تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا جدا وفي صحته نظر ولكن نحن نذكره كما ذكره فإنه قال حدثنا يزيد بن سنان البصري بمصر حدثنا يحيى بن حماد حدثنا الأغلب بن تميم عن مخلد بن هذيل العبدي عن عبد الرحمن المدني عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال «ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان» قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ولا قوة إلا بالله ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالا ستا : أما أولاهن فيحرس من إبليس وجنوده وأما الثانية فيعطى قنطارا من الأجر ، وأما الثالثة فترفع له درجة في الجنة ، وأما الرابعة فيتزوج من الحور العين ، وأما الخامسة فيحضره اثنا عشر ملكا ، وأما السادسة فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور ، وله مع هذا يا عثمان من الأجر ، كمن حج وتقبلت حجته واعتمر فتقبلت عمرته فإن مات من يومه طبع عليه بطابع الشهداء» (١) ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد به مثله وهو غريب وفيه نكارة شديدة والله أعلم.

وقوله تبارك وتعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) وهذه كقوله تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨]. وقوله عزوجل : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن معك أنت ومن اتبعك وصدقك.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧)

يقول تبارك وتعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته ، قال مجاهد : نزلت في قريش ، وقال السدي : ما عظموه حق عظمته(٢).

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٣.

١٠١

وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم.

فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف.

قال البخاري قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حدثنا آدم حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله عزوجل يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع فيقول أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) الآية ورواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من صحيحه والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما كلهم من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.

وقال الإمام أحمد (٢) حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع ، قال فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه قال وأنزل الله عزوجل (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر الآية ، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر يهودي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس فقال : كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى السماء على ذه ـ وأشار بالسبابة ـ والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه ـ كل ذلك يشير بأصابعه ـ قال فأنزل اللهعزوجل (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) الآية وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن الصلت أبي جعفر عن أبي كدينة يحيى بن المهلب عن عطاء بن السائب

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ١٩ ، ٢٦ ، ٣٦ ، وتفسير سورة ٣٩ ، باب ٢ ومسلم في المنافقين حديث ١٩ ، ٢١ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٩ باب ٣.

(٢) المسند ١ / ٣٧٨.

(٣) المسند ١ / ٣٢٤.

١٠٢

عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

ثم قال البخاري (١) : حدثنا سعيد بن غفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم (٢) من وجه آخر.

وقال البخاري (٣) في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك» تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر.

وقد رواه الإمام أحمد (٤) من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول فقال : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر «يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم» فرجف برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المنبر حتى قلنا ليخرنّ به وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث عبد العزيز بن أبي حازم زاد مسلم ويعقوب بن عبد الرحمن كلا هما عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما به نحوه. ولفظ مسلم عن عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يأخذ الله تبارك وتعالى سماواته وأرضيه بيده ويقول أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني لأقول أساقط هو برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال البزار : حدثنا سليمان بن سيف حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا عباد المنقري حدثني محمد بن المنكدر قال حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية على المنبر (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ـ حتى بلغ ـ (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فقال المنبر هكذا فجاء وذهب ثلاث مرات والله أعلم ، ورواه الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال صحيح. وقال الطبراني في

__________________

(١) كتاب التفسير باب ٢.

(٢) كتاب المنافقين حديث ١٩ ، ٢١.

(٣) كتاب التوحيد باب ١٩.

(٤) المسند ٢ / ٧٢ ، ٨٧ ، ٨٨.

١٠٣

المعجم الكبير حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي حدثنا حيان بن نافع عن صخر بن جويرية حدثنا سعيد بن سالم القداح عن معمر بن الحسن عن بكر بن خنيس عن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير عن جرير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفر من أصحابه رضي الله عنهم : «إني قارئ عليكم آيات من آخر سورة الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة» فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر السورة فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك» هذا حديث غريب جدا.

وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضا حدثنا هاشم بن زيد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقول ثلاث خلال غيبتهن عن عبادي لو رآهن رجل ما عمل بسوء أبدا : لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم وقبضت السموات بيدي ثم قبضت الأرضين ثم قلت أنا الملك من ذا الذي له الملك دوني فأريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير فيستيقنوها وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها ولكن عمدا غيبت ذلك عنهم لأعلم كيف يعملون وقد بينته لهم» وهذا إسناد متقارب وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة والله أعلم.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٧٠)

يقول تبارك وتعالى مخبرا عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة فقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض إلا من شاء الله كما جاء مصرحا به مفسرا في حديث الصور المشهور ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة والبقاء ويقول (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] ثلاث مرات ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] أنا الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شيء وحكمت بالفناء على كل شيء ، ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ويأمره أن ينفخ بالصور مرة أخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال الله عزوجل : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) أي أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ـ ١٤]. وقالعزوجل :

١٠٤

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢] وقال جل وعلا : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم قال : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إنك تقول الساعة تقوم إلى كذا وكذا قال لقد هممت أن لا أحدثكم شيئا إنما قلت سترون بعد قليل أمرا عظيما ثم قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما أو أربعين ليلة فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيظهر فيهلكه الله تعالى ثم يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله تعالى ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لو أنّ أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه» قال سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا قال فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها وهم في ذلك دارة أرزاقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى له وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم لا يبقى أحد إلا صعق ، ثم يرسل الله تعالى أو ينزل الله عزوجل مطرا كأنه الطل ـ أو الظل شك نعمان ـ فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال أيها الناس هلموا إلى ربكم (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] قال ثم يقال أخرجوا بعث النار قال فيقال كم؟ فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيومئذ تبعث الولدان شيبا ويومئذ يكشف عن ساق» انفرد بإخراجه مسلم (٢) في صحيحه.

[حديث أبي هريرة رضي الله عنه]

وقال البخاري (٣) حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال سمعت أبا صالح قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «ما بين النفختين أربعون» قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال رضي الله تعالى عنه أبيت ، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت ، قالوا أربعون شهرا؟ قال أبيت ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق.

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٦.

(٢) كتاب الفتن حديث ١١٦.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٩ باب ٣.

١٠٥

وقال أبو يعلى : حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سألت جبريل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من الذين لم يشاء الله تعالى أن يصعقهم؟ قال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب (١) من ياقوت نمارها (٢) ألين من الحرير مد خطاها مد أبصار الرجال يسيرون في الجنة يقولون عند طول النزهة انطلقوا بنا إلى ربنا عزوجل لننظر كيف يقضي بين خلقه يضحك إليهم إلهي وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه» رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فإنه غير معروف والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تبارك وتعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء (وَوُضِعَ الْكِتابُ) قال قتادة كتاب الأعمال (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشهدون على الأمم بأنهم بلغوا رسالات الله إليهم (وَالشُّهَداءِ) أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) أي بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) قال الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] وقال جل وعلا : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] ولهذا قال عزوجل : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي من خير وشر (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ).

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٧٢)

يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار وإنما يساقون سوقا عنيفا. بزجر وتهديد ووعيد كما قال عزوجل : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] أي يدفعون إليها دفعا ، هذا وهم عطاش ظماء كما قال جل وعلا في الآية الأخرى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٥ ـ ٨٦] وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي منهم من يمشي على وجهه (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧].

وقوله تبارك وتعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي بمجرد وصولهم إليها فتحت

__________________

(١) النجائب : جمع نجيبة ، تأنيث النجيب من الإبل ، وهو القوي الخفيف السريع.

(٢) النمار : جمع نمرة : وهي كل شملة مخططة من مآزر العرب.

١٠٦

لهم أبوابها سريعا لتعجل لهم العقوبة ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية الذين هم غلاظ الأخلاق شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم ، فيقول الكفار لهم (بَلى) أي قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل كما قال عزوجل مخبرا عنهم في الآية الأخرى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ. ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ٨ ـ ١٠] أي رجعوا على أنفسهم بالملامة والندامة (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١١] أي بعدا لهم وخسارا.

وقوله تبارك وتعالى هاهنا (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم ولهذا قال جل وعلا : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه فبئس الحال وبئس المآل.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٧٤)

وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة زمرا أي جماعة بعد جماعة : المقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم : الأنبياء مع الأنبياء والصديقون مع أشكالهم والشهداء مع أضرابهم ، والعلماء مع أقرانهم وكل صنف مع صنف كل زمرة تناسب بعضها بعضا (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول فيقصدون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليهم أجمعين كما فعلوا في العرصات عند

١٠٧

استشفاعهم إلى الله عزوجل أن يأتي لفصل القضاء ليظهر شرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر البشر في المواطن كلها وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول شفيع في الجنة» (١) وفي لفظ لمسلم «وأنا أول من يقرع باب الجنة» (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا هاشم حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد ـ قال ـ فيقول بك أمرت أن لا افتح لأحد قبلك» ورواه مسلم (٤) عن عمرو بن محمد الناقد وزهير بن حرب كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان وهو ابن المغيرة القيسي عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتغوطون فيها ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا» ورواه البخاري (٦) عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك. ورواه مسلم (٧) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق كلا هما عن معمر بإسناده نحوه وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درّيّ في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون أمشاطهم الذهب والفضة ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء».

وأخرجاه أيضا من حديث جرير وقال الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٣٢.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٣١.

(٣) المسند ٢ / ٣١٦.

(٤) كتاب الإيمان حديث ٣٣٢.

(٥) المسند ٢ / ٣١٦.

(٦) كتاب بدء الخلق باب ٨.

(٧) كتاب صفة الجنة حديث ٧.

١٠٨

ليلة البدر» فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : «اللهم اجعله منهم» ثم قام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبقك بها عكاشة» (١) أخرجاه.

وقد روي هذا الحديث ـ في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ـ البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وابن مسعود ورفاعة بن عرابة الجهني وأم قيس بنت محصن رضي الله عنهم ولهما عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر». وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «وعدني ربي عزوجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عزوجل» وكذا رواه الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي اليمان عامر بن عبد الله بن لحيّ عن أبي أمامة ورواه الطبراني عن عتبة بن عبد السلمي «ثم يشفع مع كل ألف سبعين ألفا» ويروى مثله عن ثوبان وأبي سعيد الأنماري وله شواهد من وجوه كثيرة.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) لم يذكر الجواب هاهنا ، وتقديره حتى إذا جاءوها وكانت هذه الأمور من فتح الأبواب لهم إكراما وتعظيما وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب (٢) والتأنيب فتقديره إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم ، وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل ، ومن زعم أن الواو في قوله تبارك وتعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) واو الثمانية واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع ، وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث الصحيحة.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢١ ، ٥٠ ، واللباس باب ١٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٦٩ ، ٣٧٠.

(٢) التثريب : التوبيخ والتأنيث.

(٣) المسند ٢ / ٢٦٨.

١٠٩

الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان» فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم وأرجو أن تكون منهم» (١) رواه البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة ثمانية أبواب باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون» (٢) وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» (٣) وقال الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفتاح الجنة لا إله إلا الله».

ذكر سعة أبواب الجنة ـ نسأل الله من فضله العظيم أن يجعلنا من أهلها

وفي الصحيحين من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل «فيقول الله تعالى يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر ـ أو هجر ومكة ـ وفي رواية ـ مكة وبصرى» (٤) وفي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام (٥) ، وفي المسند (٦) عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله.

وقال عبد بن حميد حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة» (٧).

وقوله تبارك وتعالى : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) أي طابت أعمالكم وأقوالكم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصوم باب ٤ ، ومسلم في الزكاة حديث ٨٥.

(٢) أخرجه البخاري في الصوم باب ٤ ، ومسلم في الصيام حديث ١٦٦.

(٣) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ١٧.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٧ باب ٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢٧.

(٥) أخرجه مسلم في الزهد حديث ١٤.

(٦) مسند أحمد ٥ / ٣.

(٧) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٢٩.

١١٠

وطاب سعيكم وطاب جزاؤكم كما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينادي بين المسلمين في بعض الغزوات «إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ـ وفي رواية ـ مؤمنة» (١).

وقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر والعطاء العظيم والنعيم المقيم والملك الكبير يقولون عند ذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ١٩٤] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٤٣] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٤ ـ ٣٥].

وقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ). قال أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وابن زيد أي أرض الجنة (٢) فهذه الآية كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ولهذا قالوا (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي أين شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا.

وفي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ (٣) اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» (٤).

وقال عبد الرحمن بن حميد : حدثنا روح بن عبادة حدثنا حماد بن سلمة حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة فقال در مكة بيضاء مسك خالص فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صدق» (٥) وكذا رواه مسلم من حديث أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه به ، ورواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال إن ابن صائد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تربة الجنة فقال : «در مكة بيضاء مسك خالص» (٦).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي

__________________

(١) أخرجه النسائي في الحج باب ١٦١.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٤.

(٣) الجنابذ : هي القباب ، والجنبذة : القبة.

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة باب ١ ، والأنبياء باب ٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٦٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٤٤.

(٥) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٩٢.

(٦) أخرجه مسلم في الفتن حديث ٩٣.

١١١

إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) قال سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم فلم تغير أبشارهم بعدها أبدا ولم تشعث أشعارهم أبدا بعدها كأنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ويلقى كل غلمان صاحبهم يطيفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا وقد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا ، قال وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين فيقول هذا فلان باسمه في الدنيا فيقلن أنت رأيته فيقول نعم فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة (١) الباب قال فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثة ، قال ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض ومن كل لون ثم يرفع طرفه إلى سقفه فلولا أن الله تعالى قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين ثم يتكئ على أريكة من أرائكه ثم يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [الأعراف : ٤٣].

ثم قال : حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي قال : سمعت أبا معاذ البصري يقول إن عليا رضي الله عنه كان ذات يوم عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون ـ أو يؤتون ـ بنوق لها أجنحة وعليها رحال الذهب شراك (٢) نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون ـ أو فيأتون ـ باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفيحة فيسمع لها طنين يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خرّ له ـ قال مسلمة أراه قال ساجدا ـ.

فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر الياقوت حتى تعتنقه ثم تقول أنت حبي وأنا حبّك وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن فيدخل بيتا من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أصفر وأخضر وأحمر ليس فيها طريقة تشاكل صاحبتها في البيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون حشية

__________________

(١) الأسكفة : هي خشبة الباب التي يوطأ عليها.

(٢) شراك النعل : سير النعل.

١١٢

على كل حشية سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من باطن الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه ، الأنهار من تحتهم تطرد «أنهار من ماء غير آسن» ـ قال صاف لا كدر فيه ـ «وأنهار من لبن لم يتغير طعمه» ـ قال لم يخرج من ضروع الماشية ـ «وأنهار من خمرة لذة للشاربين» ـ قال لم تعصرها الرجال بأقدامهم ـ «وأنهار من عسل مصفى» ـ قال لم يخرج من بطون النحل ، يستجني الثمار فإن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا ـ ثم تلا (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤] فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض قال وربما قال أخضر قال فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء ثم يطير فيذهب فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت في الأرض لأضاءت الشمس معها سوادا في نور» هذا حديث غريب وكأنه مرسل ، والله أعلم.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥)

لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار وأنه نزّل كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور ، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور وقد فصل القضية وقضي الأمر وحكم بالعدل ولهذا قال عزوجل : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الخلائق (بِالْحَقِ). ثم قال (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ونطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمة لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد قال قتادة افتتح الخلق بالحمد في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

١١٣

تفسير سورة غافر

وهي مكية

قد كره بعض السلف منهم محمد بن سيرين أن يقال الحواميم وإنما يقال آل حم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : آل حم ديباج القرآن وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن لكل شيء لبابا ولباب القرآن آل حم أو قال الحواميم وقال مسعر بن كدام كان يقال لهن العرائس وروى ذلك كله الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه‌الله تعالى في كتاب فضائل القرآن.

وقال حميد بن زنجويه : حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات (١) فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن أورده البغوي. وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات أتأنق فيهن (٢).

وقال أبو عبيد حدثنا الأشجعي حدثنا مسعر هو ابن كدام عمن حدثه أن رجلا رأى أبا الدرداء رضي الله عنه يبني مسجدا فقال له ما هذا؟ فقال أبنيه من أجل آل حم وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء رضي الله عنه هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق ، وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وضع له فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه في بعض الغزوات : «إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون ـ وفي رواية ـ لا تنصرون» (٣).

وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أحمد بن الحكم بن ظبيان بن خلف المازني ومحمد بن الليث الهمداني قالا : حدثنا موسى بن مسعود حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء» ثم قال لا نعلمه يروى إلا بهذا

__________________

(١) الروضة الدمثة : هي الأرض السهلة الرخوة.

(٢) أتأنق فيهن : أي أعجب بهن ، واستلذ قراءتهن ، وأتتبع محاسنهن.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٧١ ، والترمذي في الجهاد باب ١١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٦٥ ، ٥ / ٣٧٧.

١١٤

الإسناد ورواه الترمذي من حديث المليكي وقال تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا وقد قيل إن (حم) اسم من أسماء الله عزوجل وأنشدوا في ذلك بيتا : [الطويل]

يذكّرني حم والرّمح شاجر

فهلّا تلاحم قبل التقدّم (١)

وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة قال : حدثني من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن بيتم الليلة فقولوا وحم لا ينصرون» (٢) وهذا إسناد صحيح ، صفرة واختار أبو عبيد أن يروى فقولوا حم لا ينصروا أي إن قلتم ذلك لا ينصروا جعله جزاء لقوله فقولوا.

وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم فلا يرام جنابه ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه. وقوله عزوجل : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه. وقوله جل وعلا : (شَدِيدِ الْعِقابِ) أي لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى وهذه كقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ، ٥٠] يقرن هذين الوصفين كثيرا في مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف ، وقوله تعالى : (ذِي الطَّوْلِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني السعة والغنى ، وهكذا قال مجاهد وقتادة ، وقال يزيد بن الأصم ذي الطول يعني الخير الكثير. وقال عكرمة (ذِي الطَّوْلِ) ذي المن. وقال قتادة ذي النعم والفواضل ، والمعنى أنه المتفضل على عباده المتطول عليهم بما هم فيه من المنة والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] الآية.

وقوله جلت عظمته : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره فلا إله

__________________

(١) البيت الأشتر النخعي في الاشتقاق ص ١٤٥ ، ولعدي بن حاتم الطائي في حماسة البحتري ص ٣٦ ، ولشريح بن أوفى العبسي في تفسير الطبري ١١ / ٣٨ ، ولسان العرب (حمم) ، ولعصام بن مقشعر البصري في معجم الشعراء ص ٢٧٠ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ١٨١ ، ولسان العرب (ندم) ، والمقتضب ١ / ٢٣٨ ، ٣ / ٣٥٦.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه في الصفحة السابقة.

١١٥

ولا رب سواه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع والمآب فيجازى كل عامل بعمله (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٤٦] وقال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة فقرأ عمر رضي الله عنه (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) وقال اعمل ولا تيأس. رواه ابن أبي حاتم : واللفظ له وابن جرير (١).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا عمر يعني ابن أيوب حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففقده عمر فقال ما فعل فلان بن فلان ، فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب. قال فدعا عمر كاتبه : فقال اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه وأن يتوب الله عليه ، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده ويقول : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان وزاد فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع ، فلما بلغ عمر خبره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسد دوه ووثقوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبّة حدثنا حماد بن واقد حدثنا أبو عمر الصفار حدثنا ثابت البناني قال كنت مع مصعب بن الزبير رضي الله عنه في سواد الكوفة قد خلت حائطا أصلي ركعتين فافتتحت حم المؤمن حتى بلغت لا إله إلا هو إليه المصير فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية فقال إذا قلت غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، وإذا قلت وقابل التوب فقل يا قابل التوب اقبل توبتي ، وإذا قلت شديد العقاب فقل يا شديد العقاب لا تعاقبني ، قال فالتفت فلم أر أحدا فخرجت إلى الباب فقلت مر بكم رجل عليه مقطعات يمنية ، قالوا ما رأينا أحدا فكانوا يرون أنه إلياس ، ثم رواه من طريق أخرى عن ثابت بنحوه وليس فيه ذكر إلياس والله سبحانه وتعالى أعلم.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦)

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٨.

١١٦

يقول تعالى ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي في أموالها ونعيمها وزهرتها كما قال جل وعلا : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧] وقال عزوجل : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذبه من قومه بأن له أسوة فيمن سلف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم وما آمن بهم منهم إلا قليل فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) وهو أول رسول بعثه الله ينهى عن عبادة الأوثان (وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من كل أمة (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ما حلوا (١) بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي.

وقد قال أبو القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا معتمر بن سليمان قال سمعت أبي يحدث عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعان باطلا ليدحض به حقا فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وقوله جلت عظمته : (فَأَخَذْتُهُمْ) أي أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم قد كان شديدا موجعا مؤلما. قال قتادة كان والله شديدا. وقوله جل جلاله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي كما حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى لأن من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك ، والله أعلم.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)

يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ومن حوله من الملائكة الكروبيين (٢) بأنهم يسبحون بحمد ربهم أي يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص

__________________

(١) ما حل : أي دافع وحاول ، من المحال وهو الكيد ، وقيل : المكر.

(٢) الكروبيون : هم سادة الملائكة.

١١٧

والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي خاشعون له أذلاء بين يديه وأنهم (يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي من أهل الأرض ممن آمن بالغيب فقيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب كما ثبت في صحيح مسلم «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله» (١).

وقد قال الإمام أحمد (٢) حدثنا عبد الله بن محمد وهو ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صدق أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره» فقال : [الطويل]

زحل وثور تحت رجل يمينه

والنسر للأخرى وليث مرصد (٣)

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق» فقال : [الطويل]

والشمس تطلع كل آخر ليلة

حمراء يصبح لونها يتورد

تأبى فما تطلع لنا في رسلها

إلا معذبة وإلا تجلد

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق» وهذا إسناد جيد وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية كما قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧].

وهنا سؤال وهو أن يقال ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ودلالة هذا الحديث؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود حدثنا محمد بن الصباح البزار حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال : «ما تسمون هذه؟» قالوا السحاب ، قال : «والمزن» قالوا والمزن قال : «والعنان» قالوا والعنان (٤) ، قال أبو داود ولم أتقن العنان جيدا ، قال : «هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟» قالوا لا ندري ، قال «بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ، ثم فوق السماء السابعة بحر ما بين أسفله وأعلاه مثل بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهور هن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٩.

(٢) المسند ١ / ٢٥٦.

(٣) الأبيات في الإصابة ١ / ١٣٤ ، وخزانة الأدب ١ / ١٢١ ، والشعر والشعراء ١ / ٤٦٠.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٦٩ ، باب ١ ، وأبو داود في السنة باب ١٨. وابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٠٦.

١١٨

العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك». ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث سماك بن حرب به وقال الترمذي حسن غريب.

وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية كما قال شهر بن حوشب رضي الله عنه : حملة العرش ثمانية : أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين آمنوا (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي إن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة كما قال تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١] أي ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني بل رفعنا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل تفضلا منا ومنة.

وقال سعيد بن جبير إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه وأين هم؟ فيقال إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة ثم تلا هذه الآية (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) الآية وأغش عباده للمؤمنين الشياطين. وقوله تبارك وتعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الذي لا يمانع ولا يغالب وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي فعلها أو وبالها ممن وقعت منه (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي لطفت به ونجيته من العقوبة (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون وذلك

١١٩

عند ما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة.

قال قتادة في قوله تعالى : (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) يقول لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة (١) ، وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذر بن عبيد الله الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري رحمة الله عليهم أجمعين. وقوله : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه هذه الآية كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨] وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال السدي أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة ، وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم عليه‌السلام ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ، وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات ، والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما ، والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله عزوجل في عرصات القيامة كما قال عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢] فلا يجابون ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨] فإذا دخلوا النار وذاقوا مسّها وحسيسها ومقامعها وأغلالها كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٧ ـ ١٠٨].

وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة وهي قولهم (رَبَّنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٣.

١٢٠