نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

وعلّة حسنه ، كونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة ، ولا ضرر على المالك فيها ، قضيّة للدّوران.

وهذه الأوصاف ثابتة في مسألتنا ، فثبت الحكم فيها.

لا يقال : عدم العلم بالمفسدة يثبت معه احتمالها ، وهو كاف في القبح.

لأنّا نقول : العبرة ، في قبح التصرّف المستند إلى الأمارات ، أمّا الخالية ، فلا.

ولهذا لو قام العاقل من تحت حائط محكم البناء ، مستو في وضعه ، لاحتمال سقوطه ، سفّهه العقلاء ، بخلاف ما لو كان الحائط مائلا.

ولأنّ احتمال المفسدة ثابت في الفعل والترك ، فيلزم انفكاكه عنهما ، وهو تكليف ما لا يطاق.

الثاني : أنّه تعالى خلق الطعوم قائمة في الأجسام ، فلا بدّ له من غرض ، وإلّا لزم العبث ، وذلك الغرض يعود إلى غيره ، لاستحالة النفع والضرر عليه.

وليس الغرض الإضرار ، إجماعا ، ولاستلزامه المطلوب ، إذ الضرر إنّما يتمّ بالإدراك الثابت بالتناول ، فيكون التناول مطلوبا ، فيكون [الغرض] هو الانتفاع ، إذ لا واسطة اتّفاقا.

فإن كان [الانتفاع] بإدراكها ، فالمطلوب.

وإن كان باجتنابها ، لكون تناولها مفسدة فيستحقّ الثواب باجتنابها ، أو بأن يستدلّ بها ، استلزما (١) إباحة إدراكها ، إذ ثواب الاجتناب إنّما يكون مع دعاء النفس إلى إدراكها ، فيستلزم تقدّم إدراكها.

__________________

(١) ضمير التثنية يرجع إلى الاجتناب من الطعوم في الأجسام ، والاستدلال بها.

١٤١

وكذا الاستدلال بها يتوقّف على معرفتها ، الموقوفة على إدراكها. (١)

الثالث : أنّه يحسن من كلّ عاقل أن يتنفّس في الهواء ، وأن يدخل منه أكثر ممّا تحتاج إليه الحياة ، ومن اقتصر على قدر تحتاج الحياة إليه عدّ سفيها.

ولا علّة لهذا الحسن ، إلّا كونه نفعا خاليا عن المفسدة ، ولا ضرر فيه على المالك ، وهو ثابت هنا.

الرابع : أنّه تعالى حكيم لطيف بعباده ، فلو كان هذا المفروض واجبا أو

__________________

(١) وحاصل الاستدلال أنه سبحانه تبارك وتعالى خلق الطعوم في الأجسام ، فلا بدّ له من غرض ، وهو يرجع إلى غيره ، وهذا الغرض إمّا الإضرار أو الانتفاع.

فإن كان الغرض هو الإضرار ، فهو يتحقّق بتناول الطعوم ، الملازم لجواز التصرّف في الأشياء ، وهو خلاف المطلوب :

وإن كان الغرض هو الانتفاع ـ وهذا يكفي في المقصود من دون حاجة لتشقيق الانتفاع ـ فهو يتحقّق بأحد وجوه ثلاثة :

١. الانتفاع بادراك الطعوم عن طريق التناول.

٢. الانتفاع باستحقاق الثواب عن طريق اجتنابها.

٣. الانتفاع بالاستدلال بها على معرفة شيء.

والجميع يلازم جواز التصرف وإلّا لم تتحقّق هذه الأغراض :

أمّا الأوّل : فواضح ، وهو الانتفاع بالطعوم عن طريق التناول.

وأمّا الثاني : اعني استحقاق الثواب عن طريق الاجتناب فهو فرع دعوة النفس إلى إدراكها وفي ذلك يتقدم إدراكها بالتناول.

وأما الثالث : فإنّ الاستدلال موقوف على معرفة الطعوم ، الموقوفة على إدراكها بالتناول.

وأشار المصنّف إلى الوجه الأوّل بقوله : «فإن كان بإدراكها» وإلى الثاني بقوله «وإن كان باجتنابها» وإلى الثالث بقوله : «أو بأن يستدلّ بها».

واعلم أنّ أصل الاستدلال لأبي الحسين البصري في المعتمد : ٢ / ٣٢٠ ، وكلامه مجمل ، فحاول المصنّف تلخيصه بإيضاح ، ومع ذلك لا يخلو عن تعقيد ، ولاحظ : الإحكام للآمدي : ١ / ٧٠ ؛ والكاشف عن المحصول : ١ / ٣٧٦.

١٤٢

حراما ، لوجب على الله تعالى إرشاد عباده إليه ، فإنّ عادته تعريفهم الحسن والقبيح فيما لا يدرك بالعقل ضرورة ولا نظرا ، ولمّا انتفى المنع الشرعيّ والإذن الشرعيّ ، دلّ على أنّه مباح.

الخامس : أنّه تعالى أعلمنا أنّه نافع ولا ضرر فيه ، وذلك يستلزم الإذن فيه ، إذ لو كان مانعا منه ، لكان تناوله مشتملا على الضرر ، وهو خلاف الفرض.

احتجّ القائلون بالحظر ، بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فيكون قبيحا.

احتجّ القائلون بنفي الحكم ، بأنّ الحسن والقبح شرعيّان ، وقبل الشرع لا حكم.

وبقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) نفى العذاب قبل البعثة ، وهو يستلزم نفي الوجوب والحرمة.

والجواب عن الأوّل : المنع من عدم الإذن ، فإنّه مأذون فيه بدليل العقل ، كالاستظلال بحائط الغير.

وعن الثاني : بما تقدّم بأن الحسن والقبح عقليّان.

وعن الآية بما تقدّم مرارا.

ولأنّ العقاب لازم للوجوب الشرعيّ لا الوجوب العقليّ ، فيلزم من نفيه نفي ملزومه أعني الوجوب الشرعيّ لا العقليّ.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

١٤٣

سلّمنا ، لكن لا دلالة في الآية على الإباحة والوقف ، لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعا.

وقد ألزم الفريقان الأشاعرة بالتناقض ، فإنّ قولهم : «لا حكم» حكم بعدم الحكم.

ولأنّ التصرّفات ، إن كان المكلّف ممنوعا عنها ، كانت على الحظر ، وإلّا كانت على الإباحة ، ولا واسطة.

وهذان غير واردين ، فإنّه لا تناقض في الحكم بعدم الإباحة والحظر وغيرهما من الأحكام الخمسة ، فإنّ الحكم المنفيّ هو الخاصّ ، والثابت هو العامّ المرادف للتصديق. (١)

ومرادهم بالوقف : إمّا انتفاء العلم بأنّ الحكم هو الحظر أو الإباحة ، وحينئذ تثبت الواسطة.

أو عدم الحكم ، وليس إباحة أيضا ، لأنّه حاصل في فعل البهيمة ، ولا يوصف بالإباحة ، بل المباح هو الّذي أعلم فاعله أو دلّ على أنّه لا حرج عليه في الفعل والترك ، والإعلام إنّما يكون بالشرع عندهم ، فإذا انتفى ، فلا إباحة.

__________________

(١) في «أ» : المراد من التصديق.

١٤٤

المقصد الثاني : في اللّغات

وفيه مقدّمة وفصول.

أمّا المقدمة ففيها بحثان :

[البحث] الأوّل : في الماهيّة

اللّغة مأخوذة من لغا يلغو : إذا لهج بالكلام.

وقيل : من لغي يلغى (١) ، وهي كلّ لفظ وضع لمعنى ، فاللفظ هو ما يلفظه الإنسان (٢) ويخرج به الإشارات والرقوم ، وخرج بالثاني المهمل.

وهذا الحدّ شامل للمفرد والمركّب ، وهو مرادف للكلام عند الأصوليّين ، فإنّهم حدّوه بأنّه «المنتظم من الحروف المسموعة المتميّزة المتواضع عليها ، إذا صدر عن قادر واحد».

فالمنتظم حقيقة في الأجسام ، إذ معناه الترتيب ، ولكن لمّا توالت الأصوات على السمع مترتّبة ، شبّهت بالأجسام.

__________________

(١) في المعجم الوسيط : لغا يلغو لغوا ، لغا بالقول : تكلّم به ، ولغي يلغى لغا ، لغا بالأمر : أولع به ، والشيء: لزمه ، والطائر بصوته : نغم.

(٢) في «ب» : يلفظه اللّسان.

١٤٥

وقيّد بالحروف ، ليخرج المنتظم من غيره.

وقيل : (١) احترز به عن الحرف الواحد ، فإنّ أهل اللغة قالوا : أقلّ الكلام حرفان ، إمّا ظاهرا أو في الأصل ك «ق» ، و «ع» و «ش» فإنّه في الأصل «قي» بدلالة الردّ في التثنية فيقال «قيا» لكن أسقطت تخفيفا.

وليس بجيّد ، فإنّ الانتظام نسبة لا تعقل إلّا بين اثنين ، بل الوجه في القيد ما قلناه نحن أوّلا.

وقولنا : «المسموعة» احتراز عن الكتابة.

وقولنا : «المتميّزة» احتراز عن أصوات الطيور.

وقولنا : «المتواضع عليها» ليخرج عنه المهمل.

وقولنا : «إذا صدرت عن قادر واحد» احتراز من أن ينطق قادر بحرف وأخر بآخر ، فإنّه لا يسمّى المجموع كلاما ، لما لم يصدر عن قادر واحد ، وهذا يقتضي كون الكلمة المفردة كلاما ، والنحويّون جعلوه اسما للمفيد ، وهو الجملة المفيدة خاصّة.

وأيضا فقولهم : «الكلام» أقلّه حرفان إمّا ظاهرا أو في الأصل ، ينتقض بلام التمليك ، وباء الإلصاق ، وفاء التعقب ، فإنّها أنواع الحرف ، وكلّ حرف كلمة ، وكلّ كلمة كلام مع أنّها غير مركّبة.

والحركة تبعد أن تكون حرفا ، ثمّ لا يمكن العذر به في «ياء» غلامي ، والتنوين ، ولام التعريف. (٢)

__________________

(١) القائل : هو الرازي في المحصول : ١ / ٥٦.

(٢) كذا في المحصول للرازي : ١ / ٥٧.

١٤٦

وفيه نظر ، فإنّا نمنع كون كلّ كلمة كلاما ، بل يخصّ الكلام بالمركّب.

هذا على اصطلاح الأصوليّين ، وأمّا على اصطلاح النّحاة ، فإنّه الجملة المفيدة كما تقدّم.

وهي إمّا اسميّة مثل زيد قائم ، أو فعليّة نحو قام زيد.

وقد يتركّب تركّبا ثانيا كالقضايا الشرطيّة. إمّا المتّصلة مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، أو المنفصلة مثل العدد إمّا زوج أو فرد.

واعلم أنّ الكلام يخرج عن كونه كلاما تامّا بالزيادة ، وأخرى بالنقصان ، كما لو زدت «إن» الشرطية في قولك : قام زيد ، أو حذفت لفظة قام.

وأقسام التركيب اثنا عشر ، ثلاثة مكرّرة ، وسبعة مهملة ، والمستعمل اثنان ، اسم مع مثله ومع فعل محكوم به.

لا يقال : ينتقض ما ذكرتم بحرف النداء ، فإنّه يفيد مع الاسم.

فإن قلت : إنّه نائب عن الفعل.

قلت : لو كان كذلك لاحتمل التصديق والتكذيب ، ولجاز أن يكون خطابا مع ثالث.

لانّا نقول : إنّه إنشاء فلا يحتمل التصديق والتكذيب ، ولا كونه خطابا مع ثالث كسائر الإنشاءات.

١٤٧

البحث الثاني : في الغاية

الإنسان مدنيّ الطّبع لا يمكنه أن يعيش وحده كغيره من الحيوانات ، بل لا بدّ له من مشاركة أشخاص أخر من بني نوعه ، بحيث يستعين بعضهم ببعض في إصلاح جميع ما يحتاج إليه كلّ واحد منهم بحسب الشخص ، ويفعل كلّ واحد منهم بعض الأمور الضروريّة في البقاء ، من الحرث وإصلاح المأكل والملبس والمسكن.

ولا بدّ في ذلك من أن يعرف كل واحد منهم ما في نفس صاحبه من الحاجات فيضطرّ إلى سلوك طريق للتعريف ، وهي متعدّدة كالحركات والإشارات والرّقوم.

إلّا أنّهم وجدوا الكلام أنفع في هذا الباب من غيره.

أمّا أوّلا فلسهولة إدخال الصوت في الوجود لتولّده من كيفيّة مخصوصة في إخراج النفس الضروري ، فصرفه إلى وجه ينتفع به انتفاعا كلّيّا أولى من طريق آخر لا يخلو من مشقّة عظيمة.

وأمّا ثانيا فلأنّ الصوت يوجد في وقت الحاجة إليه وينتفي عند انتفائها ، فكان وضعه أولى ، إذ غيره قد لا يعدم وقت الاستغناء ، فيحصل بالوقوف عليه ضرر.

وأمّا ثالثا فلأنّ الكلام كما يحصل التعبير به عن الأجسام وتوابعها ، كذا يحصل التعبير به عن المجرّدات بل وعن المعدومات ، بخلاف الإشارات الّتي تختصّ بالمقارنات خاصّة.

١٤٨

على أنّها قد تقصر عنها أيضا ، إذ الأجسام البعيدة تتعذّر الإشارة إليها ، والجسم ذو الأعراض المتكثّرة تتعذّر الإشارة إلى بعضها دون بعض ، إذ لا أولويّة ، لانصراف الإشارة إلى اللّون القائم بالجسم دون الطعم أو الحركة القائمين به.

وأمّا رابعا فلكثرة المعاني الّتي يحتاج إلى التعبير عنها ، فلو وضعنا لكلّ معنى علامة خاصّة كثرت العلامات ، ولم يمكن ضبطها ، أو يحصل الاشتراك في أكثر المدلولات ، وهو مخلّ بالفهم.

وأمّا خامسا فلأنّ الأصوات أخفّ الأشياء ، إذ الأفعال الاختياريّة أخفّ من غيرها.

والمستغني عن الآلات والأدوات أخفّ.

والمنتفي عنه ضرر الازدحام أخفّ.

وما لا بقاء له مع الاستغناء عنه أخفّ.

والمقدور عليه في كلّ الأوقات أخفّ.

وما لا تعب فيه ولا مشقّة أخفّ.

وذلك كلّه حاصل في الصوت ، وقد خصّ الله تعالى الإنسان دون غيره من الحيوانات تكرمة له بالمقاطع الصوتيّة.

ومن اختلاف تركيبات المقاطع الصوتيّة حدثت العبارات اللّغويّة.

١٤٩

الفصل الأوّل

في مباحث كلّية تتعلّق بالوضع

البحث الأوّل : الواضع

اختلف الناس هنا ، فذهب بعضهم إلى أنّ دلالة اللفظ طبيعيّة أي لذاته ، وهو منقول عن عبّاد بن سليمان الصيمري (١) وبعض المعتزلة وأصحاب الإكسير.

وقال المحقّقون : إنّها بواسطة الوضع ، واختلفوا فذهب بعضهم إلى أنّ الواضع هو الله تعالى ، وبه قال أبو الحسن الأشعري (٢) وابن فورك (٣) والظاهريّة وجماعة من الفقهاء ، ووضعه مستفاد من جهة التوقيف الإلهيّ إمّا بالوحي أو بخلق أصوات وحروف ويسمعها واحد أو جماعة ، أو بخلق علم ضروريّ بذلك.

وذهب أبو هاشم وأصحابه وجماعة من المتكلّمين إلى أنّها اصطلاحيّة ،

__________________

(١) أبو سهل عبّاد بن سليمان الصيمري البصري المعتزلي المتوفّى في حدود سنة ٢٥٠ ه‍ من أصحاب هشام الفوطي ، لاحظ سير الأعلام : ١٠ / ٥٥١.

(٢) علي بن إسماعيل إمام الأشاعرة ، المتوفّى سنة ٣٢٤ ه‍.

(٣) تقدّمت ترجمته.

١٥٠

إمّا من واحد أو جماعة تواطئوا على وضع هذه الألفاظ لمعانيها ، ثمّ عرّفوا غيرهم بذلك الوضع بالإشارات والقرائن كالأطفال والاخرس الّذين يتعلّمون الوضع بسبب التكرار.

وقال آخرون : بعضها اصطلاحيّ وبعضها توقيفيّ ، واختلفوا ، فقال الأستاذ أبو اسحاق (١) : القدر الضروريّ الّذي يقع به الاصطلاح توقيفيّ ، والباقي اصطلاحيّ.

وقال آخرون بالعكس وانّ ابتداء اللّغات بالاصطلاح والباقي بالتوقيف.

والجمهور من المحقّقين توقّفوا هنا ، وهو اختيار القاضي أبي بكر (٢) ، والغزّالي (٣).

وجزم الجميع بإبطال قول عبّاد ، لأنّ الألفاظ لو دلّت بالذات لامتنع اختلافها باختلاف الأمم في الأصقاع والأزمان ، ولا اهتدى كلّ واحد إلى كلّ وضع ، وهو معلوم البطلان ، ولأنّا نعلم بالضرورة أنّا لو وضعنا لفظة الكتاب لمعنى الدار وبالعكس أمكن ودلّت اللّفظتان كما دلّتا في اللغة.

احتجّ بأنّه لو لا المناسبة الطبيعيّة بين اللّفظ ومعناه ، لكان اختصاصه بذلك المعنى ترجيحا من غير مرجّح. (٤)

__________________

(١) أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاسفراييني المعروف بالأستاذ الملقب بركن الدين ولد في أسفرايين ـ بين نيسابور وجرجان ـ ثم خرج إلى نيسابور وبنيت له فيها مدرسة عظيمة فدرّس فيها ، له رسالة في أصول الفقه ، توفي سنة ٤١٨ ه‍. لاحظ الاعلام للزركلي : ١ / ٦١.

(٢) التقريب والارشاد : ١ / ٣٢٠.

(٣) المستصفى : ٢ / ١٠.

(٤) الاستدلال للعبّاد بن سليمان الصميري ، نقله الرازي في محصوله : ١ / ٥٨.

١٥١

والجواب نمنع الملازمة ، فإنّ الواضع إن كان هو الله تعالى كان تخصيصه بذلك كتخصيص حدوث العالم بوقت حدوثه.

وإن كان هو البشر ، كان المخصّص هو خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما في الألقاب.

احتجّ الأشعري وموافقوه بوجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(١) فتكون الأفعال والحروف كذلك ، إذ لا قائل بالفرق.

ولأنّ الاسم مأخوذ من السّمة وهي العلامة ، والأفعال والحروف كذلك ، فتكون اسما لوجود المعنى المشتقّ منه فيها.

ولتعذّر التكلّم بالأسماء واحدها ، فتعليمها يستلزم تعليم الأفعال والحروف.

الثاني : أنّه تعالى ذمّ من سمّى بغير توقيف بقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ)(٢) فلو لم يكن ما عدا ما سمّوه توقيفا لم يحسن هذا الكلام.

الثالث : قوله تعالى (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ)(٣).

وليس المراد الألسنة اللّحمانية ، إذ لا اختلاف في تركيبها وتأليفها ، ولو ثبت فإنّه في غيرها أبلغ وأكمل ، وكان جعله آية أولى من هذه.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) النجم : ٢٣.

(٣) الروم : ٢٢.

١٥٢

فوجب حمله على اللغات الصادرة عن الألسنة.

وأطلق عليها اسم الألسنة إطلاق اسم العلّة على المعلول ، وهو من أحسن وجوه المجاز.

الرّابع : العمومات كقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(١)(تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٢)(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٣) واللّغات داخلة في هذه العمومات.

الخامس : لو لم تكن اللغات توقيفيّة لزم الدور أو التسلسل ، واللازم بقسميه باطل ، فالملزوم مثله.

بيان الشرطية : أنّ الاصطلاح إنّما يتمّ بأنّ تعرف الجماعة المصطلحون ما يقصده كلّ واحد منهم ، وإنّما يتمّ ذلك بطريق كالألفاظ والكتابة.

وعلى كلّ التقديرين فلا بدّ من طريق ، وذلك الطّريق لا يفيد لذاته بل بالاصطلاح ، فإن كان الأوّل دار ، وإلّا تسلسل.

السادس : لو كانت اللّغات اصطلاحيّة لزم ارتفاع الأمان عن الشرائع ، لاحتمال تبدّل لغاتها ، ولا يجب اشتهارها ، (٤) فإنّ معجزات الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشهر منها ، ولم يتواتر نقلها.

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) العلق : ٥.

(٤) جواب عن سؤال مقدّر وهو أنّه لا يحتمل تبدّل اللّغات ، إذ لو تغيّرت لاشتهرت ، فأجاب بعدم الملازمة بين التغيّر والاشتهار ، بشهادة أن معجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشهر من اللّغات المتبدّلة مع أنّها لم يتواتر نقلها ، مضافا إلى ما ذكره من مسألة الأذان والإقامة.

١٥٣

والأذان والإقامة مع اشتهارهما وإظهارهما في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإعلان بهما على رءوس الأشهاد قد اختلف فيهما.

احتجّ أبو هاشم بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)(١) دلّت على سبق الوضع على الرسالة ، فلو كانت اللّغات توقيفيّة لتأخّرت عنها ، إذ التوقيف من الله تعالى إنّما هو على لسان رسله.

ولأنّها لو كانت توقيفيّة لكان إمّا بالعلم الضّروريّ بأنّه تعالى وضع تلك الألفاظ لمعانيها أو لا.

والأوّل إمّا أن يكون ذلك العلم خلقه في عاقل ، أو غيره.

والأوّل باطل ، وإلّا لزم أن يكون العلم به تعالى ضروريّا ، إذ العلم بأنّه وضع اللفظ للمعنى مسبوق بالعلم به ، فإنّ العلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف ، لكن التالي باطل ، وإلّا لبطل التكليف.

لكن قد ثبت وجوب التكليف على كلّ عاقل.

والثاني باطل لامتناع أن يخلق في غير العاقل علما ضروريّا بالألفاظ ومناسباتها وتراكيبها العجيبة.

وأمّا الثاني وهو ألّا يكون قد خلق العلم الضروري بذلك ، فهو باطل أيضا ، وإلّا لافتقر السّامع في كون ما سمعه موضوعا بإزاء معناه إلى طريق ، وينتقل الكلام إليه ، فإمّا أن يتسلسل أو ينتهي إلى الاصطلاح.

واحتجّ أبو اسحاق بأنّ الاصطلاح يتوقّف على تعريف كلّ واحد منهم

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

١٥٤

غيره ما في ضميره على ما تقدّم ، فإن عرّفه باصطلاح آخر تسلسل ، فلا بدّ في أوّل الأمر من التوقيف.

ثمّ من الجائز أن تحدث بعد ذلك لغات كثيرة بالاصطلاح ، بل الواقع ذلك ، فإنّ كلّ وقت يتجدّد لأهله اصطلاحات لم يكونوا يعرفونها من قبل.

والاعتراض على الأوّل من وجوه :

الأوّل : جاز أن يكون المراد من التعليم الإلهام بالاحتياج إلى الألفاظ ، وبعث عزمه على وضعها ، ونسب التعليم (١) إليه تعالى ، لأنّه الهادي إليه ، لا أنّه علّمه بالخطاب كقوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ)(٢).

الثاني : إعطاؤه ما يتمكّن به من الوضع ، وليس التعليم إيجاد العلم ، بل فعل صالح لأن يترتّب عليه حصول العلم ، يقال : علّمته فلم يتعلّم. (٣)

الثالث : ما يفعله العبد منسوب إليه تعالى باعتبار أنّه الموجد للعبد ، فالعلم الحاصل بعد الاصطلاح ، يكون مستندا إليه تعالى بالاخرة ، فصحّ استناد التعليم إليه.

الرابع : يجوز أن يكون المراد من الأسماء الصفات والعلامات ، مثل أنّ الخيل للركوب ، والجمل للحمل ، والبقر للحرث ، إلى غير ذلك ، فإنّ الاسم مأخوذ من السّمة والعلامة ، أو من السّموّ ، وكلّ معرّف لغيره اسم له.

وتخصيصه باللّفظ المعيّن عرف خاصّ.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : ونسب العلم.

(٢) الأنبياء : ٨٠.

(٣) في «أ» و «ج» : علّمه فلم يتعلّم.

١٥٥

الخامس : جاز أن يعلّمه ما اصطلح عليه قوم تقدّموه.

السّادس : أراد كلّ الأسماء في كلّ زمان ، أو الأسماء الّتي في زمانه عليه‌السلام؟ (١)

السّابع : يجوز أن يكون قد أنساها ، أو لم يعلّمها أولاده فعدمت بموته عليه‌السلام ، فاصطلح أولاده على وضع هذه اللغات الموجودة لنا ، والكلام إنّما هو في هذه اللّغات.

الثامن : تجوز إرادة المسمّيات بدليل قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ)(٢).

وفيه نظر ، لأنّ تمام الآية (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) يدلّ على الأسماء ، لا على المسمّيات.

التاسع : توقّف نطق الأسماء على نطق الحروف والأفعال ، لا يستلزم لو سلّم توقّف التّعليم على التعلّم ، لجواز الاصطلاح فيهما.

العاشر : كون الاسم من السّمة ، لا يستلزم صدقه على الأفعال والحروف ، إذ لا يجب صدق المشتقّ على كلّ ما وجد فيه المعنى.

و [الاعتراض] على الثاني : أنّ الذمّ ليس باعتبار التّسمية لا غير ، بل بإطلاق اسم الآلهة (٣) على الأصنام ، مع اعتقاد تحقّق المسمّى فيها.

و [الاعتراض] على الثالث : إذا خرجت الحقيقة وتعيّن المجاز ، لم يكن حمله على اللّغات ، أولى من حمله على الإقدار على اللّغات ، أو على المخارج. (٤)

__________________

(١) الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم.

(٢) البقرة : ٣١.

(٣) في «أ» و «ج» : الإلهيّة.

(٤) كذا في المحصول للرازي : ١ / ٦٣.

١٥٦

وفيه نظر ، لأولويّة اللّغات من وجهين :

أحدهما : أنّ استعمال اسم العلّة في المعلول أولى من غيره ، واللّغة صادرة عن اللسان ، وليس الإقدار على اللّغات صادرا عنه ، وكذا المخارج ، بل نسبة اللسان إليهما نسبة المحلّ إلى الحالّ.

الثاني : أنّ في هذا زيادة إضمار ، بخلاف ما قلناه.

و [الاعتراض] على الرابع : أنّ المراد ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه.

سلّمنا ، لكنّ المراد : ما فرّطنا في شيء من الأحكام.

سلّمنا : أنّ المراد تبيين كلّ شيء (١) لكن جاز أن يكون معرّفا للغات من تقدّم ، وكذا باقي الآيات.

و [الاعتراض] على الخامس : النقض بتعليم الأطفال اللّغات من آبائهم بتكرير الخطاب عليهم مرّة بعد أخرى.

سلّمنا ، لكن جاز أن تكون هذه اللغات اصطلاحيّة ، ومعرفتها مسبوقة بمعرفة لغة أخرى توقيفيّة يعلّمنا من تقدّمنا ، ثمّ اصطلحوا على هذه.

لا يقال : إذا كان لا بدّ من لغة توقيفيّة فلتكن هذه.

لأنّا نقول : نمنع ذلك ، وقولك لا يفيد اليقين. (٢)

وفيه نظر ، إذ البحث غير مختص بلغة خاصّة.

و [الاعتراض] على السادس : أنّه لو غيّر لاشتهر ، والمعجزات إنّما خفي بعضها حتّى صار آحادا ، لاشتهار غيرها ، والاكتفاء بالكتاب العزيز عنها.

__________________

(١) في «أ» : سلّمنا أنّه تبيين كلّ شيء.

(٢) الاستدلال للعجلي الأصبهاني في الكاشف عن المحصول : ١ / ٤٥٠.

١٥٧

واختلاف فصول الأذان ، لاحتمال تسويغ الجميع ، أو غلط المؤذّن فنقص أو زاد مرّة ، فنقل واشتهر ، أو غلط السامع.

و [الاعتراض] على الحجّة الأولى للبهشميّة (١) ، المنع من انحصار التوقيف في البعثة، بل جاز أن يكون بالوحي ، أو بعلم ضروريّ يخلقه الله تعالى.

وعلى الثانية : يجوز أن يخلق علما ضروريّا بأنّ واضعا وضع هذه الألفاظ لمعانيها ، وإن لم يخلق العلم الضروريّ بأنّ الواضع هو الله تعالى.

سلّمنا ، لكن لا يلزم من العلم الضروريّ بأنّه تعالى هو الواضع ، العلم الضروريّ بذاته وصفاته الإيجابيّة والسلبيّة ، أقصى ما في الباب أنّه يحصل العلم به تعالى ببعض الاعتبارات ، وذلك لا يكفي في معرفته تعالى ، فيبقى التكليف بمعرفته تعالى كما كان.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّه ينافي التكليف مطلقا ، بل التكليف بمعرفته خاصّة لذلك الشخص ، ولا ينافي التكليف بسائر الأشياء.

سلّمنا ، لكن جاز أن يخلقه بعد المعرفة النظريّة.

سلّمنا ، لكن جاز أن يخلقه في غير العاقل.

وإذ قد ظهر ضعف الكلامين ، فالأقرب التوقّف ، وتجويز كلّ واحد منهما ، وإن كان التوقيف أقوى.

__________________

(١) هم أتباع عبد السلام أبي هاشم الجبائيّ المتوفّى ٣٢١ ه‍ قالوا بالموازنة ، وهي انّ الطاعة والمعصية إن تساويا تساقطا ، حتّى كأنّ صاحبهما لم يصنع شيئا ، لا خيرا ولا شرّا ، فلا يستحقّ ثوابا ولا عقابا ، وإن تفاوتا سقط الناقص وما يساويه من الزائد ، وبقي الباقي منه ، فإن كان طاعة دخل بها الجنّة وإن كان معصية دخل النار. لاحظ معجم الفرق الإسلامية لشريف يحيى الأمين : ٦٤.

١٥٨

البحث الثاني : في أنّ اللّغة لا تثبت بالقياس

اختلف الناس في ذلك : فقال القاضي أبو بكر (١) وابن سريج (٢) وجماعة من الفقهاء وأهل العربيّة : إنّها تثبت قياسا.

ونفاه أكثر الشافعيّة والحنفيّة وجماعة من الأدباء.

وليس الخلاف في أسماء الأعلام ، لأنّها غير موضوعة لمعان توجبها.

والقياس ، لا بدّ فيه من جامعة تكون علّة باعثة أو معرّفة.

وإذا قيل : هذا سيبويه ، فالمراد أنّه حافظ كتابه ، أو شبيه سيبويه ، أو محيط بعلمه.

ولا في أسماء الصفات ، لأنّها وضعت للفرق ، كالعالم المتميّز بذلك عن غيره ، ولأنّ اطّرادها واجب ، نظرا إلى تحقّق معنى الاسم ، فإنّ معنى العالم من قام به علم ، وهو متحقّق في كلّ من قام به علم.

وإطلاق اسم العالم عليه بالوضع لا بالقياس ، إذ ليس جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس ، ولا في نحو رفع الفاعل ، لأنّه ضابط كلّيّ وقانون استفيد من وضع أهل اللغة ، فلا يرفع هذا الفاعل ، قياسا على رفع ذلك الفاعل.

__________________

(١) قال الآمدي في الإحكام : ١ / ٤٤ : اختلفوا في الأسماء اللغويّة هل تثبت قياسا أم لا؟ فأثبته القاضي أبو بكر وابن سريج من أصحابنا ...

(٢) أحمد بن عمر بن سريج ، القاضي أبو العباس البغدادي أحد فقهاء الشافعية ، مات سنة ٣٠٦ ه‍ انظر الأعلام للزركلي : ١ / ١٨٥.

١٥٩

بل الخلاف إنّما هو في أسماء وضعت على مسمّياتها مستلزمة لمعان في محالّها وجودا وعدما ، وذلك مثل إطلاق اسم الخمر على النبيذ باعتبار مشاركته للمعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمّرة على العقل ، ومثل إطلاق لفظة السّارق على النّباش بواسطة مشاركته للسّارق من الأحياء في الأخذ خفية ، ومثل إطلاق اسم الزاني على اللائط بمشاركة الإيلاج المحرّم.

والحقّ أنّه لا قياس.

لنا وجوه :

الأوّل : ما سيأتي من إبطال العمل بالقياس.

الثاني : إثبات اللغة بالمحتمل.

الثالث : أنّ أهل اللّغة إن وضعوا الخمر لكلّ مسكر كان تناوله للنبيذ بالتوقيف لا بالقياس ، وإن وضعوه للمعتصر من العنب خاصّة ، كان التّجاوز إلى النبيذ على خلاف قانون اللّغة ، وإن أطلقوا احتمل كلّا منهما على التّساوي فلا يدلّ على أحدهما دون الآخر.

احتجّوا بوجوه :

الأوّل : الدّوران ، وبيانه أنّ الاسم دار مع الوصف في الأصل وجودا وعدما ، وذلك يقتضي بالعلّية ، ووجود الاسم في الفرع تبعا لوجود الوصف فيه.

الثاني : أنّ العرب إنّما سمّت بالإنسان والفرس من كان في زمانهم ، ثمّ اطّردنا نحن الاسم (١) لما وجد في زماننا ، وسلّمنا رفع الفاعل ونصب المفعول ،

__________________

(١) في «ب» : ثم طرحنا تحت الاسم.

١٦٠