نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

الحمد لله المقدّس (١) بوجوب وجوده عن الأشباه والنظائر والأحزاب ، المنزّه (٢) بقدرته عن الأصحاب والأمثال والأتراب ، الّذي عجز عن إدراك كماله بصائر أولي الألباب ، وحسرات عن الإحاطة لكنه ذاته أبصار أولي النّهى والصّواب ، ربّ الأرباب ، ومسبّب الأسباب ، ومجيب سؤال الطلّاب ، الحكيم ، الكريم ، الوهّاب ، الغفور ، الودود ، التوّاب ، المتفضّل ، المتعطّف ، الأوّاب ، منه المبدأ وإليه المآب.

الّذي وعد الثواب ، رافع منازل العلماء على غيرهم بغير شكّ ولا ارتياب ، ومفضّلهم على من عداهم بنصّ الكتاب ، جاعل قلوبهم أوعية لما يرد عنه من الخطاب ، ومرجّح مدادهم على دماء الشهداء في ميزان الحساب.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد المصطفى ، المبعوث من أشرف الأنساب ، وعلى آله الطّاهرين الأنجاب البررة الأخيار الأطياب ، صلاة تتعاقب عليهم تعاقب الأعوام (٣) والأحقاب.

أمّا بعد : فإنّ الله تعالى شرّف نوع الإنسان على غيره من المخلوقات ،

__________________

(١) في «ب» و «ج» : المتقدّس.

(٢) في «ب» و «ج» : المتنزّه.

(٣) في «ج» : بتعاقب الأعوام.

٦١

وفضّله على جميع أصناف الموجودات وأجناس الممكنات ، وأوجب عليه امتثال أوامره واجتناب معاصيه ، وحظّر عليه ارتكاب زواجره ونواهيه ، بدلائل من عنده على لسان نبيّه وعبده ، تفتقر إلى النظر والاعتبار ، وتحتاج إلى استعمال قوى الأذهان والأفكار.

وأوجب على العلماء الّذين هم ورثة الأنبياء إيضاح تلك الدلائل المشكلة وكشف المعاني المعضلة ، لتتمّ فوائدها وتحصل مقاصدها.

ولمّا كان أصول الفقه هو الباحث عن تلك الفوائد ، والمحصّل لغرر تلك الفرائد ، وجب صرف العناية إلى البحث عن مطالبه ، وإيضاح الحقّ في مآربه.

وقد صنّفنا كتبا متعدّدة من المختصرات والمطوّلات ، الجامعة لجميع النّكات ، وسأل الولد العزيز «محمّد» أسعده الله تعالى في الدّارين وأيّده بتحصيل الرئاستين ، وتكميل القوّتين ، وجعلني الله فداه من جميع ما يخشاه ، وحباه بكلّ ما يرجوه ويتمنّاه إنشاء (١) كتاب جامع لما ذكره المتقدّمون حاو لما حصّله المتأخّرون ، مع زيادة نفيسة (٢) لم يسبقنا إليها الأوّلون.

فصرفنا الهمّة إلى وضع هذا الكتاب الموسوم ب «نهاية الوصول إلى علم الأصول» مشتملا على ما طلبه وأراده ، نفعه الله تعالى بما فيه ، وزاده بمنّه وكرمه.

وقد رتّبناه على مقاصد معتمدين على واجب الوجود ، إنّه (٣) خير موفّق ومعين.

* * *

__________________

(١) مفعول لقوله «وسأل الولد ...».

(٢) في «ب» : مع زيادات بيّنة.

(٣) في «ج» : وإنّه.

٦٢

المقصد الأوّل : في المقدّمات

وفيه فصول :

[الفصل] الأوّل

في ماهيّة هذا العلم

يجب على كلّ طالب أمر أن يكون متصوّرا له إمّا إجمالا أو تفصيلا ، وفائدة مطلوبه ليخرج عن العبث ، ولمّا كان أصول الفقه مركّبا ، ومعرفة المركّب مسبوقة بمعرفة الأجزاء لا من كلّ وجه بل من الوجه الّذي لأجله وقع فيه التركيب ، وجب معرفة هذين المفردين (١) أوّلا.

لا يقال : إن أردت معرفة المركّب بالحقيقية افتقر إلى معرفة الأجزاء كذلك ، ولم يكف من حيث التركيب ، وإن أردت معرفته باعتبار ما ، لم يستلزم معرفة الأجزاء من حيث التركيب.

لأنّا نقول : المراد معرفة المركّب من حيث التركيب.

فالأصل ما يستند إليه ، والمراد هنا الأدلّة ، لاستناد الفقه إليها.

__________________

(١) في «أ» : هذين الفردين.

٦٣

والفقه لغة الفهم وهو العلم.

وقيل (١) بالمغايرة ، فإنّ الفهم جودة الذّهن من حيث استعداده لاكتساب المطالب وإن كان المتّصف به جاهلا ، كالعامي الفطن.

واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعيّة العمليّة المستدلّ على أعيانها ، بحيث لا يعلم كونها من الدّين ضرورة.

فالعلم جنس ، وسيأتي تحقيقه ، وخرج بقولنا «الأحكام» الذوات والصفات الحقيقية ، وبقولنا «الشرعية» الأحكام العقليّة ، كالتماثل والاختلاف ، والحسن والقبح ، وبقولنا «العمليّة» كون الإجماع أو خبر الواحد أو الاستصحاب حجّة ، فإنّها أحكام شرعيّة لكنّها لا تتعلّق بعمل ، و «بالمستدلّ على أعيانها» علم المقلّد بكثير من الأحكام ، حيث علم أنّ المفتي أفتاه وأنّ ما أفتاه به فهو حكم الله تعالى في حقّه ، مع أنّ علومه ليست فقها ، حيث لم يكن مستدلّا على أعيانها ، و [خرج] علم واجب الوجود تعالى ، وعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بها والملائكة عليهم‌السلام ، وبقولنا «بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة» العلم بأصول العبادات ، كالعلم بوجوب الصّلاة والزّكاة والصّوم ، فإنّها لا تسمّى فقها ، لأنّها معلومة من الدين ضرورة.

وقيل : هو العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة بالاستدلال. (٢)

لا يقال : الفقه من باب الظنون فكيف جعلتم جنسه العلم ، ولأنّ المراد

__________________

(١) القائل هو علي بن محمد الآمدي المتوفّى ٦٣١ ه‍ في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» : ١ / ٢٢.

(٢) القائل هو أبو عمرو عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب في كتابه «منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل» : ٣.

٦٤

إن كان جميع الأحكام لم ينعكس ، فإنّ أكثر الفقهاء لا يحيطون بجميع الأحكام ، وقد سئل «مالك» (١) عن أربعين مسألة فقال في ستّة وثلاثين منها : لا أدري (٢).

وإن كان البعض لم يطّرد ، فإنّ المقلّد يعرف بعض الأحكام وليس بفقيه.

لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّ المجتهد إذا غلب على ظنّه ثبوت الحكم بدليل ظنّي كخبر الواحد وشبهه قطع بوجوب العمل بظنّه ، فالحكم معلوم والظنّ وقع في طريقه.

لا يقال : إذا كانت إحدى مقدّمات الدّليل ظنيّة كان ظنّيا.

لأنّا نقول : هنا مقدّمتان قطعيّتان إحداهما أنّ الحكم مظنون ، وهي وجدانيّة ، والثانية وجوب العلم بالظّنّ ، وهي إجماعيّة ، فيحصل القطع بالحكم.

وعن الثاني أنّ المراد الجميع ، وينعكس ، إذ المراد العلم بالفعل بأكثر الأحكام بحيث يقدر على استخراج ما يرد عليه ممّا ليس حاضرا عنده إمّا بالقوّة أو الفعل ، ويطّرد ، فإنّ المقلّد لا يعلم عن استدلال تفصيليّ على ما علمه.

واحترز بعضهم (٣) في الحدّ فقال : العلم بجملة غالبة من الأحكام.

وهو خطأ ، لعدم الضبط.

__________________

(١) مالك بن أنس الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنّة ، المتوفّى ١٧٩ ه‍ ، وإليه تنسب المالكية.

(٢) لاحظ نهاية السئول في شرح منهاج الأصول : ١ / ٢٥ وإليك نصّه : «وقد ثبت أنّ «مالكا» سئل عن أربعين مسألة ، فأجاب عن أربع ، وقال في ستّ وثلاثين : لا أدري» وذكره أيضا عبد الوهاب بن عليّ السّبكي في «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب» : ١ / ٢٤٥.

(٣) وهو عليّ بن محمد الآمدي في «الإحكام في أصول الأحكام» : ١ / ١٤٨.

٦٥

وإذا عرفت (١) معنى كلّ واحد منهما فنقول : إضافة اسم المعنى إلى المفرد تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الّذي عيّنت له لفظة المضاف ، كما تقول : مكتوب زيد ، فأصول الفقه مجموع طرق الفقه.

واحدّه اصطلاحا : العلم بالقواعد الّتي هي مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال ، وكيفيّة الاستدلال بها وكيفيّة حال المستدلّ بها ، فالمجموع احتراز عن الباب الواحد منه ، فإنّه وإن كان من أصول الفقه ، لكنّه ليس هو هو ، لوجوب المغايرة بين الشيء وجزئه ، ويشتمل الطّرق والأدلّة والأمارات.

والمراد بالإجمال : بيان كون تلك الأدلّة أدلّة ، كما يستدلّ على أنّ الخبر دليل ، أمّا على وجوده في مسألة مسألة ، فذلك لا يذكر في أصول الفقه.

وأردنا بكيفيّة الاستدلال بها ، شرائط تلك الطّرق.

وأردنا بكيفيّة حال المستدلّ ، اجتهاد العالم وتقليد العامي.

وقيل (٢) : العلم بالقواعد الّتي تتوصّل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة.

__________________

(١) في «أ» و «ب» : وإذ قد عرفت.

(٢) القائل هو عثمان بن عمرو المعروف «بابن الحاجب» المتوفّى ٦٤٦ ه‍ في كتابه «منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل» ص ٣ ، الطبعة الأولى ١٤٠٥ ه‍.

٦٦

الفصل الثاني

في غايته وبيان موضوعه

اعلم أنّه قد يراد الشيء لذاته ، فتكون غايته هي ذاته ، وقد يراد لغيره ، فغايته ذلك الغير ، ثمّ ذلك الغير قد يراد الثالث وهكذا إلى أن ينتهي إلى المراد لذاته.

ولمّا كان الغرض من الفقه نيل السعادة الاخرويّة ، والخلاص من العقاب بسبب امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه ، كان ذلك غاية في علم الفقه.

ولمّا توقّف علم الفقه على هذا العلم ، كان علم الفقه غاية لهذا العلم ، فعلم الفقه أدخل في الغاية الذاتيّة من هذا.

وغاية هذا ، الوصول إلى استعلام الأحكام الشرعيّة الّتي هي سبب السّعادة والخلاص عن الشقاوة ، ولا استبعاد في أن يكون علم ما (هو) (١) غاية لآخر ، كما لا بعد في كونه آلة له.

واعلم أنّ كلّ علم لا بدّ له من موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة الّتي تلحقه لذاته أو لجزئه أو لعرض مساو لازم لذاته.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في «ب».

٦٧

ولمّا كان هذا العلم باحثا عن الأحوال (١) العارضة للأدلّة الموصلة إلى الأحكام الشرعيّة وأقسامها ، وكيفيّة استنباط الأحكام منها على سبيل الإجمال ، كالعموم ، والخصوص ، والأوامر ، والنواهي ، والنسخ ، والمجمل ، وغير ذلك من العوارض الذاتيّة للأدلّة الموصلة إلى الأحكام ، لا جرم كان موضوع هذا العلم ، هو لأدلّة الخاصّة من تلك الحيثيّة.

__________________

(١) في «ب» : عن الأصول.

٦٨

الفصل الثالث

في مبادئه

كلّ علم على الإطلاق فلا بدّ له من مسائل يبحث عنها فيه ومن مباد لتلك المسائل ، وهي قسمان : تصوّرات وتصديقات.

فالمبادئ التصوريّة هي الحدود ، وهي إمّا حدّ الموضوع ، أو حدّ أجزائه ، أو حدّ جزئيّاته إن كانت ، أو حدود أعراضه الذاتية.

وأمّا المبادئ التصديقيّة فهي المقدّمات الّتي يتوقّف ذلك العلم عليها ، وهي مسائل من علم آخر ، أو معلومة بالضرورة.

فالمبادئ التصوريّة هاهنا (١) هي معرفة الأحكام الشرعيّة ، فإنّ الناظر في هذا العلم إنّما ينظر في أدلّة الأحكام الشرعيّة ، فيجب أن يكون متصوّرا لتلك الأحكام.

ولا يجوز أن يكون إثباتها من جملة المبادئ وإلّا لزم الدّور.

وأمّا المبادئ التصديقيّة له فمن الكلام والعربيّة.

أمّا الكلام ، فلأنّ (٢) هذا العلم باحث عن طرق الأحكام الشرعيّة ،

__________________

(١) في «أ» و «ب» : هنا.

(٢) في «ب» : فانّ.

٦٩

فيتوقّف (١) على وجودها المتوقّف على معرفة الشارع وإثباته ، ومعرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز.

وأمّا العربيّة فلأنّ الأدلّة عربيّة لاسناد أكثرها إلى الكتاب والسنّة.

ونحن نذكر تفاصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في «ب» : فله توقّف.

٧٠

الفصل الرابع

في مرتبته ونسبته إلى غيره من العلوم

اعلم أنّ من العلوم (١) ما يحتاج إليه في معرفة كيفيّة العمل الدّيني ، ومنها ما ليس كذلك ، كالحساب ، والهندسة ، والطّبّ وغيرها ، وغرضنا الآن متعلّق الأوّل ، كالكلام ، والفقه ، وأصوله ، ومعرفة الحديث ، والتفسير.

وهذه العلوم الدّينيّة منها كليّة ، وهو الكلام لا غير ، فإنّه الباحث عن الوجود الّذي هو أعمّ من كلّ موضوع ، فهو كلّيّ بالنسبة إلى كلّ علم ، فإنّه يقسم الموجود (٢) أوّلا : إلى قديم ومحدث ، ويقسم المحدث إلى جوهر وعرض ، ثمّ يقسم العرض إلى ما يفتقر إلى الحياة وإلى ما ليس كذلك.

ثمّ ينظر في القديم فيثبت واحدته وعدم تكثّره ، ونفي القسمة عنه ، وما يجوز عليه ويستحيل ، وأفعاله ، والألطاف ، والتكاليف ، والأعواض ، ويثبت الرسل وصدقهم وعصمتهم ، والأئمّة عليهم‌السلام ، والمعاد ، وهناك ينقطع البحث في الكلام.

ومنها جزئيّة ، كالفقه الناظر فيه صاحبه في أحكام أفعال المكلّفين خاصّة.

__________________

(١) هكذا في «أ» و «ج» ولكن في «ب» : العلوم منها.

(٢) في «ب» : الوجود.

٧١

والأصول (١) الباحثة عن أحكام الأدلّة الشرعية خاصّة.

والتفسير الباحث عن معاني الكتاب خاصّة.

وعلم الحديث الباحث عن طريق الحديث خاصّة.

وفي علم الكلام يبيّن (٢) مبادئ العلوم الجزئيّة ، فيأخذ المفسّر من جملة ما نظر فيه [المتكلّم] واحدا خاصّا ، وهو الكتاب ، فينظر فيه.

ويأخذ المحدّث واحدا خاصّا ، وهو السنّة.

ويأخذ الفقيه واحدا خاصّا ، وهو فعل المكلّف ، فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الأحكام الخمسة.

ويأخذ الأصولي واحدا خاصّا ، وهو قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الّذي برهن (٣) المتكلّم على صدقه ، فينظر فيه من حيث دلالته على الأحكام الخمسة ، إمّا من جهة المنطوق ، أو المفهوم ، أو فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٤)

ومدار البحث الأصولي قول الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله ، فإنّ الكتاب إنّما يؤخذ منه (٥) والإجماع يثبت بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقول الرّسول إنّما يثبت كونه حجّة في علم الكلام.

فإذا علم الكلام هو العلم الأعلى ، ومنه ينزل البحث (٦) إلى العلوم الدينيّة.

__________________

(١) في «ب» : وعلم الأصول.

(٢) في «ب» : يتبيّن.

(٣) في «ب» : يبرهن.

(٤) في «ب» : أو فعله عليه.

(٥) في «أ» و «ج» : إنّما سمعه منه.

(٦) في «أ» و «ج» : ومنه نزل الباحث.

٧٢

وعلم الكلام شرط في كون العالم متّسما (١) بالعلوم الدينيّة ، إذ مبادئها منه تؤخذ ، وليس شرطا في كون الأصوليّ أصوليّا ، أو كون الفقيه أو المفسّر أو المحدّث فقيها أو مفسّرا أو محدّثا ، فإنّ الفقيه إنّما ينظر في نسبة فعل المكلّف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه ، ولا يجب عليه الردّ على المجبرة ، وإثبات الأفعال الاختياريّة للمكلّف ، ولا وجود الأعراض ، فقد شكّ قوم في وجودها ، والفعل عرض ، ولا إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع وكيفيّة كلامه ، بل يأخذ جميع ذلك مسلّما في علمه مقلّدا فيه.

وكذا الأصولي يتقلّد من المتكلّم صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ قوله حجّة ، ثمّ ينظر في وجوه دلالة أقواله.

واعلم أنّه لمّا كان ذو المبدأ متأخّرا عن مبدئه ، وجب تأخّر هذا العلم عن علم الكلام ، واللّغة ، والنّحو ، لا عن الجميع بل عمّا يتوقّف عليه خاصّة ، وكذا لا يجب تأخّر جميع هذا الفنّ ، بل ما يتوقّف منه خاصّة.

__________________

(١) في «أ» : في كون العالم عالما.

٧٣

الفصل الخامس

في وجوب معرفته

قد ثبت في علم الكلام وجوب التكليف فتجب معرفته ، وإنّما يتمّ بهذا العلم ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به يكون واجبا ، فتكون معرفة هذا العلم واجبة.

وسيظهر لك إن شاء الله تعالى في هذا الفن أنّ الواجب قسمان :

أحدهما على الأعيان.

والثاني على الكفاية.

وهذا الواجب من قبيل القسم الثاني ، لأنّ ما وجب هذا العلم لأجله وهو الفقه ، إنّما يجب على هذا الحدّ ، فيستحيل في الحكمة إيجاب هذا على الأعيان.

٧٤

الفصل السّادس

في مصادر (١) يذكر تعريفها هنا للحاجة إليها

اعلم أنّ أصول الفقه لمّا كان باحثا عن أدلّة الأحكام ، وكان الكلام فيها يحوج إلى معرفة الدليل ، وانقسامه إلى ما يكون النظر فيه يفيد العلم أو الظنّ ، وجب تعريف هذه الأشياء ، فما هو بيّن الثبوت منها ، استغنى عن الحجّة في إثباته ، وما لم يكن بيّنا وجب أن يحال بيانه إلى العلم الكلي الفوقاني الناظر في الوجود ولواحقه.

فها هنا مباحث :

[المبحث] الأوّل : في أنّ العلم هل يحدّ أم لا (٢)

اختلف الناس هنا فذهب أكثر المحقّقين إلى انّه غنيّ عن التعريف ، لأنّه من الكيفيّات النّفسانيّة الّتي يحدّها كلّ عاقل كالفرح والشّبع وغيرهما.

واستدلّ بعض المتأخّرين عليه بأنّ ما عدا العلم لا ينكشف إلّا به ، فيستحيل أن يكون غيره كاشفا عنه ، وإلّا لزم الدّور ولأنّي أعلم بالضرورة كوني عالما بوجودي ، وتصوّر مطلق العلم جزء منه ، وجزء البديهيّ بديهيّ.

__________________

(١) المراد : المبادئ.

(٢) لاحظ الأقوال وما قيل فيها من النقض والإبرام في الإحكام للآمدي : ١ / ١٤ ؛ ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٢٥٦ ـ ٢٦٥ ، قسم المتن.

٧٥

واعترض على الأوّل : بأنّ المطلوب من حدّ العلم هو العلم بالعلم ، وما عدا العلم ينكشف بالعلم ، لا بالعلم بالعلم ، وليس بمحال أن يكون هو كاشفا عن غيره ، وغيره كاشفا عن العلم به ، بأن توقّف تصوّر غير العلم على حصول العلم بغيره لا على تصوّره ، فلا دور.

وبأنّ جهة توقّف غير العلم على العلم من جهة كون العلم إدراكا له ، وتوقّف العلم على الغير لا من جهة كون ذلك الغير إدراكا للعلم ، بل من جهة كونه صفة مميّزة له عمّا سواه ، فاختلف منه جهة التوقّف فلا دور.

وعلى الثّاني : بأنّه لا يلزم من حصول أمر ، تصوّره أو تقدّم تصوّره ، وبأنّ تصوّرات القضايا البديهيّة ، جاز أن تكون كسبيّة.

وفيه نظر ، فإنّ حدّ العلم من جملة ما يندرج تحت ما عدا العلم ، فهو إنّما يعلم بالعلم ، لكنّ العلم يعلم به فيدور ، وحصول العلم لا يريد به الحصول الخارجي بل الذهني ، وهو عين التصوّر وبه يبطل ما بعده.

وقيل : إنّه كسبيّ يفتقر إلى التحديد.

واستدلّ بعض المتأخرين بأنّه لو كان ضروريّا لكان بسيطا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّه لو كان مركّبا لتوقّف العلم به على معرفة أجزائه ، والجزء مغاير للكلّ ، والمتوقّف على غيره مكتسب.

وبيان بطلان التالي : أنّه لو كان بسيطا لزم أن يكون كلّ معنى علما ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدّم مثله.

٧٦

بيان الشرطية : أنّه حينئذ يكون مساويا للوجود والشيئيّة ، إذ لو كان أخصّ منهما لكان مركّبا من العام وقيد الخصوصيّة ، وإذا كان مساويا لهما ، وجب صدقه على كلّ ما صدق عليه.

وهذا في غاية السقوط ، فإنّه ليس كلّ متوقّف على غيره بمكتسب ، بل المتوقّف على طلب وكسب ، ولا يلزم من كون الشيء أخصّ من غيره تركيبه (١) من ذلك العامّ ومن قيد الخصوصيّة ، إذ لو كان كذلك لزم نفي البسائط فتنتفي المركّبات.

المبحث الثاني : في حدّه

اختلف القائلون بتحديد العلم في حدّه ، فقال «أبو الحسن الأشعري (٢)» : العلم ما يوجب لمن قام به كونه عالما (٣).

وهو خطأ ، فإنّ المشتقّ إنّما يعلم بعد معرفة المشتقّ منه ، فلو استفيد معرفته من المشتقّ دار.

وفيه نظر ، إذ لا تجب معرفة المشتقّ منه معرفة تامّة ، والحدّ كاسب للكمال.

وقال بعض الأشاعرة : العلم تبيّن المعلوم على ما هو به. (٤)

__________________

(١) في «ج» : تركّبه.

(٢) هو علي بن اسماعيل شيخ أهل السنّة والجماعة إمام الأشاعرة ، المتوفّى ٣٢٤ ه‍.

(٣) لاحظ «المنخول من تعليقات الأصول» ص ٩٤ تأليف محمد بن محمد الغزالي المتوفّى ٥٠٥ ه‍ ، ولاحظ البرهان في أصول الفقه للجويني : ١ / ٩٧.

(٤) لاحظ البرهان في أصول الفقه : ١ / ٩٧.

٧٧

ويرد عليه الأوّل ، وينتقض بعلم الله تعالى ، فإنّ التّبيين يشعر بوضوح الشيء بعد اشكاله.

وقال الأستاذ أبو بكر (١) : العلم ما يصحّ من المتّصف به إحكام الفعل وإتقانه. (٢)

وهو خطأ ، فإنّه حدّ لعلم خاصّ هو المتعلّق بالعمل.

قال «الجويني (٣)» : ويلزم منه إدراج القدرة في حدّه ، فإنّ العلم لا يتأتّى به الإحكام دون القدرة. (٤)

وفيه نظر.

وقال «المعتزلة» : العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع طمأنينة النفس.

وينتقض باعتقاد المقلّد للحقّ ، ويخرج عنه العلم بالمعدوم ، وليس بشيء.

وقال «القاضي (٥)» : العلم معرفة المعلوم على ما هو به. واعتذر عن أنّ المعرفة هي العلم بأنّ الحدّ هو المحدود بعينه.

وهو خطأ إمّا أوّلا فللزوم الدّور ، وإمّا ثانيا فلأنّ المعرفة والعلم لفظان

__________________

(١) هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني ، المعروف بالأستاذ ، من فقهاء الشافعية ، درس ببغداد والبصرة ، وفي النجوم الزاهرة : قتله محمود بن سبكتكين بالسمّ ، لقوله : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولا في حياته فقط ، وانّ روحه قد بطل وتلاشى ، مات سنة ٤٠٦ ه‍. لاحظ الاعلام للزركلي : ٦ / ٨٣ ؛ وموسوعة طبقات الفقهاء : ٥ / ٢٨٣.

(٢) نقله عنه الجويني في البرهان في أصول الفقه : ١ / ٩٨.

(٣) إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله المعروف بالجويني المتوفّى ٤٧٨ ه‍ قاله في كتابه «البرهان في أصول الفقه» : ١ / ٩٨.

(٤) لاحظ البرهان : ١ / ٩٨.

(٥) هو أبو بكر محمد بن الطيب المعروف بابن الباقلاني المتوفّى ٤٠٣ ه‍ قاله في كتابه «التقريب والإرشاد الصغير» : ١ / ١٧٤.

٧٨

مترادفان لمعنى واحد ، بخلاف الحدّ والمحدود.

وقال «السيّد المرتضى» : العلم ما اقتضى سكون النفس. (١)

وينتقض بالاعتقاد.

وقال «الغزالي (٢)» : الأشياء الظاهرة يعسر تحديدها ، وإنّما نشرح معناها بتقسيم ومثال :

أمّا الأوّل فهو أن نميّزه عمّا يلتبس به ، وظاهر تميّزه عن الإرادة ، والقدرة ، وصفات النفس ، وإنّما يلتبس بالاعتقاد ، وظاهر تميّزه عن الشكّ والظنّ ، لانتفاء الجزم فيهما.

فالعلم عبارة عن أمر جزم لا تردّد فيه ولا تجويز ، ولا يخفى تميّزه عن الجهل ، فإنّه متعلّق بالمجهول على خلاف ما هو به ، والعلم مطابق [للمعلوم] وربما يلتبس باعتقاد المقلّد للحقّ ويتميّز عنه ، بأنّ معنى الاعتقاد السبق إلى أحد معتقدي الشاكّ مع الوقوف عليه من غير إخطار نقيضه بالبال ، وهو إن وافق المعتقد فهو جنس للجهل في نفسه ، وإن خالفه بالإضافة.

فإنّ معتقد كون زيد في الدار لو قدّر استمراره عليه حتّى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان (٣) لم يتغيّر في نفسه ، وإنّما تغيّرت إضافته ، فإنّه طابق [المعتقد] وقتا وخالف آخر.

وأمّا العلم فيستحيل تقدير بقائه مع تغيّر المعلوم ، والاعتقاد عقدة على القلب ، والعلم انحلال العقد ، وكشف وانشراح ، فهما مختلفان ، ولهذا لو أصغى المعتقد إلى المشكّك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه ، والعالم لا يجد ذلك

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٢٠.

(٢) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي المتوفّى ٥٠٥ ه‍ نقل المصنّف كلامه ملخّصا ، لاحظ المستصفى من علم الأصول : ١ / ٦٧.

(٣) في «ب» و «ج» : وكما كان.

٧٩

في نفسه وإن أصغى إلى الشّبهة المشكّكة ، فإن لم يعرف حلّها لم يشكّ في بطلانها.

وأمّا المثال فهو أنّ إدراك البصيرة الباطنة يفهم بالمقايسة بالبصر الظاهر ، فإنّ معناه الانطباع ، وكذا العقل تنطبع فيه صور المعقولات.

وهذا المسلك أخذه من الجويني (١) ، وهو على طوله رجوع إلى تحديده بمقابلاته ، وفيه زيادة إخفاء (٢).

وقال بعض المتأخّرين (٣) : انّه صفة يحصل بها لنفس المتّصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكليّة حصولا لا يتطرّق إلى احتمال نقيضه.

فالصفة جنس وحصول التمييز ، بها احتراز عن الحياة وما اشترط بها ، وحقائق الكليّات احتراز عن الإدراك المميّز بين المحسوسات الجزئية دون الكلية.

وعلى قول أبي الحسن (٤) انّ الإدراك نوع من العلم ، لا يفتقر إلى التمييز بالكليّ.

وأورد [عليه] بالعلوم العاديّة ، فإنّها تستلزم جواز النقيض عقلا.

وأجيب بأنّ الجبل حال العلم العادي بأنّه حجر يستحيل أن يكون ذهبا حينئذ ، (٥) وهو المراد.

__________________

(١) لاحظ البرهان في أصول الفقه : ١ / ١٠٠.

(٢) كذا في النسخ الّتي بأيدينا ولعلّ الصحيح «زيادة الخفاء».

(٣) ولعلّه عثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب قال : «وأصحّ الحدود : صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض» لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٢٦٥ ، قسم المتن.

(٤) وهو أبو الحسن الأشعري.

(٥) في «ج» : ذهبا حقيقة.

٨٠