نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

لا يقال : يخرج من حدّ المجاز المستعار ، لأنّ قولنا في الاستعارة : رأيت أسدا إنّما يحصل التعظيم لا باعتبار إعادة الاسم خاصّة ، وإلّا لحصل التّعظيم لو جعلنا الأسد علما عليه ، بل إنّما يحصل باعتبار تقدير ذلك الشخص في نفسه أسدا ، لبلوغه في الشّجاعة الخاصّة بالأسد إلى غايتها ، فلمّا تصوّرنا فيه أنّه أسد ، وقدّرنا ذلك فيه أطلقنا عليه اسم الأسد ، وحينئذ لا يكون اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصليّ.

لأنّا نقول : يكفي في التعظيم تقدير حصول قوّة مساوية لقوّة الأسد ، فيكون استعمال لفظ الأسد فيه مجازا.

والتحقيق أنّ هنا أمورا ثلاثة : لفظ ، ووضع ، واستعمال ، ويمكن إطلاق الحقيقة على كلّ واحد منها ، لأنّها مأخوذة إمّا من الثابت ، أو المثبت على ما بيّناه.

فإن أطلقناها على اللّفظ صارت الحقيقة لفظ ثابت أو مثبت ، ونريد به ثبوته في معناه الّذي وضع له ، ويكون حدّها على هذا ، اللّفظ المستعمل فيما وضع له في اللّغة الّتي وقع التخاطب بها.

وإن أطلقناها على الوضع ، صار الوضع ثابتا أو مثبتا ، بمعنى أنّه لم يتغيّر اللّفظ عن وضعه عند استعماله.

وإن أريد الثالث كان الاستعمال ثابتا أو مثبتا ، أي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له في اللغة المصطلح عليها ، ويكون حدّها على التقديرين الأخيرين ذلك.

والفرق بينه وبين الأوّل : أنّ الأوّل يرجع إلى اللفظ ، والثاني إلى استعماله.

٢٤١

المبحث الثالث : في انّ إطلاق الحقيقة والمجاز مجاز

قد بيّنا أنّ الحقيقة مأخوذة من الحقّ وهو الثابت ، ثمّ نقل إلى العقد المطابق ، لأنّه أولى بالوجود من العقد الغير المطابق ، ثمّ نقل إلى القول المطابق ، ثمّ نقل إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصليّ ، فإنّ استعماله فيه تحقيق لهذا الوضع ، فهو مجاز في المرتبة الثالثة من الوضع ، هذا بحسب اللّغة ، وإن كان حقيقة بحسب العرف.

والمجاز قد بيّنّا أنّه مفعل من الجواز والعبور ، وإنّما يحصل ذلك في الأجسام الّتي يصحّ عليها الانتقال من حيّز إلى آخر ، أمّا الألفاظ فإن أطلق عليها ذلك للمشابهة ، كان الإطلاق فيها مجازا.

وأيضا المجاز مفعل وبناؤه حقيقة إمّا في المصدر أو في الموضع ، وإطلاقه في الفاعل مجاز ، فاستعماله في اللّفظ المنتقل يكون مجازا.

وإن كان مأخوذا من الجواز المقابل للضرورة ، كان حقيقة ، فإنّه كما يمكن حصوله في الأجسام يمكن حصوله في غيرها.

فاللّفظ يكون موضوعا لذلك الجواز ، لأنّه موضوع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصليّ ، فيكون حقيقة ، إلّا أنّ الجواز إنّما سمّي جوازا ، لأنّه مجاز عن معنى العبور والتعدّي.

٢٤٢

المطلب الثاني : في أقسام الحقيقة

وهي ثلاثة لغويّة وعرفيّة وشرعيّة

وفيه أبحاث :

البحث الأوّل : في اللغويّة

لا شكّ أنّ هنا ألفاظا وضعت لمعان في اللّغة ، واستعملت فيها ، وذلك هو الحقيقة اللّغويّة.

واحتجّوا على إثباتها بأنّ هاهنا ألفاظا مستعملة في معان ، فإن كانت هي الموضوعة لها ، كانت حقائق ، وهو المطلوب.

وإن كانت غيرها كانت مجازات ، والمجاز مسبوق بالحقيقة ، وفرع عليها ، ووجود الفرع يستلزم وجود الأصل ، فالحقيقة موجودة قطعا. (١)

وليس بجيّد ، فإنّ المجاز تابع للوضع ومسبوق به ، لا بالاستعمال ، لكن مجرّد الوضع ليس حقيقة بل مع الاستعمال.

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١١٧ ؛ والكاشف عن المحصول : ٢ / ٢٠٨.

٢٤٣

البحث الثاني : في الحقيقة العرفيّة

اعلم أنّه قد تخطر معان يفتقر إلى التعبير عنها لم يوضع لها ألفاظ في اللّغة كما بيّناه ، فيضطرّ إلى اختراع ألفاظ لها.

لكن لمّا كرهوا الخروج عن قانون اللغة ، التجئوا إلى سلوك طريق يجمع تحصيل مطلوبهم ، والتزام قانون اللغة ، فعمدوا إلى كلّ لفظ موضوع لمعنى يناسب معناه الّذي طلبوا التعبير عنه ، فنقلوه إليه ، إذ كان ذلك جريا على قانون اللّغة ، ولم يخترعوا لتلك المعاني ألفاظا من عندهم ، للعلّة المذكورة.

فإن غلب استعمالهم في المعنى الثاني ، صار حقيقة عرفيّة ، إمّا بالعرف العامّ أو الخاصّ.

فإن أهمل الأوّل صار استعمال اللّفظ فيه مجازا عرفيّا وإن كان حقيقة لغويّة ولا نزاع في تجويز ذلك ، وإنّما الخلاف في الوقوع ، والحقّ ثبوته ، لوجود القدرة والدّاعي.

واعلم أنّ العرف العامّ منحصر في أمرين :

الأوّل : اشتهار المجاز بحيث يصير حقيقة عرفيّة ، فيستنكر استعمالها ، وجهات المجاز متعدّدة تأتي ، كحذف المضاف وإقامة المضاف إليه ، كتحريم الخمر ، وهو بالحقيقة مضاف إلى الشّرب ، وكتسمية الشيء باسم شبيهه ، كما يطلق كلام زيد على حكايته ، وكتسمية المتعلّق باسم المتعلّق ، كقضاء الحاجة بالغائط الّذي هو في اللّغة للمكان المطمئنّ ، وكتسمية

٢٤٤

المزادة بالرّواية الّتي هي اسم الجمل الحامل لها.

الثاني : تخصيص الاسم ببعض مسمّياته كالدابّة المشتقّة من الدّبيب ، واختصّت ببعض البهائم ، والملك مأخوذ من الألوكة وهي : الرسالة ، واختصّ ببعض الرّسل ، والجنّ من الاجتنان واختصّ بالبعض ، والقارورة لما يستقرّ فيه الشيء ، والخابية لما يخبّأ فيه ، واختصّا بالبعض.

فالتصرّف عرفا إنّما هو على أحد الوجهين ، فلا يجوز إثبات ثالث ، وإنّما كانت هذه حقائق عرفيّة ، لوجود علامات الحقيقة فيها.

وأمّا [العرف] الخاصّ ، فهو ما لكلّ قوم من العلماء من اصطلاحات اختصّوا بها ، كما اختصّ الفقهاء بالنقض والكسر (١) وغيرهما ، والمتكلّمون بالجوهر والعرض وغيرهما ، والنحويّون بالرّفع والنّصب وغيرهما ، وهو معلوم قطعا.

البحث الثالث : في الحقيقة الشرعية

وهي اللفظة المستعملة شرعا فيما وضعت له في ذلك الاصطلاح وضعا أوّلا ، سواء كان المعنى واللفظ مجهولين عند أهل اللّغة ، أو معلومين ، لكنّهم لم يضعوا اللفظ بإزاء ذلك المعنى ، أو كان أحدهما معلوما والآخر

__________________

(١) النقض عبارة عن تخلّف الحكم عن العلّة والكسر نوع منه. لاحظ الكاشف عن المحصول : ٢ / ٢١٤.

٢٤٥

مجهولا (١) ، وقد وقع الاتّفاق على إمكانها ، وإنّما النزاع في وقوعها.

فمنعه القاضي أبو بكر مطلقا (٢) وجوزه المعتزلة مطلقا (٣).

ثمّ قسم المعتزلة والخوارج وبعض الفقهاء الأسماء الشرعيّة إلى ما اجريت على الأفعال كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحجّ ، وغيرها.

وإلى ما أجريت على الفاعلين كالمؤمن ، والفاسق ، والكافر ، وسمّوا الأخير بالدينيّة ، فرقا بينها وبين الأوّل ، ويجمع القسمين العرف الشّرعي.

ونقل عنهم أنّ الدينيّة ما نقله الشريعة إلى أهل الدين ، كالإيمان ، والكفر ، والفسق.

والأجود أنّها حقائق شرعيّة ، مجازات لغويّة.

وقبل الخوض في الدليل لا بدّ من تحقيق محلّ النزاع فنقول :

لا شكّ في وجود ألفاظ استعملها العرب وجرت في ألفاظ الشرع على أنحاء ، لم يقصد في اللغة المحضة ، كالصلاة فإنّها في اللسان للدّعاء ، أو المتابعة

__________________

(١) في نهاية السؤل : ٢ / ١٥١ :

سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللّغة كأوائل السور عند من يجعلها اسما ، أو كانا معلومين لهم لكنّهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى كلفظة «الرّحمن» لله تعالى ، فإنّ كلّا منهما كان معلوما لهم ولم يضعوا اللفظ له تعالى ، ولذلك قالوا حين نزل قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) : إنّا لا نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة ، أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما كالصوم والصلاة.

(٢) انظر التقريب والإرشاد : ١ / ٣٨٧.

(٣) انظر المعتمد : ١ / ١٨.

٢٤٦

والملازمة ، من قولهم صلا بالنار ، والزكاة في اللّغة للنموّ ، والحجّ في اللغة للقصد ، والعمرة للزيادة.

ثمّ إنّ الشارع استعمل هذا الألفاظ في عبارات مخصوصة.

فقيل : إنّ الشرع نقل تلك الألفاظ اللغويّة عن حكم وضع أهل اللّسان إلى مقاصده.

وقال القاضي أبو بكر : إنّها مقرّة على حقائق اللغات لم تنقل ولم يزد في معناها. (١)

وقال جماعة من الفقهاء : إنّها أقرّت وزيدت في معناها.

والتحقيق أن نقول : لا شكّ في وجود هذه الألفاظ في اللّغة ، وأنّ الشارع أراد بها أمورا لم يردها واضع اللّغة.

لكن لمّا كانت تلك الأمور الّتي أرادها الشارع تشتمل على الأمور اللّغويّة ، حصل الإشكال في أنّ الشارع هل أطلق تلك الألفاظ على تلك المعاني لأجل اشتمالها على المعاني اللّغوية؟ أو على المعاني اللّغويّة الموجودة في تلك الأمور الشرعية خاصّة؟ أولم يعتبر المعنى اللّغويّ البتّة؟

فنقول : إن أوجبنا في الألفاظ الشرعيّة استعمال القوانين اللغويّة ، وجب اعتبار أحد الأمرين الأوّلين ، ليكون العرف الشرعيّ غير خارج من قانون اللّغة ، بل استعمل الحقيقة إن اعتبرنا الثاني ، أو المجاز إن اعتبرنا الأوّل ، وإلّا فلا.

لكن لمّا كان حكم الله تعالى بكون القرآن عربيّا وجب اعتبار أحد الأوّلين ، فهذا تحقيق محلّ النزاع.

__________________

(١) انظر التقريب والإرشاد : ١ / ٣٨٧.

٢٤٧

لنا على استناد الوضع إلى الشرع : أنّ الصلاة في الشرع للرّكعات المخصوصة ، والزكاة للقدر المخرج من المال ، والحجّ للأفعال المخصوصة عند البيت ، والصوم للإمساك عن أشياء مخصوصة.

وفي اللغة للدّعاء ، والنموّ ، والقصد ، والإمساك مطلقا وإذا أطلقت في اصطلاح الفقهاء فهم ما وضعه الشارع دون ما وضعه أهل اللغة فيه ، بحيث لا يسبق إلى الذهن إلّا ما قلناه.

وهذا من خواصّ الحقيقة ، فكانت حقائق شرعيّة.

لا يقال : الحقيقة اللغويّة موجودة في هذه المعاني ، والزيادات شروط.

لأنّا نقول : لا نسلّم وجود المعنى اللّغويّ ، فإنّ الاخرس المنفرد غير داع ولا متّبع (١).

سلّمنا ، لكن لا نسلّم التفات الشارع إلى هذه المعاني ، بل إلى ما وضعه.

لا يقال : إنّها مجازات فيما ذكرتم ، ضرورة استعمالها فيما لم يوضع له.

لأنّا نقول : إن أردتم استعمال الشارع لها ، فهو المدّعى ، وإن أردتم أهل اللغة ، فليس كذلك ، لعدم علمهم.

ولنا على أنّها مجازات لغويّة : أنّها لو لم تكن لغويّة ، لم يكن القرآن كلّه عربيّا ، والمقدّمة كالتالي باطل.

__________________

(١) قال الرازي في المحصول : ١ / ١٢٤ : الصلاة في أصل اللغة إمّا للمتابعة كما يسمّى الطائر الّذي يتبع السابق مصلّيا ، وإمّا للدّعاء ، أو لعظم الورك كما قال بعضهم : الصلاة انّما سمّيت صلاة ، لأنّ العادة في الصلاة أن يقف المسلمون صفوفا ، فإذا ركعوا كان رأس أحدهم عند صلا الآخر ، وهو عظم الورك.

٢٤٨

بيان الشرطية : أنّ هذه الألفاظ مذكورة في القرآن ، فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربيّة ، ثبتت الملازمة.

وأمّا فساد التّالي فلقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١) وقوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ)(٢) وقوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(٣).

فإن قيل : هذا الدّليل فاسد الوضع ، لاستلزامه غير المطلوب دونه ، إذ يقتضي كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني اللّغويّة ، وليس كذلك إجماعا.

فإنّ الصّلاة لا يراد بها في الشرع ، الدّعاء ولا المتابعة.

سلّمنا ، لكن نمنع الملازمة ، فإنّ هذه الألفاظ عربيّة ، لوجودها في كلامهم ، وإن أفادت غير ما أفيد منها شرعا.

سلّمنا ، لكن لقلّتها لا يخرج القرآن بها عن كونه عربيّا ، كما يطلق الأسود على ثور أسود وفيه شعرات بيض ، والشعر الفارسي يسمّى فارسيّا ، وإن وجدت فيه ألفاظ عربيّة.

سلّمنا ، لكن قوله : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) يراد به البعض ، لصدق القرآن عليه وعلى مجموعه بالاشتراك [لوجوه أربعة :]

[١] ـ فإنّه لو حلف ألا يقرأ القرآن حنث بالآية ، ولو لم يسمّ قرانا ، لم يحنث.

[٢] ـ ولأنّه مأخوذ من القراءة أو القرء ، وهو الجمع.

[٣] ـ ولصحّة : هذا كلّ القرآن وبعضه ، من غير تكرير ولا نقض.

__________________

(١) يوسف : ٢.

(٢) الشعراء : ١٩٥.

(٣) إبراهيم : ٤.

٢٤٩

[٤] ـ ولقوله في سورة يوسف : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(١) والمراد تلك السورة ، فلا يلزم من كون القرآن عربيّا ، كون كلّه كذلك ، بخلاف المائة والرغيف. (٢)

سلّمنا دلالة النّصوص على كون القرآن بجملته عربيّا ، لكن بطريق الحقيقة أو المجاز؟

والثاني : مسلّم ، الأوّل ممنوع.

سلّمنا ، لكن يعارض بما يقتضي أنّه ليس كلّه عربيّا ، وهو الحروف في أوائل السّور ، والمشكاة حبشيّة ، والاستبرق والسّجيل فارسيّتان معرّبتان ، والقسطاس روميّ الأصل.

سلّمنا ، لكن يعارض من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل.

أمّا الإجمال فهو : أنّه قد ثبت في الشرع معان ، لم يعقلها العرب فلم يضعوا لها أسامي ، ويفتقر إلى التعبير عنها ، فوجب وضع الأسامي لها ، كالولد والأداة ، الحادثين.

وأمّا التفصيل ، فما يدلّ على كل واحد [من هذه الألفاظ] أنّه استعمل في غير معناه الأصليّ.

أمّا الإيمان ، فهو في اللغة التصديق ، وفي الشرع فعل الواجبات ، لوجوه :

الأوّل : أنّه الدّين كقوله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

__________________

(١) يوسف : ٢.

(٢) لا يقال بعض المائة ، مائة ، وبعض الرغيف ، رغيف.

٢٥٠

حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(١) وهو يرجع إلى كلّ ما تقدّم.

والدين ، الإسلام لقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)(٢).

والإسلام ، الإيمان ، إذ لو غايره لم يكن مقبولا لقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(٣) ولقوله : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٤) ولو لا الاتّحاد بطل الاستثناء.

الثاني : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)(٥) قيل : صلاتكم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «نهيت عن قتل المصلّين» (٦) وأراد المؤمنين.

الثالث : قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)(٧) أمره فيها بالاستغفار لهم ، والفاسق لا يستغفر له حال فسقه ، بل يلعنه ويذمّه ، فلا يكون مؤمنا.

الرابع : قاطع الطريق يخزى يوم القيامة ، لأنّه يدخل النار ، لقوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٨) فيخزى لقوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)(٩) من غير تكذيب لهم ، والمؤمن لا يخزى لقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)(١٠).

الخامس : لو كان الإيمان شرعا هو التصديق ، لم يوصف به حال عدمه ، لما

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) آل عمران : ١٩.

(٣) آل عمران : ٨٥.

(٤) الذاريات : ٣٦.

(٥) البقرة : ١٤٣.

(٦) سنن أبي داود : ٤ / ٢٨٢ ، رقم الحديث ٤٩٢٩ ، كتاب الأدب.

(٧) النور : ٦٢.

(٨) البقرة : ١١٤.

(٩) آل عمران : ١٩٢.

(١٠) التحريم : ٨.

٢٥١

تقدّم في باب الاشتقاق ، والتالي باطل ، إذ يقال للاتي بأفعال الإيمان من غير احتياط : إنّه مؤمن ، وللنائم : إنّه مؤمن.

السادس : لو كان الإيمان التّصديق ، لكان مصدّق الجبت والطاغوت مؤمنا.

السابع : من علم بالله تعالى ثمّ سجد للشّمس يلزم أن يكون مؤمنا ، وهو خلاف الإجماع.

الثامن : قوله [تعالى] : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(١) أثبت الإيمان مع الشرك ، والتصديق بالواحدانية لا يجامع الشرك ، فيكون التصديق مغايرا للإيمان.

وأمّا الصّلاة فهي لغة المتابعة ، ومنه يسمّى تابع السابق مصلّيا ، والدعاء كقوله :

 ....................

صلّى على دنّها ... (٢)

وعظم الورك ، كما قيل : إنّما سمّيت صلاة ، لقضاء العادة بوقوف المسلمين صفوفا فرأس أحدهم حالة الركوع عند صلا الآخر ، وهو : عظم الورك.

ولا يفيد شيئا منها في الشرع ، لعدم إخطارها بالبال عند الإطلاق.

وصلاة الإمام والمنفرد لم يوجد فيها المتابعة ، ولا محاذاة الرّأس عظم الورك.

__________________

(١) يوسف : ١٠٦.

(٢) جزء من عجز البيت للأعشى في مدح قيس بن معد يكرب وصدره :

وقابلها الريح في دنّها

وصلّى على دنّها وارتسم

ديوان الأعشى : ١٩٦.

٢٥٢

وإذا انتقل [الإنسان] من الدّعاء إلى غيره ، لا يقال : فارق صلاته.

وصلاة الاخرس لا دعاء فيها.

والصّوم لغة الإمساك مطلقا ، وشرعا الإمساك عن أشياء مخصوصة ، بل قد يوجد الصّوم الشرعي حيث لا إمساك كما في وقت الأكل ناسيا ، وكذا البواقي.

والجواب : قوله : هذا الدليل يقتضي كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني الّتى كانت العرب تستعملها فيها.

قلنا : حقيقة أو مطلقا؟

الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم.

بيانه : أنّ العرب قد تكلّمت بالحقيقة والمجاز ، الّذي من جملته تسمية الكلّ باسم الجزء ، والدعاء جزء من الصّلاة الشرعيّة ، بل هو المقصود ، لقوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)(١).

ولأنّ القصد به التضرّع ، فلم يكن خارجا عن اللغة.

لا يقال : شرط المجاز النّصّ من أهل اللّغة ، وهو منفيّ هنا ، لعدم علمهم بالمعاني ، إذ لو علموها جاز أن تكون حقائق لغويّة ، فإنّا إنّما تعيّنّا كونها حقائق لعدم علمهم.

لأنّا نقول : لا نسلّم اشتراط النّصّ.

__________________

(١) طه : ١٤.

٢٥٣

سلّمنا ، لكن نصّوا إجمالا ، حيث قالوا : يجوز إطلاق اسم الجزء على الكلّ مجازا.

قوله : يجوز أن تكون عربيّة باعتبار نطق العرب بها ، لا باعتبار الوضع.

قلنا : كون اللّفظ عربيّا ، حكم تابع للدّلالة على معنى المخصوص ، لا من حيث ذاته ، فلو لم تكن الدلالة عربيّة ، لم تكن الألفاظ عربيّة.

قوله : لا يخرج القرآن عن كونه عربيّا بألفاظ قليلة.

قلنا : ممنوع ، فإنّه حينئذ يصدق عليه أنّ كلّه ليس عربيّا ، ونمنع إطلاق الأسود على ما فيه شعرات بيض ، والفارسيّ على ما فيه كلمات عربيّة حقيقة ، بل بالمجاز ، وإلّا لما جاز الاستثناء (١).

وفيه نظر ، لاحتمال أن يقال : يجوز أن يكون إطلاق اسم الكلّ عليه وعلى الأكثر حقيقة ، والاستثناء يخرج الأقلّ عن كونه مسمّى باسم الكلّ لا الأكثر.

قوله : القرآن اسم للبعض.

قلنا : ممنوع للإجماع على أنّه تعالى ما أنزل إلّا قرانا واحدا.

والوجوه الأربعة ، معارضة بأنّه يقال في كلّ آية أو سورة : إنّه بعض القرآن ومنه. (٢)

وفيه نظر ، لأنّ المجموع الّذي يصدق اسمه عليه وعلى جزئه بالتواطؤ أو

__________________

(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٢٦.

(٢) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٢٦.

٢٥٤

الاشتراك ، يصدق عليه أنّه قران واحد باعتبار مجموعه ، وأنّه قران متعدّد باعتبار أجزائه ، كما لو أنزل ماء ، صدق عليه أنّه ماء واحد ، ولو اعتبرت أجزاؤه ، صدق تعدّده.

والوجوه الأربعة ، لا يعارضها قولنا في السورة : إنّها بعض القرآن ، لصدق القرآن عليها وعلى المجموع بالتواطؤ أو الاشتراك.

قوله : النصوص تقتضي كون كلّه عربيّا مجازا.

قلنا : الأصل في الاستعمال الحقيقة.

قوله : وجدت ألفاظ غير عربيّة.

قلنا : ممنوع ، والحروف قيل (١) : إنّها اسماء السّور ، أو أجزاء من كلمات ، كما قيل (٢) : إنّ «الكاف» من كاف ، و «الهاء» من هاء ، وغير ذلك.

و «المشكاة» وغيرها جاز أن يكون ممّا اتفقت فيه اللّغات ك «الصّابون» و «التّنّور».

سلّمنا ، لكن تخصيص العامّ لا يخرجه عن كونه حجّة في الباقي.

قوله : المعاني تجدّدت ، فلا بدّ من وضع جديد.

قلنا : يكفي المجاز ، كتخصيص الصّلاة بدعاء معيّن ، وكذا البواقي.

والزكاة من المجاز المنقول فيه اسم المسبّب إلى سببه.

__________________

(١) القائل هو الرازي في المحصول : ١ / ١٢٧.

(٢) القائل هو العجليّ الأصفهاني في الكاشف عن المحصول : ٢ / ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ، حيث قال : المتركّب من مدلول «الكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والصاد» هو : كهيعص.

٢٥٥

قوله : فعل الواجبات هو الدّين.

قلنا : ممنوع ولفظة «ذلك» لا يرجع إلى جميع ما تقدّم لواحدتها ، وتذكيرها ، وكثرته.

وتأنيث إقامة الصّلاة ، فلا بدّ من إضمار.

ولستم بإضمار «الّذي أمرتم به» أولى منّا بإضمار «الإخلاص» أو «التديّن».

ومع ذلك فإضمارنا أرجح ، لعدم تأديته إلى تغيير اللّغة ، بخلاف إضمارهم. (١)

وفيه نظر ، لجواز رجوعه إلى المجموع من حيث هو مجموع.

قوله : المراد بقوله «إيمانكم» صلاتكم إلى بيت المقدس.

قلنا : ممنوع ، بل التصديق بوجوب تلك الصلاة ، محافظة على بقاء الوضع.

وقوله عليه‌السلام : «نهيت عن قتل المصلّين» (٢) أراد المصدّقين بتلك الصّلاة مجازا ، من باب التعلّق.

قوله : الفاسق غير مؤمن ، للاستغفار للمؤمن دونه.

قلنا : الايمان يجامع المعاصي ، لقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا

__________________

(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٢٨.

(٢) سنن أبي داود : ٤ / ٢٨٢ ، رقم الحديث ٤٩٢٨ ، كتاب الأدب ؛ الجوهر النّقي في ذيل سنن البيهقي : ٣ / ٩٢ ؛ كنز العمال : ٤ / ٣٩٠ ، رقم الحديث ١١٠٦٢ وج ٧ / ٣٠٨ ، رقم الحديث ١٩٠٢١.

٢٥٦

إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ)(١) ، (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٢).

ولأنّ محلّ الإيمان القلب لقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ)(٣)(وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٤)(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)(٥).

وقوله عليه‌السلام : «يا مثبّت القلوب ثبّت قلبي على دينك» (٦) فيكون مغايرا لعمل الجوارح.

قوله : قاطع الطّريق يخزى.

قلنا : الآيات الدالّة على مجامعة الإيمان للمعاصي يدفع ما ذكرتموه ، واستثناء المسلمين معارض بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا)(٧).

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)(٨) يحتمل من كان في زمانه ، أو أنّه مستأنف ، وثبوت العذاب لا يستلزم دخول النّار.

قوله : وقد يوصف بالإيمان حال عدم مباشرة التصديق.

قلنا : وحال عدم الأفعال أولى.

قوله : يكون المصدّق بالجبت مؤمنا.

قلنا : الإيمان في عرف الشرع تصديق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ما جاء به ، لا مطلق التصديق ، وهو الجواب عن الباقي.

__________________

(١) الأنعام : ٨٢.

(٢) الحجرات : ٩.

(٣) المجادلة : ٢٢.

(٤) النحل : ١٠٦.

(٥) الأنعام : ١٢٥.

(٦) سنن ابن ماجة : ١ / ٧٢ ، رقم الحديث ١٩٩ ؛ كنز العمّال : ٢ / ١٩٦ رقم الحديث ٣٧٢٦.

(٧) الحجرات : ١٤.

(٨) التحريم : ٨.

٢٥٧

قوله : الصلاة وغيرها غير مستعمل في العرف اللّغوي.

قلنا : مسلّم لكن استعملت مجازات بالنسبة إليها.

احتجّ القاضي (١) بأمرين :

الأوّل : أنّ القرآن قد اشتمل على هذه الألفاظ فلو لم تكن عربيّة لم يكن القرآن كلّه عربيّا. والتقريب ما تقدّم.

الثاني : أنّ الشارع لو نقلها ، لوجب عليه أن يعرّف الأمّة ذلك حتّى يتمكّنوا من الامتثال لأوامره ، ولو عرّفهم ذلك لنقل إلينا ، لأنّا متعبّدون مثلهم.

والنقل إمّا تواتر أو آحاد ، والآحاد ليست حجّة ولا تواتر (٢).

والجواب عن الأوّل : إن أردت بكونها عربيّة نطق العرب بها أو استعملها (٣) في حقائق تناسب الحقائق الشرعية ، فهو مسلّم.

وإن أردت استعمالها فيما استعمله الشّارع ، فهو لا شكّ بعيد.

وعن الثاني : أنّ التواتر دلّ على النقل في أكثر الأسماء ، والآحاد تفيد في الأمور الشرعية.

ولأنّه إنّما يجب عليه أن يوقفنا على مقصوده لو لم نفهمه من هذه الألفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد أخرى ، فإذا فهم فقد حصل الغرض.

قوله : يلزم التكليف بما لا يطاق لو كلّفهم فهمها قبل تفهيمهم.

__________________

(١) هو أبو بكر محمد بن الطيّب الباقلاني المتوفّى سنة ٤٠٣ ه‍.

(٢) التقريب والإرشاد : ١ / ٣٩١ ـ ٣٩٢.

(٣) في «ب» و «ج» : واستعمالها.

٢٥٨

وليس كذلك.

قوله : التفهيم إنّما يكون (١) بالنقل.

قلنا : ممنوع بل بالتكرير والقرائن ، كما قلناه.

البحث الرّابع : في اشتمال القرآن على المعرّب

ولقد يناسب ما نحن فيه الكلام في أنّ القرآن هل اشتمل على كلمة غير عربيّة أم لا؟

فأثبته ابن عباس وعكرمة (٢).

ونفاه الباقون.

والأقرب الأوّل.

لنا وجوه :

الأوّل : اتّفاق النحاة على أنّ مثل إبراهيم وإسماعيل غير منصرف ، للعجمة والعربيّة.

الثاني : أنّ القرآن قد اشتمل على «مشكاة» وهي هنديّة و «استبرق» و «سجّيل» وهما فارسيّان ، و «طه» وهي نبطيّة ، و «قسطاس» وهو روميّ.

الثالث : قال عليه‌السلام : «بعثت إلى الأسود والأحمر» (٣).

__________________

(١) في «أ» : يحصل.

(٢) لاحظ الإحكام للآمدي : ١ / ٤٠.

(٣) بحار الأنوار : ١٦ / ٣٠٨ ؛ مسند أحمد بن حنبل : ٤ / ٤١٦.

٢٥٩

والإجماع أيضا دلّ على عموم رسالته ، وأنّه مبعوث إلى أهل كلّ لسان.

والقرآن أيضا دلّ عليه في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)(١) فيمكن أن يكون الكتاب جامعا لكلّ لغة ، ليتحقّق خطابه للكلّ إعجازا وبيانا.

الرابع : لا استبعاد في وجود ذلك في الكتاب ، كوجود الحروف في أوائل السور.

واحتجّ الباقون بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ)(٢) فنفى كونه أعجميّا ، وقطع اعتراضهم بتنويعه بين أعجميّ وعربيّ ، ولا ينتفي الاعتراض وفيه أعجميّ.

الثاني : قوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(٣) وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)(٤).

ثمّ اعترضوا على الأوّلين بجواز اشتمال جميع اللّغات على هذه الألفاظ. (٥)

__________________

(١) سبأ : ٢٨.

(٢) فصّلت : ٤٤.

(٣) الشعراء : ١٩٥.

(٤) يوسف : ٢.

(٥) أي اشتراك اللّغات المختلفة في الألفاظ المتقدّمة.

٢٦٠