نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

لا يقال : ليس الذّمّ لمجرّد الترك ، بل لعلمهم أنّ سيّده كاره للترك.

أو لأنّ الشريعة دلّت على وجوب طاعة العبد لمولاه.

أو لأنّ السيّد إنّما يأمر بما فيه نفعه ودفع ضرره ، والعبد يجب عليه إيصال المنافع ودفع المضارّ عن سيّده.

سلّمنا ، أنّ الذّم لأجل الترك خاصّة ، لكن نمنع أنّ فعلهم صواب ، فإنّ الأمر لو كان بمعصية لم يستحقّ العبد الذمّ.

ولأنّ الأمر قد ورد للندب ، فلو كان ترك المأمور به علّة للذّم ، لكان المندوب واجبا.

لأنّا نقول : إذا انتقم السيّد من عبده عند عدم الامتثال ، علّل العقلاء الانتقام بعدم الامتثال ، ولو لا أنّ علّة حسن الانتقام مخالفة الأمر ، لم يصحّ ذلك ، فعلم أنّ كراهة الترك ، لا مدخل لها في هذا الباب.

والشريعة أوجبت الطاعة فيما أوجبه المولى ، لا مطلقا.

وجلب النفع ودفع الضّرر ، لا يفيد الوجوب إلّا إذا أوجبه السيّد ، فإنّه لو قال : «لك أن تفعل ذلك وألا تفعله ، لكن الأولى أن تفعل» ، لم يجب على العبد الفعل ، وكذا لو قام غيره مقامه (١).

واشتراط كون الأمر غير معصية ، مسلّم ، لكن يجب إجراؤه على الوجوب فيما عداه ، والمندوب ليس مأمورا به (٢).

__________________

(١) أي لو علم أنّ غيره يقوم مقامه في دفع المضرّة.

(٢) هذا الأمر ذكره الرّازي في المحصول لاحظ : ١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

٤٢١

وفيه نظر ، إذ من يعتقد كونه للندب أو للقدر المشترك ، يمنع حسن الذّم بمجرّد مخالفة الأمر المطلق ، بل مخالفة الأمر الدّالّ على الوجوب.

الثاني عشر : لفظ «افعل» يدلّ على اقتضاء الفعل ووجوده ، فيكون مانعا من نقيضه ، كالخبر ، فإنّه لمّا دلّ على المعنى منع من نقيضه.

والجامع : أنّ اللفظ وضع لإفادة معنى ، فيكون مانعا من النقيض ، تكميلا لذلك المقصود ، وتقوية لحصوله.

لا يقال : مسلّم أنّ الدالّ على الشيء مانع من نقيضه ، لكن يجوز أن يدلّ «افعل» على أولويّة الإدخال في الوجود ، فمنع من نقيضها.

لأنّا نقول : الفعل مشتقّ من المصدر ، فلا يشعر إلّا به ، ومصدر «اضرب» هو الضرب ، لا أولويّته ، فإشعار الخبر والأمر به ، لا بالأولويّة ، فيمنع من نقيضه ، لا من نقيض الأولويّة. (١)

وفيه نظر ، فإنّ «افعل» يدلّ على الطلب ، وهو يمنع من نقيضه ، لكن الطّلب قد يقارن المنع من نقيض المطلوب ، وقد يقارن جوازه ، وهو من حيث طلب ، أعمّ منهما ، فلا إشعار فيه بالوجوب.

الثالث عشر : الأمر يفيد الرّجحان ، فيكون مانعا من النقيض.

أمّا الأوّل : فلأنّ المأمور به إن كان خاليا عن المصلحة ، كان مجرّد مفسدة ، فلا يجوز الأمر به.

وإن كان مشتملا على مصلحة مرجوحة ، فيعارض ما فيه من المصلحة

__________________

(١) هذا ما ذكره الرازي في المحصول. لاحظ : ١ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥.

٤٢٢

مساوية من المفسدة ، ويبقى الزائد من المفسدة مجرّد مفسدة خالية عن المعارض ، فيرجع إلى الأوّل ، وهو اشتمال الأمر على مفسدة خالصة.

وإن تساويا ، كان الأمر به عبثا غير لائق بالحكيم.

فلم يبق إلّا أن يكون مصلحة خالصة ، أو زائدة على المفسدة.

وحينئذ (١) لا يرد الإذن بالترك ، وإلّا لزم تفويت المصلحة الخالصة ، لأنّه إن وجدت مفسدة مرجوحة ، صارت معارضة بمساويهما من المصلحة ، ويبقى الزائد من المصلحة مصلحة خالصة ، وتفويت المصلحة الخالصة غير لائق بالحكيم ، لأنّه قبيح عرفا ، فيكون كذلك عند الله تعالى ، لقوله عليه‌السلام : ما راه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما راه المسلمون قبيحا ، فهو عند الله قبيح (٢).

والمندوب خفّف الله تعالى فيه على العبد ، فيبقى الباقي على حكم الأصل.

لا يقال : كما أنّ الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح ، فكذا إلزام المكلّف استيفاء المصلحة ، بحيث لو لم يستوفها ، استحقّ العقاب قبيح أيضا ، إذ يقبح عرفا : «استوف هذه المنافع لنفسك ، وإلّا عاقبتك».

لأنّا نقول : إنّه وارد في جميع التكاليف ، فلو كان معتبرا بطلت (٣).

__________________

(١) هذا هو الشقّ لقوله «أمّا الأوّل» فكان الانسب أن يقول «وأمّا الثاني فلا يرد ...».

(٢) عوالي اللئالي : ١ / ٣٨١ (قطعة من الحديث) وأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده : ١ / ٣٧٩ ؛ والحاكم في المستدرك : ٣ / ٧٨.

(٣) الإشكال والجواب مذكوران في المحصول لاحظ : ١ / ٢٢٦. وقد اعترض عليه المصنّف فيما يأتي بقوله : «وفيه نظر» كما نقل اعتراضا أخر عليه ، وهو لصاحب التحصيل. كما في الكاشف عن المحصول : ٣ / ٢٣١.

٤٢٣

وفيه نظر ، فإنّ الفعل قد يكون مشتملا على مصلحة خالصة عن المفاسد ، ولا يكون واجبا.

نعم إن اشتمل تركه على مفسدة كان واجبا ، وبهذا الحرف خرج المندوب عن الوجوب.

واعترض أيضا ، بأنّه لما انتقض كلّ منهما ، وجب الترجيح.

فيه نظر ، فإنّا نمنع النقض (١) لأنّ الإذن في الترك إذن في إنكار القبيح ، وإلزام استيفاء المصلحة إلزام بالحسن ، والأوّل قبيح دون الثاني.

الرابع عشر : الأمر يدلّ على الرجحان قطعا ، وهو لا ينفكّ عن أحد قيدي : المنع من الترك ، والإذن فيه.

وإفضاء المنع من الترك إلى الوجود ، أكثر من إفضائه إلى العدم ، وإفضاء الإذن في الترك إلى العدم ، أكثر من إفضائه إلى الوجود.

ومعلوم أنّ الّذي هو أكثر إفضاء إلى الرّاجح ، راجح على الّذي يكون إفضاء إلى المرجوح ، فشرعيّة المنع من الترك راجحة على شرعيّة الإذن فيه.

والعمل بالظنّ واجب ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا أقضي بالظاهر» (٢).

ولأنّ العمل بالمرجوح ترجيح بالمرجوح على الرّاجح ، وهو باطل بالضّرورة ، فيتعيّن الراجح.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : النّقيض.

(٢) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة ولكن يوافقه ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض ، وإنّما أقضي على نحو ما أسمع منه ... وسائل الشيعة : ١٨ / ١٦٩ ـ ١٧٠ ، الباب ٢ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ١ و ٣.

٤٢٤

ولأنّ العمل بالفتوى ، والشهادات ، وقيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، وتعيين القبلة عند الظنّ ، واجب بالإجماع.

وإنّما وجب ترجيح الرّاجح على المرجوح ، وهو حاصل هنا ، فوجب العمل به (١).

وفيه نظر فإنّ الأمر إذا دلّ على مطلق الرّجحان ، الّذي هو جنس للوجوب والنّدب ، لم يبق فيه دلالة على الوجوب ، وشرعيّة المنع من الترك ، مرجوحة بالنّسبة إلى شرعيّة الإذن فيه ، أمّا أوّلا فللأصل الدالّ على البراءة وعلى العدم.

وأمّا ثانيا فللظنّ بأنّه لو كان على وجه المنع من الترك ، لبيّنه ، وأزال الشكّ والالتباس ، ولم يقتصر في الدّلالة على ذلك ، مع أنّه يستحقّ تاركه العقاب على لفظ شامل للوجوب وغيره.

الخامس عشر : للوجوب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ مفرد يدلّ عليه ، لوجود القدرة على الوضع ، والدّاعي ، وانتفاء المانع ، وهي «افعل» ، لانتفاء غيرها بالإجماع.

أمّا عند الخصم ، فلأنّه (٢) ينكر ذلك على الإطلاق.

وأمّا عندنا ، فلأنّا نقول به في غير صيغة «افعل».

لا يقال : نمنع الدّاعي وشدّة الحاجة إلى التّعبير ، والحاجة إلى التعريف

__________________

(١) الاستدلال مذكور في المحصول : ١ / ٢٢٧.

(٢) في «أ» : فإنّه.

٤٢٥

باللّفظ ، لجواز تعريف الوجوب بقرينة الحال.

سلّمنا اللّفظ ، لكنه موجود وهو أوجبت ، وحتّمت ، وألزمت.

ونمنع الحاجة إلى المفرد ، وانتفاء المانع ، إذ اللّغة توقيفيّة ، وكانوا ممنوعين من الوضع.

ونمنع وجوب الفعل عند قيام الدّاعي ، وانتفاء الصّارف.

وتعارض المقدّمة باشتداد الحاجة إلى لفظ يدلّ على الحال ، وأخر على الاستقبال ، ولم يوضع لهما مفرد ، وكذا أصناف الرّوائح مختلفة ، والحاجة إلى تعريفها شديدة ، وكذا أصناف الاعتمادات.

ويعارض الحكم باشتداد الحاجة إلى التعبير عن أصل الترجيح المشترك بين الواجب والندب ، كاشتداد الحاجة إلى التعبير عن الوجوب ، فوجب وضع لفظ له ، وليس إلّا «افعل» ، وكذا من قال : المندوب مأمور به.

ومن قال بالاشتراك قال : قد تقع الحاجة إلى التعريف الإجماليّ لأحد هذين ، فلا بدّ له من لفظ وهو «افعل».

ولأنّ الحاجة إلى التعبير عن الوجوب شديدة ، فلو كانت صيغة «افعل» موضوعة له ، وجب أن يعرف كلّ أحد ذلك ، وزال الخلاف.

سلّمنا اشتداد الحاجة إلى التعبير عن الوجوب ، وأنّه «افعل» ، فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك؟

سلّمنا ، لكن هذا الدّليل يقتضي ثبوت اللّغة بالقياس ، وهو باطل.

٤٢٦

لأنّا نقول : الإنسان الواحد لا يستقلّ بإصلاح كلّ ما يحتاج إليه ، بل يحتاج إلى جمع عظيم يعين كلّ منهم صاحبه في مهمّه ، لينتظم حال النوع ، وتحصل مصلحة الكلّ من الكلّ ، فإذا احتاج أحدهم إلى صاحبه في فعل ، فلا بدّ وأن يعرّفه إيّاه ، وأنّه لا بدّ منه ، ولا يجوز له الإخلال به ، فظهر اشتداد الحاجة ، وقيام الداعي.

والقرائن لا تفيد ، لما تقدّم ، من أنّ التعريف لما في الضمير ، إنّما هو باللّفظ دون غيره ، والمفرد أخفّ من المركّب وأوجز ، فيغلب على الظن وضعه ، كغيره من الألفاظ المفردة.

والموانع منتفية ، لكونها في الأصل كذلك ، والأصل بقاء ما كان على ما كان.

والأصل عدم التوقيف ، ولو سلّم فالدليل آت فيه ، وعدم المنع من الوضع ، فيحصل ظنّ بقاء ذلك.

وعند وجود القدرة والدّاعي ، يجب الفعل ، لأنّ القادر إن لم يمكنه الترك تعيّن الفعل ، وإن أمكنه : فإن لم يترجّح الفعل ، لم يكن الدّاعي داعيا ، وإن ترجّح وجب الوقوع ، وإلّا عاد البحث.

ونمنع شدّة الحاجة إلى التعبير عن الحال والاستقبال والروائح والاعتمادات ، كاشتداد الحاجة إلى تعريف الإلزام ، فإنّ الإنسان قد تمضي عليه مدّة طويلة لا يحتاج إلى التعبير عمّا ذكرتم ، مع دوام حاجته إلى التعبير عن معنى الوجوب.

وجعل الصّيغة للوجوب أولى من جعلها للمشترك ، لكون المشترك

٤٢٧

لازما للوجوب ، فأمكن جعله مجازا فيه ، بخلاف العكس.

والوجوب أولى من الندب ، لعدم جواز الإخلال بالأوّل دون الثاني ، والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به.

وإنّما يلزم الاشتهار ، لو سلم عن المعارض ، أمّا مع ثبوته ، فلا يظهر الفرق بينه وبين معارضه إلّا على وجه غامض لم يلزم ذلك.

وقد تقدّم أنّ الأصل عدم الاشتراك. (١)

وفيه نظر ، لأنّ الحاجة شديدة إلى التعبير عن الترجيح المطلق من حيث هو ، وإذا تعارضت الحاجتان كان الوضع للأعمّ أولى.

السادس عشر : حمله على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر ، وحمله على الندب يقتضي الشكّ ، فوجب حمله على الوجوب.

أمّا الأوّل ، فلأنّ المأمور به إن كان واجبا فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعد الإقدام على مخالفة الأمر.

وإن كان ندبا فالقول بوجوبه سعي في تحصيل المندوب بأبلغ الوجوه ، وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر.

فعلى التقديرين ، هو غير مقدم على المخالفة.

فلو حملناه على النّدب فبتقدير النّدب لا تحصل المخالفة ، وبتقدير الوجوب يكون قد جوّزنا تركه ، وكان الترك مخالفة للوجوب ، فحمله على

__________________

(١) الاستدلال مذكور في المحصول للرازي : ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٢.

٤٢٨

النّدب يقتضي الشكّ في المخالفة ، فيجب حمله على الوجوب ، لقوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١).

ولأنّه إذا تعارض طريقان : أحدهما امن قطعا والآخر مخوف ، وجب عقلا ترجيح الامن.

لا يقال : نمنع أنّ حمله على المندوب يقتضي الشكّ في الإقدام على المحظور.

قوله : بتقدير الوجوب يكون حمله على المندوب سعيا في الترك ، وأنّه محظور.

قلنا : نمنع إمكان كون المأمور به واجبا ، فإنّا لو علمنا بدلالة لغويّة : أنّ الأمر لم يوضع للوجوب ، وعلمنا من الحكيم عدم تجرّده عن القرينة إلّا وهو غير واجب ، فإذا حملناه على الندب أمنّا الضرر.

مع أنّ حمله على الوجوب يحتمل الضرر ، إذ بتقدير انتفائه ، كان اعتقاد كونه واجبا ، جهلا ، وتكون نيّة الوجوب قبيحة ، وكراهة أضداده قبيحة.

لأنّا نقول : إذا علمنا أنّ «افعل» لا يجوز استعماله إلّا في الوجوب أو الندب ، فقبل علمنا بالتعيين ، لو حملناه على الوجوب ، لم نخالف الأمر قطعا ، ولا نقطع بعدم المخالفة لو حملناه على النّدب ، فيقتضي العقل حمله على الوجوب قبل العلم بالتعيين ، ليحصل القطع بعدم المخالفة.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٨ / ١٢٧ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٦ ، وعوالي اللئالي : ١ / ٣٩٤ ، وأخرجه الترمذي في سننه : ٤ / ٦٦٨ ، رقم الحديث ٢٥١٨ ؛ والنسائي في سننه : ٨ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ١ / ٢٠٠ ؛ والحاكم في المستدرك : ٤ / ٩٩.

٤٢٩

ثمّ بعد ذلك ، قيام الدّليل على كونه للندب ، إشارة إلى المعارض ، يفتقر مدّعيه إلى دليل.

قوله : حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل.

قلنا : هذا خطأ في الاعتقاد ، وهو حاصل في الطرفين ، وما ذكرناه احتمال الخطأ في العمل ، وهو مختصّ بالنّدب.

وإذا اشتركا في أحد نوعي الخطأ ، واختصّ الندب بالنوع الآخر ، كان جانب الوجوب أولى (١).

وفيه نظر ، فإنّ حمله على الوجوب كما هو خطأ في الاعتقاد ، كذا هو خطأ في المأمور به ، فإنّ المندوب إذا فعل على وجه الوجوب ، يقع الخطأ في الاعتقاد ، ولا تحصل المندوب ، لأنّه لم يقع على الوجه المطلوب شرعا.

احتجّ المنكرون للوجوب بوجوه :

الأوّل : العلم بأنّ الأمر للوجوب ليس عقليّا ، إذ لا مجال للعقل فيه ، ولا نقليّا متواترا ، وإلّا لعرفه كلّ أحد ، ولا آحادا ، لأنّ المسألة العلميّة لا يحتجّ فيها بخبر الواحد الظنّي.

وهذه حجّة أصحاب الوقف ، إذ لو قالوا بالنّدبية أو الاشتراك ، عاد عليهم النقض.

الثاني : نصّ أهل اللّغة على عدم الفرق بين السؤال والأمر إلّا الرّتبة ، وهو

__________________

(١) الإشكال والجواب مذكوران في المحصول للرازي لاحظ : ١ / ٢٣٤.

٤٣٠

يقتضي الاشتراك في جميع ما عداها ، فكما لا يدلّ السؤال على الإيجاب ، فكذا الأمر ، تحقيقا للتّسوية.

الثالث : قد وردت الصّيغة في الوجوب والندب معا ، والأصل عدم الاشتراك والمجاز ، فيكون موضوعا للقدر المشترك بينهما ، وهو أصل الترجيح.

ولا شكّ في أنّ الدالّ على الكلّ (١) لا يدلّ على شيء من الجزئيّات بإحدى الدّلالات الثلاث ، فلا إشعار لهذا الصّيغة بالوجوب البتّة ، بل إنّما تدلّ على أصل الترجيح.

وأمّا جواز الترك فقد كان معلوما بالعقل ، ولم يوجد المزيل ، فيحكم ببقائه ، وحينئذ يجب الحكم برجحان الفعل ، مع كونه جائز الترك ، وهو معنى النّدب.

الرابع : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا (٢).

فوّض [الأمر] إلى استطاعتنا ، وهو دليل الندب.

والجواب عن الأوّل : يجوز أن يكون لدليل مركّب من النقل والعقل ، مثل : إنّ تارك المأمور به عاص ، والعاصي يستحقّ العقاب ، فيلزم عقلا من تركيب هاتين النقليّتين أنّ الأمر للوجوب.

__________________

(١) في «ب» : على الكلّيّ.

(٢) عوالي اللئالي : ٤ / ٥٨ (قطعة من الحديث) ونقله الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام : ١ / ٢٩٨.

٤٣١

سلّمنا ، لكن لا نسلّم أنّ المسألة قطعيّة ، بل ظنيّة فيكفي خبر الواحد.

وعن الثاني : أنّ السؤال للإيجاب ، وإن كان لا يلزم منه الوجوب ، فإنّ السائل قد يقول [للمسئول منه] : لا تخلّ بمقصودي ، ولا بدّ لي منه ، وذلك صريح في الإيجاب.

وعن الثالث : أنّ المجاز قد يصار إليه لدليل.

وعن الرابع : المنع من دلالة الحديث على الندب ، بل على الوجوب.

واعلم أنّ السيّد المرتضى نقل الإجماع من الإماميّة على أنّ الأمر في العرف الشرعيّ للوجوب (١).

وهو الّذي اخترناه نحن ، وإنّما طوّلنا الكلام في هذه المسألة لكونها من المهمّات.

المبحث الثاني : في الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان

ذهب أكثر الفقهاء القائلين بأنّ الأمر للوجوب إلى أنّ الصّيغة لو وردت عقيب حظر أو استئذان أفادت الإطلاق ورفع الحظر.

وذهب الباقون إلى أنّها تفيد ما يفيد عقيب غيرهما ، من وجوب ، أو ندب ، أو اشتراك.

وهو الحقّ ، لنا : أنّ المقتضي للوجوب مثلا موجود ، والمعارض لا يصلح للمانعيّة ، فثبت الوجوب.

__________________

(١) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ٥٥.

٤٣٢

أمّا الأوّل ، فلأنّ المقتضي إنّما هو الصّيغة على ما تقدّم.

وأمّا انتفاء المانع ، فلأنّه كما أمكن الانتقال من الحظر إلى الإباحة ، أمكن الانتقال من الحظر إلى الوجوب قطعا.

ولأنّه لو أمر ولده بالخروج من الحبس إلى المكتب ، لم يكن للإباحة ، بل للوجوب ، مع أنّه أمر بعد الحظر المستفاد من الحبس. (١)

وفيه نظر ، لاستفادة الوجوب هنا من القرينة ، وكذا أمر الحائض والنفساء بالعبادة عقيب تحريمها ، وهو للوجوب ، وهذا كثير النظائر.

ولأنّ الأمر إنّما يدلّ على ما يدلّ عليه ، لكونه أمرا ، وهذه الصّيغة موجودة بعد الحظر.

ولأنّ الحظر العقلي اكد من السمعيّ ، وقد علمنا أنّ وروده بعد الحظر العقليّ لا يمنع من الوجوب ، فكذا بعد السمعيّ.

احتجّوا بأنّ الأوامر الإلهيّة إذا وردت عقيب الحظر أفادت الإباحة :

(فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا)(٢).

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(٣).

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)(٤).

(فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ)(٥).

__________________

(١) الاستدلال مذكور في المحصول للرازي : ١ / ٢٣٦.

(٢) الأحزاب : ٥٣.

(٣) المائدة : ٢.

(٤) البقرة : ٢٢٢.

(٥) البقرة : ١٨٧.

٤٣٣

ولأنّ العرف يقضي بذلك ، فإنّ السيّد إذا منع عبده من فعل شيء ، ثمّ قال له : افعل فهمت الإباحة.

والجواب : يشكل بقوله تعالى :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١).

فإنّه يفيد الوجوب ، إذ الجهاد من فروض الكفايات.

وقوله [تعالى] : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)(٢) وحلق الرأس نسك لا مباح.

والعرف معارض بصورة أمر الصبيّ بالخروج إلى المكتب.

قال قاضي القضاة : إنّ الأمّة إنّما حملت (فَاصْطادُوا فَانْتَشِرُوا) على الإباحة ، لأنّها علمت من قصد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ضرورة أنّ هذه الأشياء مباحة لو لا ما عرض من إحرام أو تشاغل بالصلاة. (٣)

فائدة : القائلون بأنّ الأمر بعد الحظر للإباحة ، اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب ، فقال بعضهم : إنّه للإباحة.

وقال آخرون : لا تأثير للوجوب السّابق بل يفيد التحريم.

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) البقرة : ١٩٦.

(٣) نقله عنه صاحب المعتمد لاحظ : ١ / ٧٧.

٤٣٤

المبحث الثالث : في أنّ الأمر لا يقتضي التكرار

اختلف الناس في الأمر المجرّد عن القرائن ، فقال أبو اسحاق الاسفرايني (١) وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين : إنّه يقتضي التكرار المستوعب لمدّة العمر مع الإمكان.

وقال آخرون : إنّه لا يقتضي واحدة ولا تكرارا من حيث المفهوم ، إلّا أنّ ذلك المطلوب لمّا حصل بالمرّة الواحدة ، اكتفي بها.

وهو الحقّ ، وهو مذهب سيّد المرتضى (٢) وأبي الحسن البصري (٣) وفخر الدين الرّازي (٤).

وقال قوم : إنّه يقتضي الواحدة.

وآخرون توقّفوا إمّا لادّعاء الاشتراك بين المرّة والتكرار ، أو لعدم العلم بأنّه حقيقة في المرّة أو التكرار.

لنا وجوه :

الأوّل : الصيغة قد وردت في المرّة تارة ، وفي التكرار أخرى.

أمّا في الشرع ، فكالأمر بالحجّ والعمرة ، فإنّه للمرّة ، والأمر بالصّلاة والزّكاة ، فإنّه للتكرار.

__________________

(١) تقدّمت ترجمته.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٠٠.

(٣) المعتمد : ١ / ٩٨ ـ ٩٩.

(٤) المحصول : ١ / ٢٣٧.

٤٣٥

وأمّا في العرف ، فلأنّ السيّد إذا أمر عبده بالدخول إلى منزله ، أو بشراء اللّحم ، لم يفهم منه التكرار ، حتّى أنّ العبد لو كرّر ذلك لامه العقلاء ، ولو ذمّه السيّد على عدم التكرار ، لامه العقلاء أيضا.

ولو أمره بحفظ الدابّة ، فحفظها ساعة ثمّ أهمل ، لامه العقلاء ، لفهم التكرار.

فقد ظهر استعمال اللّفظ في كلّ منهما عرفا وشرعا ، فيكون موضعا لقدر المشترك بينهما ، وهو مطلق إدخال الماهيّة في الوجود ، لا يفيد واحدة ولا تكرارا ، دفعا للاشتراك والمجاز.

وإذا كان موضوعا للقدر المشترك ، لم يكن فيه دلالة البتّة على أحد القيدين ، لعدم دلالة الجنس على شيء من فصوله ومميّزاته.

نعم لمّا كانت المرّة من ضرورات إدخال الماهيّة في الوجود ، لا جرم دلّ على المرّة من حيث الالتزام ، لا من حيث الوضع.

الثاني : نصّ أهل اللّغة على عدم الفرق بين «يفعل» و «افعل» إلّا في كون الأوّل خبرا ، والثاني أمرا.

ولمّا كان مقتضى الأوّل يحصل بالمرّة ، فكذا الثاني ، وإلّا لحصل الفرق بينهما في غير الخبريّة والأمريّة.

الثالث : إفادة التكرار يستلزم الاستغراق في جميع الأوقات ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

بيان الشرطية : عدم أولويّة بعض الأوقات دون بعض ، إذ لا إشعار في اللفظ ولا في المعنى.

٤٣٦

وأمّا بطلان التّالي فبالإجماع.

ولأنّه يلزم إذا أمره بعبادتين متعاقبتين أن تكون الثانية ناسخة للأولى ، لوجوب استيعاب الوقت للأولى ، واقتضاء الثانيّة إزالتها عن بعضها ، والنسخ ليس إلّا رفع الحكم بعد ثبوته.

ومن المعلوم بالضّرورة أنّ الحجّ ليس نسخا للصلاة ، ولا أمر غسل اليد ناسخا لغسل الوجه ، ولا الأمر بالصّلاة نسخا للوضوء.

الرّابع : يحسن تقييده بهما ، فيقال : افعل مرّة أو متكرّرا ، من غير نقض ولا تكرار لأحدهما ، فكان موضوعا للقدر المشترك.

الخامس : المرة والتكرار من الصفات ، كالقليل ، والكثير ، ولا دلالة للموصوف على الصّفة.

السادس : يحسن الاستفهام عند مطلق الأمر ، عن الواحدة والتكرار.

احتجّ القائلون بالتكرار بوجوه :

الأوّل : تمسّك الصحابة بتكرار الزّكاة بقوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ)(١) وسوغوا قتال مانعيها ، وكذا الصلاة وغيرها من الأوامر الشرعيّة.

الثاني : الأمر والنّهي اشتركا في مطلق الطلبيّة ، إلّا أنّ الأمر طلب الفعل ، والنهي طلب التّرك (٢) وإذا كان النّهي يفيد التكرار ، كان الطّلب الآخر كذلك.

__________________

(١) البقرة : ٤٣.

(٢) في «ج» : طلب ترك الفعل.

٤٣٧

الثالث : لو لم يفد التكرار لم يجز الاستثناء منه ، لأنّه حينئذ يكون نقضا ، ولما جاز نسخه ، والتاليان باطلان ، فكذا المقدّم.

الرابع : ليس في اللّفظ إشعار بوقت معيّن ، فإمّا أن يجب دائما وهو المطلوب ، أو وقتا بعينه ، فيلزم الترجيح من غير مرجّح ، إذ ليس اقتضاء إيقاع الفعل في ذلك الزمان ، أولى من اقتضاء إيقاعه في آخر ، فإمّا ألا يقتضي إيقاعه في شيء البتّة ، وهو باطل بالإجماع ، أو إيقاعه في الجميع ، وهو المطلوب.

الخامس : التكرار أحوط ، فيكون أولى ، إذ بالتكرار يأمن من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى ، بخلاف المرّة ، فيكون أولى ، دفعا لضرر الخوف.

السادس : قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) يعمّ كلّ مشرك ، فقوله : «صم» يعمّ جميع الأزمان ، لأنّ نسبة اللّفظ إلى الزمان كنسبته إلى الأشخاص.

السابع : الأمر بالصّوم اقتضى فعله ، واعتقاد وجوبه ، والعزم عليه أبدا ، فكذا الموجب الآخر.

الثامن : قوله عليه‌السلام «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (٢) وهو يدلّ على وجوب التكرار.

التاسع : سأل عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا راه قد جمع بطهارة واحدة بين صلاتين

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) تقدّم مصدر الحديث.

٤٣٨

عام الفتح قال : «أعمدا فعلت هذا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : نعم» (١).

ولو لا أنّه فهم تكرار الطّهارة من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)(٢) لكان السّؤال عبثا.

العاشر : إذا قال : أحسن عشرة (٣) فلان ، فهم الدّوام.

الحادي عشر : لو لم يقتض التكرار ، لكان المفعول الثاني (٤) قضاء لا أداء.

الثاني عشر : لو لم يفد التكرار ، لكان المكلّف إذا ترك الفعل في الأوّل ، احتاج في فعله في الثاني إلى دليل.

الثالث عشر : الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، والنّهي يعمّ ، فيلزم التكرار.

واحتجّ القائلون بالواحدة بوجوه :

الأوّل : أجمع أهل اللغة على أنّ من أمر غيره بفعل ولا عادة متقدّمة ، أنّه يفعل مرّة واحدة بلا زيادة.

الثاني : اشتقّ أهل اللغة من الضرب أمثلة : ضرب ويضرب واضرب ، وقد علمنا أنّ جميع ما اشتقّوه لا يفيد التكرار ، فيكون الأمر كذلك.

الثالث : حملوا الأمر على الإيقاعات والتمليكات في أنّه لا يفيد التكرار.

الرابع : لو حلف ليصلّينّ أو ليصومنّ ، عدّ ممتثلا بالمرّة.

واحتجّ القائلون بالاشتراك بحسن الاستفهام ، فيقال : أردت مرّة أو

__________________

(١) نقله الآمدي في الإحكام : ١ / ٣٠٠.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) في «أ» : عشيرة.

(٤) في «ج» : المفعول في الوقت الثاني.

٤٣٩

التكرار؟ ، ولهذا حسن سؤال سراقة (١) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أحجّتنا لعامنا هذا أم للأبد؟ (٢)

ولأنّه استعمل فيهما ، فيكون مشتركا ، إذ الأصل في الكلام الحقيقة.

احتجّ القائلون بالوقف بأنّه لو حمل على التكرار أو المرّة لكان لدليل ، ولا مجال للعقل ، ولا تواتر ، والآحاد لا تفيد.

والجواب عن الأوّل : أنّ الأمر وإن لم يقتض التكرار فلا ينافيه ، فجاز حمله عليه عند اقتران ما يدلّ عليه ، فلعلّ الصحابة سمعوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما يدلّ على التكرار فيما ثبت فيه التكرار ، لا لمجرّد الأمر.

وعن الثاني : بالفرق ، فإنّ الانتهاء [عن الفعل] أبدا ممكن ، بخلاف الفعل أبدا.

ولأنّ النّهي كنقيض الأمر ، فإذا اقتضى النّهي الدّوام ، اقتضى الأمر عدمه.

وعن الثالث : بمنع ورود النسخ ، فإن فرض ، كان قرينة في إرادة التكرار.

ومن يقول بالفور يمنع الاستثناء ، أمّا من ينفيه فإنّه يقول بتخيير المكلّف بالإتيان به في أيّ وقت شاء ، فالاستثناء يرفع المستثنى عن تسويغ إيقاع الفعل فيه.

وعن الرابع : أنّ الأولويّة ثابتة عند القائلين بالفور ، ومن ينفيه يجعل الأمر

__________________

(١) هو سراقة بن مالك ، كنيته أبو سفيان ، كان شاعرا أسلم عام الفتح ، وتوفّي سنة ٢٦ ه‍ انظر ترجمته في اسد الغابة : ٢ / ٢٦٤.

(٢) عوالي اللئالي : ٢ / ٢٣٥ ، ونقله الباقلاني في التقريب والإرشاد : ٢ / ١١٨ ، والقرطبي في تفسيره : ٤ / ١٤٣ في ذيل الآية ٩٦ من سورة آل عمران.

٤٤٠