نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

غيره معه ، كاستعمال العامّ في كلّ واحد من أفراده وأفراد أنواعه.

[٣] ـ وأيضا المحال المذكور يلزم من استعماله في كلّ واحد من الفردين ، فلا حاجة إلى عدم التلازم بين الوضع لكلّ واحد على البدل وعلى الجمع.

[٤] ـ وأيضا إن عنى بالوضع ما يعمّ الحقيقة والمجاز ، لم يستلزم من استعمال اللفظ في جميع معانيه استعماله في المجموع.

وإن عنى به المختصّ بالحقيقة لا يلزم من عدم الوضع له عدم جواز استعماله فيه. (١)

والجواب : أنّ الخلاف لم يقع في استعمال اللفظ في كلّ واحد من معانيه بل في الجميع جمعا ، فإنّ أحدا لم يخالف في استعماله في كلّ واحد منهما.

والتحقيق أنّ استعماله في كلّ واحد يؤخذ باعتبارات ثلاثة ، وضعه لكلّ واحد بشرط عدم انضمام غيره إليه ، وبشرط انضمامه ، ومطلقا.

والثاني غير مراد إجماعا.

والأوّل ينافي المجموع.

والنزاع في الثالث.

قوله : استعمال اللفظ في معنى لا يوجب الاكتفاء به ، مع استعماله في غيره كاستعمال العامّ.

__________________

(١) الاعتراضات الأربعة نسبها في نفائس الأصول في شرح المحصول إلى سراج الدين : ١ / ٣٨٥.

٢٢١

قلنا : المراد بالاستعمال هنا ، الاقتصار على ما فرض مستعملا فيه ، فإنّ الشارع لو قال لها : «اعتدّي بالقرء» وأراد به الحيض بخصوصه ، والطهر بخصوصه ، والمجموع ، كان معناه : أنّك متعبّدة بالاعتداد بأحدهما أيّهما كان ، وبالمجموع ، وذلك يقتضي التناقض ، كما قدّمناه ، بخلاف العامّ ، فإنّه يتناول جميع الأفراد جمعا.

قوله : المحال يلزم من استعماله في كلّ واحد من المفردين ، فلا حاجة إلى عدم التلازم بين الوضع لكلّ واحد على البدل ، والوضع لكلّ واحد على الجمع.

قلنا : المحال لم يلزم من استعماله في كلّ واحد من المفردين ، فإنّ ذلك ممكن ، فإن أمكن الاجتماع ، حمل عليها معا ، لكن بقرينة صارفة إليه ، وإن لم يمكن ، كان الحكم فيه التخيير.

وإنّما نشأ المحال من استعماله في كلّ واحد بخصوصه وفي المجموع ، إذ استعماله في كلّ واحد بخصوصه ، يقتضي عدم اعتبار الجمع ، واستعماله في المجموع ، يقتضي وجوب اعتباره.

قوله : إن عنى بالوضع ما يعمّ الحقيقة والمجاز ، لم يلزم من استعماله في جميع معانيه استعماله في المجموع.

قلنا : المراد الحقيقة خاصّة.

قوله : يجوز استعماله.

قلنا : مجازا ، ونحن نسلّمه.

٢٢٢

قيل على أصل الدّليل (١) : «إنّه مبنيّ على أنّ الاسم المشترك موضوع لأحد مسمّياته على سبيل البدل حقيقة ، وليس كذلك عند الشافعي والقاضي أبي بكر ، بل هو حقيقة في المجموع ، كسائر الألفاظ العامّة.

ولهذا ، فإنّه إذا تجرّد عن القرينة عندهما ، وجب حمله على الجميع ، وإنّما فارق باقي الألفاظ العامّة ، من جهة تناوله لأشياء لا تشترك في معنى واحد يصلح أن يكون مدلولا للفظ ، بخلاف باقي العمومات.

فنسبة اللّفظ المشترك في دلالته إلى جملة مدلولاته وإلى أفرادها ، كنسبة غيره من الألفاظ العامّة إلى مدلولاتها ، جملة وإفرادا.

وحينئذ ، بطل ما قيل من التّقسيم المبنيّ على أنّ اللفظ المشترك ، موضوع لأحد مسمّياته على طريق البدل حقيقة ، ضرورة كونه مبنيّا عليه ، وإنّما هو لازم على مشايخ المعتزلة ، حيث اعتقدوا كون اللفظ المشترك موضوعا لأحد مسمّياته حقيقة على طريق البدل».

وهذا الكلام ليس بجيّد ، لأنّه إنكار للمشترك بالكليّة ، ونحن إنّما بحثنا على تقدير وجوده.

وبيانه : أنّ المشترك نعني به اللّفظ الموضوع لحقيقتين على البدل ، لا على الجمع ، وإلّا لم يكن مشتركا.

وقد احتجّ أبو عبد الله البصري (٢) على المنع : بأنّ الواحد منّا إذا رجع إلى نفسه ، علم استحالة أن نريد بالعبارة الواحدة الحقيقتين ، ولو ساغ ذلك في الله

__________________

(١) القائل هو الآمدي في الأحكام : ٢ / ٣٦١.

(٢) تقدّمت ترجمته.

٢٢٣

تعالى ساغ فينا ، وهذا يستحيل ، كما يستحيل أن نريد بالفعل الواحد تعظيم زيد والاستحقار به. (١)

وليس بجيّد ، لأنّا نمنع استحالة ذلك ، والقياس على التعظيم والاستخفاف بزيد ، باطل ، إمّا أوّلا ، فلعدم الجامع ، وإمّا ثانيا ، فللفارق ، وهو اتّحاد الشّخص.

واحتجّ المجوّزون بوجوه :

الأوّل : يجب أن تعتبر العبارة وما به تكون عبارة عمّا هي عبارة عنه ، فإن منع أحدهما من إرادة المعنيين المختلفين ، قضي به ، وإلّا قضي بجوازه ، وينبغي ألا يعتبر غيرهما (٢).

لأنّ الكلام ، إنّما هو فيما يجوز أن يراد بالعبارة الواحدة ، فلا مدخل لغير العبارة ، وما به يكون عبارة عنه في ذلك ، ولهذا لا مدخل ، لاستحالة اجتماع الضدّين في استحالة إرادة معنيين مختلفين بالعبارة الواحدة.

أمّا اعتبار العبارة الواحدة ، فإنّا نمنع إرادة المعنيين منها لأمر يرجع إليها ، بأن لا تكون العبارة مستعملة لأحدهما في اللّغة ، لا حقيقة ولا مجازا ، فلا يجوز أن يراد بها ، ما كان المتكلّم بها متّبعا لهم في اللغة.

وأمّا اعتبار ما به تكون العبارة عبارة عمّا هي عبارة عنه ، فهو الإرادة والكراهة ، ومعلوم أنّه لا يستحيل أن يريد الإنسان المعنيين المختلفين ، فوجود العبارة ، لا يمنع من اجتماع هاتين الإرادتين ، لأنّهما لا يدخلهما أن يكونا ضدّين ، ولا تجريان مجرى الضدّين ، فتجب صحّة وجود هاتين الإرادتين ، وهو متكلّم بالعبارة الواحدة.

__________________

(١) نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد : ١ / ٣٠١.

(٢) في «ج» : ولا ينبغي أن يعتبر غيرهما.

٢٢٤

أمّا الّذي يمنع منه ، فهو أن نريد بالعبارة الخصوص والاقتصار عليه ، ونريد العموم ، لتنافيهما.

وبعبارة أخرى : لو قدّرنا عدم التكلم بلفظ القرء ، لم يمتنع الجمع بين إرادة الاعتداد بالحيض ، وإرادة الاعتداد بالطّهر ، فوجود اللفظ لا يحيل (١) ما كان جائزا.

الثاني : الصّلاة من الله تعالى هي الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، ثمّ إنّه تعالى أراد بهذه اللفظة كلا المعنيين في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ)(٢).

الثالث : قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ)(٣) والمراد بالسّجود هنا الخشوع ، لأنّه المقصود من الدّوابّ ، ويراد أيضا وضع الجبهة على الأرض ، لأنّ تخصيص كثير من الناس بالسجود ، دون غيرهم ممّن حقّ عليه العذاب ، مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع ، يدلّ على أنّ المراد بالسجود وضع الجبهة.

الرابع : قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٤) وأراد به الطهر والحيض معا ، فإنّ المجتهدة متعبّدة بكلّ واحد منهما بدلا عن صاحبه ، بشرط أن يؤدّي اجتهادها إليه.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : لا يختلّ.

(٢) الأحزاب : ٥٦.

(٣) الحجّ : ١٨.

(٤) البقرة : ٢٢٨.

٢٢٥

الخامس : قال سيبويه (١) : قول الإنسان لغيره «الويل لك» دعاء وخبر.

السادس : يجوز لاثنين ارادة المعنيين ، وهما حينئذ جاريان على قانون اللغة ، فليجز من الواحد.

والجواب عن الأوّل : أنّ اعتبار العبارة أن يمنع من ذلك ، لما بيّنا من أنّ الواضع إنّما وضع اللّفظ للأفراد على سبيل البدل ، ولم يضعه للمجموع من حيث هو مجموع.

سلّمنا ، لكن لم لا يجوز أن يكون المانع هو الإرادة.

بيانه : أنّ المتكلّم بالمشترك ، إمّا أن يريد الحقيقة أو المجاز ، فإن أراد المجاز ، جاز أن يراد المجموع ، ولا منازعة حينئذ.

وإن أراد الحقيقة ، قلنا : اللّفظ حقيقة في كلّ من المعنيين بخصوصه ، فإذا أراد هذا المعنى ، لم يرد المجاز أعني المجموع ، وإلّا لزم التناقض ، كما بيّناه.

وعن العبارة الاخرى : أنّه لا منازعة في إرادة الشيئين ، لكن من اللّفظ الواحد.

وعن البواقي بوجوه :

أحدها : يجوز إرادة المجموع مجازا.

ثانيها : يجوز أن تكون هذه الألفاظ الخاصّة ، موضوعة للمجموع ، كما وضعت للآحاد ، فإذا أريد المجموع ، كان إرادة معنى واحد من معاني المشترك.

ثالثها : يجوز أن يكون اللفظ موضوعا لمعنى مشترك كالصّلاة ، فإنّ

__________________

(١) تقدّمت ترجمته : ١٦٩.

٢٢٦

مسمّاها القدر المشترك من الاعتناء ، ومسمّى السّجود ، المشترك بين الخضوع والانقياد ، دفعا للاشتراك والمجاز ، أو يجعل «كثير حقّ عليه العذاب» مندرجا تحت الساجد.

تذنيبات

الأوّل : جوّز بعض المانعين من إرادة المعنيين من المشترك المفرد ، إرادة ذلك في الجمع ، أمّا في جانب الإثبات ، فلقوله : «اعتدّي بالأقراء».

ومنعه فخر الدين الرازي ، لأنّ معناه «اعتدّي بقرء وقرء وقرء» ، وإذا لم يصحّ أن يفاد بلفظ «القرء» كلا المدلولين لم يصحّ ذلك أيضا في الجمع الّذي لا يفيد إلّا عين فائدة الأفراد (١).

وليس بجيّد ، أمّا أوّلا ، فلأنّ الجمع تعديد الأفراد ، وكما جاز أن يراد به الكلّ مع الأفراد بأن يريد بالأوّل الطهر وبالثاني الحيض ، فكذا مع الجمع.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الجمع لا يستدعي اتّحاد أفراده في المعنى ، بل في اللفظ ، فإنّك لو رأيت عين الذّهب ، وعين الشّمس ، وعين الرّكبة ، وعين الماء ، صحّ أن تقول : رأيت عيونا ، وكذا يجمعون الأعلام المفيدة للأشخاص المختلفة.

الثاني : قول الشافعي وأبي بكر وعبد الجبّار بوجوب الحمل على الجميع عند التجرّد (٢) ليس بجيّد ، لأنّه إمّا أن يكون موضوعا للمجموع ، كما وضع للأفراد ، أو لا ، فإن كان الأوّل ، كان دائرا بين المفردين والمجموع ، فحمله

__________________

(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ١٠٤.

(٢) لاحظ نفائس الأصول : ١ / ٣٩٣ ؛ والحاصل من المحصول : ١ / ٣٣٢.

٢٢٧

على المجموع يكون ترجيحا من غير مرجّح ، وهو باطل.

وإن كان الثاني لم يجز حمله عليه ولا استعماله فيه ، والاحتياط كما يكون في الحمل على المجموع قد يكون في المنع منه.

الثالث : منع أبو هاشم من إرادة المعنيين كما قلناه ، وقال : إنّهما مرادان في قوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) لأنّه تعالى تكلّم بالآية في وقتين ، فأراد في أحدهما الطهر ، وفي الآخر الحيض ، ولا يلزم إثبات الآية متكرّرة في المصحف ، لجواز أن تكون المصلحة في عدم التكرار ، إلّا أنّه يجب أن تنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متكرّرة ، ولا يجب أن يبلغها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلينا متكرّرة بأن يقول لنا : انّ المراد بثلاثة «قروء» الطّهر والحيض على حسب اجتهادكم. (١)

قيل له : فيجوز أن يسمعها جبرئيل عليه‌السلام متكرّرة ، ولا ينقلها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متكرّرة ، بل يقول له انّ المراد بذلك الطّهر والحيض على حسب الاجتهاد فيجوز ذلك.

الرابع : اختلف القائلون بتجويز إرادة المعنيين :

فقال بعضهم : لا يجوز أن يؤدّي اجتهاد المجتهد الواحد إلى إرادتهما معا ، وجوّزه بعضهم ، ثمّ اختلفوا فمنهم من خيّر بين الأمرين حتّى إذا كانت المعتدّة مجتهدة خيّرت بين العدّة بالحيض أو الطّهر.

ومنهم من أوجب تكرّر (٢) الاجتهاد حتّى يترجّح أحدهما.

__________________

(١) لاحظ المعتمد : ١ / ٣٠٦.

(٢) في «ب» و «ج» : تكرير.

٢٢٨

الخامس : القائلون بالمنع من إرادة المعنيين في الجمع إثباتا جوّز بعضهم ذلك في طرف النفي ، حيث لم يقم دليل قاطع على أنّ الوضع ما استعمله في إفادتهما جميعا.

وأجيب (١) بأنّ النفي إنّما يفيد رفع مقتضى الإثبات ، فإذا لم يفد في جانب الإثبات إلّا أمرا واحدا لم يرتفع عند النفي إلّا ذلك المعنى الواحد.

وقد بيّنا جواز ذلك في الإثبات ففي النفي أولى.

أمّا لو قال : لا تعتدّي (٢) بما هو مسمّى بالأقراء يتناول الحيض والطهر معا ، وكان اللفظ متواطئا لا مشتركا ، إذ كون كلّ منهما مسمّى بلفظ الأقراء معنى مشترك بينهما.

المبحث السابع : في مرجوحيّة الاشتراك

إذا دار اللفظ بين الاشتراك وعدمه كان الثاني أولى لوجوه :

الأوّل : قد بيّنا أنّ الغرض من وضع اللفظ إفهام الغير ما في الضمير ، وإنّما يحصل ذلك غالبا لو اتّحد المعنى ، إذ مع الاشتراك تردّد ذهن السامع بين تلك المعاني ، فلا يحصل الفهم ، فتختلّ فائدة التخاطب بالمفردات ، ولا يحصل غرض المتكلّم إلّا مع الاستكشاف ، وقد عرفت حصول الفهم ، فكان الانفراد راجحا.

__________________

(١) المحصول للرازي : ١ / ١٠٤.

(٢) في «ج» : أمّا لو قال : تعتدّي.

٢٢٩

الثاني : لو لا رجحان الانفراد لم تفد الأدلّة السّمعية الظّن فضلا عن العلم ، والتالي باطل إجماعا فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة : أنّ تلك الألفاظ كما دلّت على ما فهمناه تحتمل دلالتها على غيره احتمالا متساويا ، فلا يجوز الحمل على المفهوم ، لاستلزامه الترجيح من غير مرجّح.

الثالث : الانفراد أغلب فيكون أرجح.

أمّا المقدّمة الأولى فاستقرائيّة.

وأمّا الثانية ، فلأنّ الكثرة تفيد ظنّ الرّجحان.

لا يقال : بل الاشتراك أغلب ، فإنّ الكلمة امّا اسم أو فعل أو حرف ، وكتب النحو شاهدة باشتراك الحروف.

وأمّا الفعل كالماضي والمستقبل مشتركان بين الخبر والدعاء ، والمضارع مشترك بين الحال والاستقبال.

وأمّا الأمر فمشترك بين الوجوب والندب.

وأمّا الاسم فالاشتراك فيه كثير ، فإذا ضمّ إليه الأفعال والحروف غلب الاشتراك على الانفراد.

لأنّا نقول : الأصل في الكلام الأسماء ، والاشتراك فيها نادر وإلّا لما حصل التفاهم حالة التخاطب.

الرابع : الاشتراك مخلّ بفهم القائل والسامع ، فيكون مرجوحا.

أمّا السامع ، فلأنّ الغرض الفهم وهو غير حاصل من المشترك ،

٢٣٠

لتردّد الذّهن بين مفهوماته ، وقد يتعذّر عليه السؤال عن التعبير ، إمّا لاستنكافه عنه ، أو لمهابة المتكلّم عنده ، فحينئذ يحمله على غير المراد ، وقد يذكره لغيره فيكثر الجهل.

ومن هنا حكم المنطقيّون بأنّ الغالب في الأغلاط الاشتراك اللّفظي.

وأمّا القائل ، فلأنّه يحتاج مع إثباته بالمشترك إلى التلفّظ بالمفرد لتعيّن مراده ، فيبقى التلفّظ بالمشترك عبثا.

ولأنّه قد يظنّ وقوع ذهن السّامع على القرينة المعيّنة لمراده وليس فيه ضرر ، كما لو قال : أعطه عينا ، وقصد الماء ، فيتوهّم السامع الذهب.

وهذه المفاسد إمّا أن تقتضي امتناع وضع المشترك أو مرجوحيّته.

الخامس : الحاجة إلى المفرد أكثر ، فيكون أرجح من المشترك.

أمّا المقدّمة الأولى ، فلأنّ مهمّات المعاش إنّما تتمّ بإفهام الغير ما في الضمير لتحصل له الاستعانة به ، والإفهام إنّما هو باللّفظ على ما تقدّم ، ومع الاشتراك لا يحصل الفهم ، بل مع الانفراد.

وأمّا قلّة الحاجة إلى المشترك (١) ، فلأنّ الغاية التعريف الإجماليّ ، وهو يحصل بالترديد بين المفردات ، فالغناء واقع في المشترك دون المنفرد ، فيكون المشترك مرجوحا وجودا وتصوّرا.

اعترض (٢) على الأوّلين بأنّ ظنّ وضع اللّفظ للمعنى يوجب حمله عليه ،

__________________

(١) هذه هي المقدّمة الثانية.

(٢) المعترض هو «سراج الدين» لاحظ نفائس الأصول : ١ / ٤٠٢.

٢٣١

وإن احتمل وضعه لغيره احتمالا سواء ، وهو كاف في الفهم والظنّ.

و [اعترض (١)] على الآخرين بأنّهما لا ينفيان وضع القبيلتين ، وهو السبب الأكثريّ للاشتراك.

وليس بجيّد ، أمّا الأوّل ، فلأنّ الظنّ إنّما يحصل على تقدير أصالة الانفراد ، أمّا على تقدير المساواة بينه وبين الاشتراك فلا.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الغالب اتّحاد الواضع وتعدّده نادر ، وإذا قلّ السّبب قلّ مسبّبه.

المبحث الثامن : في سبب التعيين

اللّفظ المشترك إمّا أن يوجد معه قرينة تدلّ على تخصيص أحد معانيه ، أولا.

فإنّ كان الثاني ، بقي مجملا ، لامتناع حمله على الجميع عندنا ، وتساوي نسبته إليها.

وإن كان الأوّل ، فتلك القرينة إن دلّت على اعتبار كلّ واحد من تلك المعاني ، فإن كانت متنافية بقي اللفظ متردّدا بينهما كما كان ، إلى أن يوجد مرجّح آخر.

وإن لم تكن متنافية ، حمل على الجميع.

وقيل : يقع التعارض بين الأدلّة المقتضية لحمل اللفظ على كلّ المعاني ،

__________________

(١) لاحظ الكاشف عن المحصول : ٢ / ١٧٦.

٢٣٢

وبين الأدلة المانعة من إرادة المعاني المشترك منه ، فيصار إلى الترجيح.

وليس بجيّد ، لأنّ الدلالة المانعة من حمل المشترك على [كلّ] معانيه قطعيّة ، لا تقبل المعارضة.

وإن قبلت ، لكن لا تعارض هنا ، لاحتمال أن يكون اللفظ كما وضع لهما منفردين ، وضع للمجموع ، أو أنّ المتكلّم تكلّم به مرّتين ، أو أراد المجاز ، وحينئذ يعمل بالدّليل الدالّ على اعتبارهما معا ، لعدم منافيه.

وإن دلّت على إلغاء كلّ واحد من تلك المعاني ، وجب حمل اللّفظ على مجازات تلك الحقائق الملغاة ، إذ عند تعذّر الحمل على الحقيقة ، يحمل على المجاز.

ثمّ تلك الحقائق الملغاة ، إن كان بعضها أرجح لو لا الإلغاء ، وتساوت المجازات في القرب ، كان مجاز الراجحة راجحا.

وإن تفاوتت [المجازات] فإن كان مجاز الراجحة راجحا ، كان أولى بالرّجحان ، وإلّا وقع التعارض بين المجازين ، لأنّ الراجح من المجازين ، يعارض رجحانه ، مرجوحيّة حقيقته ، فقد اختصّ كلّ منهما بنوع رجحان.

وإن تساوت الحقائق ، فإن كان أحد المجازات أقرب إلى حقيقته ، تعيّن العمل به ، وإلّا بقيت اللفظة متردّدة بين المجازات ، لقيام الدّليل على امتناع حمله على جميع المعاني ، سواء كانت حقيقيّة أو مجازيّة. (١)

__________________

(١) لاحظ المحصول في علم الأصول : ١ / ١٠٩ ـ ١١٠.

٢٣٣

وفيه نظر ، إذ لا يلزم من رجحان بعض الحقائق وتساوي مراتب المجازات ، ترجيح مجاز الرّاجحة ، لأنّه قد ثبت إلغاؤها ، فلم يبق لرجحانها اعتبار ، وكذا إن تفاوتت وكان مجاز الراجحة راجحا ، أو تساوت الحقائق ، وتفاوتت المجازات.

(وإن كان حمل اللفظ على مجازه يقتضي اعتبار الحقيقة ، كان مجاز الراجحة أولى مطلقا ، وإن كان ترجيح المجاز باعتبار نسبته إلى اللفظ ، حمل على الرّاجح مطلقا). (١)

وإن دلّت على اعتبار البعض ، فإن اتّحد ، حمل عليه قطعا ، وإن تعدّد ، كان متردّدا بين أفراد البعض المعتبر.

وإن دلّت على إلغاء البعض ، فإن لم تزد المعاني على اثنين ، تعيّن الحمل على الآخر ، وزال الإجمال ، إذ يجب حمل اللفظ على معناه ، ولا معنى له سوى هذين ، وقد تعذّر الحمل على أحدهما ، فيحمل على الآخر ، دفعا لمحذور الهدريّة.

وإن زادت ، بقي اللّفظ مجملا بين الباقي بعد الإلغاء.

__________________

(١) ما بين القوسين يوجد في «ب» و «ج» وفي هامش بعض النسخ : «أنّه [ما بين القوسين] ليس في النسخة المقروءة على المصنّف».

٢٣٤

الفصل السادس

في الحقيقة والمجاز

ومطالبه ثلاثة :

[المطلب] الأوّل : في الماهية

وفيه مباحث :

[المبحث] الأوّل : في تفسير لفظيهما

الحقيقة في اللّغة فعيلة من الحقّ ، وهو الثّابت ، لأنّ مقابله الباطل وهو المعدوم ، فيكون الحقّ هو الثابت.

ويقال الحقّ ، لدائم الثبوت ، وللواجب ، وللقول المطابق إذا نسب الأمر إليه ، ولو انعكست النّسبة قيل : صدق.

والفعيل يأتي بمعنى الفاعل ، كالعليم والرحيم ، وبمعنى المفعول كالقتيل والجريح.

فإن عني هنا الأوّل ، كان معنى الحقيقة ، الثابتة ، وإن عني الثاني ، كان معناها المثبتة.

٢٣٥

والتاء لنقل اللفظ من الوصفيّة إلى الاسميّة الصّرفة ، فلا يقال : شاة أكيلة ولا نطيحة.

وأمّا المجاز فإنّه مفعل من الجواز أعني التعدي والعبور ، يقال : جزت موضع كذا.

أو من الجواز المقابل للوجوب والامتناع ، وهو في الحقيقة راجع إلى الأوّل ، فإنّ غير الواجب والممتنع متردّد بينهما ، فكأنّه ينتقل من أحدهما إلى الآخر.

ويسمّى المجاز اللّفظي كذلك ، (١) فإنّه نقل من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ، وكأنّه جاز موضعه فسمّي مجازا.

المبحث الثاني : في تعريفهما

اعلم أنّ الحقيقة والمجاز متقابلان ، وحدّ أحدهما ينبئ عن حدّ الآخر ويقضب منه.

وقد اختلف الناس في حدّ الحقيقة والمجاز ، فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم : الحقيقة ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل ، واختاره أبو عبد الله البصري (٢) أوّلا.

وحينئذ يكون المجاز هو الّذي لا ينتظم لفظه معناه ، إمّا لزيادة ، أو نقصان أو نقل.

__________________

(١) في «ب» : لذلك.

(٢) تقدّمت ترجمته.

٢٣٦

فالزيادة كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(١) لو حذفنا الكاف لانتظم الكلام ، واستقام المعنى ، إذ المقصود بيان الواحدة ، وإنّما يتمّ لو كانت الكاف زائدة ، إذ نفي مثل المثل لا يوجب نفي المثل.

والنقصان هو الذي ينتظم عند الزيادة كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) لو قيل : واسأل أهل القرية صحّ الكلام حقيقة ، ولم يحتجّ إلى إضمار.

والنّقل مثل : رأيت أسدا ، وأردت الرّجل الشجاع.

وفيه تكرار لأنّ الزيادة والنقصان إنّما كان المجاز بهما مجازا ، لأنّه نقل عن موضوعه الأصليّ إلى موضوع آخر في المعنى والإعراب ، فلا يجوز جعلهما قسمين للنقل.

أمّا المعنوي فلأنّ قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي مثل مثله ، وهو غير مراد ، لاقتضائه نفيه تعالى وإثبات المثل ، وهو كفر وشرك ، فلم يبق إلّا مجازه وهو نفي المثل ، فيكون قد نقل من نفي مثل المثل إلى نفي المثل. (٣)

وفيه نظر ، لأنّ السالبة تصدق عند عدم الموضوع ، فتصدق مع عدم المثل ، وثبوته تعالى سلب مثل المثل ، والمقصود حاصل لأنّه تعالى ثابت ، فتصدق السالبة بنفي المثل.

وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) موضوع لسؤال القرية ، وقد نقل إلى أهلها.

وأمّا الإعراب فلأنّ الزيادة والنقصان ، إذا لم يغيّر إعراب الباقي لم

__________________

(١) الشورى : ١١.

(٢) يوسف : ٨٢.

(٣) انظر المحصول في علم الأصول : ١ / ١١٣ ـ ١١٤.

٢٣٧

يكن مجازا ، فقولك : جاء زيد وعمرو ، وحذف «جاء» لدلالة الأوّل عليه ، ولمّا لم يتغيّر الإعراب ، لم يحكم عليه بالمجاز ، وكذا في طرف الزيادة.

ومع تغيّر الإعراب يكونان مجازين ، وذلك إنّما يكون عند نقل اللفظ من إعراب إلى إعراب آخر.

وقال أبو عبد الله البصري أخيرا : «الحقيقة ، ما أفيد بها ما وضعت له» والمجاز : «ما أفيد به غير ما وضع له» نقله فخر الدين عنه (١).

واعترض عليه بأنّه يدخل في الحقيقة ما ليس منها ، فإنّ لفظة الدّابّة إذا استعملت في الدودة والنّملة فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنّها بالنسبة إلى الوضع العرفيّ مجاز ، فقد دخل المجاز العرفيّ فيما جعله حدّا لمطلق الحقيقة ، وهو باطل.

وقوله في المجاز : إنّه ما أفيد به غير ما وضع له ، باطل بالحقيقة العرفيّة والشرعيّة ، فإنّ اللّفظة أفيد بها ـ والحال (٢) هذه ـ غير ما وضعت له في أصل اللّغة ، فقد دخلت هذه الحقيقة في المجاز.

وأيضا إمّا أن يريد بقوله : «ما أفيد به غير ما وضع له» أنّه أفيد به غير ما وضع له بدون القرينة أو معها.

والأوّل باطل ، لعدم إفادة المجاز بدون القرينة.

والثاني ينتقض بما إذا استعمل لفظ السماء في الأرض ، فإنّه قد أفيد به

__________________

(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ١١٤ ؛ ولاحظ المعتمد في أصول الفقه : ١ / ١٢.

(٢) في المصدر : «والحالة».

٢٣٨

غير ما وضع له ، مع أنّه غير مجاز فيه ، وينتقض بالأعلام المنقولة.

لا يقال : العلم لا يفيد.

لأنّا نقول : مسلّم ، لأنّه لا يفيد صفة في المسمّى ، بل يفيد عين تلك الذات. (١)

وفيه نظر ، فإنّ اسم الدّابّة حقيقة في النّملة والدّودة وإن كان مجازا عرفيّا ، فإنّه لا يخرج بذلك عن كونه حقيقة لغويّة ، وهو الجواب عن المجاز ، فإنّ الحقيقة العرفيّة والشرعيّة مجاز لغويّ ، ولا يخرج عن كونه مجازا بكونه حقيقة عرفيّة أو شرعيّة.

ونقل أبو الحسين البصريّ عنه في التعريف الآخر : أنّ الحقيقة هي ما أفيد به ما وضع له في اللّغة الّتي يتكلّم المرء بها ، سواء كان ذلك في أصل اللّغة ، أو في عرف الشّرع ، أو في عرف الاستعمال (٢).

ولا يرد عليه ما تقدّم.

والسيّد المرتضى حدّها بذلك أيضا. (٣)

وقال ابن جنّي (٤) : الحقيقة : ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللّغة ، والمجاز ما كان بضدّه.

ويضعّف بخروج الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة عن حدّ الحقيقة ، ويدخلان فيما جعله مجازا.

__________________

(١) المحصول في علم الأصول : ١ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ١ / ١٢ ـ ١٣.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٠.

(٤) هو أبو الفتح عثمان بن جنّي الموصلي ، من أئمّة الأدب والنّحو ، صاحب التأليفات الكثيرة ، مات سنة ٣٩٢ ه‍ ؛ لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٢٠٤ ؛ وريحانة الأدب : ٧ / ٤٥٠.

٢٣٩

وأيضا فقوله : «المجاز ما كان بضدّ ذلك» معناه أنّه الّذي ما أقرّ في الاستعمال على [أصل] وضعه في اللّغة ، ويبطل باستلزام كون استعمال لفظ الأرض في السماء مجازا.

وقال عبد القاهر (١) : الحقيقة كلّ كلمة أريد بها عين ما وقعت له في وضع واضع ، وقوعا لا يستند فيه إلى غيره ، كالأسد للبهيمة المخصوصة.

والمجاز كلّما أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثّاني والأوّل.

وهذا يقتضي خروج الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة عن حدّ الحقيقة ودخولهما في حدّ المجاز ، وهو غير جائز ، ومع ذلك فاستعمال لفظة «كلّ» في الحدّ خطأ.

وقال أبو الحسين البصري : الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الّذي وقع التخاطب ، ويدخل فيه اللّغويّة ، والشرعيّة والعرفيّة.

والمجاز ما أفيد به معنى مصطلحا عليه ، غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة الّتي وقع التخاطب فيها. (٢) لعلاقة بينه وبين الأوّل.

فالأخير لم يذكره ولا بدّ منه ، وإلّا كان وضعا جديدا لا مجازا.

وقيد الاصطلاح يعطي اشتراط الوضع في المجاز ، ومن لا يشترطه يحذفه.

__________________

(١) هو عبد القاهر الجرجاني واضع أصول البلاغة كان من أئمّة اللّغة توفّي سنة ٤٧١ ه‍. لاحظ الأعلام للزركلي : ٤ / ٤٨.

(٢) المعتمد في أصول الفقه : ١ / ١١.

٢٤٠