تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

١
٢

تفسير سورة الصافات

وهي مكية

قال النسائي أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد ـ يعني ابن الحارث ـ عن ابن أبي ذئب قال أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات ، تفرد به النسائي (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥)

قال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) وهي الملائكة (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) هي الملائكة (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هي الملائكة ، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس قال قتادة : الملائكة صفوف في السماء.

وقال مسلم (٢) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء» وقد روى مسلم أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟» قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» (٣) وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى: (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) أنها تزجر السحاب ، وقال الربيع بن أنس (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) ما زجر الله تعالى عنه في القرآن ، وكذا روى مالك عن زيد بن أسلم (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قال السدي

__________________

(١) أخرجه النسائي في الإمامة باب الرخصة للإمام بالتطويل.

(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٤.

(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١١٩ ، وأبو داود في الصلاة باب ٩٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٥٠ ، والنسائي في الإمام باب ٢٨.

٣

الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس وهذه الآية كقوله تعالى : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) [المرسلات : ٥]. وقوله عزوجل : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السموات والأرض (وَما بَيْنَهُما) أي من المخلوقات (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب ثوابت وسيارات تبدو من المشرق وتغرب من المغرب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه وقد صرح بذلك في قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) [المعارج : ٤٠] وقال تعالى في الآية الأخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠)

يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب ، قرئ بالإضافة وبالبدل وكلاهما بمعنى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جرم السماء الشفاف فتضيء لأهل الأرض كما قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥] وقال عزوجل (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) [الحجر : ١٦ ـ ١٨] فقوله جل وعلا هاهنا : (وَحِفْظاً) تقديره وحفظناها حفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) يعني المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ولهذا قال جل جلاله (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى وهي السموات ومن فيها من الملائكة إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تبارك وتعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣] ولهذا قال تعالى : (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي من كل جهة يقصدون السماء منها (دُحُوراً) أي رجما يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر كما قال جلت عظمته (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥].

وقوله تبارك وتعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته ويلقيها الآخر إلى الذي تحته فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الآخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث ولهذا قال (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ

٤

ثاقِبٌ) أي مستنير.

قال ابن جرير (١) حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان للشياطين مقاعد في السماء قال فكانوا يستمعون الوحي قال وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا ترمى قال فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعا قال فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل الشيطان إذا قصد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه قال فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال ما هو إلا من أمر حدث قال فبعث جنوده فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال وكيع يعني بطن نخلة (٢) قال : فرجعوا إلى إبليس فأخبروه فقال هذا الذي حدث ، وستأتي إن شاء الله تعالى الأحاديث الواردة مع الآثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخبارا عن الجن أنهم قالوا (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ٨ ـ ١٠].

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (١٩)

يقول تعالى : فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيهما أشد خلقا هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «أم من عددنا» (٣) فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] ثم بين أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك : هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد ، وقال قتادة هو الذي يلزق باليد (٤).

وقوله عزوجل : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٧٠.

(٢) بطن نخلة : قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٤٧٤ ، وفيه : وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : «أهم أشدّ خلقا أم من عددنا».

(٤) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

٥

المنكرين للبعث وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب وهو إعادة الأجسام بعد فنائها وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم ويسخرون مما تقول لهم من ذلك.

قال قتادة : عجب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسخر ضلال بني آدم (١).

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي دلالة واضحة على ذلك (يَسْتَسْخِرُونَ) قال مجاهد وقتادة يستهزئون (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) يستبعدون ذلك ويكذبون به (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما وأنتم داخرون أي حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر: ٦٠]. ثم قال جلت عظمته : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي فإنما هو أمر واحد من الله عزوجل ، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض ، فإذا هم بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة ، والله تعالى أعلم.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) (٢٦)

يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا ، فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا ينفعهم الندم (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) فتقول الملائكة والمؤمنون (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم ولهذا قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال النعمان بن بشير رضي الله عنه يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم ، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو صالح وأبو العالية وزيد بن أسلم ، وقال سفيان الثوري عن سماك عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال إخوانهم (٢). وقال شريك عن سماك عن النعمان قال : سمعت عمر يقول (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال : أشباههم. قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع أصحاب الربا ، وأصحاب الخمر مع أصحاب

__________________

(١) اللفظ كما في تفسير الطبري ١٠ / ٤٧٦ : عن قتادة قال : عجب محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أعطيه ، وسخر منه أهل الضلالة.

(٢) اللفظ كما في تفسير الطبري ١٠ / ٤٧٩ نظراؤهم.

٦

الخمر ، وقال خصيف عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أزواجهم نساؤهم وهذا غريب والمعروف عنه الأول كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير عنه أزواجهم قرناؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم.

وقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي أرشدوهم إلى طريق جهنم وهذا كقوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] وقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت ليثا يحدث عن بشير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفا معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلا» ثم قرأ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ورواه الترمذي (١) من حديث ليث بن أبي سليم ، ورواه ابن جرير (٢) عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي الله عنه مرفوعا.

وقال عبد الله بن المبارك : سمعت عثمان بن زائدة يقول إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه ، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي ينقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه ، والله أعلم.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (٣٧)

يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة كما يتخاصمون في دركات النار (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [غافر : ٤٧ ـ ٤٨] وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٧ ، باب ١.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٨٠.

٧

لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : ٣٣] وهكذا قالوا لهم هاهنا (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قال الضحاك عن ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء ، وقال مجاهد يعني عن الحق والكفار تقوله للشياطين (١).

وقال قتادة قالت الإنس للجن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه (٢) ، وقال السدي تأتوننا من قبل الحق وتزينون لنا الباطل وتصدونا عن الحق (٣) وقال الحسن في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه ، وقال ابن زيد معناه تحولون بيننا وبين الخير ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به (٤) ، وقال يزيد الرشك من قبل لا إله إلا الله وقال خصيف يعنون من قبل ميامنهم ، وقال عكرمة (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قال من حيث نأمنكم.

وقوله تعالى : (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) تقول القادة من الجن والإنس للأتباع ما الأمر كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر والعصيان (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاءوكم به فخالفتموهم.

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) يقول الكبراء للمستضعفين حقت علينا كلمة الله أنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي دعوناكم إلى الضلالة (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا ، قال الله تبارك وتعالى : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).

أي الجميع في النار كل بحسبه (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا) أي في الدار الدنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون قال ابن أبي حاتم حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا الليث عن ابن مسافر

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٨١.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٨١.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٤٨١.

(٤) تفسير الطبري ١ / ٤٨٢ ، ولفظه : والعمل بالخير الذي أمر الله به.

٨

يعني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزوجل» (١) وأنزل الله تعالى في كتابه العزيز وذكر قوما استكبروا فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون نعبد الله وعزيرا فيقال لهم : خذوا ذات الشمال ، ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون نعبد الله والمسيح فيقال لهم : خذوا ذات الشمال ، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون فيقال لهم خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة فينطلقون أسرع من الطير. قال أبو العلاء ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون كنا نعبد الله تعالى فيقال لهم هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون نعم ، فيقال لهم فكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له (٢). قال فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون يعنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى تكذيبا لهم وردا عليهم : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بالحق في جميع شرعة الله تعالى له من الأخبار والطلب (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة ، والمناهج السديدة ، وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره كما أخبروا (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) الآية [فصلت : ٤٣].

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٤٩)

يقول تعالى مخاطبا للناس : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين كما قال تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢ ، والجهاد باب ١٠٢ ، والزكاة باب ١ ، والاستتابة باب ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢ ، ٣٣ ، وأبو داود في الزكاة باب ١ ، والترمذي في الإيمان باب ١ ، والنسائي في الزكاة باب ٣ ، والجهاد باب ١ ، والتحريم باب ١.

(٢) لا عدل له : أي لا نظير ولا مثيل له.

٩

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ١ ـ ٣] وقال عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦] وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧١ ـ ٧٢] وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨] ولهذا قال جل وعلا هاهنا (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم ولا يناقشون في الحساب بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف.

وقوله جل وعلا : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) قال قتادة والسدي يعني الجنة ثم فسره بقوله تعالى : (فَواكِهُ) أي متنوعة (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي يخدمون ويرفهون وينعمون (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال مجاهد لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا حسان بن حسان حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلا هذه الآية (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ينظر بعضهم إلى بعض حديث غريب.

وقوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) كما قال عزوجل في الآية الأخرى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ٣٨ ـ ٣٩] نزه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس ووجع البطن وهو الغول وذهابها بالعقل جملة فقال تعالى هاهنا : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها. قال مالك عن زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة (١) إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم.

وقوله عزوجل : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي طعمها طيب كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك وقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) يعني لا تؤثر فيها غولا وهو وجع البطن قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وابن زيد كما تفعله خمر الدنيا من القولنج (٢) ونحوه لكثرة مائيتها ، وقيل المراد بالغول هاهنا صداع الرأس وروي هكذا عن ابن

__________________

(١) الكدورة : ضد الضعفاء.

(٢) القولنج : كلمة عجمية ، مرض مشهور معوي ، يعثر معه خروجه الثفل والريح.

١٠

عباس رضي الله عنهما وقال قتادة هو صداع الرأس ووجع البطن وعنه وعن السدي لا تغتال عقولهم كما قال الشاعر : [المتقارب]

فما زالت الكأس تغتالنا

وتذهب بالأوّل الأوّل (١)

وقال سعيد بن جبير لا مكروه فيها ولا أذى ، والصحيح قول مجاهد أنه وجع البطن ، وقوله تعالى : (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) قال مجاهد لا تذهب عقولهم وكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب والحسن وعطاء بن أبي مسلم الخراساني والسدي وغيرهم وقال الضحاك عن ابن عباس في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال كما ذكر في سورة الصافات.

وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وغيرهم.

وقوله تبارك وتعالى : (عِينٌ) أي حسان الأعين وقيل ضخام الأعين وهو يرجع إلى الأول وهي النجلاء العيناء فوصف عيونهن بالحسن والعفة كقول زليخا في يوسف عليه الصلاة والسلام حين جملته وأخرجته على تلك النسوة فأعظمنه وأكبرنه وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره قالت : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: ٣٢] أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي وهكذا الحور العين (خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن: ٧٠]. ولهذا قال عزوجل : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) وقوله جل جلاله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) يقول اللؤلؤ المكنون (٢) وينشد هاهنا بيت أبي دهبل الشاعر وهو قوله في قصيدة له : [الخفيف]

وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص

ميزت من جوهر مكنون (٣)

وقال الحسن : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) يعني محصون لم تمسه الأيدي ، وقال السدي : البيض في عشه مكنون وقال سعيد بن جبير (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) يعني بطن البيض وقال عطاء الخراساني هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة ، وقال السدي (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ

__________________

(١) البيت بلا نسبة في لسان العرب (غول) ، والمخصص ١٧ / ٦ ، وتاج العروس (غال). وتفسير الطبري ١٠ / ٤٨٥. ويروى صدر البيت :

وما زالت الخمر تغتالنا

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٨٩.

(٣) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص ٦٩ ، ولسان العرب (خصر) ، (سنن) ، ولأبي دهبل أو لعبد الرحمن بن حسان في الكامل ص ٣٨٨.

١١

مَكْنُونٌ) يقول بياض البيض حين ينزع قشرته واختاره ابن جرير لقوله مكنون قال والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش وتنالها الأيدي بخلاف داخلها والله أعلم.

وقال ابن جرير (١) حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا محمد بن الفرج الصدفي الدمياطي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزوجل : (حُورٌ عِينٌ) قال : «العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزوجل (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال : «رقتهن كرقة الجلدة التي رأسها في داخل البيضة التي تلي القشر وهي الفرقئ». وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان النهدي حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا حزنوا ، وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، لواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزوجل ولا فخر ، يطوف عليّ ألف خادم كأنهن البيض المكنون ـ أو اللؤلؤ المكنون ـ» ، والله تعالى أعلم بالصواب.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١)

يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قال مجاهد يعني شيطانا. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا ، ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الإنس فيقول كلاما تسمعه الأذنان وكلاهما يتعاونان قال الله تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] وكل منهما يوسوس كما قال الله عزوجل : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٨٩.

١٢

وَالنَّاسِ) [الناس : ٤ ـ ٦] ولهذا (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) قال مجاهد والسدي لمحاسبون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى : (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي مشرفون يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وخليد العصري وقتادة والسدي وعطاء الخراساني يعني في وسط الجحيم ، وقال الحسن البصري في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد ، وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي ، وذكر لنا أن كعب الأحبار قال في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها فازداد شكرا (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) يقول المؤمن مخاطبا للكافر والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك.

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولولا فضل الله عليّ لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت محضر معك في العذاب ولكنه تفضل عليّ ورحمني فهداني للإيمان وأرشدني إلى توحيده (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [الأعراف : ٤٣]. وقوله تعالى : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) هذا من كلام المؤمن مغبطا نفسه بما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عزوجل : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٩] قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله عزوجل : (هَنِيئاً) أي لا يموتون فيها فعندها قالوا : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (١) وقال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه فقالوا : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قيل لا (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

وقوله جل جلاله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة ، وقال ابن جرير (٢) هو من كلام الله تعالى ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٦ / ١٤٧.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٣.

١٣

الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل تدخل في ضمن عموم هذه الآية الكريمة ، قال أبو جعفر بن جرير (١) حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن فرات بن ثعلبة النهراني في قوله : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قال إن رجلين كانا شريكين فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ، وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة ، فقال الذي له حرفة للآخر ليس عندك حرفة ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك مات فدعا صاحبه فأراه فقال كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال ما أحسنها ، فلما خرج قال اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك دارا من دور الجنة فتصدق بألف دينار ، ثم مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ، ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار فدعاه وصنع له طعاما فلما أتاه قال إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار فقال ما أحسن هذا فلما انصرف قال يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار ، وإني أسألك امرأة من الحور العين فتصدق بألف دينار ، ثم إنه مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار ثم دعاه فأراه فقال إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار فقال ما أحسن هذا فلما خرج قال يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار وأنا أسألك بستانين في الجنة فتصدق بألفي دينار ، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دارا تعجبه وإذا بامرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم فقال عند ذلك ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا قال فإنه ذاك ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة ، قال فإنه كان لي صاحب يقول (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) قيل له فإنه في الجحيم قال (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) فقال عند ذلك (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الآيات قال ابن جرير وهذا يقوي قراءة من قرأ «أإنك لمن المصّدّقين» بالتشديد (٢).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار أخبرنا أبو حفص قال سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) قال فقال لي ما ذكرك هذا؟ قلت قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه فقال : أما فاحفظ ، كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك؟ أضربت به شيئا (٣) اتجرت به في شيء؟ فقال له المؤمن لا فما صنعت أنت؟ فقال اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ـ قال :

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٠.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٠.

(٣) أضربت به شيئا : أي أكسبت به شيئا؟

١٤

فقال له المؤمن أو فعلت؟ قال نعم ، قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال : اللهم إن فلانا ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ثم يموت غدا ويتركها اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة ـ قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء اتجرت به في شيء؟ قال لا قال فما صنعت أنت؟ قال كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها فاشتريت رقيقا بألف دينار يقومون لي فيها ويعملون لي فيها فقال له المؤمن أو فعلت؟ قال نعم ـ قال ـ فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال اللهم إن فلانا ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غدا فيتركهم أو يموتون فيتركونه ، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة ـ قال ـ ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء اتجرت به في شيء؟ قال لا فما صنعت أنت؟ قال كان أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار فجاءتني بها ومثلها معها فقال له المؤمن أو فعلت؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال اللهم إن فلانا ـ يعني شريكه الكافر ـ تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار فيموت غدا فيتركها أو تموت غدا فتتركه اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة.

قال : ثم أصبح فقسمها بين المساكين ـ قال ـ فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال فلبس قميصا من قطن وكساء من صوف ثم أخذ مرّا (١) فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال فجاءه رجل فقال : له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرة شهرا بشهر تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سرقينها قال نعم أفعل قال فواجره نفسه مشاهرة شهرا بشهر يقوم على دوابه ، قال فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ثم يقول له سرقت شعير هذه البارحة قال فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال لآتين شريكي الكافر فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما بيوم ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا ، قال فانطلق يريده فلما انتهى إلى بابه وهو ممس فإذا قصر مشيد في السماء وإذا حوله البوابون فقال لهم استأذنوا لي صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك ، فقالوا له انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له. قال فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له فخرج شريكه الكافر وهو راكب فلما

__________________

(١) المرّ ، بفتح الميم : الحبل.

١٥

رآه عرفه فوقف وسلم عليه وصافحه ثم قال له ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت؟ قال بلى قال وهذه حالي وهذه حالك؟ قال بلى قال أخبرني ما صنعت في مالك؟ قال لا تسألني عنه ، قال فما جاء بك؟ قال جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا ، قال لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال أقرضته قال من؟ قال المليء (١) الوفي قال من؟ قال الله ربي قال وهو مصافحة فانتزع يده من يده ثم قال (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) قال السدي محاسبون قال فانطلق الكافر وتركه ، قال فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه ، يعيش المؤمن في شدة من الزمان ويعيش الكافر في رخاء من الزمان قال فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول لمن هذا؟ فيقال هذا لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم فيقول لمن هذا؟ فيقال هؤلاء لك ، فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ، قال ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول لمن هذه فيقال هذه لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا.

قال ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) قال فالجنة عالية والنار هاوية قال فيريه الله تعالى شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) بمثل ما منّ عليه. قال فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت (٢).

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠)

يقول الله تعالى أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة وعطاء (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) أي التي في جهنم وقد يحتمل أن يكون

__________________

(١) المليء : صاحب المال ، والغني.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٤.

١٦

المراد بذلك شجرة واحدة معينة كما قال بعضهم إنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن ، وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠] يعني الزيتونة ويؤيد ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) [الواقعة : ٥١ ـ ٥٢].

وقوله عزوجل : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) غذيت من النار ومنها خلقت. وقال مجاهد (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قال أبو جهل لعنه الله : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه.

قلت ومعنى الآية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب كقوله تبارك وتعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) [الإسراء : ٦٠]. وقوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي أصل منبتها في قرار النار (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) تبشيع لها وتكريه لذكرها. قال وهب بن منبه شعور الشياطين قائمة إلى السماء ، وإنما شبهها برءوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر ، وقيل المراد بذلك ضرب من الحيات رؤوسها بشعة المنظر ، وقيل جنس من النبات طلعه في غاية الفحاشة وفي هذين الاحتمالين نظر ، وقد ذكرهما ابن جرير والأول أقوى وأولى ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ). ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها لأنهم لا يجدون إلا إياها وما في معناها كما قال تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وقال ابن أبي حاتم رحمه‌الله حدثنا أبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية وقال : «اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح (١).

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني

__________________

(١) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ٤ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠١ ، ٣٣٨.

١٧

شرب الحميم على الزقوم (١) ، وقال في رواية عنه شوبا من حميم ، مزجا من حميم ، وقال غيره يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق مما يسيل من فروجهم وعيونهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو أخبرني عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول «يقرب ـ يعني إلى أهل النار ـ ماء فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره» (٢).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعيد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو أن مارا يمر بهم يعرفهم لعرف وجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور.

وقوله عزوجل : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وجحيم تتوقد وسعير تتوهج فتارة في هذا وتارة في هذا كما قال تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية (٣) وهو تفسير حسن قوي ، وقال السدي في قراءة عبد الله رضي الله عنه «ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم» (٤) وكان عبد الله رضي الله عنه يقول والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ثم قرأ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] وروى الثوري عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء قال سفيان أراه ثم قرأ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) قلت على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر. وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان ، ولهذا قال : (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) قال مجاهد شبيهة بالهرولة ، وقال سعيد بن جبير يسفهون.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٥.

(٢) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ٤ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٦٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٥.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٥ ، بلفظ : «ثم إنّ منقلبهم لإلى الجحيم». وانظر أيضا الدر المنثور ٥ / ٥٢٣.

١٨

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٧٤)

يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرون بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ولهذا قال تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ(٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (٨٢)

لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم ، وكلما دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم ، ولهذا قال عزوجل : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فلنعم المجيبون له (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو التكذيب والأذى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول : لم تبق إلا ذرية نوح عليه‌السلام (١).

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال الناس كلهم من ذرية نوح عليه‌السلام ، وقد روى الترمذي (٢) وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال سام وحام ويافث وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي من صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» ورواه الترمذي (٤) عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة به ، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٨ ، بلفظ : لم يبق إلا ذرية نوح.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٧ ، باب ٣.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٩.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٧ ، باب ٤.

١٩

وقد روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله ، والمراد بالروم هاهنا هم الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه‌السلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال : ولد نوح عليه‌السلام ثلاثة : سام ويافث وحام ، وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم ، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، وولد حام القبط والسودان والبربر ، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير (١) ، وقال مجاهد يعني لسان صدق للأنبياء كلهم ، وقال قتادة والسدي أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. وقال الضحاك السلام والثناء الحسن (٢).

وقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) مفسر لما أبقى عليه الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى ونجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك ثم قال تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين الموحدين الموقنين (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أهلكناهم فلم تبق منهم عين تطرف ولا ذكر لهم ولا عين ولا أثر ، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٧)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) يقول من أهل دينه ، وقال مجاهد على منهاجه وسنته (٣).

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد بن سيرين ما القلب السليم؟ قال يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وقال الحسن : سليم من الشرك وقال عروة لا يكون لعانا.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال عزوجل (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم معه غيره.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٨.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٨.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٩.

٢٠