تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

يقول تعالى : فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون هذا سحر مستمر ، أعرض عنهم وانتظرهم (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي إلى شيء منكر فظيع ، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء بل والزلازل والأهوال ، (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة أبصارهم (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) وهي القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الآفاق ، ولهذا قال : (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين (إِلَى الدَّاعِ) لا يخالفون ولا يتأخرون (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ٩ ـ ١٠].

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧)

يقول تعالى : (كَذَّبَتْ) قبل قومك يا محمد (قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) قال مجاهد : (وَازْدُجِرَ). أي استطير جنونا ، وقيل : وازدجر أي انتهروه وزجروه وتواعدوه (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) (١) [الشعراء : ١١٦] ، قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم (فَانْتَصِرْ) أنت لدينك. قال الله تعالى :

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) قال السدي : وهو الكثير (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي نبعت جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا ، (فَالْتَقَى الْماءُ) أي من السماء ومن الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي أمر مقدر.

قال ابن جريج عن ابن عباس (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب ، فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان على أمر قد قدر ، وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكواء سأل عليا عن المجرة فقال : هي شرج السماء ، ومنها فتحت السماء بماء منهمر (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والقرظي وقتادة وابن زيد : هي المسامير ، واختاره ابن جرير (٢) ، قال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٥٥١.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٥٢ ، ٥٥٣.

٤٤١

وواحدها دسار. ويقال : دسير كما يقال حبيك وحباك والجمع حبك ، وقال مجاهد : الدسر أضلاع السفينة.

وقال عكرمة والحسن : هو صدرها الذي يضرب به الموج. وقال الضحاك : طرفاها وأصلها ، وقال العوفي عن ابن عباس : هو كلكلها أي صدرها. وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارا لنوح عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة ، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) [يس : ٤١ ـ ٤٢] وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) ولهذا قال هاهنا : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من يتذكر ويتعظ. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حجاج ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وهكذا رواه البخاري (٢) ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله قال : قرأت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وروى البخاري أيضا من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، عن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

وقال : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أو مذكر ، قال : سمعت عبد الله يقرأ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). دالا (٣). وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجة من حديث أبي إسحاق.

وقوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ، ولم يتعظ بما جاءت به نذري ، وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس ، كما قال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] وقال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم : ٩٧] قال مجاهد : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) يعني هونا قراءته ، وقال السدي : يسرنا تلاوته على الألسن ، وقال الضحاك عن ابن عباس : لولا

__________________

(١) المسند ١ / ٣٩٥.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٤ ، باب ٢.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٤ ، باب ٢ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٨٠ ، ٢٨١ ، وأبو داود في الحروف باب ٢٦ ، والترمذي في القرآن باب ٤.

٤٤٢

أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزوجل.

قلت : ومن تيسيره تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» (١) وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة ، وقوله : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال محمد بن كعب القرظي : فهل من منزجر عن المعاصي؟.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن رافع ، حدثنا ضمرة عن ابن شوذب ، عن مطر هو الوراق في قوله تعالى : (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هل من طالب علم فيعان عليه ، وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم عن مطر الوراق ، ورواه ابن جرير (٢) ، وروي عن قتادة مثله.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢)

يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود ، إنهم كذبوا رسولهم أيضا ، كما صنع قوم نوح وأنه تعالى أرسل عليهم (رِيحاً صَرْصَراً) وهي الباردة الشديدة البرد (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) أي عليهم ، قاله الضحاك وقتادة والسدي (مُسْتَمِرٍّ) عليهم نحسه ودماره لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي. وقوله تعالى : (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الأبصار ، ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط إلى الأرض ، فتثلغ (٣) رأسه فيبقى جثة بلا رأس ، ولهذا قال : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢)

وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ٥ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٦٤ ، ٢٧٠ ، ٢٧٢ ، ٢٧٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٢ ، والترمذي في القرآن باب ٩ ، والنسائي في الافتتاح باب ٣٧ ، ومالك في القرآن حديث ٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٤١ ، ١١٤ ، ١٢٤ ، ١٢٧ ، ١٢٨ ، ١٣٢.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٥٦.

(٣) ثلغ : أي شدخ.

٤٤٣

ضَلالٍ وَسُعُرٍ) يقولون : لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا. ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ثم رموه بالكذب فقالوا : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي متجاوز في حد الكذب ، قال الله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد. ثم قال تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي اختبارا لهم ، أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء ، من صخرة صماء طبق ما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه‌السلام فيما جاءهم به ، ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله صالح : (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي انتظر ما يؤول إليه أمرهم ، واصبر عليهم فإن العاقبة لك ، والنصر لك في الدنيا والآخرة (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي يوم لهم ويوم للناقة كقوله : (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥].

وقوله تعالى : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) قال مجاهد : إذا غابت حضروا الماء. وإذا جاءت حضروا اللبن ، ثم قال تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) قال المفسرون : هو عاقر الناقة ، واسمه قدار بن سالف ، وكان أشقى قومه. كقوله : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) [الشمس : ١٢] (فَتَعاطى) أي فحبسر (فَعَقَرَ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فعاقبتهم فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية ، وخمدوا وهمدوا كما يهمد وييبس الزرع والنبات ، قاله غير واحد من المفسرين ، والمحتظر قال السدي هو المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتنسفه الريح ، وقال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حظارا على الإبل والمواشي من يبيس الشوك فهو المراد من قوله : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) وقال سعيد بن جبير : هشيم المحتظر هو التراب المتناثر من الحائط ، وهذا قول غريب ، والأول أقوى والله أعلم.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ(٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ(٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٤٠)

يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه ، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يهلكه أمة من الأمم ، فإنه تعالى أمر جبريل عليه‌السلام فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء ، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأتبعت بحجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال هاهنا : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) وهي الحجارة (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم ، ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته

٤٤٤

أصابها ما أصاب قومها ، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء ، ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) أي ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه وتماروا به.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) وذلك ليلة ورد عليه الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل في صور شباب مرد حسان محنة من الله بهم ، فأضافهم لوط عليه‌السلام ، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها فأعلمتهم بأضياف لوط ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فأغلق لوط دونهم الباب ، فجعلوا يحاولون كسر الباب ، وذلك عشية ولوط عليه‌السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم : (هؤُلاءِ بَناتِي) يعني نساءهم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ... (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) [الحجر : ٧١ ـ ٧٢] أي ليس لنا فيهن أرب (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول ، خرج عليهم جبريل عليه‌السلام فضرب أعينهم بطرف جناحه ، فانطمست أعينهم ، يقال إنها غارت من وجوههم ، وقيل إنه لم تبق لهم عيون بالكلية ، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان ، ويتوعدون لوطا عليه‌السلام إلى الصباح. قال الله تعالى : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ(٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (٤٦)

يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه : إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا ، والنذارة إن كفروا ، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة فكذبوا بها كلها ، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر أي فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبر ولا عين ولا أثر ، ثم قال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ) أي أيها المشركون من كفار قريش (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) يعني من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل وكفرهم بالكتب ، أأنتم خير من أولئكم؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أم معكم من الله براءة أن لا ينالكم عذاب ولا نكال؟ ثم قال تعالى مخبرا عنهم : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي يعتقدون أنهم يتناصرون بعضهم بعضا ، وأن جميعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء. قال الله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق شملهم ويغلبون.

قال البخاري : حدثنا إسحاق ، حدثنا خالد عن خالد ، وقال أيضا : حدثنا محمد حدثنا عفان بن مسلم عن وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو في قبة له

٤٤٥

يوم بدر : «أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (١) وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع من حديث خالد ، وهو ابن مهران الحذاء به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة قال : لما نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثب في الدرع وهو يقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر» فعرفت تأويلها يومئذ.

وقال البخاري (٢) : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم ، أخبرني يوسف بن ماهك قال : إني عند عائشة أم المؤمنين فقالت : نزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) هكذا رواه هاهنا مختصرا ، ورواه في فضائل القرآن مطولا ولم يخرجه مسلم.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٥٥)

يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء ، وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق ، ثم قال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار ، وكما كانوا ضلالا يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون ، ويقال لهم تقريعا وتوبيخا : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ).

وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) كقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] وكقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ١ ـ ٣] أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه ، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها ، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٨٩ ، وتفسير سورة ٥٤ ، باب ٥ ، ٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٢٩.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٤ ، باب ٧ ، والفضائل باب ٦.

٤٤٦

القدرية ، الذين نبغوا (١) في أواخر عصر الصحابة ، وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه‌الله ، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة.

قال أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٣) وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث وكيع عن سفيان الثوري به.

وقال البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا الضحاك بن مخلد ، حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : ما نزلت هذه الآيات (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إلا في أهل القدر. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل بن صالح الأنطاكي ، حدثني قرة بن حبيب عن كنانة ، حدثني جرير بن حازم عن سعيد بن عمرو بن جعدة ، عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تلا هذه الآية (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قال : «نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله».

وحدثنا الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم ، وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له قد تكلم في القدر ، فقال : أوقد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : فو الله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أولئك شرار هذه لأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين.

وقد رواه الإمام أحمد (٤) من وجه آخر وفيه مرفوع فقال : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي عن بعض إخوته عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس قال : قيل له إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر ، فقال : دلوني عليه وهو أعمى ، قالوا : وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال : والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن مشركات ، هذا أول شرك هذه الأمة ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى

__________________

(١) نبغوا : أي خرجوا.

(٢) المسند ٢ / ٤٤٤ ، ٤٧٦.

(٣) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٩ ، والترمذي في القدر باب ١٩ ، وتفسير سورة ٥٤ ، باب ٦ ، والنسائي في الضحايا باب ٤٠ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٠.

(٤) المسند ١ / ٣٣٠.

٤٤٧

يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا ، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا» ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن الأوزاعي عن العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد فذكر مثله لم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن يزيد : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو صخر عن نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه. فكتب إليه عبد الله بن عمر أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر» ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به.

وقال أحمد (٢) : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.

وقال أحمد (٣) : حدثنا قتيبة ، حدثنا رشدين عن أبي صخر حميد بن زياد عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية» (٤) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صخر حميد بن زياد به ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا إسحاق بن الطباع ، أخبرني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم ، عن طاوس اليماني قال : سمعت ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» (٦) ورواه مسلم منفردا به من حديث مالك.

وفي الحديث الصحيح «استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل ، ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان» (٧) وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك جفت الأقلام وطويت الصحف» (٨) وقال الإمام

__________________

(١) المسند ٢ / ٩٠.

(٢) المسند ٢ / ٨٦.

(٣) المسند ٢ / ١٠٨.

(٤) أخرجه الترمذي في القدر باب ١٦.

(٥) المسند ٢ / ١١٠.

(٦) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٨ ، ومالك في القدر حديث ٤.

(٧) أخرجه مسلم في القدر حديث ٣٤. وابن ماجة في المقدمة باب ١٠.

(٨) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٩٣ ، ٣٠٣ ، ٣٠٧.

٤٤٨

أحمد (١) : حدثنا الحسن بن سوار ، حدثنا الليث عن معاوية عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني ، فلما أجلسوه قال : يا بني إنك لم تطعم طعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار (٢).

ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البلخي عن أبي داود الطيالسي عن عبد الواحد بن سليم عن عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال : حسن صحيح غريب. وقال سفيان الثوري عن منصور عن ربعي بن خراش ، عن رجل عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره» (٣) وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به ، ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن علي فذكره وقال : هذا عندي أصح ، وكذا رواه ابن ماجة من حديث شريك عن منصور عن ربعي عن علي به. وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» (٤) زاد ابن وهب (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب.

وقوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه ، كما أخبرنا بنفوذ قدره فيهم فقال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إلى تأكيد بثانية ، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر ، لا يتأخر طرفة عين ، وما أحسن ما قال بعض الشعراء : [الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له كن قولة فيكون

__________________

(١) المسند ٥ / ٣١٧.

(٢) أخرجه الترمذي في القدر باب ١٧.

(٣) أخرجه الترمذي في القدر باب ١٠ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩.

(٤) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٦ ، والترمذي في القدر باب ١٨.

٤٤٩

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السالفة المكذبين بالرسل (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب ، كما قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سبأ : ٥٤] وقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم‌السلام (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) أي من أعمالهم (مُسْتَطَرٌ) أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك ، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير ، حدثني عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا» (٢) ورواه النسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن مسلم بن بانك المدني ، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر. ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي : ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان : [الطويل]

لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا

ان الصغير غدا يعود كبيرا

إن الصغير ولو تقادم عهده

عند الإله مسطّر تسطيرا

فازجر هواك على البطالة لا تكن

صعب القياد وشمّرن تشميرا

إن المحبّ إذا أحب إلهه

طار الفؤاد وألهم التفكيرا

فاسأل هدايتك الإله بنيّة

فكفى بربك هاديا ونصيرا

وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار على وجوههم ، مع التوبيخ والتقريع والتهديد. وقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده وإحسانه (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها. وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون.

وقد قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» (٤) انفرد بإخراجه

__________________

(١) المسند ٦ / ٧٠ ، ١٥١.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٢٩.

(٣) المسند ٢ / ١٧٠.

(٤) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٨ ، والنسائي في آداب القضاة باب ١.

٤٥٠

مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة بإسناده مثله.

آخر تفسير سورة اقتربت ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

تفسير سورة الرحمن

وهي مكية

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن عاصم عن زر أن رجلا قال لابن مسعود : كيف تعرف هذا الحرف من ماء غير آسن أو آسن؟ فقال : كل القرآن قد قرأت. قال : إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة ، فقال : أهذا كهذا الشعر لا أبالك؟ قد علمت. قرائن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل ، وكان أول مفصل ابن مسعود (الرَّحْمنُ).

وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد الرحمن بن واقد وأبو مسلم السعدي ، حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد ، عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال : «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» (٢) ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد ، ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه ، ينكر رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا ، ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن مالك عن الوليد بن مسلم ، وعن عبد الله بن أحمد بن شبويه عن هشام بن عمارة ، كلاهما عن الوليد بن مسلم به ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه.

وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك البصري قالا : حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال : «ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم؟» قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : «ما أتيت على قول الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن لا بشيء من نعم ربنا نكذب» ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك به ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.

__________________

(١) المسند ١ / ٤١٢.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٥ باب ١.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٥٨٢.

٤٥١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣)

يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) قال الحسن : يعني النطق ، وقال الضحاك وقتادة وغيرهما : يعني الخير والشر ، وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن ، وهو أداء تلاوته ، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها. وقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].

وعن عكرمة أنه قال : لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد ، ثم كشف حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس ، لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي ، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش ، ونور العرش جزء من سبعين جزءا من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا ، رواه ابن أبي حاتم.

وقوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قال ابن جرير (١) : اختلف المفسرون في معنى قوله (وَالنَّجْمُ) بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق ، فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : النجم ما انبسط على وجه الأرض يعني من النبات ، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري ، وقد اختاره ابن جرير رحمه‌الله تعالى. وقال مجاهد :

النجم الذي في السماء. وكذا قال الحسن وقتادة ، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [الحج : ١٨] الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٧٤.

٤٥٢

وقوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) يعني العدل كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] وهكذا قال هاهنا : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل. ولهذا قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط كما قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الشعراء : ١٨٢] وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات ، لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد : الأنام الخلق (فِيها فاكِهَةٌ) أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطبا ويابسا ، والأكمام قال ابن جريج عن ابن عباس : هي أوعية الطلع وهكذا قال غير واحد من المفسرين ، وهو الذي يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود ، فيكون بسرا ثم رطبا ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا أبو قتيبة ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي عن الشعبي قال : كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب : أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير ، تخرج مثل آذان الحمير ثم تشقق مثل اللؤلؤ ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر ، ثم تحمر فتكون كالياقوت الأحمر ، ثم تينع فتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل ، ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادا للمسافر ، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة ، فكتب إليه عمر بن الخطاب : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم ، إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا ، وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها ، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠] وقيل : الأكمام رفاتها وهو الليف الذي على عنق النخلة ، وهو قول الحسن وقتادة.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) يعني التبن. وقال العوفي عن ابن عباس : العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه ، فهو يسمى العصف إذا يبس ، وكذا قال قتادة والضحاك وأبو مالك عصفه تبنه. وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : (وَالرَّيْحانُ) يعني الورق. وقال الحسن : هو ريحانكم هذا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَالرَّيْحانُ) خضر الزرع ، ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف ، وهو ما على السنبلة ، وريحان وهو الورق الملتف على ساقها. وقيل : العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلا والريحان الورق

٤٥٣

يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة : [الطويل]

وقولا له من ينبت الحب في الثّرى

فيصبح منه البقل يهتزّ رابيا (١)

ويخرج منه حبه في رؤوسه

ففي ذاك آيات لمن كان واعيا

وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان؟ قاله مجاهد وغير واحد ، ويدل عليه السياق بعده ، أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به : اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد. وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أي لا نكذب بشيء منها ، قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥)

يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه الجان من مارج من نار ، وهو طرف لهبها ، قاله الضحاك عن ابن عباس ، وبه يقول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد ، وقال العوفي عن ابن عباس : (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) من لهب النار من أحسنها ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) من خالص النار ، وكذلك قال عكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (٤) ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به.

__________________

(١) البيتان في سيرة ابن هشام ١ / ٢٢٨.

(٢) المسند ٦ / ٣٤٩.

(٣) المسند ٦ / ١٦٨.

(٤) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٠.

٤٥٤

وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم تفسيره (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) يعني مشرقي الصيف والشتاء ومغربي الصيف والشتاء ، وقال في الآية الأخرى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠] وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس. وقال في الآية الأخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب ، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) قال ابن عباس : أي أرسلهما. وقوله : (يَلْتَقِيانِ) قال ابن زيد : أي منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما ، والمراد بقوله (الْبَحْرَيْنِ) الملح والحلو ، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس ، وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٥٣] قد اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين : بحر السماء وبحر الأرض ، وهو مروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية وابن أبزى ، قال ابن جرير : لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء وأصداف بحر الأرض وهذا وإن كان هكذا لكن ليس المراد بذلك ما ذهب إليه ، فإنه لا يساعده اللفظ فإنه تعالى قد قال : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي وجعل بينهما برزخا ، وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا ، وهذا على هذا ، فيفسد كل واحد منهما الآخر ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه ، وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا.

وقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) أي من مجموعهما ، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى كما قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف ، وأما المرجان فقيل هو صغار اللؤلؤ (١) ، قاله مجاهد وقتادة وأبو رزين والضحاك وروي عن علي ، وقيل كباره وجيده ، حكاه ابن جرير عن بعض السلف ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس ، وحكاه عن السدي عمن حدثه عن ابن عباس ، وروي مثله عن علي ومجاهد أيضا ومرة الهمداني ، وقيل : هو نوع من الجواهر أحمر اللون ، قال السدي عن أبي مالك عن مسروق عن عبد الله قال : المرجان الخرز الأحمر ، قال السدي : وهو البسذ بالفارسية ، وأما قوله : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [فاطر : ١٢] فاللحم من كل من الأجاج والعذب والحلية إنما هي من الملح دون العذب. قال ابن عباس : ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة ، وكذا قال عكرمة ، وزاد : فإذا لم تقع

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٨٩.

٤٥٥

في صدفة نبتت بها عنبرة ، وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إذا أمطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها ، يعني من قطر فهو اللؤلؤ. إسناده صحيح ، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض ، امتن بها عليهم فقال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) يعني السفن التي تجري في البحر قال مجاهد : ما رفع قلعه من السفن فهي منشأة وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة ، وقال قتادة : (الْمُنْشَآتُ) يعني المخلوقات ، وقال غيره ، المنشئات بكسر الشين يعني البادئات (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم ، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ، ولهذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا العرار بن سويد عن عميرة بن سعد قال : كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط علي يديه ثم قال : يقول الله عزوجل : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠)

يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون ، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم ، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبدا ، قال قتادة : أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وفي الدعاء المأثور : يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك. وقال الشعبي : إذا قرأت (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) فلا تسكت حتى تقرأ (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وهذه الآية كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية بأنه ذو الجلال والإكرام أي هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يطاع فلا يخالف كقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] وكقوله إخبارا عن المتصدقين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩].

٤٥٦

قال ابن عباس : ذو الجلال والإكرام ذو العظمة والكبرياء ، ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة ، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمة العدل قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم وأنه كل يوم هو في شأن ، قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال من شأنه أن يجيب داعيا أو يعطي سائلا ، أو يفك عانيا أو يشفي سقيما.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : كل يوم هو يجيب داعيا ويكشف كربا ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا ، وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السموات والأرض يحيي حيا ويميت ميتا ، ويربي صغيرا ويفك أسيرا وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحمصي ، حدثنا جرير بن عثمان عن سويد بن جبلة هو الفزاري قال : إن ربكم كل يوم هو في شأن فيعتق رقابا ، ويعطي رغابا ، ويقحم عقابا.

وقال ابن جرير (١) : حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي ، حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي ، حدثني عمرو بن بكر السكسكي ، حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني عن أبيه ، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال : «أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن أحمد الواسطي قالا :

حدثنا الوزير بن صبيح الثقفي أبو روح الدمشقي والسياق لهشام قال : سمعت يونس بن ميسرة بن حلبس ، يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ـ قال ـ من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين» (٢). وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة عن هشام بن عمار به ، ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع عن الوزير بن صبيح قال : «ودلنا عليه الوليد بن مسلم عن مطرف عن الشعبي عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره قال : والصحيح الأول ، يعني إسناده الأول.

قلت : وقد روي موقوفا كما علقه البخاري بصيغة الجزم فجعله من كلام أبي الدرداء فالله أعلم. وقال البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٩٢.

(٢) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

٤٥٧

عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال «يغفر ذنبا ، ويكشف كربا» ثم قال ابن جرير (١) : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور ، وكتابه نور ، وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ(٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قال: وعيد من الله تعالى للعباد وليس بالله شغل وهو فارغ ، وكذا قال الضحاك : هذا وعيد ، وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه ، وقال ابن جريج (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أي سنقضي لكم.

وقال البخاري (٢) : سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب ، يقال لأتفرغن لك وما به شغل ، يقول : لآخذنك على غرتك. وقوله تعالى : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) الثقلان : الإنس والجن كما جاء في الصحيح : «ويسمعها كل شيء إلا الثقلين» (٣) وفي رواية «إلا الإنس والجن». وفي حديث الصور «الثقلان الإنس والجن» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ثم قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم ، لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام الحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب (إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي إلا بأمر الله (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١٠ ـ ١٢].

وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [يونس : ٢٧] ولهذا قال تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الشواظ : هو لهب النار ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس :

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٩٢.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٥ في الترجمة.

(٣) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٦٧ ، ٨٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤.

٤٥٨

الشواظ الدخان ، وقال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع ، وقال أبو صالح : الشواظ هو اللهيب الذي فوق النار ودون الدخان. وقال الضحاك (شُواظٌ مِنْ نارٍ) سيل من نار. وقوله تعالى : (وَنُحاسٌ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَنُحاسٌ) دخان النار ، وروي مثله عن أبي صالح وسعيد بن جبير وأبي سنان.

وقال ابن جرير (١) : والعرب تسمي الدخان نحاسا ، بضم النون وكسرها ، والقراء مجمعة على الضم ، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة : [المتقارب]

يضيء كضوء سراج السّليط

لم يجعل الله فيه نحاسا (٢)

يعني دخانا هكذا قال ، وقد روى الطبراني من طريق جويبر عن الضحاك أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال : هو اللهب الذي لا دخان معه ، فسأله شاهدا على ذلك من اللغة ، فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان : [الوافر]

ألا من مبلغ حسّان عني

مغلغلة تدب إلى عكاظ (٣)

أليس أبوك فينا كان قينا

لدى القينات فسلا في الحفاظ

يمانيّا يظل يشدّ كيرا

وينفخ دائبا لهب الشّواظ

قال : صدقت فما النحاس؟ قال : هو الدخان الذي لا لهب له ، قال : فهل تعرفه العرب؟ قال : نعم ، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول : [المتقارب]

يضيء كضوء سراج السليط

لم يجعل الله فيه نحاسا (٤)

وقال مجاهد : النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم ، وكذا قال قتادة ، وقال الضحاك : ونحاس سيل من نحاس ، والمعنى على كل قول لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار ، والنحاس المذاب عليكم لترجعوا ، ولهذا قال : (فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٩٧.

(٢) البيت للنابغة الجعدي في ديوانه ص ٨١ ، وجمهرة اللغة ص ٥٣٦ ، ولسان العرب (نحس) ، (سلط) ، وتاج العروس (نحس) ، (سلط) والكامل ص ٤٧٧ ، والشعر والشعراء ص ٣٠٢ ، ولنابغة بني ذبيان في تفسير الطبري ١١ / ٥٩٨ ، وبلا نسبة في كتاب العين ٣ / ١٤٤ ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣٢٠.

(٣) البيت الأول لأمية بن خلف الخزاعي في المقاصد النحوية ٤ / ٥٦٣ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٣ / ٨٠٧ ، والبيتان الثاني والثالث لأمية بن خلف في لسان العرب (شوظ) ، وتاج العروس (شوظ)

(٤) تقدم قبل قليل مع تخريجه ، وقد نسبه ابن كثير قبل للنابغة الجعدي وهو الصحيح.

٤٥٩

وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤٥)

يقول تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) يوم القيامة كما دلت عليه هذه الآيات مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها كقوله تعالى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) وقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] وقوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [الانشقاق : ١ ـ ٢] وقوله تعالى : (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك ، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء ، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء ، حدثنا نافع أبو غالب الباهلي ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم» قال الجوهري : الطش المطر الضعيف ، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَرْدَةً كَالدِّهانِ) قال : هو الأديم الأحمر ، وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) كالفرس الورد ، وقال العوفي عن ابن عباس : تغير لونها ، وقال أبو صالح : كالبرذون الورد ، ثم كانت بعد كالدهان.

وحكى البغوي وغيره أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء ، وفي الشتاء حمراء ، فإذا اشتد البرد تغير لونها ، وقال الحسن البصري : تكون ألوانا. وقال السدي : تكون كلون البغلة الوردة ، وتكون كالمهل كدردي الزيت ، وقال مجاهد (كَالدِّهانِ) كألوان الدهان ، وقال عطاء الخراساني : كلون دهن الورد في الصفرة ، وقال قتادة : هي اليوم خضراء ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال أبو الجوزاء : في صفاء الدهن. وقال ابن جريج : تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم.

وقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) وهذه كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [الرسلات : ٣٥ ـ ٣٦] فهذا في حال وثم حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم ، وقال الله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] ولهذا قال قتادة : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال : قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ، لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا؟ فهذا قول ثان. وقال مجاهد في هذه الآية : لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم ، وهذا قول ثالث ، وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٦٦ ، ٢٦٧.

٤٦٠