تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي ساعة واحدة (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير. (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجج عليهم. وإرسال الرسل إليهم ، فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد. (وَنادَوْا يا مالِكُ) وهو خازن النار. قال البخاري (١) : حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ على المنبر (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] وقال عزوجل: (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى : ١١ ـ ١٣] فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) قال ابن عباس : مكث ألف سنة ثم قال : إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم ، وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال : (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم بالملامة. واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.

ثم قال تبارك وتعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) قال مجاهد : أرادوا كيد شر ، فكدناهم (٢) وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل : ٥٠] وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه ، فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم ، ولهذا قال : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي سرهم وعلانيتهم (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة الزخرف.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢١٤.

٢٢١

وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩)

يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك ، لأني عبد من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض هذا لكان هذا ، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا كما قال عزوجل : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي الآنفين ، ومنهم سفيان الثوري والبخاري (١) ، حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عبد يعبد.

وذكر ابن جرير (٢) لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن زيد الجهني أن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضا ، فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فأمر بها أن ترجم ، فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : إن الله تعالى يقول في كتابه (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] وقال عزوجل : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] قال : فو الله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد ، قال يونس : قال ابن وهب : عبد استنكف. وقال الشاعر : [الطويل]

متى ما يشأ ذو الودّ يصرم خليله

ويعبد عليه لا محالة ظالما (٣)

وهذا القول فيه نظر لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟ هذا فيه نظر فليتأمل اللهم إلا أن يقال : أن إن ليست شرطا وإنما هي نافية ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) يقول : لم يكن للرحمن ولد ، فأنا أول الشاهدين.

وقال قتادة هي كلمة من كلام العرب (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي ، وقال أبو صخر (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له ، وأول من وحده ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال مجاهد (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي أول من عبده ووحده وكذبكم ، وقال البخاري (٤) (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) الآنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد ، والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة الزخرف.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٢١٦.

(٣) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري ١١ / ٢١٦.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة الزخرف.

٢٢٢

ممتنع ، وقال السدي (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) يقول : لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولدا ولكن لا ولد له ، وهو اختيار ابن جرير (١) ورد قول من زعم أن إن نافية. ولهذا قال تعالى : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد فإنه فرد أحد صمد ، لا نظير له ولا كفء له فلا ولد له.

وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) أي في جهلهم وضلالهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم قوله تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلها وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) [الأنعام : ٣] أي هو المدعو الله في السموات والأرض (وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي هو خالقهما ومالكهما ، والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة ، فسبحانه وتعالى عن الولد وتبارك ، أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص ، لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمة الأمور نقضا وإبراما.

(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي لا يجليها لوقتها إلا هو (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي فيجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

ثم قال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من الأصنام والأوثان (الشَّفاعَةَ) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هذا استثناء منقطع. أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. ثم قال عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره (مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك ، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء ، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل. ولهذا قال تعالى : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).

وقوله جل وعلا : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي وقال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : ٣٠] وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة ، وعليه فسر ابن

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢١٦.

٢٢٣

جرير (١) ، قال البخاري (٢) : وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) وقال مجاهد في قوله : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) قال فأبرّ الله عزوجل قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣). وقال قتادة : هو قول نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشكو قومه إلى ربه عزوجل. ثم حكى ابن جرير(٤) في قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِ) قراءتين إحداهما النصب ، ولها توجيهان : أحدهما أنه معطوف على قوله تبارك وتعالى : (نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) والثاني أن يقدر فعل وقال قيله ، والثانية الخفض وقيله عطفا على قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) تقديره وعلم قيله. وقوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي المشركين (وَقُلْ سَلامٌ) أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هذا تهديد من الله تعالى لهم ، ولهذا أحلّ بهم بأسه الذي لا يرد وأعلى دينه وكلمته ، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب والله أعلم. آخر تفسير سورة الزخرف.

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢١٩.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة الزخرف.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٢١٩.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٢١٩.

٢٢٤

تفسير سورة الدخان

وهي مكية

قال الترمذي : حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب عن عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» (١) ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمر بن أبي خثعم يضعف قال البخاري منكر الحديث.

ثم قال : حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» (٢) ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهشام أبو المقدام يضعف ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه ، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين ، وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن صياد : «إني قد خبأت خبأ فما هو؟» وخبأ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الدخان فقال : هو الدخ (٣). فقال : «اخسأ ما شاء الله كان» ثم انصرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨)

يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة ، وهي ليلة القدر كما قالعزوجل: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] وقد ذكرنا في الأحاديث الواردة في ذلك في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ، ومن قال : إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة ، فإن نص القرآن أنها في رمضان ، والحديث الذي رواه عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن باب ٨.

(٢) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن باب ٨ ، والدارمي في فضائل القرآن باب ٢٢.

(٣) أي الدخان.

٢٢٥

صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري ، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى» (١) فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص. وقوله عزوجل : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعا لتقوم حجة الله على عباده.

وقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف وقوله جل وعلا : (حَكِيمٍ) أي محكم لا يبدل ولا يغير ، ولهذا قال جل جلاله : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن الحاجة كانت ماسة إليه ، ولهذا قال تعالى : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي الذي أنزل هذا القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إن كنتم متحققين ثم قال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وهذه الآية كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) [الأعراف : ١٥٨] الآية.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦)

يقول تعالى : بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به ، ثم قال عزوجل متوعدا لهم ومهددا : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال : دخلنا المسجد ، يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة ، فإذا رجل يقص على أصحابه (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ، قال : فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه ، فذكرنا له ذلك وكان مضطجعا ، ففزع فقعد وقال : إن الله عزوجل قال لنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] إن من العلم أن يقول الرجل لما

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٢٢.

٢٢٦

لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك ، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ، وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.

قال الله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم فسقوا فأنزل الله (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) قال ابن مسعود رضي الله عنه : فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قال يعني يوم بدر (١).

قال ابن مسعود رضي الله عنه : فقد مضى خمسة : الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام ، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين (٢) ورواه الإمام أحمد (٣) في مسنده ، وهو عند الترمذي (٤) والنسائي في تفسيرهما ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به ، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى : جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي ، وهو اختيار ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عزوجل : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) قال : كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جدا بل منكر.

وقال آخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه ، قال : أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا» (٥). تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لابن الصياد : «إني

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٣٠ ، ٢٣١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٤ ، باب ٢.

(٣) المسند ١ / ٢٣٦ ، ٣٨١.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة الدخان.

(٥) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٣٩ ، ٤٠ ، وأبو داود في الملاحم باب ١٢ ، والترمذي في الفتن باب ٢١ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ٦ ، ٧.

٢٢٧

خبأت لك خبأ» قال : هو الدخ ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اخسأ فلن تعدو قدرك» (١) قال : وخبأ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب ، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان ، وهم يقرطمون العبارة ، ولهذا قال هو الدخ ، يعني الدخان ، فعندها عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك».

ثم قال ابن جرير (٢) : وحدثني عصام بن رواد بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، والدخان ـ قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره». قال ابن جرير (٣) : لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان؟ فقال له : لا ، قال فقلت : أقرأته عليه؟ قال : لا ، قال فقلت له : أقرىء عليه وأنت حاضر فأقر به؟ فقال : لا ، فقلت له : فمن أين جئت به؟ فقال : جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لي اسمعه منا ، فقرؤوه علي ثم ذهبوا به فحدثوا به عني أو كما قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا ، فإنه موضوع بهذا السند ، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير ، وفيه منكرات كثيرة جدا ، ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى ، والله أعلم.

وقال ابن جرير أيضا (٤) : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة والثالثة الدجال». ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد. وقال ابن أبي حاتم :

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٠ ، والجهاد باب ١٧٨ ، والخمس باب ١١ ، والأدب باب ٩٧ ، القدر باب ١٤ ، ومسلم في الفتن حديث ٨٧ ، ٩٥ ، ١٦٩.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٢٢٧.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٢٢٨.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٢٢٧ ، ٢٢٨.

٢٢٨

حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يهيج الدخان بالناس ، فأما المؤمن فيأخذه الزكمة ، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه». ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفا ، وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : لم تمض آية الدخان بعد ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ.

وروى ابن جرير (١) من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن السليماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف (٢) ، ثم قال ابن جرير (٣) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت : لم؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت.

وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع ، ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن ، قال الله تبارك وتعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي بين واضح يراه كل أحد ، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد ، وهكذا قوله تعالى : (يَغْشَى النَّاسَ) أي يتغشاهم ويعميهم ، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه (يَغْشَى النَّاسَ).

وقوله تعالى : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا كقوله عزوجل : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٤] أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي يقول الكافرون

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢٢٧.

(٢) الرضف : الحجارة الممحاة على النار.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٢٢٧.

٢٢٩

إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] وكذا قوله جل وعلا : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤]. وهكذا قال جل وعلا هاهنا : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). يقول : كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون ، وهذا كقوله جلت عظمته : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٣ ـ ٢٤] الآية وكقوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) إلى آخر السورة [سبأ : ٥١ ـ ٥٤].

وقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) يحتمل معنيين : (أحدهما) أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون : ٧٥] وكقوله جلت عظمته : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨]. و (الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخر والعذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم. وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨]. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه‌السلام أنه قال لقومه حين قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) [الأعراف : ٨٨ ـ ٨٩] وشعيب عليه‌السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم ، وقال قتادة : إنكم عائدون إلى عذاب الله (١).

وقوله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر ، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه ، وهو محتمل ، والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا قال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب حدثني ابن علية ، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال : قال ابن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٢٩.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٢٣١.

٢٣٠

عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه : البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة ، وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه ، والله أعلم.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ(٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ(٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٣٣)

يقول تعالى : ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني موسى كليمه عليه الصلاة والسلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) كقوله عزوجل : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧]. وقوله جل وعلا : (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي مأمون على ما أبلغكموه. وقوله تعالى : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه كقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعة.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح : هو الرجم باللسان وهو الشتم. وقال قتادة : الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم. كل ذلك وما زادهم ذلك إلا كفرا وعنادا ، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) [يونس : ٨٨ ـ ٨٩] وهكذا قال هاهنا : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ

٢٣١

يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧].

وقوله عزوجل هاهنا : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر ، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ، ليصير حائلا بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم ، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنا وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركا ولا يخشى ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) كهيئته وامضه (١) ، وقال مجاهد : رهوا طريقا يبسا كهيئته. يقول : لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم ، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد ، وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد.

ثم قال تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين (وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ) والمراد بها الأنهار والآبار (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) المنابر ، وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له ، فإذا أراد الله عزوجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها ، وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيونا ، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره ، وقال في قول الله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) قال : كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعا ، ما بين أسوان إلى رشيد ، وكان له تسع خلج : خليج الإسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيوم ، وخليج المنهي متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء وزروع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء ، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعا لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها.

(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير ، واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء: ٥٩]. وقال في هذه الآية الأخرى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٣٥.

٢٣٢

وقال عزوجل هاهنا : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) وهم بنو إسرائيل كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم ، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه». وتلا هذه الآية (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يحيى بن طلحة ، حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا غربة على مؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ثم قال : «إنهما لا يبكيان على الكافر».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري ، حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل عليا رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال : أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال : يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢٣٨.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٢٣٧ ، ٢٣٨.

٢٣٣

عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه ، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عزوجل فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عزوجل منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض ، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا.

وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يقال تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحا ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد ، وقال مجاهد أيضا : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، قال فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال : أتعجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟ وقال قتادة : كانوا أهون على الله عزوجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد السلام بن عاصم ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين ، قلت لعبيد : أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن؟ قال : ذاك مقامه حيث يصعد عمله. قال : وتدري ما بكاء السماء! قلت : لا. قال : تحمر وتصير وردة كالدهان ، إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دما وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء.

وحدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو زنيج ، حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر ، قال يزيد : واحمرارها بكاؤها ، وهكذا قال السدي في الكبير ، وقال عطاء الخراساني : بكاؤها أن تحمر أطرافها وذكروا أيضا في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط ، وأنه كسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة ، وفي كل ذلك نظر ، والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم ، ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شيء مما ذكروه ، فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالإجماع ، ولم يقع شيء من ذلك ، وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصورا مظلوما ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح ، وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شيء من ذلك.

وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة ، يوم مات لم يكن شيء مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خسفت الشمس فقال الناس : خسفت لموت إبراهيم!فصلى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان

٢٣٤

لموت أحد ولا لحياته (١).

وقوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون ولإذلاله لهم ، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة. وقوله تعالى : (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي مستكبرا جبارا عنيدا كقوله عزوجل : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] وقوله جلت عظمته (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [المؤمنون : ٤٦] من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه. وقوله جل جلاله : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) قال مجاهد (اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) على من هم بين ظهريه. وقال قتادة : اختيروا على أهل زمانهم ذلك ، وكان يقال : إن لكل زمان عالما ، وهذا كقوله تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] أي أهل زمانه ذلك كقوله عزوجل لمريم عليها‌السلام : (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) أي في أمانها فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل ، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام (٢).

وقوله جل جلاله : (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) أي الحجج والبراهين وخوارق العادات (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٣٧)

يقول تعالى منكرا على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور ، ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقا (فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهذه حجة باطلة وشبه فاسدة ، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في هذه الدار الدنيا بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها ، يعيد الله العالمين خلقا جديدا ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا ، يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

ثم قال تعالى متهددا لهم ومتوعدا ومنذرا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الكسوف باب ١ ، ٢ ، ١٣ ، ١٧ ، ومسلم في الكسوف حديث ١ ، وأحمد في المسند ٦ / ٧٦ ، ٨٧.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ٣٠ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٧٠ ، ٨٩ ، والترمذي في المناقب باب ٦٣ ، والنسائي في النساء باب ٣ ، وابن ماجة في الأطعمة باب ١٤ ، والدارمي في الأطعمة باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٥٦ ، ٢٦٤.

٢٣٥

من المشركين والمنكرين للبعث كقوم تبع ، وهم سبأ ، حيث أهلكهم الله عزوجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر ، كما تقدم ذلك في سورة سبأ وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد ، وكذلك هاهنا شبههم بأولئك وقد كانوا عربا من قحطان ، كما أن هؤلاء عرب من عدنان ، وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا ، كما يقال كسرى لمن ملك الفرس ، وقيصر لمن ملك الروم ، وفرعون لمن ملك مصر كافرا ، والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الأجناس.

ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه ، واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة ، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية ، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار ، وجعلوا يقرونه (١) بالليل فاستحيا منهم وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة ، فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان ، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن ، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضا وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان ، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء (٢) والوصائل (٣) والحبير (٤) ، ثم كر راجعا إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه ، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام ، فتهود معه عامة أهل اليمن ، وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة (٥).

وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر. وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن. ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ ولا أدري تبع لعينا كان أم لا؟ ولا أدري ذو القرنين نبيا كان أم ملكا؟» وقال غيره «عزيز أكان نبيا أم لا؟» (٦).

وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق قال الدار قطني :

__________________

(١) يقرونه : أي يضيفونه

(٢) الملاء : واحدة ملاءة : وهي الملحفة.

(٣) الوصائل : ثياب يمنية يوصل بعضها ببعض.

(٤) الحبير من الثياب : ما كان موشيا مخططا.

(٥) السيرة النبوية لابن هشام ١ / ١٩ ، ٢٨.

(٦) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٣.

٢٣٦

تفرد به عبد الرزاق ، ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا «عزير لا أدري أنبيا أم لا؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا؟» ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكأنه والله أعلم كان كافرا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه‌السلام ، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.

وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله ، وإلى عبد الله بن سلام أيضا وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل ، فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه ، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ ، وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله الحمد والمنة ، وقال سعيد بن جبير : كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه ، وتبع هذا هو تبع الأوسط ، واسمه أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني ، ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة ، ولم يكن في حمير أطول مدة منه ، وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعرا واستودعه عند أهل المدينة ، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف ، وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في داره وهو :

شهدت على أحمد أنّه

رسول من الله باري النّسم

فلو مدّ عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

وجاهدت بالسيف أعداءه

وفرّجت عن صدره كل غم

وذكر ابن ابي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين ، وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : هذا قبر حبي ولميس ، وروي حيي وتماضر ابنتي تبع ، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وقد ذكرنا في سورة سبأ شعرا في ذلك أيضا.

قال قتادة : ذكر لنا أن كعبا كان يقول في تبع نعت نعت الرجل الصالح : ذم الله تعالى قومه ولم يذمه. قال : وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : لا تسبوا تبعا فإنه قد كان رجلا صالحا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي زرعة ـ يعني عمرو بن جابر الحضرمي ، قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي

٢٣٧

رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم» (١).

ورواه الإمام أحمد (٢) في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم» وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أدري تبع نبيا كان لعينا أم غير نبي» وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر «لا أدري تبع كان لعينا أم لا» فالله أعلم ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى البدي عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا. وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمران أبو الهذيل ، أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال : قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن سبه ، والله تعالى أعلم.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢)

يقول تعالى مخبرا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله جل وعلا : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦] ثم قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق ، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين. وقوله عزوجل : (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) أي لا ينفع قريب قريبا كقوله سبحانه وتعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] وكقوله جلت عظمته : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١] أي لا يسأل أخا له عن حاله وهو يراه عيانا. وقوله جل وعلا : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصره من خارج ، ثم قال : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عزوجل بخلقه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي هو عزيز ذو رحمة واسعة.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٤١.

(٢) المسند ٥ / ٣٤٠.

٢٣٨

خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠)

يقول تعالى مخبرا عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) والأثيم : أي في قوله وفعله ، وهو الكافر ، وذكر غير واحد أنه أبو جهل ، ولا شك في دخوله في هذه الآية ، ولكن ليست خاصة به. قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فقال : طعام اليتيم ، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها ، قال مجاهد : ولو وقعت قطرة في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم ، وقد تقدم نحوه مرفوعا ، وقوله : (كَالْمُهْلِ) قالوا : كعكر الزيت (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي من حرارتها ورداءتها ، وقوله : (خُذُوهُ) أي الكافر ، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية (خُذُوهُ) ابتدره سبعون ألفا منهم ، وقوله : (فَاعْتِلُوهُ) أي سوقوه سحبا ودفعا في ظهره ، قال مجاهد (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) أي خذوه فادفعوه ، وقال الفرزدق : [الكامل]

ليس الكرام بناحليك أباهم

حتى تردّ إلى عطيّة تعتل (١)

(إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي وسطها (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) كقولهعزوجل : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) [الحج : ١٩ ـ ٢٠] وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد ، فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه ، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه ، أعاذنا الله تعالى من ذلك. وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي لست بعزيز ولا كريم.

وقد قال الأموي في مغازيه : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال : لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا جهل لعنه الله فقال : «إن الله تعالى أمرني أن أقول لك ، (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤ ـ ٣٥] قال : فنزع ثوبه من يده وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء ، ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم ، قال فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). وقوله عزوجل : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) كقوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٥] ولهذا قال تعالى هاهنا : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ).

__________________

(١) البيت في ديوان الفرزدق ٢ / ١٦٠ ، وتفسير الطبري ١١ / ٢٤٥.

٢٣٩

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) (٥٩)

لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي لله في الدنيا (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي في الآخرة وهو الجنة ، قد أمنوا فيها من الموت والخروج ، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم.

وقوله تعالى : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي القماش (مُتَقابِلِينَ) أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. وقوله تعالى : (كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٥٦ ـ ٥٨ ـ ٦٠] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نوح بن حبيب ، حدثنا نصر بن مزاحم العطار. حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال : لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها.

وقوله عزوجل : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا.

وقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) هذا الاستثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع ، ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» (١) وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام.

وقال عبد الرزاق : حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٩ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٤٠ ، والترمذي في تفسير سورة ١٩ ، باب ٢ ، والدارمي في الرقاق باب ٩٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٧٧ ، ٤٢٣ ، ٥١٣ ، ٣ / ٩.

٢٤٠