نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

لا يقال : الخلق عبارة عن التعلّق الحاصل بين المخلوق والقدرة حالة الإيجاد ، فلمّا نسب هذا التّعلق إلى البارئ تعالى ، صحّ الاشتقاق ، وإنّما أطلق الخلق على هذا المعنى المجازي ، الّذي هو من باب إطلاق اسم الملزوم ، أعني الخلق الحقيقي على اللازم ، أعني التعلّق ، جمعا بين الأدلّة.

لأنّا نقول : التعلّق ليس بقديم ، لكونه نسبة بين المخلوق والقدرة ، والنّسبة متأخّرة ، فهو حادث وغير قائم بذاته تعالى ، لاستحالة قيام الحوادث به ، وهو عرض ، فهو إذن قائم بالغير.

ولأنّه يستلزم التسلسل ، لأنّه حادث ، فيفتقر إلى تعلّق آخر.

وأيضا المفهوم من الضارب ، ليس إلّا شيء ذو ضرب أو له ضرب ، ولفظة «ذو» و «له» لا يقتضيان الحلول.

وأيضا لفظة «اللّابن» و «التّامر» و «المكيّ» و «المدنيّ» و «الحدّاد» مشتقّة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق.

المبحث السادس : في مفهوم المشتقّ

مفهوم الأسود شيء له سواد ، ولا يدلّ هذا على خصوصيّة ذات الشيء ، بل إنّما يستفاد من أمر خارج عن مفهومه بطريق التزام ، كما أنّا نعرف أنّ الناطق إنسان بدليل من خارج ، لا من حيث وضع النّاطق ، فإنّه وضع لشيء ذي نطق ، لأنّك إذا قلت : الناطق إنسان ، أو الأسود جسم ، كان كلاما صحيحا مقبولا عند العقل.

٢٠١

ولو دلّ الناطق على خصوصيّة الإنسان ، والأسود على خصوصيّة الجسم ، صار كأنّك قلت : الإنسان ، ذو النطق إنسان أو الجسم ذو السّواد جسم ، وهو هدر.

وسبب الغلط التلازم في الوجود في بعض المشتقّات.

٢٠٢

الفصل الرّابع

في الألفاظ المترادفة والمؤكّدة

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل : [في] الألفاظ المترادفة

[و] هي الألفاظ المفردة الدالّة على مسمّى واحد باعتبار واحد.

فخرج بالمفردة الحدّ مع المحدود.

وبقولنا : «باعتبار واحد» ، اللّفظان إذا دلّا على شيء واحد باعتبار صفتين ، ك «الصارم» و «المهنّد» (١) ، أو باعتبار الصّفة وصفة الصّفة ك «الفصيح» والناطق.

والفرق بينه وبين المؤكّد ظاهر ، فإنّ المترادفين يفيدان فائدة واحدة ، من غير تفاوت ، والمؤكّد لا يفيد عين [فائدة] المؤكّد بل تقويته.

والفرق بينه وبين التّابع : أنّ التابع لا يفرد ولا يفيد وحده ، والمترادف بالضّد فيهما.

وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الحدّ والمحدود مترادفان ، وكذا التّابع

__________________

(١) المهنّد معناه : المنسوب للهند من السيوف.

٢٠٣

والمتبوع ، وهو خطأ ، فإنّ الحدّ يدلّ على المفردات ، والمحدود يدلّ على اسم الشيء جملة ، والتّابع لا يفرد ، بخلاف المترادف ، كما تقدّم.

المبحث الثاني : في إثباته

ذهب أكثر النّاس إلى إثباته ، وذهب شاذّ من النّاس إلى عدمه.

والحقّ الأوّل ، لنا :

أنّه ممكن في الحكمة وواقع في اللغة ، أمّا إمكانه فضروريّ ، إذ لا امتناع في أن يضع واحد أو اثنان لفظين لمعنى واحد.

أمّا مع تغاير الواضع فلفائدة الوضع ، وأمّا مع اتّحاده فلاتّساع العبارة ، وكثرة العلامات والدلائل ، وتحصيل الرّويّ والسجع ، وتيسير النظم ، وتسهيل القافية والزنة ، والتجنيس ، والمطابقة ، وغير ذلك.

وأمّا الوقوع فظاهر ، فإنّ معنى «جلوس» و «قعود» واحد ، ومعنى «أسد» و «ليث» و «سبع» واحد ، وغير ذلك.

والتخريجات الّتي يذكرها الاشتقاقيّون لا ضرورة إليها ولا دليل عليها.

احتجّ المانعون بوجوه :

الأوّل : فائدة الوضع ـ وهي إعلام الغير ما في الضمير ـ تحصل بأحد اللّفظين ، فيكون وضع الثاني خاليا عن الفائدة ، وهو عبث لا يجوز صدوره عن الحكيم.

الثاني : الغالب في الاستعمال تكثّر المسمّيات عند كثرة الأسماء ،

٢٠٤

فيكون راجحا على المتّحد من المسمّيات عند تعدّد الأسماء ، وأقرب إلى تحصيل غرض أهل الوضع ، فيكون هو الأصل.

الثالث : حفظ اللّفظ الواحد أخفّ مئونة من حفظ الزّائد عليه إذا أفاد فائدته ، والأصل التزام أعظم المشقّتين لتحصيل أعظم الفائدتين والأدنى للأدنى.

الرابع : يلزم أحد الأمرين وهو إمّا حصول المشقّة لكلّ أحد أو الإخلال بالفهم ، وانتفاء فائدة الوضع ، والتالي بقسميه باطل.

بيان الشرطيّة : أنّ الوضع إذا تكثّر واتّحد المسمّى لم يخل إمّا أن يحفظ الجميع ، فيلزم المشقّة ، أو البعض فيلزم الثاني ، لجواز أن يحفظ بعض النّاس أحد اللفظين والبعض الآخر الثاني ، فلا تحصل فائدة التفاهم عند التخاطب.

والجواب عن الأوّل : المنع من عدم الفائدة ، وقد بيّناها.

وعن الثاني : أنّ الأغلبيّة غير مانعة من الوقوع ، كما في المجاز والمشترك.

وعن الثالث : أنّ المشقّة منتفية بأن يحفظ البعض دون الجميع ، ولا يلزم الإخلال بالفهم ، لأنّ ذلك البعض يحفظه كلّ الناس ، وهو الجواب عن الرابع.

المبحث الثالث : في غايته

المترادف إن كان من قبيلتين وهو الأكثريّ من سببه كان اتّفاقيّا ، وذلك بأن تضع قبيلة لفظا لمعنى ، ثمّ تضع قبيلة أخرى لفظا آخر لذلك المعنى من غير شعور لها بالوضع الأوّل ، ثمّ يشيع الوضعان ، فيحصل التّرادف.

وإن كان من قبيلة واحدة فله فائدتان :

إحداهما : تسهيل الاقتدار على الفصاحة ، فإنّه قد يمتنع (١) وزن البيت

__________________

(١) في «أ» : قد يمنع.

٢٠٥

بأحد اللفظين ويمكّن بالآخر ، وكذا القافية ، والسّجع ، والمقلوب ، والمجنّس ، وسائر أصناف البديع ، كما بيّناه أوّلا.

الثانية : التمكّن من التأدية للمقصود بإحدى العبارتين عند نسيان الاخرى.

واعلم أنّ أحد المترادفين إذا كان أظهر عند بعض النّاس كان خفيّا بحسب الاسم الآخر ، وقد ينعكس الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين ، وقد ذهب قوم من المتكلّمين إلى أنّ معنى الحدّ هو تبديل لفظ خفيّ بلفظ أوضح منه عند السّائل.

وهو خطأ ، فإنّ الحدّ يدلّ بالتفصيل على ما يدلّ عليه الاسم بالإجمال.

المبحث الرابع : في صحّة إقامة أحد المترادفين بدل صاحبه

اختلف النّاس في ذلك فأجازه المحقّقون ، ومنع منه جماعة منهم فخر الدين الرازي(١).

والحقّ الأوّل ، لنا :

أنّ التركيب والاستناد بالفاعليّة أو المفعوليّة أو غيرهما بالقصد الأوّل وبالذّات عارض للمعاني ، وثانيا وبالعرض للألفاظ.

فإذا اتّحدت المعاني وصحّ الاستناد جاز بأيّ عبارة كان ، فإنّه لمّا صحّ نسبة معنى القعود إلى زيد ، جاز أن تقول : قعد زيد وجلس.

ولمّا امتنع نسبة المعنى إلى واجب الوجود تعالى (٢) استحال نسبة المعنى

__________________

(١) المحصول : ١ / ٩٥.

(٢) في «أ» و «ج» : ولمّا امتنع المعنى بالنسبة إلى واجب الوجود تعالى.

٢٠٦

إليه بالعبارتين معا ، وأيّ عاقل يرضى لنفسه منع استناد المعنى إلى غيره إذا عبّر عنه بلفظ مع صحّة نسبة ذلك المعنى إلى ذلك الغير بلفظ آخر ، وهل للعبارات مدخل في ذلك مع انّ كلا من المترادفين يفيد عين ما يفيده الآخر وضمّ المعنى إلى غيره من توابع المعاني لا من عوارض الألفاظ.

احتجّوا بأنّه لو صحّ لصحّ «خدا أكبر» ، والتّالي باطل فكذا المقدّم.

والجواب : المنع من الملازمة إن قصد تكبيرة الإحرام ، لأنّ الصلاة يجب فيها الإتيان بالعبارات الخاصّة ، لا بما يرادفها ، تعبّدا شرعيّا لا عقليّا ولا لغويّا ، وإن قصد غيرها جوّزناه ، ومنعنا انتفاء التّالي.

على أنّ جماعة من الفقهاء جوّزوا ذلك مطلقا.

سلّمنا المنع مطلقا لكن إنّما لم يجز ذلك لاختلاف اللّغتين ، فلم قلتم بالمنع في اللّغة الواحدة؟

المبحث الخامس : في التأكيد

التأكيد هو : اللّفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر (١).

وفيه نظر ، فإنّ التأكيد معنى يغاير اللفظ ، بل الأجود أنّه تقوية المعنى بلفظ موضوع لها أو للمعنى.

فقولنا : «بلفظ» احترزنا به عن تقوية المعنى بغير الألفاظ من الإشارات والحركات.

__________________

(١) كذا عرّفه الرازي في «المحصول» : ١ / ٩٥.

٢٠٧

وقولنا : «موضوع لها» أردنا به مثل «كلّ» و «جميع» وغيرهما من ألفاظ التأكيد.

وقولنا : أو «للمعنى» ليدخل فيه تأكيد اللفظ بنفسه ، مثل قام زيد زيد ، أو بمرادفه مثل رأيت أسدا ليثا.

وهذا الأخير خارج من الحدّ الأوّل.

واعلم أنّ التّأكيد إمّا أن يكون بنفس اللفظ ، إمّا في الجمل مثل : «والله لأغزونّ قريشا والله لأغزونّ قريشا» ، أو في المفردات ، نحو : فنكاحها باطل باطل باطل.

أو يكون بغيره ، وهو إمّا أن يخصّ بالمفرد ، وهو لفظ «النفس» و «العين» أو «المثنّى» وهو «كلا» و «كلتا» أو الجمع ، وهو أجمعون وتوابعه ، وكلّ ، وهو أمّ الباب.

وقد يدخل على الجمل مقدّما عليها ك «أنّ» الناصبة وما يجري مجراها.

واعلم أنّ جماعة الملاحدة منعوا من التأكيد لما فيه من التكرير الخالي عن الفائدة.

وهو خطأ ، أمّا جوازه فمعلوم قطعا ، وأمّا وقوعه فباستقراء اللّغات ، والقرآن يدلّ عليه.

وأمّا إفادته فتقوية المعنى ، والدلالة على شدّة اهتمام القائل به ، إلّا أنّه متى أمكن حمل اللفظ على غير التأكيد كان أولى من حمله عليه ، لما فيه من تكثّر فوائد الألفاظ

٢٠٨

الفصل الخامس

في مباحث الاشتراك

وهي ثمانية

المبحث الأوّل :

اللّفظ المشترك

هو اللّفظ الواحد الموضوع لأزيد من معنى واحد وضعا أوّلا من حيث هي متعدّدة.

فخرج بقولنا : «الواحد» الألفاظ المتباينة وبقولنا : «لأزيد من معنى واحد» الألفاظ المفردة.

وقولنا : «وضعا أوّلا» احتراز عمّا يدلّ على شيء بالحقيقة وعلى آخر بالمجاز.

وقولنا : «من حيث هي متعدّدة» عن الألفاظ المتواطئة ، فإنّه يتناول الماهيّات المختلفة ، لكن لا من حيث هي مختلفة ، بل من حيث اشتراكها في معنى واحد. (١)

__________________

(١) كذا قال الرّازي في المحصول : ١ / ٩٧.

٢٠٩

وفيه نظر ، فإنّ المتواطئ يخرج بقولنا «لأزيد من معنى واحد» لأنّه وضع لمعنى واحد ، نعم هو متناول لأفراده تبعا لتناول المعنى المشترك لها.

والأجود أن يقال : هو اللّفظ الواحد المتناول لعدّة معان من حيث هو (١) كذلك بطريق الحقيقة على السواء.

فبالقيد الأوّل خرجت الألفاظ المتباينة ، وبالثاني العلم ، وبالثالث المتواطئ ، وبالرابع ما يتناوله للبعض حقيقة وللبعض مجازا ، وبالخامس المنقول.

المبحث الثاني : في إمكانه

اختلف النّاس في ذلك على ثلاثة أقوال ، طرفان وواسطة ، فذهب قوم إلى وجوب المشترك في اللغة ، وآخرون إلى امتناعه.

والحقّ الإمكان ، لنا :

أنّه لا امتناع في أن تضع قبيلة لفظا لمعنى ، وتضعه أخرى لآخر ، ويشيع الوضعان ، ويحصل الاشتراك.

وأيضا الوضع تابع لأغراض المخاطبين ، وكما يتعلّق غرض المخاطب بإعلام المخاطب ما في ضميره على سبيل التفصيل ، كذا يتعلّق غرضه بإعلامه على سبيل الإجمال ، وهو كثير الوقوع ، فوجب في الحكمة وضع المشترك تحصيلا لفائدة العلم الإجمالي ، كما وجب في الحكمة

__________________

(١) في «ج» : هي.

٢١٠

وضع المفرد تحصيلا لفائدة العلم التفصيليّ.

احتجّ الموجبون بوجهين :

الأوّل : الألفاظ متناهية ، والمعاني غير متناهية ، والمتناهي إذا وزّع على غير المتناهي ، لزم الاشتراك.

أمّا الأولى ، فلتركّبها من الحروف المتناهية ، فتكون متناهية.

وأمّا الثانية ، فلأنّ أحد المعاني الموجودة ، العدد ، وهو غير متناه.

وأمّا الثالثة ، فضروريّة.

الثاني : الألفاظ العامّة : كالوجود والشّيء ، ضروريّة في اللّغات ، وقد ثبت أنّ وجود كلّ شيء نفس ماهيّته ، فيكون وجود كلّ شيء مخالفا لوجود غيره ، فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك.

والجواب عن الأوّل : من المنع من تناهي المركّب من الحروف المتناهية إلّا أن يكون ما يحصل من تضاعيف التّركيبات متناهية ، والسند أسماء العدد والأمزجة.

واعلم أنّ التركيب الثّنائي يحتمل قسمين ، والثّلاثي ستّة ، والرّباعيّ أربعة وعشرين ، والخماسي مائة وعشرين ، والسّداسيّ سبعمائة وعشرين وهكذا.

سلّمنا ، لكنّ المعاني المعقولة الّتي تحتاج إلى التعبير عنها متناهية ، لأنّهم إنّما يقصدون التعبير عن المعاني المعقولة عندهم ، وما لا يتناهى يستحيل تعقّله على التفصيل.

سلّمنا ، لكنّ غير المتناهى إنّما هو جزئيّات الكليّات ، أمّا الكلّيات فلا ،

٢١١

وإذا وضع اللفظ للكليّ ، حصل الغرض من الوضع لكلّ معنى ، من غير لزوم اشتراك.

سلّمنا ، لكنّ الألفاظ المتناهية إذا دلّ كلّ واحد منها على معان متناهية ، لم تكن الألفاظ المتناهية دالّة على معان غير متناهية ، فإنّ تضعيف المتناهي مرّات متناهية ، يكون متناهيا.

وإن دلّت هي أو بعضها على معان غير متناهية ، كان [القول به] مكابرة.

وعن الثاني : بالمنع من الحاجة إلى الألفاظ العامّة في اللغات.

سلّمناه لكن لا نسلّم كون وجود كلّ ماهيّة ، نفس حقيقتها ، فإنّه قد ظهر في علم الكلام ، أنّ الوجود معنى واحد مشترك بين الموجودات.

سلّمنا ، لكن جاز اشتراك الموجودات كلّها في معنى واحد غير الوجود ، وهو المسمّى بتلك اللفظة العامّة.

واحتجّ القائلون بالامتناع بأنّه مخلّ بالمقصود ، فلا يكون موضوعا.

بيان الأول : أنّ القصد من الوضع إعلام الغير ما في ضمير المتكلّم ، وهو إنّما يحصل لو كان اللّفظ الواحد ، له معنى واحد ، فإنّ مع تعدّد المعاني لا يفهم المخاطب قصد المتكلّم ، فتختلّ فائدة الوضع.

والجواب ما قدّمناه أوّلا ، من أنّ الغرض كما يتعلّق بالإعلام التفصيليّ ، كذا يتعلّق بالإعلام الإجماليّ ، ثمّ لو قصد التفصيل ، أمكن المصير إليه بضمّ القرينة.

سلّمنا ، لكن يحصل الإعلام الناقص ، ونقصه لا يوجب عدمه ، كأسماء الأجناس ، فإنّها غير دالّة على أحوال مسمّياتها.

٢١٢

المبحث الثالث : في وقوعه

اختلف المجوّزون لوجوده في ثبوته ، فذهب المحقّقون إليه ، ونفاه شواذّ.

والحقّ الأوّل ، لنا :

أنّ القرء للطّهر والحيض معا على البدل من غير ترجيح ، وإذا سمعه المخاطب لم يفهم أحدهما ، بل يبقى الذهن متردّدا بينهما ، إلّا أن يحصل قرينة تعيّن المراد منهما ، فكان مشتركا بينهما ، إذ لو كان متواطئا ، أو حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ، لم يحصل التردّد.

لا يقال : جاز أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى مشترك بينهما ، وخفي علينا ، أو لأحدهما بخصوصه واستعمل في الآخر مجازا ، ثمّ خفي المجاز منهما وشاعا معا ، وكلاهما أقرب من الاشتراك ، لما يأتي من أنّ المجاز أولى منه.

ومن أنّ الانفراد أولى أيضا ، والمتواطئ منفرد.

لأنّا نقول : أحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة ، وما ذكرتموه احتمال بعيد.

وأيضا فإنّه لا يبقى كونه الآن حقيقة فيها ، وهو المقصود.

وأيضا ، الموجود حقيقة في القديم تعالى والحادث قطعا ، إذ لو كان المجاز في أحدهما صحّ نفيه ، فإن كان نفس الماهيّة ، ثبت الاشتراك ، وإن كان صفة زائدة فكذلك ، لأنّه واجب في القديم وممكن في الحادث ، فلو تساوى الوجودان ، لزم تساويهما في الوجوب أو الإمكان ، وهو محال.

٢١٣

قيل : الوجوب والإمكان لا يمنع التواطؤ ، كالعالم والمتكلّم.

وليس بجيّد ، لأنّهما وصفان ملازمان ، لامتناع انفكاك الوجود عنهما ، واختلاف اللّوازم يدلّ على اختلاف الملزومات.

واحتجّ المانعون بما تقدّم من اختلال الفهم ، وما يدّعى اشتراكه ، فهو إمّا متواطئ ، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر كالعين ، فإنّه وضع أوّلا للجارحة المخصوصة.

ثمّ نقل إلى الدّينار ، لوجود الصفاء والغرّة فيهما.

وإلى الشمس ، للاشتراك في الصفاء والضياء ، وإلى الماء ، للمعنيين.

والجواب : قد بيّنا عدم المفسدة ، وهذه التخيّلات لم يقم عليها برهان.

تذنيب : اختلف القائلون بوقوع المشترك في اللغة ، هل وقع في القرآن؟ فذهب المحقّقون إليه ، خلافا لشذوذ.

لنا : قوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(١).

وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ)(٢) وهو موضوع ل «أقبل» و «أدبر».

احتجّ المانعون بأنّ المقصود منه إن كان هو الإفهام ، فإمّا أن يوجد معه القرينة الدالّة على أحد معانيه أو لا.

والأوّل ، تطويل من غير فائدة.

والثاني ، يلزم منه تكليف ما لا يطاق ، إذ طلب فهم معنى من لفظ يدلّ عليه وعلى غيره بالسويّة ، تكليف بالمحال.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) الانفطار : ١٧.

٢١٤

وإن كان المقصود منه غير الإفهام ، كان عبثا ممتنعا على الحكيم تعالى.

والجواب : المنع من انتفاء الفائدة مع التطويل ، فإنّ الفائدة وهي التكليف بالنظر في تحصيل القرينة ثابتة.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم التكليف بالمحال لو انتفت القرينة ، فإنّ ذلك إنّما يحصل لو قلنا : إنّه مكلّف بالتّعريف التفصيليّ ، أمّا الإجماليّ فلا ، كأسماء الأجناس ، وفي الأحكام الاستعداد للامتثال مع البيان ، فإنّ ذلك سبب لنيل الثواب بالعزم على الفعل الّذي يتبيّن بعد.

المبحث الرابع : فيما ظنّ أنّه مشترك وهو متواطئ وبالعكس

اعلم أنّ بين المشترك والمتواطئ اشتراكا ، ربما ظنّ بسببه في أشياء من أحدهما (١) أو من الآخر.

فالأوّل كقولنا : «مبدأ» للنقطة ، والآن ، ظنّ أنّهما من قبيل المشترك ، لأجل اختلاف الموضوع المنسوب إليه ، وهو الخطّ والزّمان.

وليس كذلك ، فإنّ إطلاق المبدأ عليهما إنّما هو بالنظر إلى أنّ كلّ واحد منهما أوّل لشيء ، لا باعتبار كون ذلك الشيء خطّا أو زمانا ، فهو من المتواطئ.

وأمّا الثاني فكقولنا : «خمريّ» للعنب ، باعتبار أنّه يؤول إلى الخمر ، وللّون الشبيه بلون الخمر ، وللدّواء إذا كان يسكر كالخمر ، أو كان الخمر جزءاً منه ، فإنّه لمّا اتّحد الخمر ، وهو المنسوب إليه ، ظنّ أنّه متواطئ.

وليس كذلك ، فإنّ اسم «الخمريّ» وإن اتّحد المنسوب إليه ، إنّما كان بسبب النسب المختلفة إليه ، ومع الاختلاف فلا تواطؤ.

__________________

(١) أي من المتواطئ وهو مشترك أو بالعكس.

٢١٥

ولو نظر إلى أنّ إطلاق اسم «الخمريّ» في هذه الصّور ، باعتبار أمر اشتركت فيه ، من عموم النسبة وقطع النظر عن خصوصيّاتها ، كان متواطئا.

المبحث الخامس : في أقسام المشترك

قد بيّنا أنّه لا مناسبة بين المعاني والألفاظ ، وإنّما الوضع تابع للقصد ، ولمّا جاز تعدّد الواضعين ، أو تعدّد الوضع مع اتّحاد الواضع ، جاز وضع اللفظ الواحد لمعنيين متباينين ، ومتلازمين.

فالأوّل ، كالقرء الموضوع للطّهر والحيض ، وهما متباينان ، وكالجون الموضوع للسّواد والبياض ، وهما ضدّان.

وأمّا الثاني ، فقد يكون أحد المعنيين جزءاً من الآخر ، كالممكن الموضوع للعامّ بخصوصيّة ، وللخاصّ بخصوصيّة ، والعامّ جزء من الخاصّ ، وكذا كلّ جنس سمّي باسم نوعه.

وهذا اللّفظ كما أنّه يقع على المعنى الجنسيّ والنوعيّ بالاشتراك ، فكذا يقال على النّوعيّ وحده بالاشتراك باعتبار مفهومه.

وقد يكون صفة ، كشخص أسود سمّي بالأسود ، فإنّ صدق الأسود عليه ، باعتبار أنّه لقب له ، مغاير لاعتبار أنّه مشتقّ ، وهو مقول عليه بالاشتراك.

ثمّ إنّا إذا اعتبرنا لون ذلك الشخص ، ونسبناه إلى «القار» كان قول الأسود عليه وعلى «القار» بالتواطؤ ، وإن اعتبرت اسمه ، كان قول الأسود عليه وعلى «القار» بالاشتراك.

واعلم أنّ اللّفظ المشترك ، قد يكون كلّيّا في كلا مفهوميه ، كالعين ،

٢١٦

وقد يكون في أحدهما ، كعبد الله ، وقد يكون جزئيّا فيهما ، كزيد.

وأيضا ، قد يقع على الشيء وعلى صفته ، كالأسود الّذي تمثّلنا به أوّلا ، أو عليه وعلى وصفه ، كالمقبل إذا سمّي به من له إقبال.

والفرق : أنّ الأوّل وهو السّواد غير محمول ، بخلاف الثاني.

تنبيه

ذهب فخر الدين الرّازي إلى أنّه لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين عدم الشيء وثبوته ، لأنّ اللفظ لا بدّ وأن يكون بحال : متى أطلق أفاد شيئا ، وإلّا كان عبثا ، والمشترك بين النفي والإثبات ، لا يفيد إلّا التردّد بينهما ، وهو معلوم لكلّ أحد. (١)

وليس بجيّد ، إمّا أوّلا ، فلأنّ هذا لو تمّ ، لكان ممتنعا من القبيلة الواحدة ، وأسباب الاشتراك غير منحصرة في ذلك ، ولا يتمّ بالنسبة إلى قبيلتين ، فإنّه من المحتمل : أن تضع قبيلة لفظا لمعنى ، ثمّ تضع أخرى ذلك اللّفظ لنقيضه ، فيحصل الاشتراك.

وإمّا ثانيا ، فإنّه قد يحصل أمر زائد على ما كان قبل الوضع ، كالأمر بالاعتداد بالأقراء ، فإنّ القرء مشترك بين الحيض والطّهر ، وهما نقيضان ، أو عدم وملكة.

__________________

(١) المحصول : ١ / ١٠٠.

٢١٧

فائدة :

للاشتراك سببان :

أكثريّ وهو : أن تضع القبيلتان اللّفظ الواحد لمعنيين بالتّوزيع ، ويشتهران معا ، فيحصل الاشتراك.

وأقليّ وهو أن يتّحد الواضع ، ويكون غرضه التمكّن من الكلام بالمجمل ، فإنّه أمر مطلوب تتعلّق به مصالح العقلاء أحيانا.

[فائدة] أخرى :

العلم بالاشتراك قد يكون ضروريّا بأن يسمع تصريح أهل اللّغة به ، وقد يكون نظريّا بأن توجد علامات الحقيقة في كلا المعنيين.

وقيل : إنّ الاستعمال وحسن الاستفهام يدلّان عليه (١) وسيأتي.

المبحث السادس : في أنّه هل يجوز استعمال المشترك المفرد في معنييه؟

اختلف الناس في ذلك ، فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر ، والجبائيّ ، والقاضي عبد الجبّار بن أحمد (٢) ، والسيّد المرتضى (٣) إلى جوازه إن أمكن

__________________

(١) قال الأرموي : ومن الناس من جعل حسن الاستفسار عن مراد اللافظ دليل الاشتراك ، وكذلك شيوع الاستعمال. الحاصل من المحصول : ١ / ٣٢٧.

(٢) هو أبو الحسن أحد أئمّة المعتزلة ، ويلقّب عندهم ب «قاضي القضاة» ولم يمنحوا هذا اللقب لغيره ، وله مصنّفات منها : «تنزيه القرآن عن المطاعن» و «شرح الأصول الخمسة» و «المغني في أبواب التوحيد والعدل» مات سنة ٤١٥ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٣ / ٢٧٣.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٧.

٢١٨

الجمع ، وإن لم يمكن كاستعمال صيغة افعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه ، لم يجز.

ثمّ قال الشافعي والمرتضى وعبد الجبّار : مهما تجرّد اللفظ عن القرينة الصّارفة إلى أحد معنييه ، وجب حمله عليهما معا.

ومنع منه أبو هاشم وأبو عبد الله وأبو الحسين البصري والكرخي (١) وفخر الدين الرازي (٢).

ثمّ قال أبو عبد الله البصري (٣) : يجب أن يعتبر فيه أربع شرائط : كون الكلام واحدا ، والمعبّر واحدا ، والوقت واحدا ، والمعنيين مختلفين. (٤)

ثمّ اختلفوا فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ، ومنهم من منع لأمر يرجع إلى الوضع ، وهو اختيار أبو الحسين البصري (٥) ، والغزالي (٦) ، وفخر الدين الرّازي.

وهو الأقرب ، لنا :

__________________

(١) أبو الحسن الكرخي عبيد الله بن الحسين المتوفى سنة ٣٤٠ ه‍ كان معتزليّا أخذ الكلام عن أبي عبد الله البصري المعتزلي ، وله رسالة في الأصول ، عليها مدار فروع الحنفيّة. انظر الأعلام للزركلي : ٤ / ١٩٣ ، وطبقات الفقهاء : ٤ / ٢٥٧.

(٢) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٠٢.

(٣) الحسين بن علي بن إبراهيم الملقب بالجعل ، فقيه من شيوخ المعتزلة ولد في البصرة ومات ببغداد سنة (٣٦٩ ه‍). لاحظ الاعلام للزركلي : ٢ / ٢٤٤.

(٤) نقله عنه في المعتمد : ١ / ٣٠٠.

(٥) المعتمد : ١ / ٣٠٠.

(٦) المستصفى : ٢ / ١٤١.

٢١٩

أنّ اللفظ موضوع لكلّ واحد من المعنيين بخصوصية ، ولا يلزم من كون اللفظ موضوعا لهما على البدل وضعه لهما على الجمع ، للتغاير بين المجموع وبين أفراده ، فحينئذ نقول : إمّا أن يكون الواضع قد وضعه للمجموع ، كما وضعه لكلّ واحد من جزئه أو لا.

فإن كان الأوّل ، كان استعمال اللفظ في المجموع استعمالا له في بعض موارده ، لأنّ اللّفظ حينئذ يكون موضوعا لمعان ثلاثة : الفردان ، والمجموع.

إلّا أن يقال : إنّه مستعمل في المجموع وكلّ من الفردين على سبيل الجمع ، لكن ذلك محال ، لأنّ إفادة المجموع تقتضي عدم الاكتفاء بكلّ من الفردين بدلا عن صاحبه ، وإفادة الإفراد تقتضي الاكتفاء بأيّهما كان ، والجمع بينهما محال.

وإن لم يكن موضوعا للمجموع ، كان استعماله فيه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، فيكون مجازا (ولاستلزامه كون كلّ لفظ مشترك ، مشتركا بين ما لا يتناهى) (١).

اعترض [بوجوه] :

[١] ـ بأنّ النزاع في استعماله في كلّ واحد من المفهومات ، لا في كلّها ، وبينهما فرق.

[٢] ـ ثمّ استعمال اللّفظ في معنى لا يوجب الاكتفاء به مع استعماله في

__________________

(١) ما بين القوسين يوجد في «أ» و «ج».

٢٢٠