نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

ولو كان الابتداء بلفظ يدلّ على الترتيب ، لما احتيج إلى جعل الواو للترتيب.

وعن الثامن : المعارضة بشدّة الحاجة إلى التعبير عن الأعمّ دون الأخصّ ، فإنّه متى احتيج إلى ذكر الأخصّ ، احتيج إلى ذكر الأعمّ ولا ينعكس ، فكانت الحاجة إلى التعبير عن الأعمّ أشدّ ، فكان أولى بالوضع.

واعلم أنّ الجويني نقل عن أصحاب أبي حنيفة : أنّ الواو للجمع ، وعن أصحاب الشافعي أنّها للترتيب ، ثمّ نسبهما إلى التحكّم ، وتوهّم أنّ قصد الحنفيّة أنّها تفيد المصاحبة. (١)

ولا شكّ في أنّها تحكّم إن قصدوا ذلك ، والظّاهر أنّ قصدهم ما اخترناه نحن ، من أنّها للجمع الصّادق على الترتيب والمعيّة ، لا ما فهم هو.

المبحث الثاني : في الفاء

الفاء تقتضي التعقيب الممكن ، وقد أجمع النحويّون على أنّها تفيد الترتيب بغير مهلة ، وهو معنى التعقيب.

وقيّدنا بالممكن ، ليدخل مثل : دخلت بغداد فالبصرة.

وإجماع أهل اللغة على إفادة التعقيب حجّة.

وأيضا ، لو لم تكن للتعقيب ، لم تدخل على الجزاء إذا كان بغير لفظ الماضي والمضارع ، ولكنّها تدخل فيه.

__________________

(١) انظر البرهان في أصول الفقه : ١ / ١٣٦ تأليف الجويني.

٣٢١

بيان الشرطية : أنّ الجزاء لا بدّ وأن يحصل عقيب الشرط.

وبيان وجوب الدخول : أنّ الجزاء إذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع وجبت الفاء مثل من دخل داري فله درهم ، فهو مكرم.

وأنكر المبرّد (١)

«من يفعل الحسنات الله يشكرها» (٢)

 ....................

ونقل [انّ الصحيح] :

من يفعل الخير فالرّحمن يشكره

 ....................

وفيه نظر ، لأنّ قولك : من دخل داري أكرمته ، لا يقتضي وجوب الإكرام عقيب الدّخول بلا فصل ، أقصى ما في الباب أنّه يقتضي الترتيب ، أمّا التعقيب فلا.

وكذا من دخل داري فهو مكرم ، لأنّ الفاء انّما اقتضت تجويز الجزاء بالجملة الاسميّة.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : قال الله تعالى : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ)(٣)

__________________

(١) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي المعروف بالمبرّد ، أحد أئمّة الأدب والأخبار ، مولده بالبصرة ، ووفاته ببغداد سنة ٢٨٦ ه‍ ، لاحظ الأعلام للزركلي : ٧ / ١٤٤.

(٢) وعجزه :

 ....................

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

القائل هو عبد الرحمن بن حسان ، لاحظ «لسان العرب» : ١ / ٣٢١ (بجل).

(٣) طه : ٦١.

٣٢٢

والإسحات لا يقع عقيب الافتراء ، بل يتراخى إلى يوم القيامة ، فقد جاءت لا بمعنى التعقيب.

وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ)(١) مع أنّ الرهن قد لا يحصل عقيب المداينة.

الثاني : الفاء قد تدخل على لفظ التعقيب ، ولو كانت الفاء للتعقيب لما صحّ ذلك.

الثالث : التعقيب يصحّ الإخبار عنه بمجرّد ذكره ، بخلاف الفاء ، فهي مغايرة له.

والجواب عن الأوّل : بالحمل على المجاز (٢) ، ويجب تأويله بأنّ حكم الافتراء ، الإسحات ، وحكم المداينة ، الرّهن.

أو نقول : لمّا كان بوعد الله تعالى صدقا كان كالواقع عقيب الإخبار به.

أو نقول : لما حكم الله تعالى في عدّة مواضع من الكتاب العزيز بقرب الساعة ، حتّى جعلها أقرب من لمح البصر ، كان ذلك أبلغ معاني التعقيب ، وحيث خرجت آية المداينة مخرج الإرشاد اقتضى ذلك التّعليم بتعقيب الرهن للدين.

وعن الثاني : أنّه محمول على التأكيد.

وعن الثالث : أنّه آت في جميع الحروف ، مع أنّها موضوعة لمعانيها ، والأصل في ذلك أنّ الفاء تدلّ على التعقيب ، والدليل مغاير للمدلول ، ولا يلزم

__________________

(١) البقرة : ٢٨٣.

(٢) في «أ» : أنّا نحمل على المجاز.

٣٢٣

من صحّة الإخبار عن أحد المتغايرين صحّة الإخبار عن الآخر.

وقد ترد الفاء بمعنى الواو كقوله :

 ....................

 ... بين الدّخول فحومل(١)

المبحث الثالث : في باقي الحروف

وهي خمسة مسائل :

الأولى : «في» للظرفية ، إمّا تحقيقا ، مثل زيد في الدار ، وهو حقيقيّ بأن لا يزيد الظرف على المظروف ، ومجازيّ وهو الّذي يزيد.

وأيضا ، فهو إمّا طبيعيّ كالهرّ في إهابها ، أو عرضيّ كالإنسان في القميص.

وإمّا تقديرا ، كقوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)(٢) للمشابهة في التمكّن ، فإنّ المصلوب يتمكّن على الجذع ، تمكّن المتمكّن في مكانه.

وكذا قولنا : زيد في الصلاة ، وشاكّ في هذه المسألة.

وقال بعض الفقهاء : إنّها للسببيّة لقوله عليه‌السلام : في النفس المؤمنة مائة من الإبل (٣).

__________________

(١) البيت لامرئ القيس في لاميّته المعروفة بمستهلّها :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

يسقط اللّوى بين الدخول فحومل

 (٢) طه : ٧٢.

(٣) أخرجه النسائي في سننه : ٨ / ٥٨ ، والحاكم في مستدركه : ١ / ٣٩٧ ؛ والبيهقي في سننه : ٤ / ٨٩.

٣٢٤

ويضعّف بأنّ أهل اللغة لم ينقلوه (١).

الثانية : لفظة «من» ترد لابتداء الغاية من المكان ، مثل : سرت من الكوفة.

وضعف «من حجّ» و «من دهر».

وللتبعيض مثل : خاتم من فضّة.

وللتّبيين مثل : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٢).

وزائدة مثل : ما جاءني من أحد ، وإنّما تزاد بعد النفي.

وقيل : إنّها للتمييز لا غير ، فإنّ قولك : سرت من الكوفة ، ميّزت مبدأ السير.

وقولك : خاتم من فضّة ، ميّزت الخاتم بأنّه من فضّة.

وقولك : ما جاءني من أحد ، ميّزت الشيء الّذي نفيت عنه المجيء. (٣)

وفيه نظر ، إذ لا يلزم من الاشتراك في معنى كليّ ، وضع اللّفظ له ، ولا من وضعه له ، عدم وضعه للجزئيّات ، وإلّا لزم نفي الاشتراك بين الكلّ وجزئه ، والمرجع في ذلك إلى أهل اللغة.

الثالثة : «إلى» لانتهاء الغاية بالنّقل.

وقيل (٤) : إنّها مجملة ، لأنّ الفعل يدخل فيما بعدها تارة ، كقوله تعالى :

__________________

(١) قال الأرموي في الحاصل من المحصول : ١ / ٣٧٦ : وقول الفقهاء «إنّها للسببيّة» باطل ، لأنّه لم يقل به أحد من أئمّة اللّغة.

(٢) الحجّ : ٣٠.

(٣) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٦٦.

(٤) القائل هو أبو عبد الله البصري من المعتزلة انظر الكاشف عن المحصول : ٢ / ٤٤٣.

٣٢٥

(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) فإنّ الغاية هنا داخلة ، وتارة تخرج الغاية لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ).

وهو ضعيف ، لأنّ الإجمال تابع للوضع وليست «إلى» موضوعة لدخول الغاية تارة وخروجها أخرى على سبيل الاشتراك ، لامتناع وضع اللفظ للنقيضين. (٢)

وفيه نظر ، لما تقدّم من جوازه ، وإنّما الحقّ في الجواب : أنّ لفظة «إلى» لا إشعار فيها بدخول الغاية أو خروجها ، وانّما استفيد من خارج ، وهو : أنّ الغاية إن كانت مميّزة عن ذي الغاية بمفصل حسيّ كاللّيل وجب خروجها ، وإلّا وجب دخولها ، كما في اليد والمرفق ، إذ ليس بعض المقادير أولى بالإخراج من بعض ، فوجب دخول الجميع.

الرابعة : «الباء» للإلصاق ، والاستعانة.

وقيل : إذا دخلت على فعل متعدّ بنفسه ، أفادت التبعيض كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)(٣) خلافا للحنفيّة.

وإن دخلت على ما لا يتعدّى بنفسه ، مثل : كتبت بالقلم ، ومررت بزيد ، لم تفده ، بل الإلصاق.

واحتجّ فخر الدين الرازي بالفرق بين قولنا : مسحت يدي بالمنديل والحائط ، وبين مسحت المنديل والحائط ، في أنّ الأوّل يفيد التبعيض ، والثّاني يفيد الشّمول. (٤)

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١٦٧.

(٣) المائدة : ٦.

(٤) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٦٧.

٣٢٦

وفيه نظر ، لأنّ الفعل مع ذكر المفعول الأوّل وهو قولك «يدي» لا يتعدّى بنفسه إلى المنديل ، ولو حذفت «يدي» وجعلت «المنديل» ممسوحا لا آلة ، منعنا الفرق.

احتجّت الحنفيّة بأنّ قولنا : مررت بزيد ، وكتبت بالقلم ، وطفت بالبيت ، يعقل منه الإلصاق لا غير.

ولأنّ ابن جنيّ (١) قال : لا يعرف أهل اللغة قول بعضهم : «الباء» للتّبعيض. (٢)

والجواب عن الأوّل : أنّ المرور والكتابة لا يتعدّيان بأنفسهما ، فلهذا لم يفيدا سوى الإلصاق.

وأمّا الطواف ، فإنّ مفهومه الدّوران حول جميع البيت ، ولا يسمّى من دار حول بعضه طائفا ، فلهذا لم يفد التبعيض ، بخلاف المسح ، فإنّ من مسح بعض رأسه ، يصدق عليه أنّه ماسح.

وقول ابن جنيّ شهادة نفي ، لا تقبل.

الخامسة : «إنّما» للحصر ، خلافا لشذوذ ، لوجوه :

الأوّل : قال أبو علي الفارسي (٣) : إنّ النّحاة أجمعوا عليه ، وصوّبهم [فيه] (٤) وقوله حجّة.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ١٦٩.

(٢) لاحظ الحاصل من المحصول : ١ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩ ، تأليف تاج الدين محمد بن الحسين الأرموي المتوفّى سنة ٦٥٢ ه‍.

(٣) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل ، المتوفّى ٣٧٧ ه‍ تقدّمت ترجمته.

(٤) نقله في كتابه «الشيرازيّات» لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٦٨ ؛ والكاشف عن المحصول : ٢ / ٤٥٥.

٣٢٧

الثاني : قال الأعشى (١) :

 ....................

وإنّما العزّة للكاثر (٢)

وقال الفرزدق (٣) :

أنا الذّائد الحامي الذّمار وإنّما

يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

ولا يتمّ مقصود الشاعر إلّا بالحصر.

الثالث : لفظة «إنّ» موضوعة للإثبات و «ما» للنّفي حالة الانفراد (٤) فيبقى الوضع حالة التركيب ، وإلّا لكان التركيب مخرجا للألفاظ عن معانيها ، وهو باطل قطعا.

ولأنّ الأصل البقاء على ما كان.

وإذا تقرّر هذا فنقول : لا يمكن تواردهما على معنى واحد ، وإلّا لزم التناقض ، بل لا بدّ من محلّين : فإمّا أن يكون الإثبات واردا على غير المذكور ،

__________________

(١) ميمون بن قيس المعروف بالأعشى الكبير ، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلّقات ، يسلك في شعره كل مسلك ، كان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس ، عاش عمرا طويلا ، وأدرك الإسلام ولم يسلم سمّي بالأعشى لضعف بصره ، قيل رمى به بعيره فقتله سنة ٧ ه‍ انظر الأعلام للزركلي : ٧ / ٣٤١.

(٢) هذا عجز بيت أوّله :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنّما العزّة للكاثر

لاحظ ديوانه : ١٩٣.

(٣) هو همام بن غالب بن صعصعة التيمي الدارمي ، أبو فراس ، الشهير بالفرزدق شاعر عظيم الأثر في اللغة والشعر ، كان يقال : لو لا شعر فرزدق لذهب ثلث اللغة ، ولو لا شعره لذهب نصف أخبار الناس ، وله ديوان مطبوع ولد سنة ٢٠ ومات ١١٠ ه‍ انظر الأعلام للزركلي : ٨ / ٩٣.

(٤) في «ب» و «ج» : حالة الإفراد.

٣٢٨

والنفي على المذكور ، وهو باطل بالإجماع أو بالعكس ، وهو المراد من الحصر.

احتجّ المخالف بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)(١).

وبالإجماع من ليس كذلك مؤمن أيضا.

والجواب : أنّه محمول على المبالغة.

__________________

(١) الأنفال : ٢.

٣٢٩
٣٣٠

المقصد الثالث : في كيفيّة الاستدلال

بخطاب الله تعالى على الإجمال

وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل :

في الكتاب

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في تعريفه

قال : بعضهم (١) : الكتاب ما نقل إلينا بين دفّتي المصحف من السبعة المشهورة ، نقلا متواترا.

واعترض : (٢) بأنّه لا معنى بالكتاب سوى القرآن المنزل علينا على لسان جبرئيل عليه‌السلام ، وذلك ممّا لا يخرج حقيقته بتقدير عدم تواتره ، بل ولا بتقدير عدم نقله إلينا بالكلّية.

__________________

(١) وهو الغزالي في المستصفى : ١ / ١٩٣.

(٢) المعترض هو الآمدي.

٣٣١

غاية ما في الباب : أنّا جهلنا وجود القرآن بتقدير عدم نقله ، وعدم علمنا بكونه قرانا ، بتقدير عدم تواتره ، وعلمنا بوجوده غير مأخوذ في حقيقته ، فلا يمكن أخذه في تحديده. (١)

وفيه نظر ، إذ لا نريد اشتراط النقل المتواتر في حقيقة القرآن ، بل نريد به أنّ الّذي نقل نقلا متواترا أنّه قران على سبيل التعريف الرسمي.

وقيل : هو القرآن المنزل. (٢)

فقولنا : القرآن ، احتراز عن سائر الكتب المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، فإنّها وإن كانت كتبا لله تعالى ، إلّا أنّها ليست الكتاب المعهود لنا عند الإطلاق ، الّذي يحتجّ به في شراعنا على الأحكام الشرعيّة الدينيّة.

وخرج به أيضا ما أنزل من الوحي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا ليس بمتلوّ ، فإنّه ليس بكتاب.

وقيل (٣) : هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه.

المبحث الثاني : في اشتراط التواتر في آحاده

اتّفقوا على أنّ ما نقل إلينا نقلا متواترا من القرآن فهو حجّة ، واختلفوا فيما نقل إلينا [منه] آحادا ، كمصحف ابن مسعود وغيره ، هل يكون حجّة أم لا.

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ١١٣ تأليف الآمدي.

(٢) القائل هو الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ١١٣.

(٣) القائل هو ابن الحاجب انظر رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٢ / ٨٢ قسم المتن.

٣٣٢

فنفاه الشافعي.

وقال أبو حنيفة : (١) إنّه حجّة ، وعليه بنى وجوب التتابع في صيام كفّارة اليمين ، حيث نقل ابن مسعود في مصحفه قوله : «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات».

والحقّ الأوّل ، لنا :

أنّ العادة تقضي بالتّواتر في تفاصيل مثله.

ولأنّه نقله قرانا ، ونقله قرانا ، خطأ ، فلا يكون حجّة.

أمّا المقدمة الأولى ، فتقديريّة.

وأمّا الثانية ، فلأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مكلّفا بإشاعة ما نزل عليه من القرآن إلى عدد التواتر ، ليحصل القطع بنبوّته (٢) فإنّه المعجزة له ، وحينئذ لا يمكن التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه.

والراوي الواحد إن ذكره على أنّه قران ، فهو خطأ ، وإن لم يذكره على أنّه قران ، كان متردّدا بين أن يكون خبرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومذهبا له ، فلا يكون حجّة.

فإن قيل : لا نسلّم وجوب الإشاعة إلى حدّ التواتر ، ومعلوم خلافه ، فإنّ حفّاظ القرآن في زمانه ، كانوا نفرا يسيرا لم يبلغوا حدّ التواتر ، وجمعه إنّما كان بتلقّي آحاد الآيات من آحاد الناس ، ولهذا اختلفت مصاحف الصّحابة.

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ١ / ١١٣.

(٢) في «ب» و «ج» : بثبوته.

٣٣٣

ولو كان الناقلون قد بلغوا حدّ التواتر (١) لم يكن كذلك ، و [لهذا] اختلفوا في البسملة أنّها من القرآن أو لا.

وأنكر ابن مسعود كون الفاتحة من القرآن ، وكذا أنكر المعوذّتين.

سلّمنا ، لكن إنّما يمتنع السّكوت عن نقله على الكلّ ، لأنّهم معصومون عن الخطأ ، أمّا بالنسبة إلى البعض فلا.

وإذا كان مثل ابن مسعود قد روى ما نقله ، لم يحصل اتّفاق الكلّ على الخطأ بالسكوت ، فيتعيّن حينئذ حمل روايته على أنّه من القرآن ، فإنّ الظاهر من حاله الصّدق ، ولم يوجد ما يعارضه.

غايته : أنّه غير مجمع على العمل به ، لعدم تواتره ، وإن لم يصرّح بكونه قرانا ، أمكن أن يكون من القرآن ، وأمكن أن يكون خبرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمكن أن يكون مذهبا [له] ، وهو حجّة بتقديرين ، وليس حجّة بتقدير واحد ، ووقوع احتمال من احتمالين ، أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.

سلّمنا أنّه ليس بقران ، لكن احتمال كونه خبرا أرجح ، فإنّ روايته له توهم الاحتجاج به ، ولو كان مذهبا [له] لأظهره ، إزالة للتلبيس ، خصوصا مع الخلاف في أنّ مذهب الصحابي حجّة أولا. (٢)

والجواب : الإجماع دلّ على وجوب إلقائه على عدد التواتر ، فإنّه المعجزة الدالّة على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته ، فلا يبقى هناك حجّة على نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونمنع عدم تواتر الحفّاظ في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : عدد التواتر.

(٢) الإحكام للآمدي : ١ / ١١٣ ـ ١١٤.

٣٣٤

سلّمنا ، لكن لا يلزم من عدم بلوغ حفّاظ جملة القرآن عدد التّواتر في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عدم بلوغ الحفّاظ لآحاده ، فجاز أن يكون آحاده متواترة وإن لم يبلغ الحفّاظ لجملته عدد التواتر ، بأن تتواتر جماعة على نقل بعضه ، ثمّ تتواتر جماعة أخرى على نقل بعض آخر ، وهكذا.

وتوقّف الجميع على نقل الآحاد ليس بوارد ، لأنّه لم يكن في كونها قرانا بل في تقديمها وتأخيرها ، وطولها وقصرها.

وأمّا اختلاف المصاحف ، فكلّ ما هو من الآحاد فليس بقران ، وما هو متواتر ، فهو قران.

ونحوه الشّبهة في التسمية ، لا في كونها قرانا ، بل في وضعها في أوّل كلّ سورة.

وإنكار ابن مسعود للفاتحة والمعوّذتين ، لم يكن في إنزالها ، بل في إجرائها مجرى القرآن في حكمه.

قوله : إذا رواه ابن مسعود لم يتّفقوا على الخطأ.

قلنا : مسلّم ، لكن لا تقوم الحجّة به في كونه قرانا ، كيف وأنّ سكوت من سكت ، وإن لم يكن ممتنعا ، إلّا أنّه حرام ، لوجوب نقله عليه ، فلو كان ما تفرّد به ابن مسعود قرانا ، لزم ارتكاب باقي الصحابة الخطأ ، حيث لم ينقلوه ، ولم يوصلوه إلى عدد التواتر.

ولو قلنا : إنّه ليس بقران ، لم يقع الرّاوي ولا غيره من الصحابة في الخطأ.

ولو سلّمنا ارتكاب ابن مسعود على الخطأ ، كان أولى من ارتكاب

٣٣٥

باقي الجماعة ، فبطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله من غير معارض ، وتعيّن تردّده بين الخبر والمذهب.

قوله : «الخبر أرجح».

قلنا : الإجماع على أنّ كلّ خبر لم يصرّح فيه بكونه خبرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بحجّة ، وما نحن فيه كذلك ، بل الأولى الحمل على المذهب ، لأنّه قد اختلف في كونه حجّة أم لا ، أمّا الخبر الّذي لم يصرّح فيه بالخبريّة ، فإنّه ليس حجّة بالاتّفاق.

وأيضا فإنّه يوافق النفي الأصليّ ، وبراءة الذّمة ، فيكون أولى.

المبحث الثالث : في البسملة

اتّفق المسلمون على أنّ البسملة بعض آية في سورة النمل ، واختلفوا في كونها آية من كلّ سورة في القرآن ، فنقل عن الشّافعي قولان ، واختلف أصحابه في حملهما ، فقال بعضهم : إنّ القولين محمولان على أنّها هل هي من القرآن في أوّل كلّ سورة حيث كتبت مع القرآن بخطّ القرآن أم لا.

وقال آخرون : إنّهما محمولان على أنّها هل هي آية برأسها في أوّل سورة ، أو هي بعض آية ، وأنّها مع أوّل آية من كلّ سورة آية ، وهو الأصحّ.

وذهب القاضي أبو بكر (١) وجماعة من الأصوليين إلى أنّها ليست من القرآن في غير سورة النمل ، وحكم بخطإ من قال : إنّها آية من القرآن في غير

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ١ / ١١٥.

٣٣٦

سورة النمل من غير تكفير ، لعدم النّصّ القاطع بإنكار ذلك.

وذهبت الإماميّة أجمع إلى أنّها آية من كلّ سورة.

لنا : أنّها منزلة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أوّل كلّ سورة ، ولهذا قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتّى ينزل جبرئيل عليه‌السلام ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، فيكون من القرآن حيث أنزلت.

وأيضا أنّها كانت تكتب بخطّ القرآن في أوّل كلّ سورة بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم ينكر أحد من الصحابة على كاتبها بخطّ القرآن مع شدّة تحرّزهم ، وتحفّظهم في صيانة القرآن عن الزيادة والنقصان ، حتّى أنكروا على من أثبت أوائل السّور والتّعشير والنقط وإن لم يكن بخطّ القرآن ، وذلك يقتضي اتّفاقهم على أنّها من القرآن.

وأيضا قال ابن عباس : سرق الشيطان من الناس آية من القرآن (١) ، إلى أن ترك بعضهم قراءة التسمية في أوّل كلّ سورة.

وقال أيضا : من ترك «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقد ترك مائة وثلاثة عشر آية ، (٢) ولم ينكر عليه ، فدلّ على أنّها من القرآن.

احتجّوا بأنّها لو كانت قرانا ، لم يخل إمّا أن يشترط القطع في إثباتها ، أو لا يشترط.

فإن كان الأوّل فما ذكرتموه من الوجوه الدالّة غير قطعيّة بل ظنّية ، فلا تصلح للإثبات.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى : ٢ / ٥٠ باختلاف يسير.

(٢) عوالي اللئالي : ٢ / ٢١٨ ، ونقله في بدائع الصنائع : ١ / ٤٧٥ ، عن عبد الله بن مبارك.

٣٣٧

وأيضا كان يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إظهار كونها من القرآن حيث كتبت معه شائعا ، قاطعا للشكّ ، كما فعل في سائر الآيات.

وإن كان الثاني ، فليثبت التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه.

والجواب : لا خلاف في كونها من القرآن ، وإنّما اختلف في وضعها آية في أوائل السّور ، ولا يشترط فيه القطع ، ولهذا لم يكفّر أحد الخصمين صاحبه ، كما وقع في عدد الآيات ومقاديرها.

ولو لم تكن من القرآن لوجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إظهار ذلك وإبانته شائعا ، قاطعا للشكّ ، كما فعل في التعوّذ.

بل وجوب الإظهار هنا أولى ، حيث كتبت بخطّ القرآن في أوّل كلّ سورة ، فإنّ ذلك ممّا يوهم أنّها من القرآن ، مع علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، وقدرته على البيان ، بخلاف التعوّذ.

لا يقال : كلّ ما هو من القرآن فإنّه منحصر يمكن بيانه ، بخلاف ما ليس من القرآن ، فإنّه غير منحصر فلا يمكن بيانه ، فلهذا أوجبنا بيان ما هو من القرآن ، ولم نوجب بيان ما ليس منه.

لأنّا نقول : نحن لم نوجب بيان كلّ ما ليس من القرآن ، بل إنّما نوجب بيان ما يشتبه أنّه من القرآن وليس منه ، كالتسمية ، وهي أمر واحد منحصر. (١).

والحق أن نقول : إنّها نقلت نقلا متواترا في أوّل كلّ سورة بخطّ القرآن من

__________________

(١) انظر الإحكام في أصول الأحكام للآمدي : ١ / ١١٦ ؛ ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ٢ / ٨٢ ـ قسم المتن ـ.

٣٣٨

غير شكّ ، والتكرار لا يخرج المكرّر عن كونه قرانا ، ولا الشكّ فيه ، وإلّا لزم الشكّ في مثل (وَيْلٌ)(١) و (فَبِأَيِ)(٢).

وإذا كان كذلك وجب الحكم بكونها قرانا كغيرها من الآيات.

وأمّا ما اعتذر به أوّلا فليس بجيّد ، إذ لو لم يشترط التواتر في المحلّ بعد ثبوت مثله ، لجاز ثبوت كثير من القرآن المكرّر ، وجواز إثبات ما ليس بقران.

لا يقال : إنّه يجوز ، ولكن اتّفق تواتر ذلك.

لأنّا نقول : لو قطع النظر عن ذلك الأصل لم يقطع بانتفاء السقوط ، ونحن نقطع بأنّه لا يجوز.

ولأنّه يلزم جواز ذلك في المستقبل ، وهو باطل قطعا ، فإذن الحقّ ما قلناه ، من تواترها آية في أوّل كلّ سورة.

المبحث الرابع : في تواتر القراءات السبع

لنا : لو لم تكن متواترة لخرج بعض القرآن عن كونه متواترا ك (مالِكِ) و (مُلْكِ) وأشباههما ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّهما وردا عن القرّاء السبعة ، وليس تواتر أحدهما أولى من تواتر الآخر ، فإمّا أن يكونا متواترين ، وهو المطلوب ، أو لا يكون شيء منهما بمتواتر وهو باطل ، وإلّا يخرج عن كونه قرانا ، هذا خلف.

__________________

(١) المرسلات : ١٩.

(٢) الرّحمن : ١٦.

٣٣٩

الفصل الثاني :

في أحكام خطابه تعالى

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في أنّه يستحيل أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشيء ولا يعني به شيئا

اتّفق الناس على أنّه لا يجوز اشتمال القرآن وكلام الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما لا معنى له إلّا الحشوية (١) ، فإنّهم جوّزوا ذلك.

لنا : أنّ الكلام بما لا يفيد شيئا نقص ، والله تعالى يستحيل عليه النقص.

ولأنّه تعالى وصف القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانا ، ولا يحصل ذلك إلّا مع القصد والإرادة.

احتجّ المخالف بوجوه :

الأوّل : ورد في القرآن مثل : (كهيعص)(٢) و (حم)(٣) و (الم)(٤) وغير ذلك ، وهي غير مفهومة المعنى ، وقوله (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(٥)(تِلْكَ

__________________

(١) الحشوية : هم الذين يحشّون الأحاديث الّتي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك قالت عامّة الحشوية بالجبر والتشبيه ، اغترارا بهذه الروايات الضعاف. لاحظ موسوعة بحوث في الملل والنحل لشيخنا السبحاني : ١ / ١٢٤.

(٢) مريم : ١.

(٣) الشورى : ١.

(٤) البقرة : ١.

(٥) الصافات : ٦٥.

٣٤٠