نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ١

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-152-1
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٦٢٩

عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)(١)(نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)(٢)(لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)(٣). فقوله (اثْنَيْنِ) لا يفيد شيئا.

الثاني : يجب الوقف على قوله (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ)(٤) وذلك يستلزم الخطاب بما لا يعلم.

أمّا مقدمة الأولى ، فلأنّه لولاه لاشترك المعطوف والمعطوف عليه في قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فيصير التقدير : أنّ الله تعالى يقول : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا).

وذلك محال في حقّه تعالى ، فلا تكون «الواو» هنا للعطف ، بل للابتداء ، فحينئذ ينحصر علم التأويل في الله تعالى ، فالمتشابهات لا نعلمها ، وقد خوطبنا بها.

الثالث : خاطب [الله] الفرس بلسان العرب ، وهم لا يفهمونه ، فجاز مطلقا.

والجواب عن الأوّل : أنّ الحروف إمّا أسماء السور ، أو موضوعة لمعان ذكرها المفسّرون.

والتمثيل برءوس الشياطين ، القصد به التمثيل بالمستقبح ، وقد كانت العرب تستقبح ذلك ، فضرب بهم المثل.

وقوله (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) و (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وغيرهما يراد به التأكيد ، وهو أمر معلوم مفيد لتقوية المعنى.

وعن الثاني : لا استبعاد في إرادة العطف ، وتخصيص الحال ببعض ما تقدّم ، فإنّه لا بعد في تخصيص العام بدليل عقليّ.

وعن الثالث : أنّ الفرس متمكّنون من فهم الخطاب بالتعبير ، بخلاف ما لا يفهم منه البتّة.

__________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) الحاقة : ١٣.

(٣) النحل : ٥١.

(٤) آل عمران : ٧.

٣٤١

واعلم أنّ هذه المسألة إنّما تتمشّى على قواعد المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليّين ، ويلزم الأشاعرة موافقة الحشويّة وإن لم يصرّحوا به.

المبحث الثاني :

في أنّه تعالى يستحيل أن يخاطب بما يدلّ ظاهره على غير المقصود من غير قرينة

اتّفق الناس على ذلك إلّا المرجئة (١).

لنا : أنّه قبيح ، لاشتماله إمّا على الإغراء بالجهل أو تكليف ما لا يطاق ، فاللازم باطل والملزوم مثله.

بيان الملازمة : أنّه قصد إفهامنا ، وإلّا كان عبثا ، فأمّا أن يقصد فهم ظاهره ، وهو إغراء بالجهل ، إذ ليس ذلك مقصوده ، أو فهم غير ظاهره ، وذلك يستلزم تكليف ما لا يطاق ، إذ يمتنع فهم غير الظاهر من اللّفظ من دون القرينة ، وإلّا كان هو الظاهر.

وأيضا اللّفظ الخالي عن البيان ، يكون بالنسبة إلى غير ظاهره مهملا ،

__________________

(١) المرجئة : على زنة «المرجعة» بصيغة الفاعل من أرجأ الامر : أخّره. والإرجاء : التأخير ، والمرجئة طائفة من المسلمين اهتمّوا بالإيمان دون العمل ، فقدّموا الأوّل وأخّروا الثاني ولذلك أطلقت عليهم المرجئة : أي المؤخّرة للعمل ، واشتهروا بقولهم : لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. لاحظ موسوعة بحوث في الملل والنحل لشيخنا السبحاني : ٣ / ٧٣ ـ ٧٤.

٣٤٢

وقد بيّنا أنّ التكلم بالمهمل ممتنع على الله تعالى.

لا يقال : إن عنيت بالمهمل ما لا فائدة فيه البتّة ، فلا نسلّم أنّ الأمر كذلك ، فإنّه [تعالى] لو تكلّم بما يقتضي ظاهره التوعّد ولا يكون قاصدا له ، يحصل منه فائدة التخويف للمكلّف ، فينقاد لأمره تعالى ، ويمتنع من الإقدام على ما ينهى عنه.

وإن عنيت أنّه لم تحصل فائدة الإفهام ، سلّمنا ذلك ، لكن لم قلت : إنّه غير جائز على الله تعالى؟ فإنّ ذلك هو أوّل المسألة.

لأنّا نقول : قد بيّنا امتناع حصول فائدة الإفهام والانقياد ، والامتناع عن الإقدام فرع قصد الإفهام.

وأيضا لو فتحنا هذا الباب لم يبق اعتماد على شيء من خبره تعالى ولا من خبر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لا خبر إلّا ويحتمل أن يكون المقصود منه غير المفهوم ، وهو معلوم البطلان.

واعلم أنّ هذه المسألة أيضا لا تتمشّى على قواعد الأشاعرة ، حيث نفوا الحسن والقبح العقليّين ، بل على قواعد المعتزلة.

احتجّت المرجئة بالآيات المتشابهة ، والدالّة (١) على اليد ، واليمين ، والوجه ، والرّوح ، ومكر الله ، والاستواء على العرش ، وغير ذلك ، فإنّها لا يراد منها ما فهم عنها من ظواهرها ، بل ما ليس بمعلوم عندنا.

والجواب : أنّ الآيات المتشابهة لها تأويلات ظاهرة عند أهل التفسير ، فلا يكون خطابا بغير المفهوم.

__________________

(١) في «ب» و «ج» : كالدالّة.

٣٤٣

المبحث الثالث : في أنّ الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة قد تكون قطعيّة

نازع في ذلك جماعة ، وزعموا أنّ الأدلّة اللّفظية كلّها ظنيّة ، واحتجّوا على ذلك بأنّه يتوقف على مقدّمات كلّها ظنيّة ، والموقوف على الظنّيّ أولى أن يكون ظنيّا.

بيان المقدّمة الأولى : أنّه يتوقف على مقدّمات عشر ظنيّة ، فتكون ظنيّة.

المقدّمة الأولى : نقل اللّغة ، والنحو ، والتصريف ، في أمور ظنّية ، إذ المرجع في ذلك إلى أهل اللّغة ، وقد وقع الإجماع على انتفاء عصمتهم وعدم تواترهم ، فجاز عليهم الخطأ والغلط والتّصحيف ، وقد غلط بعضهم بعضا في مواضع متعدّدة.

والمرجع في النحو والتصريف إلى أشعار القدماء ، لكنّ التمسك بتلك الأشعار ، يتوقف على مقدّمتين ظنّيتين :

إحداهما : أنّ رواتها آحاد ، والآحاد لا تفيد العلم.

وأيضا ، فإنّها مرسلة ، والمرسل مردود عند الأكثر.

الثانية : سلّمنا أنّه صحّ النقل عن ذلك الشاعر ، لكن جاز أن يلحن ويغلط.

أقصى ما في الباب : أنّه عربيّ قد يلحن.

ولهذا ، فإنّ جماعة من الأدباء حكموا بلحن أكابر شعراء الجاهليّة ، وإذا كانوا قد حكموا بلحنهم تقدح امتنع الوثوق بقولهم.

لا يقال : هذه الأغلاط نادرة ، فلا تقدح.

٣٤٤

لأنّا نقول : مسلّم أنّها لا تقدح في الظنّ ، لكن تقدح في اليقين قطعا ، لتطرّق الاحتمال في كلّ واحد من الألفاظ والإعرابات أنّه ذلك اللّحن النادر ، فيرتفع اليقين.

المقدمة الثانية : عدم الاشتراك ، إذ بتقديره يجوز أن يكون المراد من هذا الكلام غير ما فهم عنه ، وهو ذلك المعنى ، ولا شك في أنّ عدم الاشتراك ظنّي ، إذ طريقه الرجوع إلى الأصل ، وليس ذلك قطعيّا.

[المقدّمة] الثالثة : عدم المجاز ، فإنّ بتقدير أن يريد الله تعالى بلفظه مجازه لا يريد حقيقته ، فحمله على الحقيقة لا يتعيّن إلّا بتقدير عدم المجاز ، ولا شكّ في أنّ عدم المجاز ظنّيّ ، وهو أنّ الأصل عدمه.

[المقدّمة] الرابعة : عدم النقل ، إذ بتقدير أن يكون الشارع قد نقل اللّفظ عن معناه إلى معنى آخر ، لم يبق الوثوق بإرادة المنقول عنه ، دون المنقول إليه ، فلا يتعيّن المعنى الموضوع له إلّا بتقدير عدم النقل ، لكن عدم النقل ظنّيّ لا قطعيّ.

[المقدّمة] الخامسة : عدم الإضمار ، إذ بتقديره لا يبقى اللّفظ مفيدا للظّاهر ، بل لذلك المضمر ، فلا يتعيّن الحمل على الظاهر إلّا بعد العلم بانتفاء الإضمار ، وانتفاء الإضمار ظنّيّ لا قطعيّ.

[المقدّمة] السادسة : عدم التخصيص ، فإنّ العامّ إنّما يحمل على عمومه لو لم يكن مخصوصا ، لكن عدم المخصّص ظنيّ لا قطعيّ.

[المقدّمة] السّابعة : عدم النّاسخ ، فإنّ التعبّد إنّما يثبت بالدليل النقلي لو لم يكن منسوخا ، إذ بتقدير نسخه يبطل حكمه ، لكن عدم الناسخ ظنّيّ لا قطعيّ.

٣٤٥

[المقدّمة] الثامنة : عدم التقديم والتأخير ، إذ بتقديره يتعيّن المعنى المعيّن المدلول عليه باللّفظ ، فلا تتعيّن إرادة الظاهر إلّا مع العلم بانتفاء التقديم والتأخير ، وذلك غير حاصل ، أقصى ما في الباب ظنّ انتفائه.

[المقدّمة] التاسعة : عدم المعارض النقليّ الراجح عليه ، إذ مع وجود ما يعارضه من الأدلّة النقليّة الراجحة عليه ، لا يجب المصير إليه ، فتعيّن العمل به إنّما يتمّ بنفي المعارض الراجح ، لكن نفيه ظنيّ ، فإنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.

[المقدّمة] العاشرة : عدم المعارض العقليّ ، إذ لو دلّ على نقضه دليل عقليّ لتعيّن المصير إليه ، وتأويل النقليّ ، لما عرفت من أنّ العقليّ لا يعارضه النقليّ ، إذ لو تعارضا لامتنع العمل بهما وتركهما ، لاستحالة الخلوّ عن النقيضين والجمع بينهما.

ويستحيل العمل بالنقل ، إذ إبطال العقليّ يستلزم إبطال فرعه ، وهو النقليّ ، فلو رجّح النّقليّ لزم إبطال الدليلين معا ، فلم يبق إلّا العمل بالعقليّ (١) وتأويل النقليّ ، لكن عدم المعارض العقليّ ظنّيّ لا قطعيّ.

فعلم انّ الدّليل النقليّ فرع هذه الأمور العشرة ، وهذه ظنيّة ، فيكون أولى بالظنيّة.

لا يقال : إذا سمعنا دليلا نقليّا ، فلو كان فيه شيء من هذه المفاسد ، لوجب على الله تعالى إظهاره.

__________________

(١) في «أ» و «ج» : بالعقل.

٣٤٦

لأنّا نقول : لا نسلّم وجوب ذلك ، وظاهر أنّه ليس كذلك ، فإنّ كثيرا من العلماء يسمع آية أو حديثا ولا يعلم ما اشتمل عليه من اللّغة ، والنحو ، والتصريف ، (١) وغير ذلك. (٢)

والجواب : أنّ محكمات القرآن مثل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٣) وغيره يعلم أنّ المراد منها ظاهرها ، وأنّ هذه المطاعن منتفية عنها علما قطعيّا ، فيكون مثل تلك تفيد اليقين.

المبحث الرابع : في كيفيّة الاستدلال بالخطاب

اعلم أنّ اللّفظ قد تقصر دلالته على معناه فيفتقر إلى ضمّ شيء آخر إليه ، لتتمّ دلالته على معناه ، وقد يستغني عن تلك الضميمة.

ثمّ إمّا أن يدلّ على الحكم بلفظه أو بمعناه ، فالأقسام ثلاثة :

[القسم] الأوّل : ما يدلّ على الحكم بلفظه.

اعلم أنّ اللفظ إذا أطلق وجب حمله على حقيقته ما لم يقم مانع يمنع منه ، ولمّا انقسمت الحقيقة إلى اللّغوية ، والشرعيّة ، والعرفيّة ، انقسم اللّفظ إلى ما لا يوجد فيه سوى واحد منها وهي اللّغوية ، وإلى ما يوجد فيه أكثر.

فالأوّل : يجب الحمل عليه ، إذ لم يوجد مغيّر من قبل الشرع ولا من قبل العرف.

__________________

(١) أيّ لا يعرفون ما في نحوها ولغتها وتصريفها من الاحتمالات العشرة الّتي ذكرناها.

(٢) الإشكال والجواب للرازي في محصوله : ١ / ١٧٧.

(٣) التوحيد : ١.

٣٤٧

وأمّا الثاني : فنقول : إذا كان اللّفظ في اللّغة موضوعا لمعنى واحد ، وفي العرف قد استعمل في غيره ، فإمّا أن يخرج بالعرف عن حقيقته اللغويّة أو لا.

فإن خرج حتّى صار مجازا في المعنى اللّغوي ، وجب الحمل على العرفي ، لأنّه المتبادر إلى الفهم والظاهر من اللفظ (١).

وإن لم يخرج كان مشتركا بينهما ، ويجب مثل هذا في الاسم المنقول إلى معنى شرعيّ.

فإذا ورد من الشرع خطاب قد استعمل في اللغة لمعنى ، وفي العرف لآخر ، وفي الشرع لثالث ، وجب حمله على الحقيقة الشرعيّة.

فإن لم يكن له حقيقة شرعيّة وجب حمله على الحقيقة العرفيّة.

فإن انتفت فعلى الحقيقة اللغويّة.

فان انتفت أو تعذّر استعمالها فعلى المجاز اللغوي.

فإن خاطب الله تعالى طائفتين بخطاب وكان عند إحداهما حقيقة في معنى ، وعند آخرين في آخر ، وجب أن يحمل كلّ واحد منهما على ما تتعارفه ، أو توجد قرينة تعيّن المراد ، وإلّا لكان مخاطبا بغير ما هو ظاهر عنده مع عدم القرينة ، وقد تقدّم بطلانه.

القسم الثاني : ما يدلّ عليه بمعناه ، وهي الدلالة الالتزاميّة ، وقد سبقت.

[القسم] الثالث : ما يتوقّف في الدّلالة على الضميمة ، بأن يكون بحيث لو ضمّ إليه شيء آخر ، صار المجموع دليلا على الحكم ، وأقسامه أربعة :

__________________

(١) في «أ» : الظاهر من اللفظ.

٣٤٨

الأوّل : أن ينضمّ إلى النصّ نصّ آخر فيصير المجموع دليلا على الحكم.

إمّا بأن يدلّ أحدهما على مقدّمة والآخر على الثانية ، مثل تارك المأمور به عاص ، لقوله [تعالى] : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)(١) والعاصي يستحقّ العقاب لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ)(٢).

أو بأن يدلّ أحدهما على ثبوت حكم لشيئين ، والآخر على أنّ بعضه لأحدهما ، فيثبت الباقي للثاني ، مثل (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(٣) مع قوله (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٤) فيبقى الباقي مدّة الحمل.

الثاني : أن ينضمّ إلى النصّ إجماع ، كما إذا دلّ النّص على أنّ الخال يرث ، ودلّ الإجماع على مساواة الخالة ، فيجب القطع بأنّها ترث.

الثالث : أن ينضمّ إليه قياس ، كما دلّ النصّ على تحريم الرّبا في البرّ ، ودلّ القياس على مساواة التّفاح له عند القائل بالقياس مطلقا وعندنا مع نصّ العلّة لقوله : «انتقص إذا جفّ».

الرابع : أن ينضمّ إليه شهادة حال المتكلّم ، كما إذا كان كلام الشارع متردّدا بين الحكم العقليّ والشرعيّ ، فحمله على الشرعيّ أولى ، لأنّه بعث لتعريف الأمور الشرعيّة لا العقليّة.

هذا مع تردّد الخطاب بينهما ، ولو ظهر في أحدهما لم يصحّ التّرجيح.

__________________

(١) طه : ٩٣.

(٢) النساء : ١٤.

(٣) الأحقاف : ١٥.

(٤) البقرة : ٢٣٣.

٣٤٩

المبحث الخامس : في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره

قد بيّنا أنّه يجب الحمل على الظاهر مع التجرّد عن القرائن ، فإن دلّ دليل على امتناع الحمل على ظاهره ، وجب العدول عنه ، ولا يجوز القول بإهماله ، بل لا بدّ أن يراد به معنى ما لما تقدّم من استحالة أن يخاطب الحكيم بما لا مفهوم له ، وحينئذ نقول :

الخطاب إمّا أن يكون خاصّا أو عامّا ، فإن كان خاصّا وكان حقيقة في شيء ، ثمّ وجد ما يصرفه عنه ، فلا يخلو :

إمّا أن يدلّ ذلك الموجود على أنّ المراد ليس هو الظّاهر ، أو على أنّ غير الظاهر مراد ، أو على أنّ الظّاهر من الخطاب وغير الظاهر مرادان.

فإن كان الأوّل خرج الظاهر عن الإرادة ، فيجب حمله على المجاز ، فإن اتّحد وجب الحمل عليه من غير قرينة أخرى ، وإلّا لزم الإلغاء.

وإن تعدّد فإن دلّ دليل على إرادة معيّن منها وجب المصير إليه ، وإن دلّ على أنّه غير مراد ، فإن لم يبق إلّا وجه واحد حمل عليه ، وإلّا فإمّا أن تكون وجوه المجاز غير محصورة ، فعند القاضي عبد الجبار يجب نصب دليل على المراد ، لامتناع إرادتها أجمع ، مع تعذّر انحصارها علينا (١).

واعترض أبو الحسين (٢) باحتمال إرادة الجميع على البدل ، فإنّه ممكن

__________________

(١) انظر كلام القاضي عبد الجبار في المعتمد : ١ / ٣٤٩ ؛ والمحصول في علم الأصول : ١ / ١٨١.

(٢) المعتمد : ١ / ٣٤٩.

٣٥٠

مع فقد دلالة التعيين ومع عدم الحصر ، وأنّه تعالى لو أوجب علينا ذبح بقرة كنّا مخيّرين فى أيّة بقرة شئنا.

أمّا من لا يجيز إرادة المعنيين المختلفين فما زاد من اللفظة الواحدة فيجب عنده إقامة دليل على المراد ، لأنّ اللّفظ لم يوضع على التخيير.

وإن انحصرت وجوه المجاز ، فإن كان البعض أقوى من الباقي حمل على الأقوى مراعاة لجانب القوّة ، وإن تساوت حمل اللّفظ عليها بأسرها على البدل.

أمّا على الجميع ، فلعدم أولويّة البعض بالإرادة.

وأمّا البدليّة ، فلعدم عموم الخطاب حتّى يحمل على الجميع.

هذا عند من يجوّز استعمال المشترك في مفهوميه ، ومن منع يقول : لا بدّ من البيان.

وإن كان الثاني ، وهو أن يدلّ على ان غير الظاهر مراد ، فإن عيّنه الدّليل حمل عليه ، وإلّا فكالأوّل.

وإن كان الثالث ، وهو أن يدلّ على إرادة الظاهر وغيره فلا بدّ من إمكان الجمع بينهما ، وحينئذ إن تعيّن ذلك الغير وجب الحمل على المجموع ، ويكون اللفظ موضوعا لهما إمّا لغة أو شرعا أو قد تكلّم بالكلمة الواحدة مرّتين.

وإن لم يتعيّن ذلك الغير فكالأوّل.

وإن كان [الخطاب] عامّا حمل على العموم مع التجرّد ، وإن لم يتجرّد فإن دلّت القرينة على أنّ المراد ظاهره وغير ظاهره ، وتعيّن ذلك الغير ، حمل اللّفظ عليه ، على ما تقدّم من التفصيل ، وإن لم يكن معيّنا ، فالكلام فيه كما في

٣٥١

الخاصّ إذا دلّ الدّليل على أنّ المراد غير ظاهره.

وإن دلّت على أنّ المراد ليس ظاهره ، أو على أنّ المراد غير ظاهره ، فلا بدّ من دليل على التعيين ، لأنّه إذا لم يكن ظاهره مرادا ، جاز أن يكون المراد بعض ما يتناوله ، أو شيئا لم يتناوله ، فلا يصحّ الجمع ، فلا بدّ من دليل التعيين.

وإن دلّت على أنّ بعضه مراد ، لم يقتض خروج البعض الآخر عن الإرادة ، لعدم التنافي.

وإن دلّت على أنّ المراد هو البعض الآخر ، خرج الأوّل عن الإرادة ، للدّلالة على أنّ الآخر هو كمال المراد.

وإن دلّت على أنّ بعضه ليس بمراد ، خرج عن الإرادة ، وبقي ما عداه مرادا.

المبحث السّادس :

في أنّ ثبوت حكم الخطاب إذا تناوله مجازا ، لا يدلّ على أنّه مراد بالخطاب

ذهب الكرخي (١) وأبو عبد الله البصري (٢) إلى وجوب ذلك.

ونفاه الباقون ، وهو الحقّ.

مثاله : قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)(٣) فإنّ الدّليل قائم على وجوب

__________________

(١) تقدّمت ترجمته ص ٢١٩.

(٢) تقدّمت ترجمته ص ٢١٩.

(٣) المائدة : ٦.

٣٥٢

التيمّم على المجامع ، الّذي يتناوله اسم «الملامسة» بالمجاز من حيث الكناية ، ولا يدلّ على أنّه هو المراد بالآية.

لنا : أنّ المقتضي لإجراء الآية على ظاهرها موجود ، والمانع لا يصلح للمانعيّة فيجب الإجراء.

أمّا المقتضي فظاهر.

وأمّا المانع وهو ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله مجازا ، فإنّه لا يصلح للمانعيّة ، لاحتمال ثبوته بدليل آخر.

احتجّوا بأنّ ثبوت الحكم في صورة المجاز يفتقر إلى دليل ، ولا دليل سوى هذا الظاهر ، وإلّا لنقل.

وإذا حمل [الظاهر] على المجاز ، انتفى الحمل على الحقيقة ، لامتناع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا.

والجواب : المنع من نفي الدّليل ، وعدم النقل للاستغناء بالإجماع عن نقله.

تذنيبات

الأوّل : لمّا كان اللّفظ لا يفيد بجنسه ، إذ يوجد في المهمل كوجوده في المستعمل ، فلا بدّ من أمر باعتباره يفيد ، وهو الإرادة.

ولا يكفي الوضع في الخطاب ، وإلّا لساوى كلام الساهي والنائم كلام القاصد.

٣٥٣

ثمّ الإرادة الّتي لكونها خطابا ، يحتاج إليها في سائر ضروب الخطاب (لأنّ هنا إرادتين :

إحداهما : إرادة للخطاب نفسه ، وهي عامّة.

والاخرى : إرادة لما يفيده الخطاب ، فهي مختصّة بالأمر ، كإرادة الصلاة من قوله : «أقيموا الصّلاة» (١)).

والّتي تتناول ما يفيده الخطاب ، تتناول الأمر ، ولا يجب في الخبر.

ولمّا كانت إرادته تعالى لا تعرف من كلامه إلّا بالاستدلال ، اشترط في الاستدلال بكلامه على ما أراده أمور :

منها : أن يكون قد أراد بخطابه أمرا ما.

ومنها : ألا يقع كلامه على وجه قبح من كذب وغيره.

ومنها : ألا يعمّي (٢) علينا مراده ، بل يريد ما وضع الكلام له ، فإن أراد غيره بيّنه ، إذ مع تجويز عدم أحدها يتعذّر الاستدلال بكلامه على مراده.

ولهذا لم يصحّ من الحشويّة الاستدلال بشيء من القرآن ، حيث قالوا : لا نعلم معناه إلّا بتفسير من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن العجب أنّهم يرجعون في التفسير إلى أخبار آحاد ، وإلى تفسير الضّحاك وأمثاله ، ويتركون ظاهر الكتاب العزيز.

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في «ج» فقط والقرينة تشهد على صحّته.

(٢) مأخوذ من التعمية.

٣٥٤

ولم يصحّ من المجبّرة الاستدلال بشيء من القرآن ، لأنّهم لا يؤمنون أن تكون أخباره كذبا ، وأمره أمرا بباطل ، ونهيه نهيا عن حقّ.

ولم يصحّ من المرجئة الاستدلال بخطابه ، حيث قالوا : إنّ الله تعالى أراد بقوله (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ)(١) إن جازيته ، ولم يدلّنا على ذلك ، إذ لا يؤمن بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٢) أن يكون قد شرطه بإرادتنا ولم يبيّنه.

الثاني : يشترط في الاستدلال بخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا يجوز أن يكتم بعض ما أمر بتبليغه ، وألا يكذّب فيما يؤدّيه عن الله سبحانه ، وألا يؤدّي على وجه يقتضي التنفير عن خطابه ، إذ مع التنفير لا يحصل الغرض ، فإنّ العبد حينئذ ينفر عن النظر فيما أدّاه.

الثالث : لمّا كان الإجماع حجّة على ما يأتي ، وهو قول الأمّة ، وجب أن يشترط في خطابهم ما شرطناه في خطاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا التّنفير ، لتعذّره منهم على كثرتهم ، إذ التنفير يقع بكلام على وجه ، ويتعذّر اتّفاقهم على ذلك القول على ذلك الوجه.

الرابع : الخطاب له تعلّق بالفعل ، وله تعلّق بالمخاطب ، وقد عرفت أنّ المقتضي للخطاب هو الإرادة ، فلا بدّ وأن يريد كون العبارة عبارة عمّا هي عبارة عنه ، ويريد كونها عبارة لمخاطب دون آخر ، وكلّ واحدة منهما مخالفة للاخرى.

وقد يختلفان في العموم والخصوص ، مثل : يا زيد «صلّ الصلاة» أو «يا أيّها الناس صلّوا هذه الصلاة» وقد يتّفقان عموما أو خصوصا.

__________________

(١) النساء : ٩٣.

(٢) البقرة : ٤٣.

٣٥٥
٣٥٦

المقصد الرّابع : في الأمر والنّهي

وفيه فصول

[الفصل] الأوّل :

في المقدّمات

وفيه مباحث :

المبحث الأوّل :

اعلم أنّه لمّا كان الأمر نوعا من الكلام ، وجب تقديم تحقيق ماهيّته ، وإن كان البحث عنه مصادرة في هذا الفنّ ، وإنّما برهن عليه وعلى تحقيقه المتكلّم.

فنقول : اختلف الناس في ماهيّة الكلام ، فالّذي عليه المحقّقون من المعتزلة والأوائل : أنّ الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، (١) وليس جنسا متميّزا في ذاته ، ولا حقيقة مغايرة لهذا العبارات والأصوات الدالّة على المعاني.

__________________

(١) انظر المعتمد في أصول الفقه : ١ / ٩ ـ ١٠.

٣٥٧

وذهبت الأشاعرة إلى أنّ الكلام معنى قائم في النفس وجنس حقيقيّ ، ومغاير للحروف والأصوات ، تدلّ عليه هذه العبارات والرقوم والكتبة ، وما عداها من العلامات (١).

واختلف قول أبي الحسن الأشعري في هذه الأصوات والعبارات ، والظاهر من قوليه : أنّ الكلام يطلق عليها بنوع من المجاز ، كما يسمّى علوما باعتبار دلالتها عليها.

وذكر في جواب المسائل البصرية : أنّها كلام حقيقة ، وكذا كلام النفس.

فعنده أنّ كلام النفس معنى وجنس وحقيقة ، كالعلم والقدرة وغيرهما ، وأنّ ذلك المعنى مغاير للحروف والأصوات ، ومغاير لتصوّرها ، ومغاير أيضا لإرادة ما دلّت الأصوات عليه والعلم به.

ويذهب أيضا إلى أنّه في حقّ الله تعالى قديم ، وأنّه واحد ، ليس أمرا ولا نهيا ، ولا خبرا ولا غير ذلك من أساليب الكلام.

وهذه الدّعاوي كلّها مع غرابتها عن برهان غير متصوّرة ، والبحث في ذلك قد ذكرناه في كتبنا الكلاميّة.

المبحث الثاني : في حقيقة الأمر

اتّفق الناس على أنّه حقيقة في القول المخصوص ، واختلفوا في كونه حقيقة في غيره.

__________________

(١) لاحظ المنخول من تعليقات الأصول ، تأليف أبي حامد الغزالي : ١٦٣.

٣٥٨

فقال البغداديّون : إنّه مشترك بين القول المخصوص والأدلّة الفعليّة (١) على وجوب الأفعال.

وقال آخرون : إنّه حقيقة في القول والفعل على سبيل الاشتراك اللّفظي. واختاره السيّد المرتضى (٢) وجماعة من الفقهاء.

وقال أبو الحسين البصري : إنّه مشترك بين القول المخصوص ، وبين الشيء ، وبين الصّفة ، وبين الشأن ، والطريق ، وزعم أنّه ليس حقيقة في الفعل من حيث إنّه فعل ، بل من حيث هو شأن. (٣)

والحق أنّه حقيقة في القول المخصوص ومجاز فيما عداه.

لنا : أنّه قد ثبت أنّه حقيقة في القول المخصوص ، فلو كان حقيقة في غيره لزم الاشتراك ، وهو على خلاف الأصل.

لا يقال : إنّه مستعمل في غيره ، ولو لم يكن حقيقة لزم المجاز ، وهو على خلاف الأصل أيضا.

لأنّا نقول : قد بيّنا أولويّة المجاز على الاشتراك إذا تعارضا.

__________________

(١) وفي أكثر النسخ مكان «الفعليّة» «العقليّة» والأصوب ما في المتن حاصله : ان لفظ «الأمر» لا صيغة الأمر مشترك بين القول المخصوص «افعل» والفعل الدالّ على الوجوب كفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ويؤيّد ذلك انّه نسب محمد بن أحمد السمرقندي هذا القول في ميزان الأصول ص ٨١ إلى بعض أصحاب الشافعي ثمّ قال «وفائدة الخلاف تظهر في أفعال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل هي موجبة مثل أوامره»؟.

(٢) الذريعة : ١ / ٢٧.

(٣) انظر المعتمد : ١ / ٣٩.

٣٥٩

واحتجّ السيد المرتضى (١) باستعماله تارة في القول المخصوص ، وهو وفاق ، وأخرى في الفعل ، فإنّهم يقولون : أمر فلان مستقيم وغير مستقيم ، ويريدون طرائقه وأفعاله دون أقواله.

ويقولون : هذا أمر عظيم ، كما يقولون : خطب عظيم ، ورأيت من فلان أمرا أهالني.

وقالت الزّباء (٢) :

لأمر ما جدع قصير أنفه.

وقال الشاعر (٣) :

 ....................

لأمر ما يسوّد من يسود

وفي الكتاب العزيز (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا)(٤) ويريد به الأهوال والعجائب الّتي فعلها الله تعالى ، وخرق بها العادة.

وقوله تعالى : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ)(٥) وأراد الفعل.

وقوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(٦).

__________________

(١) الذريعة إلى علم الأصول : ١ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) الزّباء ملكة اسمها نائلة وقيل : فارعة وقيل : ميسون ، وكانت زرقاء. انظر خزانة الأدب : ٨ / ٢٧٧ و ٧ / ٢٧٢ وقد شرح قصّة المثل فلاحظ مجمع الأمثال للميداني : ٢ / ١٩٦ ، الرقم ٣٣٦٧.

(٣) هو أنس بن مدرك (مدركة) الخثعمي ، وصدره :

عزمت على أقامة ذي صباح

لأمر ما يسود من يسود

انظر خزانة الأدب : ٣ / ٨٦ ـ ٨٧ ، ومجمع الأمثال للميداني : ٢ / ١٩٦ ، الرقم ٣٣٦٦.

(٤) هود : ٤٠.

(٥) هود : ٧٣.

(٦) هود : ٩٧.

٣٦٠