نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

[وقوله :] (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)(١).

[وقوله :] (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)(٢).

[وقوله :] (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)(٣).

والأصل في الإطلاق الحقيقة ، على ما تقدّم.

وأيضا فإنّه قد جمع الأمر القولي على أوامر ، والفعليّ على أمور ، والاشتقاق دليل الحقيقة.

وأيضا لو كان (٤) مجازا لم يكن بالزّيادة ولا بالنّقصان ، وليس بين القول والفعل شبه حتّى يكون بالنّقل.

والجواب لا نسلّم أنّ الإطلاق دليل الحقيقة ، فإنّه قد يوجد في المجاز.

نعم الأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويعارضه أصالة عدم الاشتراك ، وقد بيّنا رجحان المجاز على الاشتراك.

سلّمنا لكن لا يجوز أن يكون المراد في تلك الأمثلة الشأن والطريق.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا)(٥) يحتمل إرادة القول أو الشأن ، والفعل يطلق عليه [اسم] الأمر ، لعموم كونه شأنا ، لا لخصوص كونه فعلا وكذا الثانية. (٦)

__________________

(١) القمر : ٥٠.

(٢) الحجّ : ٦٥.

(٣) الأعراف : ٥٤.

(٤) أي لو كان اسم الأمر في الفعل ...

(٥) هود : ٤٠.

(٦) أي وكذا الجواب عن الآية الثانيّة.

٣٦١

وقوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) يحتمل القول ، بل هو الظاهر ، لسبق (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ)(٢) أي أطاعوه فيما أمرهم.

سلّمنا ، لكن جاز أن يكون المراد شأنه وطريقه.

وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ)(٣) لا يجوز إجراؤه على ظاهره ، وهو الفعل ، وإلّا لزم أن يكون فعل الله واحدا ، وهو باطل ، وأن يحدث كلّه كلمح البصر في السرعة ، ومعلوم أنّه ليس كذلك.

وإذا وجب صرفه عن الظاهر ، حمل على أنّه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر.

وقوله (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ)(٤) لا يحمل الأمر هنا على الفعل ، إذ الجري والتسخير إنّما حصلا بقدرته ، لا بفعله ، فيحمل على الشأن والطريق.

والأمور جاز أن تكون جمعا للأمر بمعنى الشأن ، لا بمعنى الفعل.

سلّمنا ، لكن الجمع لا يدلّ على الحقيقة ، كما يجمع الحمار بمعنى البليد ، ويجمع بمعنى الحقيقة بلفظ واحد.

على أنّ ابن الحاجب كان يقول : لا يوجد فى لسان العرب «أوامر» في جمع الأمر، بل جمع الأمر الواقع على الفعل والقول أمور. وأوامر جمع آمرة ، وكان يقول : إنّ هذا شيء يذكره الفقهاء (٥).

__________________

(١) هود : ٩٧.

(٢) هود : ٩٧.

(٣) القمر : ٥٠.

(٤) الأعراف : ٥٤.

(٥) قال أبو الحسين المعتزلي في المعتمد : قد حكي عن أهل اللغة : أنّ الأمر لا يجمع «أوامر» لا في القول ولا في الفعل ، وأنّ «أوامر» جمع «آمرة» المعتمد : ١ / ٤١ ـ ٤٢.

٣٦٢

وأجاب أبو الحسين عن الأخير بأنّه لا يطلق اسم الأمر على الفعل لا حقيقة ولا مجازا من حيث هو فعل ، وإنّما يقال (١) حقيقة على جملة الشأن (٢).

ونقل عن أصحابه جوابين :

الأوّل : أنّه يقع على الفعل مجازا من حيث الزيادة المعنويّة ، لأنّ جملة أفعال الإنسان ، لمّا دخل فيها القول ، سمّيت الجملة باسم جزئها.

الثاني : الأفعال تشبه الأوامر في أنّ كلّ واحد منهما يدلّ على سداد أغراض الإنسان ، ولا يلزم تسمية النّهي والخبر أمرا ، لعدم اطّراد المجاز.

واعترضهما بأنّه يقال : أمر فلان في تجارته أو في صحّته مستقيم ، ولا يدخل في ذلك أمره الّذي هو القول.

واللّفظ إنّما وقع عليه اسم الأمر من حيث كان نعتا مخصوصا على الفعل ، وكان يجب أن يقع الشّبه بينه وبين الفعل من هذه الجهة وإن لم يشتبها في فائدة الاسم من كل وجه ، وكان يجب. أن يكون المتلفّظ باسم الأمر ، إذا عنى به الفعل ، أن يعني به ما ذكروه من الشّبه ، ومعلوم عدم خطور ذلك بباله ، ولهذا إنّما يجوز التسمية بالأسد للشّبه في الشجاعة الّتي هي معظم فائدة قولنا أسد ، ومن يسمّي الشّجاع أسدا يعني به شجاعته. (٣)

ثمّ احتجّ أبو الحسين على مذهبه باشتباه الأمر على السّامع بين تلك

__________________

(١) كذا في النسخ التي بأيدينا ولكن في المصدر «يقع حقيقة».

(٢) أي في جملة شأن الإنسان وأحواله وأفعاله وغير أفعاله. كذا في المصدر.

(٣) المعتمد : ١ / ٤٢.

٣٦٣

المعاني ، فإنّ من قال : «هذا أمر» ، لم يعلم السّامع أيّ تلك أراد ، فإن قال : هذا أمر بالفعل ، علم القول.

ولو قال : أمره مستقيم ، عقل الشأن.

ولو قال : تحرّك الجسم لأمر ، علم أنّه تحرّك لشيء.

ولو قال : جاء زيد لأمر عقل الغرض ، وتوقّف الذهن عند السّماع يدلّ على تردّده بين الجميع ، وأنّه حقيقة في كلّ واحد (١).

والجواب بالمنع من تردّد الذهن بينها ، وإنّما يحصل التردّد مع وجود قرينة مانعة من حمله على القول ، أمّا مع تجرّده ، فإنّما يفهم منه القول خاصّة.

واحتجّ من منع من كونه حقيقة في الفعل بأمور :

الأوّل : عدم الاطّراد ، فلا يسمّى الأكل والشرب أمرا ، فلا يكون حقيقة ، إذ هو لازمها.

الثاني : عدم الاشتقاق ، فلا يسمّى الاكل والشارب امرا.

الثالث : لوازم الأمر منتفية عن الفعل ، فلا يسمّى أمرا.

بيان الأوّل : أنّ الأمر يدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي ، وضدّه النهي ، ويمنع منه الخرس والسكوت.

وعدّوه مطلقا من أقسام الكلام ، كما عدّوا الخبر منه ، وكلّ ذلك إنّما يصحّ في القول.

__________________

(١) المعتمد : ١ / ٣٩ ـ ٤٠.

٣٦٤

الرابع : يصحّ النفي ، فيقال : ما أمر فلان ، بل فعل ، وهو دليل المجاز.

الخامس : الأمر الحقيقيّ له متعلّق ، وهو المأمور ، وهو غير متحقّق في الفعل ، فإنّه وإن سمّي أمرا ، فلا يقال له : مأمور ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم.

وهذه الوجوه مدخولة.

امّا الأوّل :

فالمنع من وجود اطّراد الحقيقة.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّه لا يقال : للأكل والشّرب : إنّه أمر.

سلّمنا ، لكن عدم اطّراده في كلّ فعل ، إن كان ممّا يمنع من كونه حقيقة في بعض الأفعال ، فعدم اطّراده في كلّ قول ممّا يمنع من كونه حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق كلّ قول ، وهو غير مطّرد في كلّ قول على ما لا يخفى.

وإن كان لا يمنع من ذلك في القول ، فكذا في الفعل.

لا يقال : إنّما يجب اطّراد الاسم في المعنى الّذي كان الاسم حقيقة فيه ، لا في غيره ، والأمر إنّما كان حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق كلّ قول ، وهو مطّرد في ذلك القول ، فمثله لازم في الأفعال.

فإنّ للخصم أن يقول : إنّما هو حقيقة في بعض الأفعال ، لا في كلّ فعل. (١)

__________________

(١) انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ٢٨٥.

٣٦٥

وفيه نظر ، فإنّ الخصم لم يجعله حقيقة في فعل معيّن ، بل في مطلق الفعل ، فورد عليه الإشكال.

بخلاف القول ، فإنّ أحدا لم يجعله حقيقة في مطلق القول ، بل في قول معيّن.

وأمّا الثاني : فبما تقدّم من أنّ الاشتقاق غير واجب في كلّ الحقائق (١) وأنّه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق ، لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرّة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل.

لا يقال : ولو لم يكن الاشتقاق على وفق الأصل ، لكان على خلافه ، لكن المحذور منه أكثر ، لكثرة صور الاشتقاق.

لأنّا نقول : لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل ، لجواز أن يكون كلّ من الاشتقاق وعدمه على خلاف الأصل ، بل يتبعان النّقل ، فإنّه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة ، جاز أن يكون من توابع بعض المسمّيات.

وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسمّيات الاشتقاق في غيره ، لعدم الاشتراك في ذلك المسمّى (٢).

وفيه نظر فانّ القائلين بوجوب الاشتقاق يسلّمون كون الاشتقاق في الجرّة وغيرها لمانع ، وأنّه على خلاف الأصل ، إذ الأصل الاشتقاق.

__________________

(١) في «أ» في كلّ الخواص.

(٢) الإشكال والجواب للآمدي في الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٢٨٥.

٣٦٦

ولمّا وجدنا الاشتقاق موجودا في جميع صور الحقيقة إلّا ما اشتمل على المانع ، حكمنا بتبعيّته لها ، دون تبعيّته لبعض المسمّيات ، إذ قد يوجد في غيره.

وأمّا الثالث : فإنّ العرب حكموا بأنّ تلك الصفات لازمة للأمر القولي ، لا لمطلق الأمر.

وأمّا الرّابع : فالمنع من صحّة النفي مطلقا.

وأمّا الخامس : فلما تقدّم.

المبحث الثالث : في حدّه

ذهب أكثر المعتزلة ومنهم البلخي (١) إلى أنّ الأمر هو قول القائل لمن دونه : «افعل» أو ما يقوم مقامه ، وأراد بما يقوم مقامه : في الدّلالة ، ليدخل فيه حقيقة الأمر من غير العربيّ.

واعترض بوجوه :

الأوّل : قد توجد صيغة «افعل» فيما ليس بأمر ، كالتهديد وغيره.

الثاني : يلزم أن يكون صيغة «افعل» الواردة على لسان الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا ، فيكون هو الامر ، ولا يكون رسولا.

__________________

(١) أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ، البلخي الخراساني أحد أئمّة المعتزلة ، كان رأس طائفة منهم تسمّى «الكعبيّة» وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها ، وهو من أهل «بلخ» مات سنة ٣١٩ ه‍ لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٦٥ ، وريحانة الأدب : ٥ / ٦٥.

٣٦٧

الثالث : قد ترد هذه الصّيغة من الأعلى للأدنى على سبيل الخضوع ، ولا يكون أمرا ، وقد ترد من الأدنى نحو الأعلى ويكون أمرا إذا كانت على سبيل الاستعلاء ، ولهذا يوصف بالجهل والحمق.

الرابع : لو فرضنا أنّ الواضع لم يضع لفظة «افعل» لشيء أصلا ، حتّى كانت هذه اللفظة من المهملات ، ففي تلك الحالة لو تلفّظ الإنسان بها مع من دونه ، لا يقال فيه : إنّه أمر.

الخامس : لو صدرت هذا الصّيغة عن النائم والسّاهي ، أو على سبيل انطلاق اللّسان بها اتّفاقا ، أو على سبيل الحكاية ، لا يقال فيه : إنّه أمر.

قيل عليه : لا نسلّم أنّه قول لغيره افعل. (١).

وفيه نظر ، فإنّ الغالط والساهي يقال : إنّه قال لغيره.

السادس : لو وضعت هذه الصّيغة بإزاء الخبر ، وصيغة الخبر بإزاء الأمر ، لم تكن هذه الصيغة أمرا.

السابع : المطلوب تحديد ماهيّة الأمر من حيث هي ، وتلك لا تختلف باختلاف اللّغات.

لا يقال : قولنا : «أو ما يقوم مقامه» يزيل هذا الاشكال.

لأنّا نقول : إن عنيت بقولك : أو ما يقوم مقامه في الدلالة على الطّلب ، كان تحديد الأمر باللفظ الدّال على طلب الفعل كافيا ، ويقع التعرّض بخصوص صيغة افعل ضائعا.

__________________

(١) انظر نفائس الأصول : ٢ / ٧٨.

٣٦٨

وإن عنيت شيئا آخر فبيّنه.

الثامن : ذكرت «أو» في التحديد ، وهو محترز عنه.

وقال القاضي أبو بكر (١) من الأشاعرة وارتضاه أكثرهم كالجويني (٢) والغزالي (٣) وغيرهما : إنّه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به.

وهو خطأ من وجوه :

الأوّل : لفظ المأمور والمأمور به مشتقّان من الأمر ، فلا يمكن تعريفهما إلّا بالأمر ، فلو عرّف بهما لزم الدور.

الثاني : الطاعة عند الأشاعرة موافقة الأمر ، فلا يمكن تعريفها إلّا بالأمر ، ولو عرّفنا الأمر بها دار.

الثالث : لا يقتضي بنفسه الطاعة بل بالتوفيق أو بالاصطلاح.

وهذا الحدّان هما المشهوران عند الفريقين ، ولكلّ منهما حدود أخر.

أمّا المعتزلة ، فقال بعضهم : الأمر صيغة افعل على تجرّدها عن القرائن الصارفة لها من جهة الأمر إلى جهة التهديد وغيره ، وهو دوريّ.

ومنهم من قال : الأمر عبارة عن صيغة «افعل» بإرادات ثلاث :

إرادة إحداث الصّيغة.

وإرادة الدّلالة بها على الأمر.

__________________

(١) نقله عنه الرازي في المحصول : ١ / ١٨٨.

(٢) البرهان في أصول الفقه : ١ / ١٥١.

(٣) المستصفى : ٢ / ٦١.

٣٦٩

وإرادة الامتثال.

واحترزنا بالأوّل عن النائم إذا وجدت منه الصّيغة.

وبالثانية عن التهديد وغيره.

وبالثالثة عن الرسول المبلّغ ، فإنّه وإن أراد إحداث الصّيغة ، والدّلالة بها على الأمر ، فقد لا يريد بها الامتثال.

وفيه : تعريف الأمر بالأمر.

وأيضا الأمر الّذي هو مدلول الصّيغة إن كان هو الصّيغة ، كان منافيا ، إذ رجع حاصله إلى أنّ الصّيغة دالّة على الصيغة ، والدالّ غير المدلول.

وإن كان هو غير الصّيغة ، امتنع أن يكون الأمر هو الصّيغة ، وقد قال : الأمر هو صيغة «افعل» بشرط الدّلالة بها على الأمر ، فإنّ الشرط يغاير المشروط ، وإن كان [الأمر] غير الصيغة ، فلا بدّ من تعريفه.

وقال آخرون منهم : الأمر إرادة الفعل (١).

وليس بجيّد إذ قد توجد الإرادة من الأمر.

واعترض (٢) أيضا بأنّه يلزم وقوع المأمورات كلّها ، لأنّ الإرادة مخصّصة بحال حدوثه ، فإذا لم يوجد لم تخصّص.

وفيه نظر ، فإنّ الإرادة المخصّصة إنّما هي إرادة الفعل الصّادر عن المريد لا عن المأمور.

__________________

(١) انظر الأقوال في الإحكام في أصول الأحكام : ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ١ / ٢٨٨.

٣٧٠

وقال أبو الحسين : الأمر قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه لا جهة التذلّل ، وقد دخل فيه قولنا : افعل وليفعل.

ولا يلزم أن يكون الخبر عن الوجوب أمرا ، لأنّه لا يستدعى الفعل بنفسه ، لكن بواسطة تصريحه بالإيجاب.

وكذا قول القائل : أريد منك أن تفعل ، هو مقتض بنفسه إثبات إرادة الفعل ، وبتوسّطها يقتضي البعث على الفعل.

وكذا النهي عن جميع أضداد الشيء ، لا يستدعي فعل ذلك الشيء بنفسه ، وإنّما يقتضي ذلك بتوسّط اقتضائه قبح تلك الأضداد ، واستحالة انفكاك المكلّف منها إلّا إلى ذلك الشيء. (١)

وأمّا الأشاعرة فقال بعضهم : الأمر عبارة عن الخبر بالثّواب على الفعل تارة ، والعقاب على الترك تارة.

وهو باطل ، لامتناع دخول الصّدق والكذب في الأمر ، ودخولهما على الخبر.

ولأنّ خبره تعالى صدق فيجب الثواب والعقاب ، وهو باطل ، أمّا الثّواب فلجواز الإحباط بالرّدة ، وأمّا العقاب فلجواز العفو والشّفاعة.

فإن احترز بقولهم : إنّه الإخبار عن استحقاق الثواب والعقاب ، بقي عليه الإشكال الأوّل : (٢)

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ١ / ٤٩.

(٢) لاحظ الإحكام في أصول الأحكام : ٢ / ٢٨٨.

٣٧١

ومنهم من قال : إنّ الأمر هو طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعا (١).

وهو دوريّ ، لتوقّف معرفة الطاعة على الأمر ، فيدور.

وقال بعضهم : اقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء. (٢)

وإنّما قيّد بغير كفّ ، ليخرج النهي ، على ما يأتي تحقيقه.

والأقرب أن يقال : الأمر هو طلب الفعل بالقول على وجهه الاستعلاء.

فالطلب احتراز عن النهي وغيره من أقسام الكلام.

وقولنا : «على جهة الاستعلاء» احتراز عن الطلب على وجه الخضوع والالتماس.

وهو أولى من قول بعضهم : على جهة العلوّ ، لما يأتي من عدم اعتبار الرتبة.

وبعض النّاس لم يعتبر الاستعلاء أيضا (٣) ولا بدّ منه.

__________________

(١) نقله الآمدي عن بعض أصحابه. لاحظ الإحكام : ١ / ٢٨٩.

(٢) نقله العجلي الاصبهاني عن ابن الحاجب ، لاحظ الكاشف عن المحصول : ٣ / ٤٣.

(٣) قال القرافي في نفائس الأصول : ٢ / ٧٧ : عدم اعتبار الاستعلاء مذهب أصحابنا الأشعريين ... والفرق بين الاستعلاء والعلوّ : انّ الاستعلاء هيئة للأمر ، نحو رفع الصوت وإظهار الترفع وغير ذلك ممّا سلكه أرباب الحماقات.

والعلوّ : هيئة للامر كالأب مع ابنه ، والسلطان مع رعيّته والسيّد مع عبده.

٣٧٢

الفصل الثّاني :

في البحث عن الصيغة

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في وجوه استعمالها

قال الأصوليون : صيغة «افعل» تستعمل في خمسة عشر وجها :

الأوّل : الإيجاب (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١).

الثاني : الندب (فَكاتِبُوهُمْ)(٢).

ويقرب منه التأديب ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن عباس : كل ممّا يليك (٣) لندبيّة الأدب ، وإن كان بعضهم غاير بينهما.

الثالث : الإرشاد (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ)(٤).

وهو لمنافع الدنيا ، والندب لمنافع الآخرة ، إذ لا ينقص الثواب

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) البقرة : ١٩٥.

(٣) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٠٨٧ رقم الحديث ٣٢٦٧ ؛ ومستدرك الوسائل : ١ / ٢٤٢ و ١٦ / ٢٨٤.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

٣٧٣

بترك الإشهاد في البيع ، ولا يزيد بفعله.

الرابع : الإباحة (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١).

الخامس : التهديد (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ). (٢)

ويقرب منه الإنذار (قُلْ تَمَتَّعُوا)(٣) وإن كان قد جعلوه قسما آخر.

السادس : الامتنان (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ). (٤)

السابع : الإكرام (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ). (٥)

الثامن : التسخير : (كُونُوا قِرَدَةً). (٦)

التاسع : التعجيز (فَأْتُوا بِسُورَةٍ). (٧)

العاشر : الإهانة (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). (٨)

الحادي عشر : التسوية (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا). (٩)

الثاني عشر : الدعاء «اللهم اغفر لي».

الثالث عشر : التمنّي :

ألا أيّها اللّيل الطويل ألا انجلي (١٠)

 ....................

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) فصلت : ٤٠.

(٣) إبراهيم : ٣٠.

(٤) النحل : ١١٤.

(٥) الحجر : ٤٦.

(٦) البقرة : ٦٥.

(٧) البقرة : ٢٣.

(٨) الدخان : ٤٩.

(٩) الطور : ١٦.

(١٠) قائله امرؤ القيس وهو صدر بيت من معلّقته المشهورة ، وعجزه :

 ....................

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

٣٧٤

الرابع عشر : الاحتقار : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ)(١).

الخامس عشر : التكوين (كُنْ فَيَكُونُ). (٢)

والإجماع واقع على أنّها ليست حقيقة في الجميع ، إذ التسخير ، والتسوية ، والاحتقار ، وشبهها ، انّما تفهم بقرائن.

بل النزاع وقع في أمور خمسة :

الوجوب ، أو الندب ، أو الإباحة ، أو التنزيه ، أو التحريم.

فبعضهم جعلها مشتركة بينها.

وبعضهم جعلها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة.

ومنهم من جعلها حقيقة في أقلّ المراتب وهو الإباحة.

وقال قوم : إنّها للندب والوجوب.

وقال قوم : إنّها للندب ، والوجوب بزيادة قرينة.

وقال آخرون : إنّها للوجوب ، ولا يحمل على ما عداه إلّا بقرينة.

ونحن نبيّن الوجه في ذلك بعون الله تعالى.

__________________

(١) الشعراء : ٤٣.

(٢) يس : ٨٢.

٣٧٥

المبحث الثاني : في أنّ للأمر صيغة تخصّه ، وأنّ صيغة «افعل» ليست حقيقة في الإباحة والتهديد

اعلم أنّ بعض الناس قد ذهب إلى أنّ صيغة «افعل» مشتركة بين الواجب والندب ، اللّذين هما ترجيح وطلب ، وبين الإباحة والتهديد ، المطلوب منه عدم الفعل.

والحقّ خلاف ذلك ، لأنّا نفرق بين قوله : «افعل» وبين قوله : «لا تفعل» ، وبين قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ونعلمه قطعا.

ونعلم أنّ الأوّل أمر وطلب ترجيح الوجود ، بخلاف الباقيين ، وتحمل صيغة «افعل» عليه عند تجرّده عن القرائن الحاليّة والمقاليّة ، بأن تنقل الصّيغة إلينا عن ميّت ، أو غائب ، لا في فعل معيّن من صلاة وصيام ، بل في مطلق ، بحيث لا يتوهّم فيه قرينة مخصّصة لسبق ذهننا إليه.

ونعلم قطعا أنّ قوله : «افعل» وقوله : «لا تفعل» ، وقوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ، أسماء متباينة لا مترادفة.

كما ندرك تفرقة بين قولنا : قام زيد ، وبين قولنا : هل قام زيد ، في أنّ الأوّل خبر ، والثاني استفهام.

وكذا بين قام زيد ، ويقوم زيد ، في أنّ الأوّل للماضي ، والثاني للحال أو المستقبل ، وإن كان قد يعبّر بأحدهما عن الآخر.

وكما ميّزوا بين الحال والماضي ، كذا ميّزوا بين الأمر والنهي ، فقالوا

٣٧٦

في الأوّل : «افعل» وفي الثاني «لا تفعل» ، وأنّهما لا ينبئان عن معنى قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل.

فإن قيل : نمنع الفرق ، لأنّه إنّما يتمّ على تقدير كونه حقيقة في البعض دون الباقي ، أمّا على تقدير اشتراك الجميع فيه ، فلا نسلّم الفرق بين «افعل» وبين «لا تفعل».

سلّمنا ، لكن الفرق : أنّ «افعل» مشترك بين الفعل والتهديد ، أمّا «لا تفعل» ، فإنّه لم يوضع للأمر.

سلّمنا ، الرجحان ، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك للعرف الطارئ لا في أصل الوضع كما في الألفاظ العرفيّة؟

سلّمنا ، لكن هنا ما يقتضي نقض قولكم ، فإنّ صيغة «افعل» قد استعملت في الإباحة ، والتهديد ، والأصل في الإطلاق ، الحقيقة.

ولأنّ أقلّ المراتب ، الإباحة ، فيحمل عليه ، لأنّه المتيقّن.

والجواب : أنّ منع الفرق مكابرة صريحة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ عند انتفاء القرائن ، يفهم الطلب من لفظة «افعل» ، وأنّه راجح على التهديد والإباحة.

وبهذا ظهر الجواب عن الثاني ، لأنّ رجحان الطلب ، ينفي كون الفارق وضع «افعل» للجميع ، و «لا تفعل» للتهديد.

وعن الثالث : أنّ الأصل عدم التغيير.

وعن الرابع : ما تقدّم من أولويّة المجاز على الاشتراك.

ووجه التجوّز اشتراك الخمسة في الضدّية ، وإطلاق اسم الضدّ على

٣٧٧

الآخر وجه من وجوه المجاز.

وعن الخامس : أنّ صيغة «افعل» محتملة للتهديد والمنع ، والطريق الّذي يعرّف أنّه لم يوضع للتهديد ، يعرّف أنّه لم يوضع للتخيير.

وأيضا ، بل يحمل على الإيجاب الّذي هو أعلى المراتب للاحتياط.

المبحث الثالث : في التغاير بين الصّيغة والطلب

قد عرفت أنّ الأمر طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء ، وهذا الطلب معنى معقول للعقلاء ، فإنّ كلّ عاقل يأمر وينهى ، ويدرك تفرقة ضروريّة بينهما ، ويعلم الفرق بين طلب الفعل ، وطلب الترك ، وبين ماهيّة الخبر ، وأنّ ما يصلح جوابا لأحدهما ، لا يصلح جوابا للآخر.

وذلك الطلب مغاير للصّيغة ، لاختلافها باختلاف النواحي والأمم ، بخلاف الطلب.

ولأنّ الصيغة يمكن وضعها للخبر ، وصيغة الخبر يمكن وضعها للأمر ، بخلاف الطلب ، فماهيّة الطلب إذن مغايرة للصّيغة ولصفاتها ، وهي أمر وجدانيّ تعقّله (١) كلّ أحد من نفسه ، وهذه الصّيغ تدلّ عليها.

لكنّ النزاع وقع هنا بين المعتزلة والأشاعرة ، فعند المعتزلة أنّ ذلك الطلب هو إرادة المأمور به ، وقالت الأشاعرة بالمغايرة.

__________________

(١) في «أ» : يقوله.

٣٧٨

والحقّ الأوّل ، لنا : انّا لا نجد أمرا آخر مغايرا للإرادة ، ولو ثبت لكان أمرا خفيّا لا يعقله إلّا الآحاد ، فلا يجوز وضع لفظة الأمر المتداولة بين الخاصّ والعامّ بإزائه ، وإنّما هي موضوعة من أهل اللّغة على المعنى المتعارف بينهم.

وأيضا ، لو لم تكن إرادة المأمور به معتبرة ، لصحّ الأمر بالماضي ، والواجب ، والممتنع ، حملا على الخبر ، فإنّه لمّا لم تكن إرادة المخبر عنه معتبرة فيه ، صحّ تعلّق الخبر بهذه الأشياء.

واحتجّت الأشاعرة بوجوه :

الأوّل : أنّ الله تعالى أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه ، فيكون الأمر مغايرا للإرادة.

أمّا المقدمة الأولى ، فإجماعيّة.

وأمّا الثانية ، فلأنّه تعالى عالم بأنّه لا يؤمن ، فيستحيل منه صدور الإيمان ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهو محال.

وإذا استحال صدور الإيمان منه ، استحال أن يريده منه ، فإنّ الإرادة لا تتعلّق بالمحال.

ولأنّ صدور الفعل من العبد ، يتوقّف على داعية يخلقها الله تعالى في العبد ، لاستحالة التسلسل ، وذلك الدّاعي إن وجب عنده الفعل ، كان الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب الكفر ، فلو أراد الله تعالى منه في هذه الحالة وجود الإيمان ، كان مريدا للضّدّين ، وهو باطل بالاتّفاق.

٣٧٩

الثاني : قد يقول الشخص لغيره : أريد منك هذا الفعل ، لكنّني لم امرك به ، ولو كان الأمر هو الإرادة لزم التناقض.

الثالث : السّلطان إذا توعّد من ضرب عبده بالانتقام ، فاعتذر السيّد إليه بأنّ العبد يخالفه في أوامره ، وطلب السّلطان منه إظهار صدقه بأن يكلّفه بأمره في نظره ، فإنّه يأمره ولا يريد منه الفعل ، إظهارا لتمرّده.

الرابع : يجوز نسخ الشيء قبل مضيّ [مدّة] الامتثال ، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة ، كان الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد ، في الوقت الواحد ، من الوجه الواحد ، وهو باطل إجماعا (١).

والجواب عن الأوّل ما سبق ، من أنّ العلم تابع ، والاستحالة نشأت من فرض العلم كما تنشأ من فرض النقيض ، إذ لا فرق بين فرض العلم والمعلوم ، والدّاعي من فعل العبد ، ولا تسلسل.

وقد تقدّم عدم المنافاة بين الإيجاب بالنسبة إلى الدّاعي ، والإمكان من حيث القدرة ، وإثبات هذين في أفعاله تعالى.

وقول الرّجل لغيره : أريد منك هذا ولا امرك به باعتبار أنّ الإرادة الأولى لم تكن خالصة ، ويمكن أن تحصل إرادة مشوبة بعوارض ، فلا توقع المريد الفعل بها ، فكذا هنا.

ووجود الأمر من الحكيم ممنوع ، بل الوجود صيغة الأمر ، ولا يلزم من وجود الصّيغة الدالّة على الأمر وجود الأمر كما في الساهي وغيره.

__________________

(١) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٩١ ـ ١٩٣.

٣٨٠