الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٢٩
[وقوله :] (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)(١).
[وقوله :] (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)(٢).
[وقوله :] (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)(٣).
والأصل في الإطلاق الحقيقة ، على ما تقدّم.
وأيضا فإنّه قد جمع الأمر القولي على أوامر ، والفعليّ على أمور ، والاشتقاق دليل الحقيقة.
وأيضا لو كان (٤) مجازا لم يكن بالزّيادة ولا بالنّقصان ، وليس بين القول والفعل شبه حتّى يكون بالنّقل.
والجواب لا نسلّم أنّ الإطلاق دليل الحقيقة ، فإنّه قد يوجد في المجاز.
نعم الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويعارضه أصالة عدم الاشتراك ، وقد بيّنا رجحان المجاز على الاشتراك.
سلّمنا لكن لا يجوز أن يكون المراد في تلك الأمثلة الشأن والطريق.
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا)(٥) يحتمل إرادة القول أو الشأن ، والفعل يطلق عليه [اسم] الأمر ، لعموم كونه شأنا ، لا لخصوص كونه فعلا وكذا الثانية. (٦)
__________________
(١) القمر : ٥٠.
(٢) الحجّ : ٦٥.
(٣) الأعراف : ٥٤.
(٤) أي لو كان اسم الأمر في الفعل ...
(٥) هود : ٤٠.
(٦) أي وكذا الجواب عن الآية الثانيّة.
وقوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) يحتمل القول ، بل هو الظاهر ، لسبق (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ)(٢) أي أطاعوه فيما أمرهم.
سلّمنا ، لكن جاز أن يكون المراد شأنه وطريقه.
وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ)(٣) لا يجوز إجراؤه على ظاهره ، وهو الفعل ، وإلّا لزم أن يكون فعل الله واحدا ، وهو باطل ، وأن يحدث كلّه كلمح البصر في السرعة ، ومعلوم أنّه ليس كذلك.
وإذا وجب صرفه عن الظاهر ، حمل على أنّه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر.
وقوله (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)(٤) لا يحمل الأمر هنا على الفعل ، إذ الجري والتسخير إنّما حصلا بقدرته ، لا بفعله ، فيحمل على الشأن والطريق.
والأمور جاز أن تكون جمعا للأمر بمعنى الشأن ، لا بمعنى الفعل.
سلّمنا ، لكن الجمع لا يدلّ على الحقيقة ، كما يجمع الحمار بمعنى البليد ، ويجمع بمعنى الحقيقة بلفظ واحد.
على أنّ ابن الحاجب كان يقول : لا يوجد فى لسان العرب «أوامر» في جمع الأمر، بل جمع الأمر الواقع على الفعل والقول أمور. وأوامر جمع آمرة ، وكان يقول : إنّ هذا شيء يذكره الفقهاء (٥).
__________________
(١) هود : ٩٧.
(٢) هود : ٩٧.
(٣) القمر : ٥٠.
(٤) الأعراف : ٥٤.
(٥) قال أبو الحسين المعتزلي في المعتمد : قد حكي عن أهل اللغة : أنّ الأمر لا يجمع «أوامر» لا في القول ولا في الفعل ، وأنّ «أوامر» جمع «آمرة» المعتمد : ١ / ٤١ ـ ٤٢.
وأجاب أبو الحسين عن الأخير بأنّه لا يطلق اسم الأمر على الفعل لا حقيقة ولا مجازا من حيث هو فعل ، وإنّما يقال (١) حقيقة على جملة الشأن (٢).
ونقل عن أصحابه جوابين :
الأوّل : أنّه يقع على الفعل مجازا من حيث الزيادة المعنويّة ، لأنّ جملة أفعال الإنسان ، لمّا دخل فيها القول ، سمّيت الجملة باسم جزئها.
الثاني : الأفعال تشبه الأوامر في أنّ كلّ واحد منهما يدلّ على سداد أغراض الإنسان ، ولا يلزم تسمية النّهي والخبر أمرا ، لعدم اطّراد المجاز.
واعترضهما بأنّه يقال : أمر فلان في تجارته أو في صحّته مستقيم ، ولا يدخل في ذلك أمره الّذي هو القول.
واللّفظ إنّما وقع عليه اسم الأمر من حيث كان نعتا مخصوصا على الفعل ، وكان يجب أن يقع الشّبه بينه وبين الفعل من هذه الجهة وإن لم يشتبها في فائدة الاسم من كل وجه ، وكان يجب. أن يكون المتلفّظ باسم الأمر ، إذا عنى به الفعل ، أن يعني به ما ذكروه من الشّبه ، ومعلوم عدم خطور ذلك بباله ، ولهذا إنّما يجوز التسمية بالأسد للشّبه في الشجاعة الّتي هي معظم فائدة قولنا أسد ، ومن يسمّي الشّجاع أسدا يعني به شجاعته. (٣)
ثمّ احتجّ أبو الحسين على مذهبه باشتباه الأمر على السّامع بين تلك
__________________
(١) كذا في النسخ التي بأيدينا ولكن في المصدر «يقع حقيقة».
(٢) أي في جملة شأن الإنسان وأحواله وأفعاله وغير أفعاله. كذا في المصدر.
(٣) المعتمد : ١ / ٤٢.
المعاني ، فإنّ من قال : «هذا أمر» ، لم يعلم السّامع أيّ تلك أراد ، فإن قال : هذا أمر بالفعل ، علم القول.
ولو قال : أمره مستقيم ، عقل الشأن.
ولو قال : تحرّك الجسم لأمر ، علم أنّه تحرّك لشيء.
ولو قال : جاء زيد لأمر عقل الغرض ، وتوقّف الذهن عند السّماع يدلّ على تردّده بين الجميع ، وأنّه حقيقة في كلّ واحد (١).
والجواب بالمنع من تردّد الذهن بينها ، وإنّما يحصل التردّد مع وجود قرينة مانعة من حمله على القول ، أمّا مع تجرّده ، فإنّما يفهم منه القول خاصّة.
واحتجّ من منع من كونه حقيقة في الفعل بأمور :
الأوّل : عدم الاطّراد ، فلا يسمّى الأكل والشرب أمرا ، فلا يكون حقيقة ، إذ هو لازمها.
الثاني : عدم الاشتقاق ، فلا يسمّى الاكل والشارب امرا.
الثالث : لوازم الأمر منتفية عن الفعل ، فلا يسمّى أمرا.
بيان الأوّل : أنّ الأمر يدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي ، وضدّه النهي ، ويمنع منه الخرس والسكوت.
وعدّوه مطلقا من أقسام الكلام ، كما عدّوا الخبر منه ، وكلّ ذلك إنّما يصحّ في القول.
__________________
(١) المعتمد : ١ / ٣٩ ـ ٤٠.
الرابع : يصحّ النفي ، فيقال : ما أمر فلان ، بل فعل ، وهو دليل المجاز.
الخامس : الأمر الحقيقيّ له متعلّق ، وهو المأمور ، وهو غير متحقّق في الفعل ، فإنّه وإن سمّي أمرا ، فلا يقال له : مأمور ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم.
وهذه الوجوه مدخولة.
امّا الأوّل :
فالمنع من وجود اطّراد الحقيقة.
سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّه لا يقال : للأكل والشّرب : إنّه أمر.
سلّمنا ، لكن عدم اطّراده في كلّ فعل ، إن كان ممّا يمنع من كونه حقيقة في بعض الأفعال ، فعدم اطّراده في كلّ قول ممّا يمنع من كونه حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق كلّ قول ، وهو غير مطّرد في كلّ قول على ما لا يخفى.
وإن كان لا يمنع من ذلك في القول ، فكذا في الفعل.
لا يقال : إنّما يجب اطّراد الاسم في المعنى الّذي كان الاسم حقيقة فيه ، لا في غيره ، والأمر إنّما كان حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق كلّ قول ، وهو مطّرد في ذلك القول ، فمثله لازم في الأفعال.
فإنّ للخصم أن يقول : إنّما هو حقيقة في بعض الأفعال ، لا في كلّ فعل. (١)
__________________
(١) انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٢٨٥.
وفيه نظر ، فإنّ الخصم لم يجعله حقيقة في فعل معيّن ، بل في مطلق الفعل ، فورد عليه الإشكال.
بخلاف القول ، فإنّ أحدا لم يجعله حقيقة في مطلق القول ، بل في قول معيّن.
وأمّا الثاني : فبما تقدّم من أنّ الاشتقاق غير واجب في كلّ الحقائق (١) وأنّه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق ، لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرّة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل.
لا يقال : ولو لم يكن الاشتقاق على وفق الأصل ، لكان على خلافه ، لكن المحذور منه أكثر ، لكثرة صور الاشتقاق.
لأنّا نقول : لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل ، لجواز أن يكون كلّ من الاشتقاق وعدمه على خلاف الأصل ، بل يتبعان النّقل ، فإنّه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة ، جاز أن يكون من توابع بعض المسمّيات.
وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسمّيات الاشتقاق في غيره ، لعدم الاشتراك في ذلك المسمّى (٢).
وفيه نظر فانّ القائلين بوجوب الاشتقاق يسلّمون كون الاشتقاق في الجرّة وغيرها لمانع ، وأنّه على خلاف الأصل ، إذ الأصل الاشتقاق.
__________________
(١) في «أ» في كلّ الخواص.
(٢) الإشكال والجواب للآمدي في الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٢٨٥.
ولمّا وجدنا الاشتقاق موجودا في جميع صور الحقيقة إلّا ما اشتمل على المانع ، حكمنا بتبعيّته لها ، دون تبعيّته لبعض المسمّيات ، إذ قد يوجد في غيره.
وأمّا الثالث : فإنّ العرب حكموا بأنّ تلك الصفات لازمة للأمر القولي ، لا لمطلق الأمر.
وأمّا الرّابع : فالمنع من صحّة النفي مطلقا.
وأمّا الخامس : فلما تقدّم.
المبحث الثالث : في حدّه
ذهب أكثر المعتزلة ومنهم البلخي (١) إلى أنّ الأمر هو قول القائل لمن دونه : «افعل» أو ما يقوم مقامه ، وأراد بما يقوم مقامه : في الدّلالة ، ليدخل فيه حقيقة الأمر من غير العربيّ.
واعترض بوجوه :
الأوّل : قد توجد صيغة «افعل» فيما ليس بأمر ، كالتهديد وغيره.
الثاني : يلزم أن يكون صيغة «افعل» الواردة على لسان الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرا ، فيكون هو الامر ، ولا يكون رسولا.
__________________
(١) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ، البلخي الخراساني أحد أئمّة المعتزلة ، كان رأس طائفة منهم تسمّى «الكعبيّة» وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها ، وهو من أهل «بلخ» مات سنة ٣١٩ ه لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٦٥ ، وريحانة الأدب : ٥ / ٦٥.
الثالث : قد ترد هذه الصّيغة من الأعلى للأدنى على سبيل الخضوع ، ولا يكون أمرا ، وقد ترد من الأدنى نحو الأعلى ويكون أمرا إذا كانت على سبيل الاستعلاء ، ولهذا يوصف بالجهل والحمق.
الرابع : لو فرضنا أنّ الواضع لم يضع لفظة «افعل» لشيء أصلا ، حتّى كانت هذه اللفظة من المهملات ، ففي تلك الحالة لو تلفّظ الإنسان بها مع من دونه ، لا يقال فيه : إنّه أمر.
الخامس : لو صدرت هذا الصّيغة عن النائم والسّاهي ، أو على سبيل انطلاق اللّسان بها اتّفاقا ، أو على سبيل الحكاية ، لا يقال فيه : إنّه أمر.
قيل عليه : لا نسلّم أنّه قول لغيره افعل. (١).
وفيه نظر ، فإنّ الغالط والساهي يقال : إنّه قال لغيره.
السادس : لو وضعت هذه الصّيغة بإزاء الخبر ، وصيغة الخبر بإزاء الأمر ، لم تكن هذه الصيغة أمرا.
السابع : المطلوب تحديد ماهيّة الأمر من حيث هي ، وتلك لا تختلف باختلاف اللّغات.
لا يقال : قولنا : «أو ما يقوم مقامه» يزيل هذا الاشكال.
لأنّا نقول : إن عنيت بقولك : أو ما يقوم مقامه في الدلالة على الطّلب ، كان تحديد الأمر باللفظ الدّال على طلب الفعل كافيا ، ويقع التعرّض بخصوص صيغة افعل ضائعا.
__________________
(١) انظر نفائس الأصول : ٢ / ٧٨.
وإن عنيت شيئا آخر فبيّنه.
الثامن : ذكرت «أو» في التحديد ، وهو محترز عنه.
وقال القاضي أبو بكر (١) من الأشاعرة وارتضاه أكثرهم كالجويني (٢) والغزالي (٣) وغيرهما : إنّه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به.
وهو خطأ من وجوه :
الأوّل : لفظ المأمور والمأمور به مشتقّان من الأمر ، فلا يمكن تعريفهما إلّا بالأمر ، فلو عرّف بهما لزم الدور.
الثاني : الطاعة عند الأشاعرة موافقة الأمر ، فلا يمكن تعريفها إلّا بالأمر ، ولو عرّفنا الأمر بها دار.
الثالث : لا يقتضي بنفسه الطاعة بل بالتوفيق أو بالاصطلاح.
وهذا الحدّان هما المشهوران عند الفريقين ، ولكلّ منهما حدود أخر.
أمّا المعتزلة ، فقال بعضهم : الأمر صيغة افعل على تجرّدها عن القرائن الصارفة لها من جهة الأمر إلى جهة التهديد وغيره ، وهو دوريّ.
ومنهم من قال : الأمر عبارة عن صيغة «افعل» بإرادات ثلاث :
إرادة إحداث الصّيغة.
وإرادة الدّلالة بها على الأمر.
__________________
(١) نقله عنه الرازي في المحصول : ١ / ١٨٨.
(٢) البرهان في أصول الفقه : ١ / ١٥١.
(٣) المستصفى : ٢ / ٦١.
وإرادة الامتثال.
واحترزنا بالأوّل عن النائم إذا وجدت منه الصّيغة.
وبالثانية عن التهديد وغيره.
وبالثالثة عن الرسول المبلّغ ، فإنّه وإن أراد إحداث الصّيغة ، والدّلالة بها على الأمر ، فقد لا يريد بها الامتثال.
وفيه : تعريف الأمر بالأمر.
وأيضا الأمر الّذي هو مدلول الصّيغة إن كان هو الصّيغة ، كان منافيا ، إذ رجع حاصله إلى أنّ الصّيغة دالّة على الصيغة ، والدالّ غير المدلول.
وإن كان هو غير الصّيغة ، امتنع أن يكون الأمر هو الصّيغة ، وقد قال : الأمر هو صيغة «افعل» بشرط الدّلالة بها على الأمر ، فإنّ الشرط يغاير المشروط ، وإن كان [الأمر] غير الصيغة ، فلا بدّ من تعريفه.
وقال آخرون منهم : الأمر إرادة الفعل (١).
وليس بجيّد إذ قد توجد الإرادة من الأمر.
واعترض (٢) أيضا بأنّه يلزم وقوع المأمورات كلّها ، لأنّ الإرادة مخصّصة بحال حدوثه ، فإذا لم يوجد لم تخصّص.
وفيه نظر ، فإنّ الإرادة المخصّصة إنّما هي إرادة الفعل الصّادر عن المريد لا عن المأمور.
__________________
(١) انظر الأقوال في الإحكام في أصول الأحكام : ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧.
(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ١ / ٢٨٨.
وقال أبو الحسين : الأمر قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه لا جهة التذلّل ، وقد دخل فيه قولنا : افعل وليفعل.
ولا يلزم أن يكون الخبر عن الوجوب أمرا ، لأنّه لا يستدعى الفعل بنفسه ، لكن بواسطة تصريحه بالإيجاب.
وكذا قول القائل : أريد منك أن تفعل ، هو مقتض بنفسه إثبات إرادة الفعل ، وبتوسّطها يقتضي البعث على الفعل.
وكذا النهي عن جميع أضداد الشيء ، لا يستدعي فعل ذلك الشيء بنفسه ، وإنّما يقتضي ذلك بتوسّط اقتضائه قبح تلك الأضداد ، واستحالة انفكاك المكلّف منها إلّا إلى ذلك الشيء. (١)
وأمّا الأشاعرة فقال بعضهم : الأمر عبارة عن الخبر بالثّواب على الفعل تارة ، والعقاب على الترك تارة.
وهو باطل ، لامتناع دخول الصّدق والكذب في الأمر ، ودخولهما على الخبر.
ولأنّ خبره تعالى صدق فيجب الثواب والعقاب ، وهو باطل ، أمّا الثّواب فلجواز الإحباط بالرّدة ، وأمّا العقاب فلجواز العفو والشّفاعة.
فإن احترز بقولهم : إنّه الإخبار عن استحقاق الثواب والعقاب ، بقي عليه الإشكال الأوّل : (٢)
__________________
(١) المعتمد في أصول الفقه : ١ / ٤٩.
(٢) لاحظ الإحكام في أصول الأحكام : ٢ / ٢٨٨.
ومنهم من قال : إنّ الأمر هو طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعا (١).
وهو دوريّ ، لتوقّف معرفة الطاعة على الأمر ، فيدور.
وقال بعضهم : اقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء. (٢)
وإنّما قيّد بغير كفّ ، ليخرج النهي ، على ما يأتي تحقيقه.
والأقرب أن يقال : الأمر هو طلب الفعل بالقول على وجهه الاستعلاء.
فالطلب احتراز عن النهي وغيره من أقسام الكلام.
وقولنا : «على جهة الاستعلاء» احتراز عن الطلب على وجه الخضوع والالتماس.
وهو أولى من قول بعضهم : على جهة العلوّ ، لما يأتي من عدم اعتبار الرتبة.
وبعض النّاس لم يعتبر الاستعلاء أيضا (٣) ولا بدّ منه.
__________________
(١) نقله الآمدي عن بعض أصحابه. لاحظ الإحكام : ١ / ٢٨٩.
(٢) نقله العجلي الاصبهاني عن ابن الحاجب ، لاحظ الكاشف عن المحصول : ٣ / ٤٣.
(٣) قال القرافي في نفائس الأصول : ٢ / ٧٧ : عدم اعتبار الاستعلاء مذهب أصحابنا الأشعريين ... والفرق بين الاستعلاء والعلوّ : انّ الاستعلاء هيئة للأمر ، نحو رفع الصوت وإظهار الترفع وغير ذلك ممّا سلكه أرباب الحماقات.
والعلوّ : هيئة للامر كالأب مع ابنه ، والسلطان مع رعيّته والسيّد مع عبده.
الفصل الثّاني :
في البحث عن الصيغة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : في وجوه استعمالها
قال الأصوليون : صيغة «افعل» تستعمل في خمسة عشر وجها :
الأوّل : الإيجاب (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١).
الثاني : الندب (فَكاتِبُوهُمْ)(٢).
ويقرب منه التأديب ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لابن عباس : كل ممّا يليك (٣) لندبيّة الأدب ، وإن كان بعضهم غاير بينهما.
الثالث : الإرشاد (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ)(٤).
وهو لمنافع الدنيا ، والندب لمنافع الآخرة ، إذ لا ينقص الثواب
__________________
(١) البقرة : ٤٣.
(٢) البقرة : ١٩٥.
(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٠٨٧ رقم الحديث ٣٢٦٧ ؛ ومستدرك الوسائل : ١ / ٢٤٢ و ١٦ / ٢٨٤.
(٤) البقرة : ٢٨٢.
بترك الإشهاد في البيع ، ولا يزيد بفعله.
الرابع : الإباحة (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١).
الخامس : التهديد (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ). (٢)
ويقرب منه الإنذار (قُلْ تَمَتَّعُوا)(٣) وإن كان قد جعلوه قسما آخر.
السادس : الامتنان (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ). (٤)
السابع : الإكرام (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ). (٥)
الثامن : التسخير : (كُونُوا قِرَدَةً). (٦)
التاسع : التعجيز (فَأْتُوا بِسُورَةٍ). (٧)
العاشر : الإهانة (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). (٨)
الحادي عشر : التسوية (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا). (٩)
الثاني عشر : الدعاء «اللهم اغفر لي».
الثالث عشر : التمنّي :
ألا أيّها اللّيل الطويل ألا انجلي (١٠) |
|
.................... |
__________________
(١) المائدة : ٢.
(٢) فصلت : ٤٠.
(٣) إبراهيم : ٣٠.
(٤) النحل : ١١٤.
(٥) الحجر : ٤٦.
(٦) البقرة : ٦٥.
(٧) البقرة : ٢٣.
(٨) الدخان : ٤٩.
(٩) الطور : ١٦.
(١٠) قائله امرؤ القيس وهو صدر بيت من معلّقته المشهورة ، وعجزه :
.................... |
|
بصبح وما الإصباح منك بأمثل |
الرابع عشر : الاحتقار : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)(١).
الخامس عشر : التكوين (كُنْ فَيَكُونُ). (٢)
والإجماع واقع على أنّها ليست حقيقة في الجميع ، إذ التسخير ، والتسوية ، والاحتقار ، وشبهها ، انّما تفهم بقرائن.
بل النزاع وقع في أمور خمسة :
الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ، أو التنزيه ، أو التحريم.
فبعضهم جعلها مشتركة بينها.
وبعضهم جعلها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة.
ومنهم من جعلها حقيقة في أقلّ المراتب وهو الإباحة.
وقال قوم : إنّها للندب والوجوب.
وقال قوم : إنّها للندب ، والوجوب بزيادة قرينة.
وقال آخرون : إنّها للوجوب ، ولا يحمل على ما عداه إلّا بقرينة.
ونحن نبيّن الوجه في ذلك بعون الله تعالى.
__________________
(١) الشعراء : ٤٣.
(٢) يس : ٨٢.
المبحث الثاني : في أنّ للأمر صيغة تخصّه ، وأنّ صيغة «افعل» ليست حقيقة في الإباحة والتهديد
اعلم أنّ بعض الناس قد ذهب إلى أنّ صيغة «افعل» مشتركة بين الواجب والندب ، اللّذين هما ترجيح وطلب ، وبين الإباحة والتهديد ، المطلوب منه عدم الفعل.
والحقّ خلاف ذلك ، لأنّا نفرق بين قوله : «افعل» وبين قوله : «لا تفعل» ، وبين قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ونعلمه قطعا.
ونعلم أنّ الأوّل أمر وطلب ترجيح الوجود ، بخلاف الباقيين ، وتحمل صيغة «افعل» عليه عند تجرّده عن القرائن الحاليّة والمقاليّة ، بأن تنقل الصّيغة إلينا عن ميّت ، أو غائب ، لا في فعل معيّن من صلاة وصيام ، بل في مطلق ، بحيث لا يتوهّم فيه قرينة مخصّصة لسبق ذهننا إليه.
ونعلم قطعا أنّ قوله : «افعل» وقوله : «لا تفعل» ، وقوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ، أسماء متباينة لا مترادفة.
كما ندرك تفرقة بين قولنا : قام زيد ، وبين قولنا : هل قام زيد ، في أنّ الأوّل خبر ، والثاني استفهام.
وكذا بين قام زيد ، ويقوم زيد ، في أنّ الأوّل للماضي ، والثاني للحال أو المستقبل ، وإن كان قد يعبّر بأحدهما عن الآخر.
وكما ميّزوا بين الحال والماضي ، كذا ميّزوا بين الأمر والنهي ، فقالوا
في الأوّل : «افعل» وفي الثاني «لا تفعل» ، وأنّهما لا ينبئان عن معنى قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل.
فإن قيل : نمنع الفرق ، لأنّه إنّما يتمّ على تقدير كونه حقيقة في البعض دون الباقي ، أمّا على تقدير اشتراك الجميع فيه ، فلا نسلّم الفرق بين «افعل» وبين «لا تفعل».
سلّمنا ، لكن الفرق : أنّ «افعل» مشترك بين الفعل والتهديد ، أمّا «لا تفعل» ، فإنّه لم يوضع للأمر.
سلّمنا ، الرجحان ، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك للعرف الطارئ لا في أصل الوضع كما في الألفاظ العرفيّة؟
سلّمنا ، لكن هنا ما يقتضي نقض قولكم ، فإنّ صيغة «افعل» قد استعملت في الإباحة ، والتهديد ، والأصل في الإطلاق ، الحقيقة.
ولأنّ أقلّ المراتب ، الإباحة ، فيحمل عليه ، لأنّه المتيقّن.
والجواب : أنّ منع الفرق مكابرة صريحة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ عند انتفاء القرائن ، يفهم الطلب من لفظة «افعل» ، وأنّه راجح على التهديد والإباحة.
وبهذا ظهر الجواب عن الثاني ، لأنّ رجحان الطلب ، ينفي كون الفارق وضع «افعل» للجميع ، و «لا تفعل» للتهديد.
وعن الثالث : أنّ الأصل عدم التغيير.
وعن الرابع : ما تقدّم من أولويّة المجاز على الاشتراك.
ووجه التجوّز اشتراك الخمسة في الضدّية ، وإطلاق اسم الضدّ على
الآخر وجه من وجوه المجاز.
وعن الخامس : أنّ صيغة «افعل» محتملة للتهديد والمنع ، والطريق الّذي يعرّف أنّه لم يوضع للتهديد ، يعرّف أنّه لم يوضع للتخيير.
وأيضا ، بل يحمل على الإيجاب الّذي هو أعلى المراتب للاحتياط.
المبحث الثالث : في التغاير بين الصّيغة والطلب
قد عرفت أنّ الأمر طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء ، وهذا الطلب معنى معقول للعقلاء ، فإنّ كلّ عاقل يأمر وينهى ، ويدرك تفرقة ضروريّة بينهما ، ويعلم الفرق بين طلب الفعل ، وطلب الترك ، وبين ماهيّة الخبر ، وأنّ ما يصلح جوابا لأحدهما ، لا يصلح جوابا للآخر.
وذلك الطلب مغاير للصّيغة ، لاختلافها باختلاف النواحي والأمم ، بخلاف الطلب.
ولأنّ الصيغة يمكن وضعها للخبر ، وصيغة الخبر يمكن وضعها للأمر ، بخلاف الطلب ، فماهيّة الطلب إذن مغايرة للصّيغة ولصفاتها ، وهي أمر وجدانيّ تعقّله (١) كلّ أحد من نفسه ، وهذه الصّيغ تدلّ عليها.
لكنّ النزاع وقع هنا بين المعتزلة والأشاعرة ، فعند المعتزلة أنّ ذلك الطلب هو إرادة المأمور به ، وقالت الأشاعرة بالمغايرة.
__________________
(١) في «أ» : يقوله.
والحقّ الأوّل ، لنا : انّا لا نجد أمرا آخر مغايرا للإرادة ، ولو ثبت لكان أمرا خفيّا لا يعقله إلّا الآحاد ، فلا يجوز وضع لفظة الأمر المتداولة بين الخاصّ والعامّ بإزائه ، وإنّما هي موضوعة من أهل اللّغة على المعنى المتعارف بينهم.
وأيضا ، لو لم تكن إرادة المأمور به معتبرة ، لصحّ الأمر بالماضي ، والواجب ، والممتنع ، حملا على الخبر ، فإنّه لمّا لم تكن إرادة المخبر عنه معتبرة فيه ، صحّ تعلّق الخبر بهذه الأشياء.
واحتجّت الأشاعرة بوجوه :
الأوّل : أنّ الله تعالى أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه ، فيكون الأمر مغايرا للإرادة.
أمّا المقدمة الأولى ، فإجماعيّة.
وأمّا الثانية ، فلأنّه تعالى عالم بأنّه لا يؤمن ، فيستحيل منه صدور الإيمان ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهو محال.
وإذا استحال صدور الإيمان منه ، استحال أن يريده منه ، فإنّ الإرادة لا تتعلّق بالمحال.
ولأنّ صدور الفعل من العبد ، يتوقّف على داعية يخلقها الله تعالى في العبد ، لاستحالة التسلسل ، وذلك الدّاعي إن وجب عنده الفعل ، كان الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب الكفر ، فلو أراد الله تعالى منه في هذه الحالة وجود الإيمان ، كان مريدا للضّدّين ، وهو باطل بالاتّفاق.
الثاني : قد يقول الشخص لغيره : أريد منك هذا الفعل ، لكنّني لم امرك به ، ولو كان الأمر هو الإرادة لزم التناقض.
الثالث : السّلطان إذا توعّد من ضرب عبده بالانتقام ، فاعتذر السيّد إليه بأنّ العبد يخالفه في أوامره ، وطلب السّلطان منه إظهار صدقه بأن يكلّفه بأمره في نظره ، فإنّه يأمره ولا يريد منه الفعل ، إظهارا لتمرّده.
الرابع : يجوز نسخ الشيء قبل مضيّ [مدّة] الامتثال ، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة ، كان الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد ، في الوقت الواحد ، من الوجه الواحد ، وهو باطل إجماعا (١).
والجواب عن الأوّل ما سبق ، من أنّ العلم تابع ، والاستحالة نشأت من فرض العلم كما تنشأ من فرض النقيض ، إذ لا فرق بين فرض العلم والمعلوم ، والدّاعي من فعل العبد ، ولا تسلسل.
وقد تقدّم عدم المنافاة بين الإيجاب بالنسبة إلى الدّاعي ، والإمكان من حيث القدرة ، وإثبات هذين في أفعاله تعالى.
وقول الرّجل لغيره : أريد منك هذا ولا امرك به باعتبار أنّ الإرادة الأولى لم تكن خالصة ، ويمكن أن تحصل إرادة مشوبة بعوارض ، فلا توقع المريد الفعل بها ، فكذا هنا.
ووجود الأمر من الحكيم ممنوع ، بل الوجود صيغة الأمر ، ولا يلزم من وجود الصّيغة الدالّة على الأمر وجود الأمر كما في الساهي وغيره.
__________________
(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٩١ ـ ١٩٣.