تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى.

وقال سعيد بن جبير (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «لا إله إلا الله والجهاد في سبيله» وقال عطاء الخراساني هي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «بسم الله الرحمن الرحيم». وقال قتادة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «لا إله إلا الله» (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي هو عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر ، وقد قال النسائي : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا شبابة بن سوار عن أبي رزين عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن بسر بن عبد الله عن أبي إدريس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقرأ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأغلظ له فقال إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعلمني مما علمه الله تعالى ، فقال عمر رضي الله عنه : بل أنت رجل عندك علم وقرآن ، فاقرأ وعلم مما علمك الله تعالى ورسوله.

وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقضية الصلح

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا : خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال : يا رسول الله هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل (٢) ، قد لبست جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة (٣) أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش فو الله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عزوجل أو تنفرد هذه السالفة».

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٢٣ ، ٣٢٦ ، ٣٢٨ ، ٣٣١.

(٢) العوذ : جمع عائذ : هي الناقة إذا وضعت ، والمطافيل : النوق القريبة العهد بالنتاج معها أطفالها.

(٣) العنوة : القهر والغلبة.

٣٢١

ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة ، قال فسلك بالجيش تلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، ركضوا راجعين إلى قريش ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس خلأت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلأت وما ذلك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس : «انزلوا» قالوا : يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس ، فأخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه فيه ، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحقه ، فاتهموهم.

قال محمد بن إسحاق : قال الزهري : كانت خزاعة في عيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مشركها ومسلمها لا يخفون على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كان بمكة ، فقالوا : وإن كان إنما جاء لذلك فو الله لا يدخلها أبدا علينا عنوة ، ولا يتحدث بذلك العرب ، ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أحد بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هذا رجل غادر» فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو مما كلّم به أصحابه ، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني ، وهو يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي» في وجهه فبعثوا الهدي فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله ، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعظاما لما رأى فقال : يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صده الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله ، قالوا : اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك.

فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد ، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلس بين يديه فقال : يا محمد جمعت أوباش الناس ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ، قال وأبو بكر رضي الله عنه قاعد خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٢٢

فقال : امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه؟ قال من هذا يا محمد؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا ابن أبي قحافة «قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها.

ثم تناول لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقف على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديد ، قال : فقرع يده ثم قال أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل والله أن لا تصل إليك قال ويحك ما أفظك وأغلظك! فتبسم رسول الله قال : من هذا يا محمد؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» قال : أغدر ، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ قال : فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل ما كلم به أصحابه ، وأخبره بأنه لم يأت يريد حربا. قال فقام من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ، فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما ، والله ما رأيت ملكا قط مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم.

قال : وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة ، وحمله على جمل له يقال له الثعلب ، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش ، فمنعتهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا عمر رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني بها عثمان بن عفان رضي الله عنه.

قال : فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعثه يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته ، فخرج عثمان رضي الله عنه حتى أتى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه أردفه خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان رضي الله عنه : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : واحتبسته قريش عندها قال : وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.

قال محمد : فحدثني الزهري أن قريشا بعثوا سهيل بن عمرو وقالوا : ائت محمدا فصالحه ولا تلن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا ، فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل». فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تكلما وأطالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح.

فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأتى أبا بكر

٣٢٣

رضي الله عنه فقال : يا أبا بكر أو ليس برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا عمر الزم غرزه حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله. فقال عمر رضي الله عنه : وأنا أشهد ، ثم أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أولسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى» قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني» ثم قال عمر رضي الله عنه : ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ ، حتى رجوت أن يكون خيرا.

قال : ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل بن عمرو : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» فقال له سهيل بن عمرو : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال. وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب : أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فتواثبت خزاعة فقالوا ، نحن في عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب.

فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال وقد كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه ، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه قال : يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال «صدقت» فقام إليه فأخذ بتلابيبه قال وصرخ أبو جندل بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟ قال فزاد الناس شرا إلى ما بهم. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم».

قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فجعل يمشي مع أبي جندل ، وهو يقول

٣٢٤

اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ، قال : ويدني قائم السيف منه ، قال يقول : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه. قال : فضن الرجل بأبيه ، قال ونفذت القضية ، فلما فرغا من الكتاب ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل ، قال : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس انحروا واحلقوا» قال : فما قام أحد ، قال ثم عاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثلها ، فما قام رجل ، حتى عاد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثلها فما قام رجل ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقال «يا أم سلمة ما شأن الناس؟» قالت : يا رسول الله قد دخلهم ما رأيت ، فلا تكلمن منهم إنسانا واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق ، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكلم أحدا حتى إذا أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق ، قال : فقام الناس ينحرون ويحلقون ، قال حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح.

هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه ، وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد البكائي عن ابن إسحاق (١) بنحوه وفيه إغراب.

وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به نحوه ، وخالفه في أشياء ، وقد رواه البخاري (٢) رحمه‌الله في صحيحه فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة ، فقال في كتاب الشروط من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه.

فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره (٣) وأحرم منها بعمرة ، وبعث عينا له من خزاعة وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط (٤) أتاه عينه فقال : إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشيروا أيها الناس علي ، أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟» وفي لفظ : «أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم ، فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقا من المشركين ، وإلا تركناهم محزونين» ، وفي لفظ «فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٣١٦ ، ٣١٩.

(٢) كتاب المغازي باب ٣٥.

(٣) إشعار الهدي : أن يشق أحد جانبي سنام البدنة حتى يسيل دمها ، ويجعل ذلك علامة يعرف بها بأنها هدي ، وتقليد الهدي : أن يجعل في عنقها ما يعلم به أنها هدي.

(٤) غدير الأشطاط : موضع قريب من عسفان.

٣٢٥

محروبين (١) ، وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله عزوجل. أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه».

فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا ، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه ، وفي لفظ : فقال أبو بكر رضي الله عنه : الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فروحوا إذن» وفي لفظ «فامضوا على اسم الله تعالى» حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش (٢) فانطلق يركض نذيرا لقريش.

وسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقال الناس : حل حل (٣) فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء (٤) خلأت القصواء. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها». ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد (٥) قليل الماء يتبرضه (٦) الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس حتى نزحوه ، وشكي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العطش ، فانتزع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كنانته سهما ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.

فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إننا لم نجيء لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، فأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر ، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا (٧) ، وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره». قال بديل : سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال

__________________

(١) محروبين : أي مسلوبين منهوبين.

(٢) قترة الجيش : غبرته.

(٣) حل حل : لفظة زجر للإبل.

(٤) خلأت القصواء : أي امتنعت عن صاحبها.

(٥) الثمد : الماء القلل. تبرّص الماء القليل.

(٦) تبرّض الماء : أخذه قليلا قليلا.

(٧) جمّوا : أي استراحوا من جهد الحرب.

٣٢٦

سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء.

وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول. قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا : بلى ، قال : أولست بالولد؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهمونني؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلّحوا (١) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى. قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يكلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها ، وإني لأرى أشوابا (٢) من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات أنحن نفر وندعه؟ قال : من ذا؟ قالوا أبو بكر.

قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال : وجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه السيف وعليه المغفر (٣) ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فرفع عروة رأسه وقال : من هذا؟ قال : المغيرة بن شعبة. قال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء».

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعينيه قال : فو الله ما تنخم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما لهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع عروة إلى أصحابه. فقال : أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

__________________

(١) بلّحوا : أي عجزوا.

(٢) الأشواب : الأخلاط والأنواع.

(٣) المغفر : ما يلبسه الدارع على رأسه من الزرد.

٣٢٧

فقال رجل منهم من بني كنانة : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له». فبعثت له واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا مكرز وهو رجل فاجر» فجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.

وقال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال : لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد سهل لكم من أمركم» قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتابا. فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلي رضي الله عنه وقال : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل بن عمرو : أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «اكتب باسمك اللهم ـ ثم قال ـ هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله» قال الزهري : وذلك لقوله : «والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها» فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة (١) ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟.

فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا لم نقض الكتاب بعد» قال : فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأجزه لي» قال : ما أنا بمجيز ذلك لك قال «بلى فافعل» قال : ما أنا بفاعل. قال مكرز : بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله عزوجل. قال عمر رضي الله عنه : فأتيت نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى» قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى» قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟

__________________

(١) ضغطة : أي قهرا.

٣٢٨

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟». قلت : لا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإنك آتيه ومطوف به. قال : فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال : بلى. قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه ، وهو ناصره فاستمسك بغرزه ، فو الله إنه على الحق. قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال بلى ، قال : أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنك تأتيه وتطوف به.

قال الزهري قال عمر رضي الله عنه : فعملت لذلك أعمالا. قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال : فو الله ما قام منهم رجل حتى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أم سلمة رضي الله عنها ، فذكر لها ما لقي من الناس ، قالت له أم سلمة رضي الله عنها : يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ـ حتى بلغ ـ (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠] فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية.

ثم رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد ، لقد جربت منه ثم جربت. فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه «لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال : يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى منهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد».

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم : «فمن أتاه منهم فهو آمن» فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم وأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي

٣٢٩

كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) ـ حتى بلغ ـ (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت.

هكذا ساقه البخاري هاهنا.

وقد أخرجه في التفسير وفي عمرة الحديبية وفي الحج وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن الزهري به. ووقع في بعض الأماكن عن الزهري عن عروة عن مروان والمسور عن رجال من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وهذا أشبه والله أعلم ، ولم يسقه أبسط من هاهنا ، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع ، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا ، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.

وقال البخاري (١) في التفسير : حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي ، حدثنا يعلى ، حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال : أتيت أبا وائل أسأله ، فقال كنا بصفين ، فقال رجل : ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : نعم ، فقال سهل بن حنيف : اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر رضي الله عنه فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا» فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر رضي الله عنه فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا ، فنزلت سورة الفتح.

وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان بن سلمة عن سهل بن حنيف به ، وفي بعض ألفاظه : يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ، ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره لرددته ، وفي رواية : فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : إن قريشا صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه : «اكتب

__________________

(١) تفسير سورة ٤٨ ، باب ٥.

(٢) أخرجه البخاري في الجزية باب ١٨ ، في الترجمة ، وتفسير سورة ٤٨ ، باب ٥ ، ومسلم في الجهاد حديث ٩٤.

(٣) المسند ٣ / ٢٦٨.

٣٣٠

بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب من محمد رسول الله» قال : لو نعلم أنك رسول الله لا تبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب من محمد بن عبد الله» واشترطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من جاء منكم لا نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقال: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله» رواه مسلم (١) من حديث حماد بن سلمة به.

وقال أحمد (٢) أيضا ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عكرمة بن عمار قال حدثني سماك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت لهم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي رضي الله عنه : «اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» قالوا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسولك امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله» والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه؟ قالوا نعم ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي بنحوه.

وروى الإمام أحمد (٣) عن يحيى بن آدم حدثنا زهير بن حرب عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨)

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل وقع في نفوس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟» قال لا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنك آتيه ومطوف به» وبهذا أجاب الصديق رضي الله

__________________

(١) كتاب الجهاد حديث ٩٣.

(٢) المسند ١ / ٣٤٢.

(٣) المسند ١ / ٣١٤ ، ٣١٥.

٣٣١

عنه أيضا حذو القذة بالقذة (١) ولهذا قال تبارك وتعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) هذا لتحقيق الخبر وتوكيده وليس هذا من الاستثناء في شيء.

وقوله عزوجل : (آمِنِينَ) أي في حال دخولكم. وقوله : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) حال مقدرة لأنهم في حال حرمهم لم يكونوا محلقين ومقصرين وإنما كان هذا في ثاني الحال. كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والمقصرين» في الثالثة أو الرابعة (٢).

وقوله سبحانه وتعالى : (لا تَخافُونَ) حال مؤكدة في المعنى فأثبت لهم الأمن حال الدخول ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة. فأقام بها ذا الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحا ، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع ، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم يغب منهم أحد ، قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سماك بن خرشة ، كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة.

فلما كان في ذي القعدة سنة سبع خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة ، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، وذهبوا فأخبروا أهل مكة ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال : يا محمد ما عرفناك تنقض العهد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما ذاك؟» قال «دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح.

__________________

(١) القذة : هي ريش السهم.

(٢) أخرجه البخاري في الحج باب ١٢٧ ، ومسلم في الحج حديث ٣١٩.

٣٣٢

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج». فقال : بهذا عرفناك بالبر والوفاء ، وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان ، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول : [رجز]

باسم الذي لا دين إلا دينه

باسم الذي محمد رسوله

خلّوا بني الكفّار عن سبيله

اليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

في صحف تتلى على رسوله

بأن خير القتل في سبيله (١)

يا رب إني مؤمن بقيله

فهذا مجموع من روايات متفرقة. قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة في عمرة القضاء دخلها وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه آخذ بخطام ناقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول :

خلوا بني الكفار عن سبيله

إني شهيد أنه رسوله

خلوا فكل الخير في رسوله

يا رب إني مؤمن بقيله

نحن قتلناكم على تأويله

كما قتلناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يديه وفي رواية : وابن رواحة آخذ بغرزه وهو رضي الله عنه يقول :

خلوا بني الكفار عن سبيله

قد نزل الرحمن في تنزيله

بأن خير القتل في سبيله

يا رب إني مؤمن بقيله

نحن قتلناكم على تأويله

كما قتلناكم على تنزيله

اليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

__________________

(١) الرجز لعبد الله بن رواحة في ديوانه ص ١٠١ ، ١٠٢ ولسان العرب (قيل) ، وأساس البلاغة (أول) ، وتاج العروس (قيل)

٣٣٣

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عبد الله ، يعني ابن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قريشا تقول ما يتباعثون من العجف (٢) ، فقال أصحابه لو انتحرنا (٣) من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة (٤). قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم ، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع (٥) فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه ، ثم أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلى‌الله‌عليه‌وسلم بردائه ثم قال «لا يرى القوم فيكم غميرة» (٦) فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود ، فقالت قريش : ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء (٧) ، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة. قال أبو الطفيل : فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل ذلك في حجة الوداع :

وقال أحمد (٨) أيضا : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءا ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه أن يرملوا (٩) الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم ، قال : فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ، ولم يمنع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم. فقال المشركون : أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا (١٠) أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.

__________________

(١) المسند ١ / ٣٠٥.

(٢) ما يتباعثون من العجف : أي لا يستطيعون التصرف من الهزال.

(٣) انتحرنا : ذبحنا.

(٤) وبنا جمامة : أي بنا راحة وشبع وري.

(٥) الأنطاع : الجلود.

(٦) الغميرة : العيب.

(٧) أي يثبون ويقفزون قفز الظباء.

(٨) المسند ١ / ٢٩٥.

(٩) الرمل : الإسراع بالمشي مع هز المنكبين.

(١٠) أخرجه البخاري في المغازي باب ٤٣ ، ومسلم في الحج حديث ٢٣٧.

٣٣٤

وفي لفظ : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة ، فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

قال البخاري (١) : وزاد ابن سلمة. يعني حماد بن سلمة ، عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعامه الذي استأمن قال ارملوا ، ليري المشركين قوتهم والمشركون من قبل قعيقعان (٢) ، وحدثنا محمد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سعى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليري المشركون قوته (٣).

ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وقال أيضا : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول : لما اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم ، أن يؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انفرد به البخاري (٤) دون مسلم.

وقال البخاري (٥) أيضا : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا فليح وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم ، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في صحيح مسلم أيضا.

وقال البخاري (٦) أيضا : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال : اعتمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضانا عليه محمد رسول الله ، قالوا : لا نقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «امح رسول الله» قال رضي الله عنه : لا والله لا أمحوك أبدا ، فأخذ

__________________

(١) كتاب المغازي باب ٤٣.

(٢) قعيقعان : جبل بمكة.

(٣) أخرجه البخاري في المغازي باب ٤٣.

(٤) كتاب المغازي باب ٤٣.

(٥) كتاب المغازي باب ٤٣.

(٦) كتاب المغازي باب ٤٣.

٣٣٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها».

فلما دخلها ومضى الأجل أتوا عليا فقالوا : قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه تنادي يا عم يا عم ، فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها : دونك ابنة عمك فحملتها ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه : أنا أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر رضي الله عنه : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد رضي الله عنه : ابنة أخي ، فقضى بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالتها وقال : «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله عنه : «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد رضي الله عنه : «أنت أخونا ومولانا» قال علي رضي الله عنه : ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها ابنة أخي من الرضاعة» تفرد به من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم الله عزوجل من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموه أنتم (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتحا قريبا ، وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين.

ثم قال تبارك وتعالى مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدوه ، وعلى سائر أهل الأرض : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) أي بالعلم النافع والعمل الصالح ، فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم وعمل ، فالعلم الشرعي صحيح ، والعمل الشرعي مقبول ، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومليين ومشركين (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي أنه رسوله وهو ناصره ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

يخبر تعالى عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) كما قال عزوجل : (فَسَوْفَ

٣٣٦

يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار ، رحيما برا بالأخيار ، غضوبا عبوسا في وجه الكافر ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (٢). وشبكصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصابعه ، كلا الحديثين في الصحيح.

وقوله سبحانه وتعالى : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عزوجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عزوجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم ، وهو أكبر من الأول كما قال جل وعلا : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وقوله جل جلاله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) يعني السمت الحسن (٣). وقال مجاهد وغير واحد : يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور عن مجاهد (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال : الخشوع. قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم ، وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، وقد أسنده ابن ماجة في سننه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك ، عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» (٤) والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس.

وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عزوجل ظاهره للناس ، كما

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٢٧ ، ومسلم في البر حديث ٦٦ ، ٦٧.

(٢) أخرجه البخاري في المظالم باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٧٠.

(٤) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب ١٧٤.

٣٣٧

روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن سلمة بن كهيل ، عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر» العرزمي متروك.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة» ورواه أبو داود (٣) عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به ، فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا ، وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ، ولهذا قال سبحانه وتعالى هاهنا : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ثم قال (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي فراخه (فَآزَرَهُ) أي شده (فَاسْتَغْلَظَ) أي شب وطال (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي فكذلك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).

ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه ، بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال : لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك ، والأحاديث في فضائل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم :

ثم قال تبارك وتعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) من هذه لبيان

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٨.

(٢) المسند ١ / ٢٩٦.

(٣) كتاب الأدب باب ٢.

٣٣٨

الجنس (مَغْفِرَةً) أي لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما. ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل. قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (١). آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي باب ٥ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ ، ٢٢٢ ، وأبو داود في السنة باب ١٠ ، والترمذي في المناقب باب ٥٨ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١١ ، ٥٤.

٣٣٩

تفسير سورة الحجرات

وهي مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣)

هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين ، فيما يعاملون به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله ، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه إلى اليمن : «بم تحكم؟» قال : بكتاب الله تعالى ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن لم تجد؟» قال : بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن لم تجد؟» قال رضي الله عنه : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يرضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وقال العوفي عنه : نهى أن يتكلموا بين يدي كلامه ، وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه ، وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم ، وقال سفيان الثوري (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) بقول ولا فعل ، وقال الحسن البصري (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : لا تدعوا قبل الإمام ، وقال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا كذا وكذا ، لو صنع كذا ، فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه (وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما أمركم به (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أي لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنياتكم.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق صوته ، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

٣٤٠