الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٢٩
لفخر الدين (١) وجماعة ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الطواف بالبيت صلاة (٢).
فنقول : يشترط فيه الطّهارة كالصلاة المنقولة.
فلو قال الخصم : الصلاة مشتركة بين المعهود الشّرعيّ واللغويّ ، كان ادّعاء النقل أولى عندهم.
لنا وجوه :
[الوجه] الأوّل : أنّ النقل يقتضي الوضع في معنيين على التّعاقب ونسخ الوضع الأوّل ، والاشتراك لا يقتضي النسخ ، فيكون أولى ، لما يأتي من أولويّة الاشتراك من النسخ.
[الوجه] الثاني : لم ينكر المحقّقون الاشتراك ، وأنكر كثير منهم النقل.
[الوجه] الثالث : تطرّق الخطأ في المنقول ثابت دون المشترك ، فإنّ المشترك إن وجد معه القرينة ، عرف السامع القصد عينا ، وإن لم يوجد تعذّر عليه العمل ، فيتوقّف ، فلا خطأ على التقديرين.
وفي النقل ربّما خفي عنه النقل إلى الجديد ، ففهم الأوّل ـ وليس مرادا ـ فحمله عليه فوقع في الخطأ.
[الوجه] الرابع : النقل يقف على ما يقف عليه المشترك وزيادة ، فيكون مرجوحا ، وذلك أنّ الاشتراك يمكن حصوله بوضع واحد ، فيقول الواضع :
__________________
(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٥٢.
(٢) مستدرك الوسائل : ٩ / ٤١٠ ، الباب ٣٨ من أبواب الطواف ، الحديث ٢ ، وكنز العمّال : ٥ / ٤٩ ، رقم الحديث ١٢٠٠٢.
وضعته بهذين ، تحصيلا لغرض التعريف الإجماليّ.
أمّا النقل فيقف على وضع أوّل ، ثمّ على نسخه ، ثمّ على وضع جديد ، والموقوف على أمور كثيرة ، مرجوح بالنسبة إلى الموقوف على الواحد منها.
[الوجه] الخامس : مفاسد الاشتراك قد تحصل في النقل دون العكس ، فإنّ السّامع قد يسمع استعمال اللّفظ في المعنى الأوّل وفي المعنى الثّاني ، ولم يعرف أنّه نقل إلى الثاني ، فظنّه مشتركا ، فحصلت له مفاسد الاشتراك مع مفسدة جهله بالنّقل ، وجميع مفاسد المنقول ، فكان الاشتراك أولى.
[الوجه] السادس : المشترك أكثر ، وهو دليل الرجحان ، وإلّا لرجّح الواضع أكثر المفاسد على أقلّها.
أجاب فخر الدين من ذلك كلّه بأنّ الشّرع إذا نقل اللّفظ عن معناه اللّغوى إلى الشرعيّ ، فلا بدّ وأن يشتهر ذلك النقل ، وأن يبلغه إلى حدّ التواتر ، فحينئذ تزول المفاسد جمع. (١)
وليس بجيّد ، أمّا أوّلا ، فلأنّ البحث ليس في نقل شرعيّ ، بل في مطلق النّقل ، ولا شكّ في أنّ العرف وأهل اللغة لو نقلوا لفظا لم يجب عليهم إبلاغه إلى حدّ التّواتر.
وأمّا ثانيا ، فلأنّ اشتهار النّقل كيف يزيل نسخ الوضع الأوّل وتوقّفه عليه وعلى وضع جديد وقلة وجوده؟
وأمّا ثالثا ، فلأنّ التواتر إنّما يحصل بالتدريج ، والمفاسد حاصلة قبله.
__________________
(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٥٤.
وأمّا رابعا ، فلأنّهما يتعارضان في لفظ لا يعلم (١) كونه منقولا ولا مشتركا.
نعم لو تعارض لفظ منقول مع آخر مشترك في اثنين مثلا ، فالتمسّك بالمنقول أولى ، لاقتضاء النّقل إرادة معيّن ، دون الاشتراك ، ولا يرد عليه شيء من تلك الوجوه.
ثمّ احتجّ بأنّ في النّقل يكون اللّفظ موضوعا لحقيقة واحدة قبل النّقل وبعده ، إلّا أنّه في بعض الأوقات مفرد بالإضافة إلى معنى ، وفي بعضها مفرد بالنّسبة إلى آخر ، والمشترك مشترك في جميع الأوقات ، فكان الأوّل أولى. (٢)
والجواب : أنّ اتّحاد المعنى مع حصول المفاسد الناشئة من تعدّده ، غير مفيد ، وقد بيّنا حصول المفاسد بسبب التعدّد في المنقول أيضا.
[المبحث] الثاني : في أنّ المجاز أولى من الاشتراك
إذا تعارض المجاز والاشتراك ، فالمجاز أولى ، كما نقول في النّكاح : مجاز في الوطء ، فيكون حقيقة في العقد ، فيحرم على الابن من عقد عليها الأب.
فلو قال الخصم : بل هو حقيقة فيه ، فلعلّه المراد ، كان ادّعاء المجاز أولى ، لأنّه أغلب وأكثر ، والأكثريّة دليل الأرجحيّة.
ولحصول الفائدة دائما مع المجاز ، دون الاشتراك.
__________________
(١) في «أ» : لا نعلم.
(٢) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٥٢.
والغاية القصوى في الوضع : الاستفادة من اللّفظ.
وبيان دوام الفائدة : أنّ اللفظ إن تجرّد حمل على الحقيقة ، وإن لم يتجرّد حمل على المجاز ، فدائما يحصل فيه الفائدة.
أمّا المشترك فإن وجدت القرينة أفاد عين المراد ، وإلّا فلا.
ولأدّى المشترك إلى مستبعد من استعمال اللفظ في المعنى وضدّه ، أو فيه وفي نقيضه.
ولأنّه يحتاج إلى قرينتين.
ولأنّ المجاز قد يكون أوجز وأبلغ وأوفق ، ويتوصّل به إلى السجع ، والمقابلة ، والمطابقة ، والمجانسة ، والرويّ.
ولأنّه أوسع في العبارة ، إذ قد يعبّر عن الشّيء الواحد بلفظ حقيقيّ وبألفاظ مجازيّة كثيرة.
فإن قيل : الاشتراك أولى ، لوجوه :
الأوّل : المشترك أبعد عن الخطأ ، لأنّه إن وجد معه القرينة حمل عليه ، وإلّا توقّف السّامع.
أمّا المجاز فإن وجدت القرينة حمل عليه ، وإلّا فعلى الحقيقة ، فيقع في الخطأ على تقدير إرادة المجاز.
فعلى التقدير الأوّل ، يحصل محذور واحد مع التجرّد عن القرينة ، وهو الجهل بمراد المتكلّم.
وعلى الثاني ، يحصل محذوران : أحدهما الجهل.
والثاني اعتقاد ما ليس بمراد مرادا.
الثاني : الاشتراك يقف على شيء واحد وهو الوضع ، لأنّه قد يحصل بوضع واحد.
والمجاز يتوقّف عليه ، وعلى وجود ما يصلح مجازا ، وعلى العلاقة المصحّحة ، وعلى تعذّر [الحمل على] الحقيقة ، فيكون الأوّل أولى.
الثالث : المشترك إذا دلّ دليل على تعذّر حمله على أحد معنييه ، انحصر في الآخر.
بخلاف المجاز ، فإنّه لا ينحصر على تقدر تعذّر حمله على الحقيقة.
الرابع : المشترك يفيد أحدهما لا بعينه ، ودلالة اللّفظ على هذا القدر حقيقة لا مجاز ، فيكون أولى من المجاز.
الخامس : حمله على المجاز يفضي إلى نسخ الحقيقة بخلاف المشترك.
السّادس : لا بدّ للناظر مع الاشتراك من البحث عن القرينة ، فيبعد عن الخطأ.
بخلاف المجاز ، فإنّه يحمله على الحقيقة ، فيقرب من الخطأ.
السّابع : الفهم في صورة الاشتراك يحصل بأدنى القرائن ، فإنّه كاف في الرجحان.
وفي المجاز لا بدّ من قرينة قويّة تعادل أصالة الحقيقة وتزيد عليها.
الثامن : المشترك مطّرد ، لأنّه من خواصّ الحقيقة ، فلا يضطرب ، بخلاف المجاز.
التاسع : الاشتقاق يحصل في كلّ واحد من الحقيقة فيشيع ، بخلاف المجاز.
العاشر : يصحّ المجاز من كلّ واحد من معنيي المشترك ، فتكثر الفائدة ، بخلاف المجاز.
الحادي عشر : المشترك مستغن عن العلاقة ، وعن الحقيقة ، وعن مخالفة ظاهر.
والجواب أنّ المجاز أغلب وأكثر ، فلا يعارضه ما ذكرتموه.
المبحث الثالث : في التعارض بين الاشتراك والباقيين
الأوّل : الإضمار أولى من الاشتراك ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في خمس من الإبل شاة» (١).
فيقول الخصم : الواجب عين الشاة ، لأنّ «في» مشتركة بين الظرفيّة والسببيّة.
فيقول الآخر : بل مقدار الشاة ، لأنّ «في» الظرفيّة خاصّة فيصير «في خمس من الإبل مقدار شاة» لاختصاص الإجمال الحاصل بسبب الإضمار ببعض الصّور ، وتعميمه في المشترك ، فكان اختلال الفهم فيه (٢) أكثر.
__________________
(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٧٣ ، رقم الحديث ١٧٩٨ وسنن أبي داود : ٢ / ٩٨ ، رقم الحديث ١٥٦٨ ومسند أحمد بن حنبل : ٢ / ١٤.
(٢) في «أ» و «ج» : منه.
لا يقال : الإضمار يفتقر إلى ثلاث قرائن :
قرينة دالّة على أصل الإضمار.
وأخرى على موضعه.
وثالثة على نفس المضمر.
والمشترك يفتقر إلى قرينة واحدة.
لأنّا نقول : الإضمار وإن افتقر إلى ثلاث قرائن ، لكن في صورة واحدة لا في جميع الصّور.
وأيضا الإضمار أوجز وأخصر ، ويعدّ من محاسن الكلام ، قال عليهالسلام : أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا. (١)
وأيضا من شرط الإضمار العلم بالمضمر ، فلا يحصل معه اختلال في الفهم ، بخلاف المشترك.
الثاني : التخصيص أولى من الاشتراك ، كما قالوا : النكاح حقيقة في العقد ، فمقتضى قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ)(٢) تحريم منكوحة الأب وإن كانت بنكاح فاسد إلّا أنّ هذه المنكوحة خصّت عن قضيّة النّصّ ، فتبقى المنكوحة بالصحيح داخلة تحت التحريم.
فيقول الآخر : بل النّكاح مشترك بين العقد والوطء ، وليس مراد النصّ
__________________
(١) عوالي اللئالي : ٤ / ١٢٠ ؛ وكنز العمال : ١١ / ٤٢٥ رقم الحديث ٣١٩٩٤ وص ٤٤٠ الحديث ٣٢٠٦٨.
(٢) النساء : ٢٢.
العقد ، وإلّا لزم تخصيص المنكوحة بالفاسد ، فتعيّن أنّ المراد الوطء.
وجوابه : التخصيص خير من الاشتراك ، لأنّه خير من المجاز ، على ما يأتي ، والمجاز خير من الاشتراك ، على ما تقدّم.
المبحث الرابع : في باقي المعارضات
الأوّل : المجاز أولى من النقل ، مثل أن يقول المستدلّ : الصّلاة حقيقة في الدعاء ، مجاز في المعنى الشرعيّ ، لاشتماله على الدّعاء ، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ.
فيقول الخصم : بل هو حقيقة في الشّرعيّ ، بالنقل.
وجوابه : أنّ المجاز أولى ، لافتقار النقل إلى اتّفاق أهل اللّسان على تغيير الوضع ، وهو متعذّر.
والمجاز يتوقّف على قرينة صارفة عن الحقيقة ، وهي متيسّر.
لا يقال : إذا ثبت النّقل فهم كلّ أحد مراد المتكلّم بحكم الوضع ، فينتفي الخلل في الفهم ، والحقيقة إذا لم ترد فقد يتعدّد المجاز ، ويخفى وجهه ، فيقع الاختلال.
لأنّا نقول : الحقيقة تعين على فهم المجاز ، إذ شرطه العلاقة بينه وبين الحقيقة ، والنقل إذا خرج المعنى الأوّل بقرينة لم يتعيّن المنقول إليه ، فكان المجاز أقرب إلى الفهم ، ولما في المجاز من الفوائد الّتي لم توجد في النقل.
الثاني : الإضمار أولى من النقل ، لما قلناه في أولويّة المجاز ، مثل أن
يقول المستدلّ : لا يجوز بيع الذّهب بمثله متفاضلا لأنّه ربا.
فيقول الآخر : بل العقد صحيح ، والمحرّم الزيادة ، فيصير التقدير : وحرم أخذ الرّبا ، فيلزم الإضمار ، وهو أولى من النقل.
الثالث : التخصيص أولى من النقل ، لأنّ التخصيص خير من المجاز على ما يأتي.
والمجاز أولى من النقل على ما تقدّم ، مثل أن يقول الخصم في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) : لفظ البيع حقيقة في كلّ معاوضة ومبادلة تجري بين الناس ، خصّ شرعا لكلّ معاوضة شرعيّة (٢) فتبقى الجامعة لشرائط الصحّة.
ويقول الآخر : بل الشرع نقله إلى العقد الجامع لشرائط الصحّة.
الرابع : المجاز والإضمار سواء ، كقوله عليهالسلام : «الطواف بالبيت صلاة» (٣).
فيقول الخصم : الطّواف يصدق عليه الصلاة مجازا ، لاشتماله على الدعاء ، من باب اسم الكلّ باسم جزئه.
فيقول الآخر : بل فيه إضمار ، وهو مثل الصلاة ، لاحتياج كلّ منهما إلى قرينة صارفة عن الظاهر (٤) ، وكما يخفى تعيين المضمر ، كذا يخفى تعيين المجاز.
لا يقال : الحقيقة تعين على فهم المجاز :
__________________
(١) البقرة : ٢٧٥.
(٢) في «أ» : خصّ شراعنا كلّ معاوضة غير شرعيّة.
(٣) تقدّم الحديث ومصادره في ص : ٣٠١.
(٤) في «أ» : صارفة عن الخطأ.
لأنّا نقول : وهي تعين على فهم الإضمار ، إذ حدّه سقوط شيء من الكلام يدلّ الباقي عليه.
الخامس : التّخصيص أولى من المجاز ، كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١).
فيقول الخصم : المراد الحقيقة ، خصّ عنه أهل الذّمة.
ويقول الآخر : بل المراد غيرهم ، فيكون مجازا من باب إطلاق الكلّ على الجزء.
أو يقول : حقيقة اللّمس ناقضة كقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)(٢) لكن خصّ بمسّ المحرّم ، والصّغيرة ، والميتة ، لخروجهنّ عن مظنّة الاستمتاع.
فيقول الآخر : بل المراد الوطء ، فلا ينتقض الوضوء بحقيقته ، فيكون التخصيص أولى ، لحصول المراد وغيره ، مع عدم الوقوف على قرينة التخصيص.
والمجاز إذا لم يوقف فيه على قرينة ، يحمل على الحقيقة ، فلا يحصل المراد.
ولأنّ اللّفظ انعقد في التخصيص دليلا على جميع الأفراد ، فإذا خرج البعض بدليل ، بقي معتبرا في الباقي من غير افتقار إلى تأمّل وبحث واجتهاد.
وفي المجاز انعقد اللفظ على الحقيقة ، فإذا خرجت بقرينة احتيج في
__________________
(١) التوبة : ٥.
(٢) النساء : ٤٣.
صرف اللفظ إلى المجاز إلى الاستدلال ، فكان التخصيص أبعد عن الاشتباه ، فكان أولى.
السادس : التخصيص أولى من الإضمار ، لأنّه خير من المجاز ، والمجاز والإضمار يتساويان ، كقوله عليهالسلام : لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل (١).
فيقول الخصم : إنّه يتناول بعمومه الفرض والنفل ، خصّ فيه التطوّع ، لجواز انعقاد نيّته إلى الزوال ، فتبقى حجّة في الفرض.
فيقول الآخر : بل يجوز التأخير في الفرض إلى قبل الزوال ، وفي النصّ إضمار ، فتقديره : لا صيام فاضل.
فروع
الأوّل : النسخ تخصيص في الأزمان ، ومرادنا في الترجيحات التّخصيص في الأعيان.
فلو تعارض النسخ والاشتراك ، كان الاشتراك أولى ، لاحتياطهم في النسخ دون التخصيص ، ولهذا جوّزوا تخصيص العامّ بخبر الواحد دون النسخ.
والأصل فيه أنّ الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل ، بخلاف التخصيص. (٢)
وفيه نظر ، فإنّ هذا يقتضي ترجيح التخصيص على النسخ ، وقد ظهر في
__________________
(١) عوالي اللئالي : ٣ / ١٣٢.
(٢) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩.
الأوّل ، أنّ التخصيص أولى من الاشتراك.
فقد حصل من مجموع الأمرين أنّ التخصيص أولى من الاشتراك والنّسخ ، وهذا لا يقتضي رجحان الاشتراك على النسخ ولا العكس ، بل الوجه توقّف الاشتراك على الوضع ، وتوقّف النّسخ عليه وعلى رفعه.
الثاني : التواطؤ أولى من الاشتراك ، لاتّحاد المفهوم في الأوّل ، والتّعدّد في محالّه ، والمشترك ليس بواحد.
الثالث : جعل اللّفظ مشتركا بين علمين أولى من جعله مشتركا بين معنيين لو تعارضا ، لانحصار الأعلام في الأشخاص غالبا ، والمعاني أمور كلّيّة ، فاختلال الفهم مع الاشتراك فيها أكثر.
وكذا جعله مشتركا بين علم ومعنى ، أولى من جعله مشتركا بين معنيين لو تعارضا.
الرّابع : إذا تناول اللّفظ شيئا بجهة اشتراك وبجهة التواطؤ ، فاعتقاد الثّاني أولى ، كالأسود المتناول للقارّ والزنجيّ بالتواطؤ ، وللقارّ والمسمّى به بالاشتراك ، فإذا وجد أسود اللّون مسمّى به وأطلق عليه أسود ، كان إطلاقه باعتبار اللّون أولى من اللّقب ، إذ في الأوّل ثبوت الإطلاق بحسب التواطؤ ، والثاني بحسب الاشتراك.
الفصل الثامن
في تفسير حروف يبحث عنها الفقهاء
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : في الواو
اختلف الناس في الواو العاطفة : فذهب أكثر الناس إلى أنّها للجمع المطلق من غير ترتيب ، حتّى قال أبو علي الفارسي (١) : اتّفق اللّغويون ، والنّحويّون ، البصريّون ، والكوفيّون ، على أنّ الواو للجمع المطلق من غير ترتيب.
وذكر سيبويه (٢) في سبعة عشر موضعا من كتابه : أنّها للجمع من غير ترتيب.
ونقل عن الفرّاء (٣) : أنّها للترتيب فيما يستحيل فيه الجمع ، مثل «اركعي واسجدي».
__________________
(١) الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار الفارسي الأصل أحد الأئمة في علم العربيّة ، ولد في «فسا» من أعمال فارس سنة ٢٨٨ ه وتوفّي سنة ٣٧٧ ه ، ومن تأليفاته «الإيضاح» في قواعد العربية. انظر الأعلام للزركلي : ٢ / ١٧٩.
(٢) تقدّمت ترجمته ص ١٦٩.
(٣) يحيى بن زياد بن عبد الله ، أبو زكريّا ، المعروف ب «الفرّاء ، إمام الكوفيّين ، وأعلمهم بالنحو واللّغة وفنون الأدب نقل عن ثعلب : انّه لو لا الفراء ما كانت اللغة ، ولد بالكوفة سنة ١٤٤ ه وتوفّي في طريق مكّة سنة ٢٠٧ ه. لاحظ الأعلام للزركلي : ٨ / ١٤٥.
وقال آخرون : إنّها للترتيب مطلقا.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّها قد تقع فيما يمتنع فيه الترتيب كالتفاعل ، مثل تقاتل زيد وعمرو ، ولهذا لا يصحّ تقاتل زيد فعمرو أو ثمّ عمرو ، ولو كانت للترتيب لا يمتنع دخولها عليه امتناع دخول الفاء وثمّ. (١)
وفيه نظر ، لإمكان أن يكون مجازا ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) فإنّه لمّا علم امتناع استناد السؤال إلى القرية ، حكم بكونه مجازا.
الثاني : لو كان للترتيب لكان قولنا : قام زيد وعمرو قبله ، تناقضا ، وقام زيد وعمرو بعده ، تكريرا.
لا يقال : حكم الشيء منفردا مغاير لحكمه مجتمعا ، فجاز إفادة اللّفظ معنى حالة اجتماعه دون انفراده ، وبالعكس ، فإنّك لو قلت : قام زيد ، أفاد الجزم ، ولو أدخلت الهمزة خرج عن ذلك.
لأنّا نقول هذا إشارة إلى وجود العارض ، والأصل عدمه.
قيل (٣) : لا تناقض مع احتمال التجوّز ، ولا تكرير ، لإفادة المنع من الحمل على المجاز ، وهو مطلق الجمع.
وفيه نظر لأنّ الأصل عدم المجاز.
__________________
(١) الاستدلال للرازي في محصوله : ١ / ١٦٠.
(٢) يوسف : ٨٢.
(٣) لاحظ الكاشف عن المحصول : ٢ / ٤١٥ ـ ٤١٦.
الثالث : قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)(١) قدّم الدّخول ، وفي آية أخرى (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً)(٢) أخّره ، والقصّة واحدة ، ولو أفادت الترتيب ، لكان مقدّما مؤخّرا.
قيل (٣) : جاز أن يكون مجازا في إحدى الآيتين.
وفيه نظر لأنّ الأصل عدم المجاز.
الرابع : قال الله تعالى : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي)(٤) وقد كان من شرعها تقديم الركوع على السجود.
الخامس : لو كان للترتيب لكان قولنا : جاء زيد وعمرو حال مجيئهما معا كذبا ، والتالي باطل إجماعا ، فكذا المقدّم.
قيل : لا كذب مع إرادة المجاز ، مثل : رأيت أسدا. (٥)
وفيه نظر ، لأصالة عدم المجاز ، بخلاف ما ثبت انّه مجاز كالأسد.
السادس : الترتيب غير مراد في قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ)(٦) وقوله: (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ)(٧)(وَالسَّارِقُ
__________________
(١) البقرة : ٥٨.
(٢) الأعراف : ١٦١.
(٣) انظر شرح المعالم في أصول الفقه : ١ / ٢٢١ تأليف عبد الله بن محمد بن عليّ المعروف ب «ابن التلمساني» المتوفّى سنة ٦٤٤ ه.
(٤) آل عمران : ٤٣.
(٥) لاحظ الإحكام للآمدي : ١ / ٥٠.
(٦) النساء : ٩٢.
(٧) المائدة : ٣٣.
وَالسَّارِقَةُ)(١)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي)(٢) والأصل ، الحقيقة.
السابع : إذا قال لعبده : اشتر اللحم والخبز ، لم يفهم منه الترتيب.
الثامن : سئل [النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم] بأيّهما نبدأ عن الصفا والمروة؟
فقال : ابدءوا بما بدأ الله به (٣).
ولو كان للترتيب ، لم يفتقروا إلى السؤال ، مع أنّ الصحابة من فصحاء العرب ، ولما احتيج في الابتداء بالصّفا إلى الاستدلال (٤).
وفيه نظر ، لاحتمال تحقّق (٥) إرادة الحقيقة.
التاسع : قال أهل اللغة : واو العطف في الأسماء المختلفة كواو الجمع وياء التثنية في المتّفقة ، وحيث تعذّر جمع المختلفات استعملوا واو العطف.
ولمّا كان قولنا : جاء الزيدون ، لا يوجب ترتيبا ولا معيّة ، بل مطلق الجمع ، كان قولنا : جاء زيد وعمرو وخالد ، كذلك ، قضاء للتسوية.
ولا يمكن اختصاص واو العطف بزيادة الترتيب ، لأنّه مناف للنصّ بالتسوية.
العاشر : لو كان للترتيب ، لما حسن الاستفهام عن تقدّم أحدهما أو التقارن ، لكونه مفهوما من اللفظ. (٦)
__________________
(١) المائدة : ٣٨.
(٢) النور : ٢.
(٣) الكافي : ٤ / ٤٣١ ؛ مسند أحمد بن حنبل : ٣ / ٣٢٠ ، ونقله الآمدي في الإحكام : ١ / ٥١ ـ ٥٢.
(٤) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٦١.
(٥) في «ج» : بجواز تحقيق.
(٦) هذا الوجه ذكره الآمدي في الإحكام : ١ / ٥٠ وتنظّر فيه المصنّف.
وفيه نظر ، لاحتمال إزالة توهّم استعمال المجاز.
الحادي عشر : الجمع معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فلا بدّ من وضع لفظ يدلّ عليه ، وليس إلّا الواو.
الثاني عشر : لو اقتضت الترتيب ، لصحّ دخولها في جواب الشرط كالفاء ، والتالي باطل اتّفاقا ، فكذا المقدّم. (١)
وفيه نظر ، لمنع الملازمة ، إذ ليس علّة الجواب الترتيب.
احتجّ المخالف بوجوه :
الأوّل : قوله تعالى : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)(٢) فإنّه يقتضي الترتيب.
الثاني : قال النبي صلىاللهعليهوآله حين سأله الصحابة عن البداءة بالصّفا أو بالمروة : «ابدءوا بما بدأ الله به» وذلك يدلّ على الترتيب.
الثالث : روي أنّ شخصا قام بين يدي رسول الله وقال : «ومن أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى» فقال صلىاللهعليهوآله : «بئس خطيب القوم أنت ، قل : ومن عصى الله ورسوله [فقد غوى] (٣).
ولو لم تفد الترتيب لم يكن بين ما أمره به ونهاه عنه فارق.
الرابع : قال عمر : ـ لشاعر قال :
__________________
(١) هذا الوجه ذكره الآمدي في الإحكام : ١ / ٥٠ وتنظّر فيه المصنّف.
(٢) الحجّ : ٧٧.
(٣) هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه : ٣ / ١٢ ـ كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة وأبو داود في سننه : ٤ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ برقم ٤٩٨١ ؛ والنسائي في سننه : ٦ / ٩٠ ؛ وأحمد في مسنده : ٤ / ٢٥٦.
.................... |
|
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا ـ (١) |
لو قدّمت الإسلام على الشيب لأجزتك.
الخامس : أنكر الصحابة على ابن عباس حيث أمر بتقديم العمرة ، وقالوا : «لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج» والله تعالى يقول : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)؟ (٢) ولو لا الترتيب ، لما صحّ ذلك.
السادس : لو قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق ، وقعت واحدة ، بخلاف أنت طالق ثلاثا ، ولو لم يكن للترتيب ، لما افترقا.
السابع : الترتيب لفظا يستدعي سببا ، والترتيب في الوجود صالح له ، فوجب الحمل عليه.
الثامن : الترتيب على وجه التعقيب ، وضع له الفاء ، وعلى جهة التراخي وضع له ثمّ.
ومطلق الترتيب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب وضع لفظ بإزائه ، وهو الواو.
لا يقال : الجمع أيضا معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، ولا لفظ له سوى الواو.
لأنّا نقول : لمّا حصل التعارض وجب الترجيح ، وهو معنا ، لأنّ الجمع جزء من الترتيب ، ولازم له ، فإذا كان حقيقة في الترتيب ، أمكن جعله مجازا
__________________
(١) والبيت لسحيم عبد بني الحسحاس ، أوّله : عميرة ودّع إن تجهّزت غاديا. انظر خزانة الأدب : ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣.
(٢) البقرة : ١٩٦.
في لازمه ، وهو مطلق الجمع بسبب الملازمة.
ولو جعلناه للجمع المطلق ، لم يكن الترتيب [المطلق] لازما له ، فلم يمكن جعله مجازا فيه ، لانتفاء الملازمة.
والجواب عن الأوّل : المنع من إفادة الآية الترتيب ، بل من فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي».
وعن الثاني : أنّه لو كان للترتيب ، لما احتاجوا إلى السؤال.
قيل : ولو كانت للجمع ، لما احتاجوا إليه أيضا ، فيتعارضان ، فيبقى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ابدءوا بما بدأ الله به» دليلا على الترتيب ، خاليا عن المعارض. (١)
وفيه نظر ، فإنّ الاستفسار واقع على تقدير الترتيب ، دون الجمع الشامل لأمور ثلاثة ، فاحتاجوا إلى السؤال فيه دون الأوّل ، ولاستفادته من خارج حينئذ.
وعن الثالث : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنكر عليه في ترك إفراد اسم الله تعالى بالذّكر ، فإنّه أدخل في التعظيم ، لا لأجل الترتيب ، إذ لا ترتيب في قوله «ومن عصى الله ورسوله» فإنّ معصيتهما متلازمتان ، فهذا بأن يدلّ على فساد قولهم أولى.
وعن الرابع : أنّ عمر قصد التعظيم بتقديم ذكر الأعظم ، لا على قصد الترتيب ، بل باعتبار أنّ الأدب يقتضي أن يكون المقدّم في الفضيلة ، مقدّما في الذكر.
__________________
(١) انظر الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٥٢ تأليف عليّ بن أبي علي الآمدي.
وعن الخامس : أنّه يعارض بأمر ابن عبّاس بتقديم العمرة ، وهو من فقهاء العرب (١) وترجمان القرآن.
وأيضا ، يمنع استناد الإنكار إلى فهم الترتيب ، بل لفهم مطلق الجمع ، وأنكروا عليه حيث أمرهم بالتقديم ، مع انتفاء دلالة الآية عليه.
وعن السادس : بالمنع من وقوع الثلاث في الموضعين.
سلّمنا ، لكن نمنع عدم وقوعه في قوله : أنت طالق وطالق وطالق ، بل يقع الثلاث ، وهو القول القديم للشافعي ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وبعض أصحاب مالك ، والليث ابن سعد ، وربيعة بن أبي ليلى.
سلّمنا ، لكنّ الفرق ظاهر ، فإنّ قوله : أنت طالق ثلاثا ، تفسير الطلاق بالثلاث ، فكان مقبولا ، وقوله ثانيا «وطالق» ليس تفسيرا لقوله : «أنت طالق» والكلام يعتبر بآخره ، فكان الأوّل واقعا بخلاف الثاني ، حيث كان قوله : أنت طالق ، كلاما تامّا ، فبانت به ، بخلاف قوله «ثلاثا» وأنّه في حكم البيان.
وعن السّابع : بأنّ التقديم لفظا ، لا يقتضي التقديم في نفس الأمر ، كما لو قال : رأيت زيدا ، رأيت عمرا ، فإنّ تقديم زيد في الذكر لا يقتضي تقديمه في نفس الأمر إجماعا.
على أنّه يحتمل أن يكون السبب في التقديم اللّفظي ، لشدّة الاهتمام به ، أو قصد الإخبار عنه خاصّة ، ثمّ تجدّد الإخبار عن غيره.
__________________
(١) في «ب» و «ج» : من فصحاء العرب.