نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

الخامس : الحسن ما أذن فيه شرعا ، فيخرج أفعاله تعالى.

ولو قيل : ما يصحّ من فاعله أن يعلم أنّه غير ممنوع عنه شرعا ، خرج فعل النائم والبهائم ، ويدخل فيه فعله تعالى ، وسيأتي تتمّة البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.

المبحث الثالث :

الخطاب كما يرد بالحكم الّذي يكون منقسما إلى الاقتضاء والتّخيير ، فكذا يرد بالحكم الّذي ينقسم إلى السّببية ، والشرطية والمانعيّة ، فهاهنا مطالب :

[المطلب] الأوّل : [في] السّبب

والسّبب يطلق في اللغة على ما يمكن التوصّل به إلى مقصود ما ، ولهذا يسمى الحبل سببا ، والطريق سببا ، لما أمكن التوصّل بهما إلى المقصود.

وفي الشرع هو الوصف الظاهر المنضبط الّذي دلّ الدليل السمعي على كونه معرّفا لحكم شرعيّ.

وينقسم إلى ما يستلزم في تعريفه للحكم حكمة باعثة عليه ، كجعل زوال الشمس أمارة على وجوب الصلاة ، وطلوع الهلال أمارة على وجوب الصوم ، وإلى ما لا يستلزم كالشدّة المطربة المعرّفة لتحريم شرب النبيذ ، لا لتحريم الخمر ، فإنّ تحريمه معلوم بالنص والإجماع لا بالشدة ، وإلّا لزم الدور ، إذ لا يعرف كونها علّة بالاستنباط إلّا بعد معرفة الحكم في الأصل.

١٠١

وعلى هذا فالحكم الشرعيّ ليس هو نفس الوصف المجعول سببا ، بل جعله سببا ، فكلّ واقعة (١) عرف الحكم فيها بالسّبب لا بدليل آخر ، فلله تعالى فيها حكمان : أحدهما الحكم المعرّف بالسبب ، والآخر السببيّة المحكوم بها على الوصف المعرّف للحكم ، فلله تعالى في الزاني حكمان : وجوب الحدّ عليه ، وجعل الزّنا سببا لوجوب الحدّ ، فإنّ الزنا لا يوجب الحدّ بعينه ، بل بجعل الشارع.

والفائدة في نصب الأوصاف وجعلها أسبابا معرّفات للحكم عسر وقوف المكلّفين على خطاب الشارع في كلّ واقعة من الوقائع بعد انقطاع الوحي ، فأظهر الله تعالى خطابه لخلقه بأمور حسيّة نصبها أسبابا لأحكامه ، وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على نحو اقتضاء العلة الحسيّة معلولها لئلّا تخلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية ، سواء تكرّر الحكم بتكرّر السّبب كما تقدّم ، أو لا كالحجّ مع الاستطاعة ، والإيمان مع نصب الادلّة ، وإنّما لم يتكرّر لأنّ السبب واحد فلم يجب الحجّ إلّا مرّة واحدة والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت.

واسباب الغرامات والكفّارات والعقوبات ظاهرة ، وقسم المعاملات ظاهر أسبابها ، فلحل المال والنكاح وحرمتها العقود والطلاق.

واعترض (٢) بأنّ المراد من جعل الشارع الزنا سببا للحدّ إن كان عبارة عن الإعلام بإيجاب الحدّ عنه فهو حقّ ، لكنّه يرجع إلى المعرّف ، وإن كان عبارة عن جعل الزنا مؤثّرا في هذا الحكم فهو باطل [بوجوه].

__________________

(١) في «ج» : لكلّ واقعة.

(٢) المعترض هو الرازي في المحصول : ١ / ٢٤.

١٠٢

أمّا أوّلا فلأنّ حكمه تعالى عند الأشاعرة كلامه ، وكلامه عندهم قديم ، فلا يعلل بالمحدّث.

[وثانيا] فلأنّه بعد جعل الزنا مؤثّرا ، إن بقي الزنا كما كان ولم يكن مؤثّرا فكذا بعده ، وإلّا لكان إعداما له ، فلا يكون مؤثّرا بعد عدمه.

[وثالثا] فلأنّ الشرع بعد الجعل ، إن لم يصدر عنه أمر استحال أن يقال : إنّه جعله علّة ، وإن صدر فإن كان هو الحكم فالمؤثّر فيه هو الشارع لا الوصف ، وإن كان علّته كان المؤثّر في الحكم وصفا حقيقيّا ، وهو قول المعتزلة ، وإن لم يكن الحكم ولا ما يوجبه لم يكن له تعلّق بالحكم البتّة.

[ورابعا] فلأنّه لو كانت السببيّة حكما شرعيّا ، افتقرت في معرفتها إلى سبب آخر فتسلسل.

[وخامسا] فلأنّ الوصف المعرّف للحكم إمّا أن يعرّفه بنفسه ، فيكون معرّفا قبل ورود الشرع ، أو بصفة زائدة ، ويتسلسل ، إذ الكلام في تلك الصفة كالكلام في الأوّل.

[وسادسا] فلأنّ الطريق المعرّف لسببيّة الوصف إنّما هو الحكمة المستدعية للحكم ، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة ، وذلك ممتنع ، إذ لو كانت [الحكمة] معرّفة لحكم السّببية ، لأمكن تعريف الحكم المسبب بها.

[وسابعا] فلأنّ الحكمة إن كانت قديمة لزم قدم موجبها ، وهو معرفة السببيّة ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى معرّف آخر لخفائها ، ويعود التقسيم.

والجواب : المراد جعل الزنا سببا لتعلّق الحكم به.

١٠٣

وليس بجيّد ، فإنّ الحكم إضافيّ لا يعقل إلّا متعلّقا فلا يعقل تعلّقه مع قدمه بالحادث ، كما لا تعلّل ذاته بالحادث ، وجاز بقاء حقيقة الزنا كما كانت لكن بحدوث صفة المؤثريّة.

وفيه نظر ، فإنّ الحقيقة إذا لم توجب أوّلا ، فالمطلوب وهو أنّها بعد الجعل إن أثّرت فليست هي ، وإلّا لم تكن سببا ، والصادر عن الشارع المؤثريّة ، وهي مغايرة للحكم والعلّيّة ولها تعلّق بالحكم ، وليس بجيّد ، فإنّ المؤثريّة إنّما تستند إلى المؤثّر ، ومعرفة السببيّة تستند إلى الخطاب أو إلى الحكمة الملازمة للوصف مع اقتران الحكم بها في صورة ، فلا تستدعي سببا آخر يعرّفها حتّى يلزم التسلسل ، وبه يندفع ما بعده وليس بجيّد ، فإنّ السبب حينئذ يساوي الحكم في الاستناد إلى الخطاب ، فافتقار أحدهما يقتضي افتقار الآخر ، والحكمة كما لا تعرّف الحكم لخفائها ، كذا لا تعرّف السّببية.

والحكمة المعرّفة للسّببيّة حكمة مضبوطة بالوصف المقترن بالحكم ، (١) لا مطلق الحكم ، فإنّها إذا كانت خفيّة غير مضبوطة بنفسها ولا بملزومها من الوصف ، لم يكن تعريف الحكم بها لاضطرابها واختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان.

وعادة الشرع في مثل ذلك ردّ المكلّفين إلى المظانّ الظاهرة المنضبطة المستلزمة لاحتمال الحكمة دفعا للمشقّة والحرج ، كما في التقصير المستند إلى المسافة الّتي هي مظنّة المشقّة ، ولم يستند الحكم إلى المشقّة لعدم ضبطها.

وليس بجيّد ، لأنّ مطلق الحكمة إن جاز تعليل السّببية جاز تعليل الحكم

__________________

(١) في «ب» : للحكمة.

١٠٤

به ، وإن كانت حكمة خاصّة افتقرت إلى ضابط آخر ويتسلسل.

والحكمة إذا كانت مضبوطة بالوصف فهي معروفة (١) بنفسها غير مفتقرة إلى معرّف آخر.

ولا يلزم من تقدّمها على ورود الشرع أن تكون معرّفة للسببيّة ، لتوقّف ذلك على اعتبارها في نظر الشّرع ، وقبل وروده لا اعتبار بها.

وليس بجيّد ، لأنّ المعرّف حينئذ للسببيّة المجموع منها ومن اعتبار الشّرع.

__________________

(١) في «ب» : فهي معرّفة.

١٠٥

المطلب الثاني : في المانع

المانع من الأمور الإضافيّة الّتي لا يعقل إلّا بالقياس إلى غيرها ، وإنّما يضاف إلى ما يقتضي شيئا ، فيكون مانعا لذلك عن الاقتضاء.

ولمّا كان الاقتضاء يتعلّق بالسبب والحكم الّذي هو معلوله ، كان المانع منقسما إلى أمرين :

أحدهما مانع السّبب ، وهو كلّ وصف يخلّ وجوده بحكمة (١) السبب كالدّين في باب الزكاة مع ملك النصاب.

والثاني مانع الحكم وهو كلّ وصف وجوديّ ظاهر منضبط مستلزم لحكمة تقتضي نقيض حكم السّبب ، مع بقاء حكم السبب ، كالأبوّة المانعة من القصاص مع القتل العمد العدوان.

المطلب الثالث : في الشرط

الشرط هو ما يكون وجود الغير أو تأثيره متوقّفا عليه من غير أن يكون له مدخل في التأثير ، فخرج عنه العلّة وجزؤها ، ولا يلزم من وجوده وجود الشرط ، بل يلزم من عدمه على ما يأتي تحقيقه.

فإن كان عدمه مخلّا بحكمة السّبب فهو شرط السبب كالقدرة على التسليم في باب البيع ، وما كان عدمه مشتملا على حكمة مقتضاها نقيض حكم

__________________

(١) في «ب» و «ج» : بحكم السبب.

١٠٦

المسبب مع بقاء حكمة السبب فهو شرط الحكم ، كعدم الطّهارة في الصّلاة مع الإتيان بمسمّى الصّلاة ، وحكم الشّارع ليس بالوصف المحكوم عليه بالشرطية والمانعيّة ، بل كون الوصف مانعا أو شرطا.

المبحث الرابع : في الصحّة والبطلان والإجزاء

الحكم قد يكون حكما بالصحّة ، وقد يكون حكما بالبطلان ، وهما عارضان للأفعال الّتي يمكن وقوعها على الوجهين ، فالصحّة قد يطلق في العبادات ، وقد يطلق في المعاملات.

وإطلاقها في العبادات مختلف ، فالمتكلّمون عنوا بصحّتها كونها موافقة للشريعة سواء وجب القضاء أو لا.

والفقهاء عنوا بصحّتها ما أسقط القضاء.

ويظهر الخلاف في صلاة من ظنّ أنّه متطهّر ، فعند المتكلّمين أنّها صحيحة ، لأنّها موافقة للأمر ، والقضاء وجب بأمر متجدّد ، وفاسدة عند الفقهاء ، لأنّها لا تسقط القضاء. (١)

وليس بجيّد ، فإنّك إن أردت بكونه مأمورا في نفس الأمر فنمنع ذلك ، وإن أردت به ظاهرا فنمنع كون الصحّة ذلك ، ويشكل على الفقهاء ما لا قضاء له كالعيد ، وما له قضاء مع صحّته كصلاة فاقد المطهّر.

وأمّا في العقود فكون العقد صحيحا ترتّب أثره عليه وحصول غايته منه.

__________________

(١) كذا قال الرازي في محصوله : ١ / ٢٦ ، وتنظّر فيه المصنّف.

١٠٧

ولو فسّرت الصّحة في العبادات بذلك أمكن ، ولو فسّرت صحّة العقد بإذن الشارع في الانتفاع بالمعقود عليه أمكن.

وأمّا الباطل فهو ما يقابل الصحّة فيهما ، ففي العبادات كونها غير موافقة لأمر الشارع ، أو غير مسقطة للقضاء ، وفي العقود هو الّذي لا يترتّب عليه أثره ، وهو يرادف الفاسد في المشهور.

خلافا للحنفيّة ، فإنّهم فرّقوا بينهما ، وجعلوه متوسّطا بين الصّحيح والباطل ، فإنّ العقد إن كان مفيدا للحكم مشروعا بأصله وصفته فصحيح وإن لم يكن مفيدا وهو غير مشروع بأصله ووصفه فصحيح ، وإن لم يكن مفيدا وهو غير مشروع بأصله ووصفه فباطل.

وإن كان مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه كعقد الرّبا ، فإنّه مشروع من حيث إنّه عقد بيع ، وممنوع من حيث اشتماله على الزيادة سمّوه فاسدا ، فكان هذا متوسّطا بين الممنوع بأصله وبين المشروع بأصله ووصفه معا. (١)

وهذا تكلّف لا حاجة إليه ، ولو صحّ هذا القسم لم نناقش في تخصيص اسم الفاسد به.

وأمّا الإجزاء فقد يوصف به الفعل إذا كان يمكن وقوعه على وجهين أحدهما يترتّب عليه حكمة والثاني لا يترتب كالصّلاة وشبهها.

أمّا ما لا يقع إلّا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى فلا يوصف بذلك ، وكذا ردّ الوديعة ، لا يقال فيه : انّه مجز أو غير مجز.

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول تأليف الرازي : ١ / ٢٦.

١٠٨

واختلف في تفسير الإجزاء ، فقيل : الاكتفاء بالاتيان به في سقوط التعبّد ، وإنّما يكون كذلك إذا فعل المكلّف ما كلّف به بجميع الأمور المعتبرة فيه ، من حيث وقع التعبّد به.

وقيل : إنّه سقوط القضاء ، ويبطل بأنّه لو مات بعد فعله مع الإخلال ببعض شرائطه لم يجب القضاء ولم يكن مجزئا.

ولأنّا نعلّل وجوب القضاء بعدم الإجزاء ، والعلّة مغايرة للمعلول.

ولأنّ القضاء إنّما يجب بأمر جديد. (١)

وفيه نظر ، إذ سقوط القضاء مع الموت به لا بالفعل.

واعترض (٢) بأنّه لو فسّر الإجزاء بالاكتفاء بالفعل في سقوط القضاء اندفع الأوّلان.

وليس بجيّد ، إذ الأوّلان اعتراض على الحدّ المنقول.

المبحث الخامس : في القضاء والأداء والإعادة

اعلم أنّ العبادة قد توصف بكلّ واحد من هذه الثلاثة ، وذلك لأنّها إذا كانت موقّتة فخرج الوقت ولم يفعلها المكلّف فيه ، بل في خارجه ، سواء كان مضيّقا أو موسّعا سمّي قضاء.

__________________

(١) لاحظ المحصول للرازي : ١ / ٢٧ ؛ والحاصل من المحصول : ١ / ٢٤٧.

(٢) المعترض هو محمد بن محمود العجلي الأصبهاني في كتابه «الكاشف عن المحصول : ١ / ٢٨٥».

١٠٩

وإن فعلها فيه سمّي أداء.

وإن فعلت على نوع من الخلل ، ثمّ فعلت ثانيا في الوقت المضروب لها سمّي إعادة.

ولا استبعاد في اجتماع الإعادة والقضاء في فعل واحد إذا لم يلحظ في الإعادة الفعل في الوقت ، ولا في اجتماع الإعادة والأداء إذا لم يلحظ في الأداء الأوّليّة.

فحينئذ يبقى التناسب بين الإعادة وبين كلّ من الأداء والقضاء بالعموم من وجه.

فروع

الأوّل : لو ظنّ موته لو لم يشتغل بالواجب الموسّع عصى بتأخيره ، فلو أخّر وعاش فهو أداء ، لأنّه لما انكشف له بطلان ظنّه زال حكمه وبقي كما كان قبل الظّنّ ، وهو اختيار الغزالي (١) والجمهور.

وقال القاضي أبو بكر : يكون قضاء لتعيين وقته بسبب غلبة الظنّ ولم يوقعه فيه ، ولهذا يعصي بالتأخير إجماعا. (٢)

وليس بجيّد ، فإنّ العصيان لا يستلزم كون الفعل قضاء ، لأنّ ذلك الوقت

__________________

(١) المستصفى : ١ / ١٨٠.

(٢) لاحظ المستصفى : ١ / ١٧٩ ؛ والمحصول في علم الأصول : ١ / ٢٧ ؛ والكاشف عن المحصول : ١ / ٢٨٨.

١١٠

كان وقتا للأداء ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، بل ونمنع العصيان بعد ظهور بطلان ظنّه ووجوب التضيّق عليه ، وإنّما يحكم بذلك لو استمرّ الظنّ ، وكيف يصحّ أن ينوي القضاء بفعل فعل في وقته.

وأورد بعض المتأخّرين على القاضي : أنّه لا يلزم من عصيان المكلّف بتأخير الواجب الموسّع عن أوّل الوقت من غير عزم على الفعل عند القاضي : أن يكون فعل الواجب بعد ذلك في الوقت قضاء.

وليس بجيّد ، لأنّ العصيان هنا ليس باعتبار تضيّق الوقت بل بترك الواجب وبدله.

الثاني : من أخّر مع ظنّ السّلامة فمات فجأة في الوقت ، فالتّحقيق أنّه لا يعصي.

قيل : بخلاف ما وقته العمر (١).

وليس بجيّد.

الثالث : الواجب على الفور كالزكاة إذا أخّر عصى ، ويلزم القاضي أن يكون قضاء.

وليس بجيّد ، لأنّه لم يعيّن وقته بقدر ، وإنّما وجب البدار بقرينة الحاجة ، وإلّا فالأمر يقتضي وجوب الأداء في جميع الأوقات.

__________________

(١) القائل هو ابن الحاجب ، لاحظ رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب : ١ / ٥٢٦ ، قسم المتن.

١١١

وكذا من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخّر ، فلا نقول : إنّه قضاء القضاء ، ولهذا افتقرنا في القضاء إلى أمر مجدّد.

وأمّا الأمر بالأداء ، فإنّه كاف في دوام اللزوم ، فلا يحتاج إلى دليل آخر.

والحقّ : أنّ القضاء مخصوص بما عيّن وقته شرعا ثمّ فات الوقت قبل الفعل.

الرابع : الفعل إنّما يسمّى قضاء إذا ثبت وجوب الأداء ولم يفعل ، أو ثبت سببه.

فالأوّل ، كمن ترك الصلاة عمدا حتّى خرج وقتها ثمّ أدّاها.

والثاني ، إمّا أن يكون المكلّف لا يصحّ منه الأداء عقلا ، كالنائم والمغمى عليه ، أو شرعا كالحائض.

أو يصحّ ، لكنّ المقتضي للسقوط جاء من جهته ، كالمسافر إذا علم أنّه يصل قبل الزّوال ، فإنّ السفر منه ، وقد أسقط وجوب الصّوم ويصحّ منه ، أو من قبله تعالى ، كالمريض ، فإنّه قد سقط وجوب الصوم عنه.

ففي جميع ذلك يسمّى قضاء ، لوجود سبب الوجوب لا نفس الوجوب ، كما يقوله بعض من لا تحقيق له من الفقهاء باعتبار وجوب القضاء ، فإنّ الواجب يمتنع تركه ، فلا يجامع جواز الترك أو وجوبه ، وكيف تؤمر بما يقضى به لو فعلت.

١١٢

المبحث السادس :

إطلاق اسم القضاء على الأوّل ، وهو ما ثبت وجوبه ولم يفعل في وقته ، حقيقة قطعا.

واختلفوا في الثاني فقيل : إنّه مجاز ، فإنّ صوم الحائض حرام ، فتسميته قضاء مجاز ، وحقيقته انّه فرض مبتدأ ، لكنّه لمّا تجدّد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الأداء ، حتّى فات لفوات إيجابه ، سمّي قضاء.

والنائم والناسي (١) يقضيان ، ولا خطاب عليهما ، لأنّهما منسوبان إلى الغافلة والتقصير ، لكنّ الله تعالى عفا عنهما ، بخلاف الحائض ، ولهذا يجب عليهما التشبّه بالصائمين بالإمساك بقيّة النهار ، دون الحائض.

وقيل : إنّ الإطلاق حقيقة لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ، ولم يجب للعارض ، لا استدراك مصلحة ما وجب ، دفعا للمجاز والاشتراك.

__________________

(١) في «ب» : والنائم والساهي.

١١٣

المبحث السابع : في الرخصة والعزيمة

العزم في اللغة القصد المؤكّد ، قال الله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١) أي قصدا ، وسمّي بعض الرّسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحقّ.

وفي العرف الشرعيّ عبارة عمّا لزم العباد بإيجاب الله تعالى أو ما جاز فعله من غير مانع.

وأمّا الرّخصة فهي في اللّغة عبارة عن التيسير والتّسهيل ومنه رخّص السّعر إذا تراجع وسهل الشّراء.

وأمّا في الشرع فقال بعض أصحاب الرّأي : إنّها عبارة عمّا أبيح فعله مع كونه حراما.

وفيه تناقض وليس بجيّد ، لعدم اجتماع الحكمين في وقت.

وقيل : ما رخّص فيه مع كونه حراما.

وهو مع التناقض دائر ، وبيان التناقض : أنّ الرّخص مشتقّ من الرخصة وهو غير خارج عن الإباحة.

وقيل : ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرّم (٢).

__________________

(١) طه : ١١٥.

(٢) لاحظ الأقوال في الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٩٤ ، تأليف أبي الحسن الآمدي المتوفّى ٦٣١ ه‍.

١١٤

وهو غير جامع ، لأنّ الرّخصة كما تكون بالفعل تكون بتركه ، كإسقاط صوم رمضان ، والركعتين عن المسافر.

والأقرب أن يقال : الرّخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرّم ، ليعمّ النّفي والإثبات معا ، فمباح الأصل كالأكل والشرب لا يسمّى رخصة ، وما لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوّال وصلاة النافلة لا يسمّى رخصة ، ويسمّى تناول الميتة رخصة ، وكذا سقوط الصوم عن المسافر وسقوط الركعتين.

ثمّ الّذي يجوز فعله مع قيام المقتضي للمنع قد يجب ، كأكل الميتة عند خوف التلف ، وقد لا يجب كترك كلمة الكفر عند الإكراه.

واعلم أنّ اسم الرخصة يطلق حقيقة ومجازا.

فالأوّل إباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه ، وإباحة شرب الخمر للمتغصّص بلقمة لا يسيغها إلّا الخمر.

والثاني بعيد عن الحقيقة ، كتسمية ما سقط عنا من أثقال الملل المنسوخة (١) رخصة ، وما لم يوجب علينا ولا على غيرنا لا يسمّى رخصة ، وذلك لأنّه لما وجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة عليه ، فإنّ الإيجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقّنا ، والرّخصة [فسحة] في مقابل التضييق.

__________________

(١) في المستصفى : ١ / ١٨٥ مكان العبارة : «فتسمية ما حطّ عنّا من الإصر والأغلال الّتي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة.

١١٥

وتردّد بين هاتين أمور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها إلى المجاز ، فالقصر للمسافر جدير بأن يسمّى رخصة حقيقة ، لقيام السّبب وهو الشهر ، فيدخل تحت قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(١) وأخرج عن العموم بعذر.

أمّا التيمّم عند فقد الماء فلا يحسن اسم الرخصة فيه ، إذ لا يمكن التكليف باستعمال الماء مع عدمه ، فلا يمكن قيام السّبب ، ويجوز عند الجراحة ، أو بيع الماء بأكثر من ثمن المثل إن سوّغنا التيمم.

والسّلم : بيع ما لا قدرة على تسليمه في الحال فيقال (٢) : إنّه رخصة لعموم نهيه حكيم بن حزام (٣) عن «بيع ما ليس عنده» فإنّه يوجب تحريمه ، وحاجة المفلس اقتضت الرخصة في السلم ، وتزويج الأمة الآبقة صحيح ، لا [يسمّى] رخصة إلّا إذا قوبل ببيع الآبق.

قيل (٤) : العذر المقتضي للرخصة إن كان راجحا على المحرّم ، لم يكن مقتضاه رخصة بل عزيمة ، وإلّا لكان كلّ حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض المرجوح رخصة ، وليس كذلك.

وإن كان مساويا ، فإن قلنا بالتساقط (٥) والرجوع إلى حكم الأصل ، لم يكن

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

(٢) لاحظ المستصفى : ١ / ١٨٦.

(٣) أبو خالد حكيم بن حزام صحابيّ قرشيّ ، وهو ابن أخي خديجة ، كان صديقا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة وبعدها توفّي سنة ٥٤ ه‍. لاحظ الإعلام للزركلي : ٢ / ٢٦٩.

(٤) القائل هو الآمدي في الإحكام.

(٥) أي بتساقط الدليلين المتعارضين.

١١٦

رخصة ، وإلّا لكان كلّ فعل بنينا فيه على النفي الأصل قبل ورود الشرع رخصة.

وإن قلنا بالوقف إلى ظهور المرجّح ، فلا رخصة ، بل يكون ذلك عزيمة.

وإن قلنا بالتخيير لم يكن أكل الميتة حالة الاضطرار رخصة ، إذ لا تخيير بين جواز الأكل وتحريمه لوجوبه.

وقد قيل : إنّه رخصة ، فلم يبق إلّا رجحان المحرّم على المبيح ، ويلزم منه العمل بالمرجوح ، وهو في غاية الإشكال ، لكنّه الأشبه باسم الرخصة ، لما فيه من التسهيل بالعمل بالمرجوح ، ومخالفة الراجح. (١)

وفيه نظر ، لأنّ هذا التقسيم إنّما يرد لو كان الدليلان متعارضين ، وإنّما يتعارضان لو توارد الحكمان على مكلّف واحد ، وليس كذلك ، فإنّ التحريم للميتة ثابت في حقّ المختار ، والوجوب ثابت في حقّ المضطرّ ، وقلنا بالإباحة هنا مع قيام المحرّم في نفس الأمر على هذا المكلّف لو لم يكن مضطرّا ، وكونه رخصة باعتبار نسبة حالته الاضطراريّة إلى حالته الاختياريّة.

واعلم أنّه لا استبعاد في كون الشيء رخصة باعتبار وواجبا باعتبار ، كالقصر وأكل الميتة حال المخمصة.

__________________

(١) الإحكام : ١ / ٩٥ ، نقله المصنّف بتلخيص ، وتنظّر فيه.

١١٧

المبحث الثّامن : في أنّ الحسن والقبح عقليّان

هذه المسألة هي المعركة العظيمة بين المعتزلة والأشاعرة ، وأكثر قواعد الاعتزال بل أكثر القواعد الإسلاميّة مبنيّة عليها ، وقد اضطرب العقلاء في ذلك اضطرابا عظيما ، فالّذي عليه المعتزلة كافّة أنّهما حكمان عقليّان.

والأشاعرة قالوا : الحسن والقبح قد يعنى بهما ملائمة الطبع ومنافرته ، وهما عقليّان بهذا الاعتبار.

وقد يعنى بهما كون الشيء صفة كمال أو نقص كقولنا : العلم حسن والجهل قبيح ، وهما عقليّان بهذا الاعتبار أيضا.

وقد يعنى بهما كون الفعل متعلّق المدح أو الذمّ ، والنّزاع فيه ، فعند المعتزلة أنّه عقليّ ، وإنّما يحسن الفعل أو يقبح لكونه واقعا على وجه مخصوص لأجله يستحقّ فاعله الذمّ أو المدح.

ثمّ ذلك الوجه قد يعلم بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضّارّ ، وقد يعلم بالاستدلال كحسن الصدق الضّارّ وقبح الكذب النافع وقد لا تحصل معرفته بالعقل مستقلّا بل يفتقر إلى مساعدة الشرع كحسن صوم رمضان وقبح صوم العيد ، فإنّ العقل لا يستقلّ بمعرفة ذلك ، لكن لمّا ورد الشرع به علمنا اختصاص كلّ واحد منهما بالوجه الّذي ناسب حكمه من حسن أو قبح ، ولو لا ذلك الاختصاص امتنع ورود الشرع به.

وذلك الوجه ما اشتمل عليه من اللّطف المانع من الفحشاء الدّاعي إلى الطّاعة ، لكن العقل لا يستقلّ بمعرفة هذا المذهب ، صار إليه جميع الإماميّة

١١٨

والكراميّة (١) والخوارج والبراهمة (٢) والثنويّة وغيرهم سوى الأشاعرة ، حتّى أنّ الفلاسفة حكموا بحسن كثير من الأشياء وقبح بعضها بالعقل العملي.

ثمّ إنّ أوائل المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الأشياء حسنة وقبيحة لذواتها (٣) لا باعتبار صفة موجبة لذلك.

ومنهم من أوجب ذلك كالجبائيّة (٤) وبعضها فصّل وأوجب ذلك في القبح دون الحسن.

والأشاعرة قالوا : إنّ الحسن والقبح سمعيّ ، وإنّ العقل إنّما يحسن بأمر الله تعالى وإنّما يقبح بنهيه عنه ، فلو نهى عن الحسن كان قبيحا وبالعكس.

والحقّ الأوّل.

لنا وجوه :

الأوّل : انّا نعلم بالضرورة حسن الصدق النافع ، والإنصاف ، وردّ الودائع ،

__________________

(١) هم أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام المتوفّى سنة ٢٥٥ ه‍.

(٢) البراهمة : قوم من أهل الهند ، ينتسبون إلى رجل منهم يقال له «براهم» وقد مهّد لهم نفي النبوات أصلا ، وقرّر استحالة ذلك في العقول. والبراهمة على أصناف : فمنهم (أصحاب البددة) ، ومعنى (البدّ) عندهم : شخص في هذا العالم لا يولد ، ولا ينكح ، ولا يطعم ، ولا يشرب ، ولا يهرم ، ولا يموت ، وأول (بدّ) ظهر في العالم بزعمهم اسمه (شاكمين) وتفسيره : السيد الشريف. ومنهم (أصحاب الفكرة) وهم الذين يعظمون الفكر ، ويقولون : هو المتوسط بين المحسوس والمعقول. ومنهم (أصحاب التناسخ) الذين يقولون بتناسخ الأرواح.

انظر الملل والنحل : ٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥٥.

(٣) في «ب» و «ج» : لذاتها.

(٤) هم أتباع أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائيّ المتوفّى سنة ٣٠٣ ه‍ ـ نسبة إلى جبا من بلاد خوزستان قريبا من البصرة والأهواز ـ.

١١٩

وإنقاذ الغرقى ، والإحسان إلى المستحقّين ، وقبح الظلم والكذب والجهل.

وأنّ من كلّف الأعمى نقط المصاحف ، والزمن الطيران في الهواء ، حكم العقلاء كافّة بقبح ذلك منه ، وأوجبوا ذمّه ، ولا يتوقّف العقلاء في ذلك على شرع ، ولهذا حكم به منكر الأديان والشرائع ، كالبراهمة.

لا يقال : حسن الصدق ، لأنّه على وفق المصلحة ، والإحسان ، لأنّ الحكم به يقتضي إلى وقوعه ، وهو ملائم لطبع كلّ واحد ، وقبح الكذب ، لأنّه على خلاف مصلحة العالم.

لأنّا نقول : الضرورة قاضية بالقبح والحسن بمعنى تعلّق المدح والذمّ.

الثاني : أنّه لو كان الحسن والقبح شرعيّين ، لم يقبح من الله تعالى شيء ، والتّالي باطل ، فالمقدّم مثله ، والشرطيّة ظاهرة.

وبيان بطلان التّالي : أنّه لو حسن منه كلّ شيء ، لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولو حسن منه ذلك ، امتنع منّا الفرق بين الصّادق والكاذب ، وذلك يقضي إلى بطلان الشرائع بالكليّة ، إذ كلّ نبيّ يظهر على يده المعجزة ، يتطرّق إليه الاحتمال.

لا يقال : الاستدلال بالمعجزة على الصدق يتوقّف على مقامين : أحدهما أنّه تعالى خلقه لذلك (١) و [الثاني] أنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، والحسن والقبح إنّما ينفعان (٢) في الثاني فيمنع الأوّل.

__________________

(١) في «ج» : «كذلك» ولعلّه مصحّف.

(٢) في «ب» : «يتّفقان» والصحيح ما في المتن.

١٢٠