تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

وقال البخاري (١) : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة ، قال : كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ، ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الآية قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.

ثم قال البخاري (٢) : حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، حدثني ابن أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : أمر القعقاع بن معبد ، وقال عمر رضي الله عنه : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) حتى انقضت الآية (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) الآية. وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا.

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قلت : يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار (٣). حصين بن عمر ، هذا وإن كان ضعيفا لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك ، والله أعلم.

وقال البخاري (٤) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد ، أخبرنا ابن عون ، أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه فقال له :

ما شأنك؟ فقال : شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار ، فأتى الرجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٤٩ ، باب ١.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٤٩ ، باب ١.

(٣) أخو السرار : صاحب المسارة.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٤٩ ، باب ١.

٣٤١

عظيمة فقال : «اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» تفرد به البخاري من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ـ إلى قوله ـ (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزينا ففقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لك؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه بما قال ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، بل هو من أهل الجنة» قال أنس رضي الله عنه : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة ، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه فقال : بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.

وقال مسلم (٢) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى آخر الآية ، جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال : أنا من أهل النار ، واحتبس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن معاذ : «يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟» فقال سعد رضي الله عنه : إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال : فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ثابت رضي الله عنه : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هو من أهل الجنة» ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وعن قطن بن نسير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه ، وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثنا هريم بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة.

فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ

__________________

(١) المسند ٣ / ١٣٧.

(٢) كتاب الإيمان حديث ٣٢٦.

٣٤٢

رضي الله عنه ، والصحيح أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجودا ، لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآيات نزلت في وفد بني تميم ، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس ، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) قال : قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي ، قال : فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال : ما يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا صيت رفيع الصوت. قال : فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار ، فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى ، أو يرضى عني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره خبره فقال : «اذهب فادعه لي» فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة ، قال : فخرجا فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال رضي الله عنه : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟» فقال : رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : وأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) الآية.

وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عزوجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم قال : من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف ، فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا. وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام ، لأنه محترم حيا وفي قبره صلوات الله وسلامه عليه دائما ، ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ، ولهذا قال

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٧٩.

٣٤٣

تبارك وتعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) كما قال تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].

وقوله عزوجل : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده ، خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض» (١) ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك ، وأرشد إليه ، ورغب فيه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

وقد قال الإمام أحمد في كتاب الزهد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال : كتب إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ، ولا يعمل بها أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه ، كما يصنع أجلاف الأعراب فقال : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال عزوجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة. ثم قال جل ثناؤه داعيا لهم إلى التوبة والإنابة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه ، أنه نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات فقال : يا محمد يا محمد ، وفي رواية : يا رسول الله ، فلم يجبه فقال : يا رسول الله إن حمدي لزين ، وإن ذمي لشين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاك الله عزوجل».

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣ ، والترمذي في الزهد باب ١٢ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٢ ، وما لك في الكلام حديث ٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٦٩.

(٢) المسند ٣ / ٤٨٨ ، ٦ / ٣٩٤.

٣٤٤

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد ، عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، إن حمدي زين وذمي شين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاك الله عزوجل» وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلا.

وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال : كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب ، وهما عند الحجاج جالسان ، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في قومك بني تميم (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا : أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي الباهلي. حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت داود الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : اجتمع أناس من العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه. قال : فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد يا محمد ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال : فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأذني ، فمدها فجعل يقول «لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك يا زيد» ورواه ابن جرير (٢) عن الحسن بن عرفة ، عن المعتمر بن سليمان به.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٨)

يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله ، فيكون في نفس الأمر كاذبا أو مخطئا ، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه ، وقد نهى الله عزوجل عن اتباع سبيل المفسدين ، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال ، وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة ، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٨١.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٣٨٢.

٣٤٥

حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صدقات بني المصطلق ، وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق ، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول : قدمت على رسول الله فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته. ويرسل إلي يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول فلم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله ، فدعا بسروات قومه (٢) فقال لهم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف ، فرجع حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضرب البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأتى الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك. قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال رضي الله عنه : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني.

فلما دخل الحارث على رسول الله قال : «منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟» قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. قال فنزلت الحجرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ـ إلى قوله ـ (حَكِيمٌ).

ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به ، غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم.

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٧٩.

(٢) سروات القوم : أشرافهم.

٣٤٦

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، قالت فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصفوا له حين صلى الظهر ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، بعثت إلينا رجلا مصدقا (٢) فسررنا بذلك وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله تعالى ومن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه فأذن بصلاة العصر قالت ونزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).

وروى ابن جرير (٣) أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات ، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك غضبا شديدا ، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، وإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استغشهم وهم بهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) إلى آخر الآية.

وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم ، فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك ، زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «التثبت من الله والعجلة من الشيطان» (٤) وكذا ذكر غير واحد من السلف

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٨٣.

(٢) المصدّق : جامع الزكاة.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٣٨٣ ، ٣٨٤.

(٤) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٨٤.

٣٤٧

منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في الوليد بن عقبة ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم ، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون : ٧١] وقوله عزوجل : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة ، حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الإسلام علانية والإيمان في القلب ـ قال ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول ـ التقوى هاهنا التقوى هاهنا» (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان ، وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استووا حتى أثني على ربي عزوجل» فصاروا خلفه صفوفا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن من يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله

__________________

(١) المسند ٣ / ١٣٤ ، ١٣٥.

(٢) المسند ٣ / ٤٢٤.

٣٤٨

الحق» ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به.

وفي الحديث المرفوع : «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» (١) ثم قال : (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠)

يقول تعالى آمرا بالإصلاح بين الفئتين الباغين بعضهم على بعض : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فسماهم مؤمنين مع الاقتتال ، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم ، وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوما ، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فجعل ينظر إليه مرة ، وإلى الناس أخرى ويقول : «إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (٢). فكان كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة ، والواقعات المهولة.

وقوله تعالى : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله ، وتسمع للحق وتطيعه ، كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قلت : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه»(٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يحدث أن أنسا رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه قال : «إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك» فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطيب

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الفتن باب ٧ ، وأحمد في المسند ١ / ١٨ ، ٢٦ ، ٣ / ٤٤٦.

(٢) أخرجه البخاري في الصلح باب ٩.

(٣) أخرجه البخاري في المظالم باب ٤ ، ومسلم في البر حديث ٦٢ ، والترمذي في الفتن باب ٦٨.

(٤) المسند ٣ / ١٥٧ ، ٢١٩.

٣٤٩

ريحا منك. قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيهم (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (١) ورواه البخاري في الصلح عن مسدد ومسلم في المغازي عن محمد بن عبد الأعلى كلاهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه به نحوه.

وذكر سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر بالصلح بينهما ، وقال السدي : كان رجل من الأنصار يقال له عمران ، كانت له امرأة تدعى أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها ، فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، وإن الرجل كان قد خرج ، فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم الآية ، فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصلح بينهم وفاؤوا إلى أمر الله تعالى.

وقوله عزوجل : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو العدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزوجل بما أقسطوا في الدنيا» (٢) ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى به. وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط الصحيح ، وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» (٣) ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به. وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي الجميع إخوة في الدين ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» (٤) وفي الصحيح «والله في عون العبد ما كان العبد في عون

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلح باب ١ ، ومسلم في الجهاد حديث ١١٧.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٥٩ ، ٢٠٣.

(٣) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٨ ، والنسائي في آداب القضاة باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠.

(٤) أخرجه البخاري في المظالم باب ٣ ، ومسلم في البر حديث ٥٨ ، وأبو داود في الأدب باب ٣٨ ، والترمذي في الحدود باب ٣ ، والبر باب ١٨ ، وابن ماجة في الكفارات باب ١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩١.

٣٥٠

أخيه» (١) وفي الصحيح أيضا «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك مثله» (٢) والأحاديث في هذا كثيرة ، وفي الصحيح «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (٣) وفي الصحيح أيضا «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

وقال أحمد (٥) : حدثنا أحمد بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده ، وقوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) يعني الفئتين المقتتلتين (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أموركم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١)

ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الكبر بطر الحق وغمص الناس ـ ويروى ـ وغمط الناس» (٦) والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى ، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ، ولهذا قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) فنص على نهي الرجال ، وعطف نهي النساء. وقوله تبارك وتعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٣٧ ، ٣٨ ، وأبو داود في الأدب باب ٦٠ ، والترمذي في الحدود باب ٣ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٢ ، ٢٩٦ ، ٥٠٠ ، ٥١٤.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٨٧ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٩.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٢٧ ، ومسلم في البر حديث ٦٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٧٠.

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٨ ، والمظالم باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٥ ، والترمذي في البر باب ١٨ ، والنسائي في الزكاة باب ٦٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٠٤ ، ٤٠٥ ، ٤٠٩.

(٥) المسند ٥ / ٣٤٠.

(٦) أخرجه بلفظ «غمط» مسلم في الإيمان حديث ١٤٧ ، وأبو داود في اللباس باب ٢٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٥ ، ٣٢٧ ، وأخرجه بلفظ «غمص» ، الترمذي في البر باب ٦١ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٣٤ ، ١٥١.

٣٥١

[الهمزة : ١] والهمز بالفعل واللمز بالقول ، كما قال عزوجل : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم : ١١] أي يحتقر الناس ويهمزهم طاغيا عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال ، ولهذا قال هاهنا : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] أي لا يقتل بعضكم بعضا.

قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل بن حيان (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يطعن بعضكم على بعض (١) ، وقوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا تتداعوا بالألقاب ، وهي التي يسوء الشخص سماعها.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا داود بن أبي هند عن الشعبي قال : حدثني أبو جبيرة بن الضحاك ، قال فينا نزلت في بني سلمة (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قال : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء ، قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) (٣) ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن داود به. وقوله جل وعلا : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الصفة والاسم الفسوق. وهو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يتناعتون بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي من هذا (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (١٢)

يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثير منه احتياطا وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا ، وأنت تجد لها في الخير محملا. وقال أبو عبد الله بن ماجة : حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي قيس النضري ، حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بالكعبة ويقول : «ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا» (٤) تفرد به ابن ماجة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٩١.

(٢) المسند ٤ / ٢٦٠.

(٣) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٦٣ ، وابن ماجة في الأدب باب ٣٥.

(٤) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢.

٣٥٢

من هذا الوجه ، وقال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا» (١) رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن العتبي عن مالك به.

وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (٢) رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي ، حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني ، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري ، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه ، عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة والحسد وسوء الظن» فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض».

وقال أبو داود (٣) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد رضي الله عنه قال : أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا ، فقال عبد الله رضي الله : إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا هاشم ، حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دخين كاتب عقبة قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم ، قال : ففعل فلم ينتهوا. قال : فجاءه دخين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني داع لهم الشرط فتأخذهم ، فقال له عقبة : ويحك لا تفعل؟ فإني سمعت رسول الله يقول : «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤودة من قبرها» (٥) ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه ، وقال سفيان الثوري عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء رضي الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٥٧ ، ومسلم في البر حديث ٢٨ ، ٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ٥٧ ، ومسلم في البر حديث ٢٣ ، ٢٥ ، ٢٦ ، وأبو داود في الأدب باب ٤٧ ، والترمذي في البر باب ٢١.

(٣) كتاب الأدب باب ٥٨.

(٤) المسند ٤ / ١٥٣ ، ٤ / ١٥٨.

(٥) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠٠.

٣٥٣

عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفعه الله تعالى بها ، ورواه أبو داود (١) منفردا به من حديث الثوري به.

وقال أبو داود أيضا : حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة ، وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» (٢).

(وَلا تَجَسَّسُوا) أي على بعضكم بعضا والتجسس غالبا يطلق في الشر ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير كما قال عزوجل إخبارا عن يعقوب أنه قال (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [يوسف : ٨٧] وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا» وقال الأوزاعي : التجسس البحث عن الشيء. والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يستمع على أبوابهم ، والتدابر : الصرم ، رواه ابن أبي حاتم عنه.

وقوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيه نهي عن الغيبة ، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذكرك أخاك بما يكره» قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (٣) ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال : حسن صحيح. ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد : تعني قصيرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت : وحكيت له إنسانا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» (٤) ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري ، عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب الأرحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال : حسن صحيح.

__________________

(١) كتاب الأدب باب ٣٧.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٧ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤.

(٣) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٥ ، ومسلم في البر حديث ٧٠ ، والترمذي في البر باب ٢٣.

(٤) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٥ ، والترمذي في القيامة باب ٥١ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٨٩.

٣٥٤

وقال ابن جرير (١) : حدثني ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها ، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنها قصيرة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اغتبتها» والغيبة محرمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا من رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر : «ائذنوا له بئس أخو العشيرة!» (٢) وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم : «أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» (٣) وكذا ما جرى مجرى ذلك ، ثم بقيتها على الترحيم الشديد ، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عزوجل : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات : ١٢] أي كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوه ذاك شرعا ، فإن عقوبته أشد من هذا ، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العائد في هبته : «كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه» (٤) وقد قال : «ليس لنا مثل السوء» (٥) وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبة الوداع : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» (٦).

وقال أبو داود : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه ، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (٧) ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال : حسن غريب.

وحدثنا عثمان بن أبي شيبة : حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٩٥.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ٤٨ ، وأبو داود في الأدب باب ٥.

(٣) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ٣٦ ، وأبو داود في الطلاق باب ٣٩ ، والترمذي في النكاح باب ٣٨ ، والنسائي في النكاح باب ٢٢ ، ومالك في الطلاق باب ٦٧ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤١٢.

(٤) أخرجه البخاري في الهبة باب ٣٠ ، ومسلم في الهبات حديث ٥ ، ٦ ، وأبو داود في البيوع باب ٨١ ، والنسائي في الهبة باب ٣ ، ٤ ، وابن ماجة في الصدقات باب ١.

(٥) أخرجه البخاري في الهبة باب ٣٠ ، والترمذي في البيوع باب ٦١.

(٦) أخرجه البخاري في العلم باب ٣٧ ، ومسلم في الحج حديث ٤٤٥ ، ٤٤٦ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ باب ٢ ، وابن ماجة في الفتن

باب ٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٣٠ ، ٣ / ٣١٣ ، ٣٧١ ، ٤٨٥ ، ٤ / ٧٦ ، ٥ / ٦٨.

(٧) أخرجه مسلم في البر حديث ٣٢ ، وأبو داود في الأدب باب ٣٥ ، والترمذي في البر باب ١٨ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٩١.

٣٥٥

عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» (١) تفرد به أبو داود وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا إبراهيم بن دينار ، حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات ، عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها ـ أو قال ـ في خدورها ، فقال : يا معشر من آمن بلسانه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته».

[طريق أخرى] عن ابن عمر. قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيى بن أكثم ، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» قال : ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك (٢).

قال أبو داود : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول ، عن وقاص بن ربيعة عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم ، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم ، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» (٣) تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة ، قالا : حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (٤) تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد (٥) عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمي ، أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٥.

(٢) أخرجه لترمذي في البر باب ١٨.

(٣) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٥.

(٤) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٥.

(٥) المسند ٣ / ٢٢٤.

٣٥٦

يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال : ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم ، فيجذون منه الجذة من مثل النعل ثم يضعونه في أحدهم. فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه ، فقلت : يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة ، فيقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) وهو يكره على أكل لحمه ، هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه بطوله في أول تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة.

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحد حتى آذن له ، فصام الناس ، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائما فائذن لي فأفطر فأذن له ويجيء الرجل فيقول ذلك ، فيأذن له حتى جاء رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين ، فائذن لهما فليفطرا ، فأعرض عنه ثم أعاد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما صامتا ، وكيف صام ظل يأكل من لحوم الناس؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا» ففعلتا ، فقاءت كل واحدة منهما علقة علقة ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار» إسناد ضعيف ومتن غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون.

حدثنا سليمان التيمي قال : سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن رجلا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن هاهنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا تموتان من العطش ، أراه قال بالهاجرة ، فأعرض عنه أو سكت عنه ، فقال : يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا تموتان ، فقال : ادعهما. فجاءتا قال : فجيء بقدح أو عس ، فقال لإحداهما قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح ، ثم قال للأخرى : قيئي ، فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا (١) وغيره حتى ملأت القدح ، ثم قال : «إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما وأفطرنا على ما حرم الله عليهما ، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس». وهكذا قد رواه الإمام أحمد (٢) عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي ، كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي به مثله أو نحوه ، ثم رواه أيضا من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان بن غياث. حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنهم أمروا بصيام ، فجاء رجل في نصف النهار فقال : يا رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو

__________________

(١) اللحم العبيط : اللحم الطري غير النضيج.

(٢) المسند ٥ / ٤٣١.

٣٥٧

ثلاثا ثم قال «ادعهما» فجاء بعس أو قدح فقال لإحداهما : قيئي. فقاءت لحما ودما عبيطا وقيحا ، وقال للأخرى مثل ذلك ثم قال : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما. أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحا. قال البيهقي : كذا قال عن سعد ، والأول وهو عبيد أصح.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير عن ابن عمّ لأبي هريرة أنّ ماعزا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فأعرض عنه حتى قالها أربعا ، فلما كان في الخامسة قال : زنيت؟ قال : نعم قال : وتدري ما الزنا؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال : ما تريد إلى هذا القول؟ قال : أريد أن تطهرني. قال : فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر؟ قال : نعم يا رسول الله قال : فأمر برجمه ، فرجم ، فسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه ، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟ ثم سار النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال : «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» قالا : غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» (١) إسناد صحيح.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الصمد ، حدثني أبي. حدثنا واصل مولى ابن عيينة ، حدثني خالد بن عرفطة عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس».

[طريق أخرى] قال عبد بن حميد في مسنده : حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن نفرا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين فلذلك بعثت هذه الريح» وربما قال «فلذلك هاجت هذه الريح» وقال السدي في قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) زعم أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما وينال من طعامهما ، وأن سلمان رضي الله عنه لما سار الناس ذات يوم ، وبقي سلمان رضي الله عنه نائما لم يسر معهم ، فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه ، فضربا الخباء فقالا : ما يريد سلمان أو هذا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٢٥.

(٢) المسند ٣ / ٣٥١.

٣٥٨

العبد شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام مقدور وخباء مضروب ، فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب لهما إداما ، فانطلق فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه قدح له فقال : يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا» فرجع سلمان رضي الله عنه يخبرهما بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلقا حتى أتيا رسول الله فقالا : والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما» قال : ونزلت (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) إنه كان نائما.

وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حبّان بن هلال عن حماد بن سلمة عن ثابت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار ، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقالا : إن هذا لنؤوم فأيقظاه ، فقالا له : ائت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام ويستأدمانك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنهما قد ائتدما» فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما» فقالا رضي الله عنهما : استغفر لنا يا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مراه فليستغفر لكما».

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا محمد بن مسلم عن محمد بن إسحاق ، عن عمه موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في الآخرة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا ـ قال ـ فيأكله ويكلح (١) ويصيح» غريب جدا.

وقوله عزوجل : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود ، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع ، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون : لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه فطريقه إذا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ، فتكون تلك بتلك كما قال الإمام أحمد (٢) ، حدثنا أحمد بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجهني أخبره عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ، ومن رمى مؤمنا بشيء

__________________

(١) يكلح : يعبس حتى تبدو أسنانه.

(٢) المسند ٣ / ٤٤١.

٣٥٩

يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» (١) وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به بنحوه. وقال أبو داود أيضا : حدثنا إسحاق بن الصباح ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا الليث ، حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول : سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته ، وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره عزوجل في مواطن يحب فيها نصرته» تفرد به أبو داود (٢).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣)

يقول تعالى مخبرا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ، وهما آدم وحواء ، وجعلهم شعوبا وهي أعم من القبائل ، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ وغير ذلك ، وقيل : المراد بالشعوب بطون العجم ، وبالقبائل بطون العرب ، كما أن الأسباط بطون بني إسرائيل ، وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب الإنباه لأبي عمر بن عبد البر ، ومن كتاب (القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم) فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما‌السلام سواء ، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا ، منبها على تساويهم في البشرية (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته ، وقال مجاهد في قوله عزوجل (لِتَعارَفُوا) كما يقال فلان بن فلان من كذا وكذا أي من قبيلة كذا وكذا ، وقال سفيان الثوري : كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها ، وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها.

وقد قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الملك بن عيسى الثقفي ، عن يزيد مولى المنبعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» (٣) ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٣٦.

(٢) كتاب الأدب باب ٣٦.

(٣) أخرجه الترمذي في البر باب ٤٩.

٣٦٠