ٢ / ٢٥٣ ، وحاصل ما تنظّر به المصنّف ، هو أنّ دلالة الأمر على الفورية محدّدة بعدم التنصيص على خلافه ، كما هو الحال في الظواهر فإنّها متينة ما لم يدلّ دليل على خلافها.

٤٥٩

على البدل ، فيجوز ترك ما اختصّ بالأوّل (١) إلى ما يختصّ بالثاني والثالث ، لأنّ كلّ واحد من ذلك بدل عن صاحبه.

وعن الثالث عشر : بالمنع من إثبات البدل على تقدير التراخي أو التخيير ، ومن عدم دلالة الأمر عليه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

واحتجّ السيّد المرتضى على الوقف ، بحسن الاستفهام ، وبالاستعمال فيهما (٢).

والجواب : لا منافاة بين ذلك وبين ما قلناه ، فإنّ وضعه للقدر المشترك يحسن الاستفهام ، والاستعمال.

والعجب أنّه صدّر الاستدلال بهذين باستدلال أوّل ، وهو : أنّ اللّفظ خال من توقيت لا بتعيين ولا تخيير ، وليس يجوز أن يفهم من اللفظ ما لا يتناوله ، كما لا يفهم منه الأماكن والأعداد.

ثمّ عقّب الأدلّة بقوله : يحسن أن يقال : «قم الآن أو بعد وقت أو متى شئت» ، فلو كان اللفظ موضوعا لفور أو تراخ ، لم يحسن ذلك.

وهو عين ما قلناه نحن أوّلا.

__________________

(١) أي بالوقت الأوّل.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٣٣ ـ ١٣٤.

٤٦٠