تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

ملائكته ، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول اللهعزوجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم ، فيقولون : ربنا نسألك رضوانك ، فيقول : قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة.

هكذا أورده الإمام الشافعي رحمه‌الله في كتاب الجمعة من الأم ، وله طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، وقد أورد ابن جرير (١) هذا الحديث من رواية عثمان بن عمير عن أنس رضي الله عنه بأبسط من هذا ، وذكر هاهنا أثرا مطولا عن أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفا وفيه غرائب كثيرة.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول ، ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة ، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام فيسألها من أنت؟ فتقول أنا من المزيد وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ، وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» وهكذا رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ(٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٤٠)

يقول تعالى : وكم أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين (مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أثروا فيها. وقال مجاهد (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) ضربوا في الأرض وقال قتادة : فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ، ويقال لمن طوف في البلاد نقب فيها ، قال امرؤ

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٤٣١.

(٢) المسند ٣ / ٧٥.

٣٨١

القيس : [الوافر]

لقد نقّبت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب (١)

وقوله تعالى : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل فأنتم أيضا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص. وقوله عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أي لعبرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لب يعي به وقال مجاهد : عقل (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه ، وقال مجاهد : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) يعني لا يحدث نفسه بغيره ، (وَهُوَ شَهِيدٌ) وقال شاهد بالقلب (٢) ، وقال الضحاك : العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه ، وهو شاهد بقلب غير غائب (٣) ، وهكذا قال الثوري وغير واحد.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) فيه تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى ، وقال قتادة : قالت اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي من إعياء ولا تعب ولا نصب ، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣] وكما قال عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧].

وقوله عزوجل : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجرا جميلا (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر ، وقيام الليل كان واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته حولا ثم نسخ في حق الأمة وجوبه ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات ، ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع

__________________

(١) يروى البيت :

وقد نقبت في الأفاق حتى

رضيت من السلامة بالإياب

وهو لامرئ القيس في ديوانه ص ٤٣ ، ولسان العرب (نقب) ، وجمهرة الأمثال ١ / ٤٨٤ ، والعقد الفريد ٣ / ١٢٦ ، والفاخر ص ٢٦٠ ، وكتاب الأمثال ص ٣٤٩ ، والمستقصى ٢ / ١٠٠ ، ومجمع الأمثال ١ / ٢٩٥ ، وتهذيب اللغة ٩ / ١٩٧ ، وتاج العروس (نقب) ، وتفسير الطبري ١١ / ٤٣٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٣٣.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٤٣٣.

٣٨٢

الشمس وقبل الغروب.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : «أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (٢) ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة من حديث إسماعيل به.

وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي فصل له كقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو التسبيح بعد الصلاة.

ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما ذاك؟» قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين» قال : فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (٣) والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) هما الركعتان بعد المغرب روي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم.

قال الإمام أحمد (٤) حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر ، وقال عبد الرحمن دبر كل صلاة. ورواه أبو داود والنسائي من حديث

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٦٥ ، ٣٦٦.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٠ ، باب ٢ ، ومسلم في المساجد حديث ٢١١ ، وأبو داود في السنة باب ١٩ ، والترمذي في الجنة باب ١٦ ، ١٧ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٥٥ ، والدعوات باب ١٧ ، ومسلم في المساجد حديث ١٤٢ ، والزكاة حديث ٥٣ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٤ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٣٢ ، والدارمي في الصلاة باب ٩٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٨ ، ٥ / ١٦٧ ، ١٦٨.

(٤) المسند ١ / ١٢٤.

٣٨٣

سفيان الثوري به ، زاد النسائي ومطرف عن أبي إسحاق به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ، حدثنا ابن فضيل عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بت ليلة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال يا ابن عباس «ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم ، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود» ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي عن محمد بن فضيل به. وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها ، وصلى تلك الليلة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث عشرة ركعة (١) ثابت في الصحيحين وغيرهما. فأما هذه الزيادة فغريبة لا تعرف إلا من هذا الوجه ورشدين بن كريب ضعيف ، ولعله من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه ، والله أعلم.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥)

يقول تعالى : (وَاسْتَمِعْ) يا محمد (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال قتادة : قال كعب الأحبار يأمر الله تعالى ملكا أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة ، إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي من الأجداث (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإليه مصير الخلائق كلهم ، فيجازي كلّا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) وذلك أن الله عزوجل ينزل مطرا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها ، كما ينبت الحب في الثرى بالماء ، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض ، فيقول الله عزوجل : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فترجع كل روح إلى جسدها ، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعا مبادرين إلى أمر الله عزوجل (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] وقال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢].

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ٥٨.

٣٨٤

وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أول من تنشق عنه الأرض» (١) ، وقوله عزوجل : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي تلك إعادة سهلة علينا ، يسيرة لدينا كما قال جل جلاله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠].

وقال سبحانه وتعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان : ٢٨] وقوله جل وعلا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهولنك ذلك كقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٧ ـ ٩٩]. وقوله تبارك وتعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك مما كلفت به. وقال مجاهد وقتادة والضحاك (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي لا تتجبر عليهم ، والقول الأول أولى ، ولو أراد ما قالوه لقال : ولا تكن جبارا عليهم ، وإنما قال : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمعنى وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ ، وقال الفراء : سمعت العرب تقول جبر فلان فلانا على كذا بمعنى أجبره ، ثم قال عزوجل : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي بلغ أنت رسالة ربك فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده ، كقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] وقوله جل جلاله : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٢] (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ولهذا قال تعالى هاهنا : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) كان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يا بار يا رحيم.

آخر تفسير سورة ق والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٣.

٣٨٥

تفسير سورة الذاريات

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً(٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤)

قال شعبة بن الحجاج عن سماك عن خالد بن عرعرة أنه سمع عليا رضي الله عنه ، وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أنه سمع عليا رضي الله عنه ، وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ، ولا عن سنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) قال علي رضي الله عنه ، الريح ، قال : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال رضي الله عنه : السحاب ، قال : (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قال رضي الله عنه : السفن ، قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) قال رضي الله عنه الملائكة (١).

وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ، قال : جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين ، فأخبرني عن الذاريات ذروا ، فقال رضي الله عنه : هي الرياح ، ولولا أني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ما قلته. قال : فأخبرني عن المقسمات أمرا ، قال رضي الله عنه هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسرا ، قال رضي الله عنه : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله ما قلته. ثم أمر بضربه فضرب مائة وجعل في بيت ، فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : امنع الناس من مجالسته ، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى رضي الله عنه ، فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا ، فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه ، فكتب عمر : ما إخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس.

قال أبو بكر البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٤٢ ، ٤٤٣.

٣٨٦

الحديث. قلت : فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر رضي الله عنه ، فإن قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة ، وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك ، وقد قيل إن المراد بالذاريات الريح كما تقدم ، وبالحاملات وقرا السحاب كما تقدم ، لأنها تحمل الماء كما قال زيد بن عمرو بن نفيل : [المتقارب]

وأسلمت نفسي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا (١)

فأما الجاريات يسرا فالمشهور عن الجمهور كما تقدم أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا ، وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا في أفلاكها ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق كذلك ، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية ، وهذا قسم من الله عزوجل على وقوع المعاد ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) أي لخبر صدق (وَإِنَّ الدِّينَ) وهو الحساب (لَواقِعٌ) أي لكائن لا محالة.

ثم قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما مثل تجعد الماء والرمل والزرع ، إذا ضربته الريح فينسج بعضه بعضا طرائق ، فذلك الحبك.

قال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن من ورائكم الكذاب المضل ، وإن رأسه من ورائه حبك حبك» يعني بالحبك الجعودة : وعن أبي صالح : (ذاتِ الْحُبُكِ) الشدة وقال خصيف : (ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الصفاقة. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : ذات الحبك حبكت بالنجوم ، وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) يعني السماء السابعة ، وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة ، وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع ، والله أعلم.

وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الأرجاء أنيقة البهاء ، مكللة

__________________

(١) البيت في سيرة ابن هشام ١ / ٢٣١.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٤٤٥.

٣٨٧

بالنجوم الثوابت والسيارات موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع ، وقال قتادة : إنكم لفي قول مختلف ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي إنما يروج على من هو ضال في نفسه ، لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ، ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غمر لا فهم له كما قال تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦١ ـ ١٦٢] قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يضل عنه من ضل. وقال مجاهد (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يؤفن عنه من أفن ، وقال الحسن البصري : يصرف عن هذا القرآن من كذب به. وقوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) قال مجاهد : الكذابون ، قال : وهي مثل التي في عبس (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي لعن المرتابون. وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في خطبته. هلك المرتابون. وقال قتادة : الخراصون أهل الغرة والظنون.

وقوله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد في الكفر والشك غافلون لاهون (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا ، قال الله تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد (يُفْتَنُونَ) يعذبون. كما يفتن الذهب على النار ، وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضا وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وسفيان الثوري : (يُفْتَنُونَ) يحرقون (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) قال مجاهد : حريقكم ، وقال غيره : عذابكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا ، والله أعلم.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣)

يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله عزوجل أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال. وقوله تعالى : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال ابن جرير : أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضا (١) ، ثم روي عن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٥١.

٣٨٨

ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن أبي عمر عن مسلم البطين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال : من الفرائض (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) قبل الفرائض يعملون ، وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وقد رواه عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان ، عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره ، والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ، لأن قوله تبارك وتعالى : (آخِذِينَ) حال من قوله في (جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم ، أي من النعيم والسرور والغبطة.

وقوله عزوجل : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) أي في الدار الدنيا (مُحْسِنِينَ) كقوله جل جلاله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) اختلف المفسرون في ذلك على قولين : [أحدهما] أن (ما) نافية تقديره كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا ، وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله : قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عزوجل ، إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد : قل ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون ، وكذا قال قتادة ، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو العالية : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة ، [والقول الثاني] أن (ما) مصدرية تقديره كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم ، واختاره ابن جرير.

وقال الحسن البصري (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر ، وقال قتادة : قال الأحنف بن قيس (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول : لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري : كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة ، فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا ، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ، وعرضت عملي على عمل أهل النار ، فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون بكتاب الله وبرسل الله ، مكذبون بالبعث بعد الموت ، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوما فقال : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم ، فقال له أبي رضي الله عنه : طوبى لمن رقد إذا نعس واتقى الله إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيت وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب ، فكان أول

٣٨٩

ما سمعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا أيها الناس أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها» فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات لله قائما والناس نيام» وقال معمر في قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) كان الزهري والحسن يقولان كانوا كثيرا من الليل ما يصلون ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ما ينامون. وقال الضحاك (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلاً) ثم ابتدأ فقال : (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وهذا القول فيه بعد وتعسف.

وقوله عزوجل : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال مجاهد وغير واحد : يصلون وقال آخرون : قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الأسحار كما قال تبارك وتعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول هل من تائب فأتوب عليه ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر» وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قالوا أخرهم إلى وقت السحر.

وقوله تبارك وتعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة فقال : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم. أما السائل فمعروف وهو الذي يبتدئ بالسؤال ، وله حق كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للسائل حق وإن جاء على فرس» (٣) ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به. ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وروي من حديث الهرماس بن زياد مرفوعا.

وأما المحروم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : هو المحارف (٤) الذي ليس له في

__________________

(١) المسند ٢ / ١٧٣.

(٢) المسند ١ / ٢٠١.

(٣) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٣٣ ، والترمذي في القيامة باب ٤١.

(٤) المحارف ، بفتح الراء : المحروم.

٣٩٠

الإسلام سهم ، يعني لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها ، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه ، وقال الضحاك : هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب ، قضى الله تعالى له ذلك. وقال أبو قلابة : جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من الصحابة رضي الله عنهم : هذا المحروم وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وعطاء بن أبي رباح : المحروم المحارف. وقال قتادة والزهري : المحروم الذي لا يسأل الناس شيئا.

قال الزهري وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه» (١) وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر.

وقال سعيد بن جبير : هو الذي يجيء وقد قسم المغنم فيرضخ له. وقال محمد بن إسحاق : حدثني بعض أصحابنا قال : كنا مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في طريق مكة ، فجاء كلب ، فانتزع عمر رضي الله عنه كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم ، وقال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم ، واختار ابن جرير (٢) أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله ، سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها. وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية فغنموا ، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة ، فنزلت هذه الآية (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وهذا يقتضي أن هذه مدنية وليس كذلك بل هي مكية شاملة لما بعدها.

وقوله عزوجل : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات والسعادة والشقاوة ، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ، ولهذا قال عزوجل : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) قال قتادة : من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة.

ثم قال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) يعني المطر (وَما تُوعَدُونَ) يعني الجنة ، قاله ابن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١ ، والنسائي في الزكاة باب ٧٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٤ ، ٤٤٦ ، ٢ / ٣١٦ ، وانظر تفسير الطبري ١١ / ٤٥٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٥٨.

٣٩١

عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد. وقال سفيان الثوري : قرأ واصل الأحدب هذه الآية (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) فقال : ألا إني أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة (١) من رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت (٢).

وقوله تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة ، وهو حق لا مرية فيه ، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون ، وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن هذا لحق كما أنك هاهنا ، قال مسدد عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» ورواه ابن جرير (٣) عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن فذكره مرسلا.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ(٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٣٠)

هذه القصة قد تقدمت في سورة هود والحجر أيضا فقوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) أي الذين أرصد لهم الكرامة ، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل ، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل. وقوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) الرفع أقوى وأثبت من النصب ، فرده أفضل من التسليم ولهذا قال تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦] فالخليل اختار الأفضل.

وقوله تعالى : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وذلك أن الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ولهذا قال : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وقوله عزوجل : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي انسل خفية في سرعة (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي من خيار ماله ، وفي الآية الأخرى : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود : ٦٩] أي مشوي على الرضف (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي أدناه منهم (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟) تلطف في العبارة وعرض حسن ، وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة ، ولم يمتن عليهم أولا فقال : نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عجل فتي سمين مشوي ،

__________________

(١) الدوخلة : النسيجة من خوص.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٦١.

(٣) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٦٢.

٣٩٢

فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال : (أَلا تَأْكُلُونَ) على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل.

وقوله تعالى : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى وهي قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) [هود : ٧٠ ـ ٧١] أي استبشرت بهلاكهم لتمردهم وعتوهم على الله تعالى ، فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٢ ـ ٧٣] ولهذا قال الله سبحانه وتعالى هاهنا : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) فالبشارة له هي بشارة لها. لأن الولد منها فكل منهما بشر به.

وقوله تعالى : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي في صرخة عظيمة ورنّة ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها (يا وَيْلَتى) ... (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي ضربت بيدها على جبينها قاله مجاهد وابن سابط ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لطمت أي تعجبا كما تتعجب النساء من الأمر الغريب (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيما لا أحبل؟ (قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي عليم بما تستحقون من الكرامة حكيم في أقواله وأفعاله.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧)

قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود : ٧٤ ، ٧٦] وقال هاهنا : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي ما شأنكم وفيم جئتم (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً) أي معلمة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي مكتتبة عنده بأسمائهم كل حجر عليه اسم صاحبه ، فقال في سورة العنكبوت : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [العنكبوت : ٣٢] وقال تعالى هاهنا : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته.

٣٩٣

(فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى الإيمان والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين ، وهذا الاستدلال ضعيف لأن هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس فاتفق الاسمان هاهنا لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال ، وقوله تعالى : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي جعلناها عبرة لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل ، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ، ففي ذلك عبرة للمؤمنين الذين (يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦)

يقول تعالى : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بدليل باهر وحجة قاطعة (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين استكبارا وعنادا. وقال مجاهد : تعزز بأصحابه ، وقال قتادة : غلب عدو الله على قومه ، وقال ابن زيد (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي بجموعه التي معه ثم قرأ (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) والمعنى الأول قوي كقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الحج : ٩] أي معرض عن الحق مستكبر (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا أو مجنونا قال الله تعالى : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) أي ألقيناهم (فِي الْيَمِ) وهو البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.

ثم قال عزوجل (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) أي المفسدة التي لا تنتج شيئا قاله الضحاك وقتادة وغيرهما ولهذا قال تعالى : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي مما تفسده الريح (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهالك البالي ، وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، حدثني عبد الله يعني ابن عياش القتباني ، حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الريح مسخرة من الثانية ـ يعني من الأرض الثانية ـ ، فلما أراد الله تعالى أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا قال أي رب أرسل عليهم الريح قدر منخر الثور؟ قال له الجبار تبارك وتعالى لا إذا تكفأ الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله عزوجل في كتابه : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذا الحديث رفعه منكر والأقرب أن يكون موقوفا على

٣٩٤

عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من زاملتيه (١) اللتين أصابهما يوم اليرموك ، والله أعلم.

قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) قالوا : هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» (٢) (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) قال ابن جرير : يعني إلى وقت فناء آجالكم.

والظاهر أن هذه كقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) [فصلت : ١٧] وهكذا قال هاهنا : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي من هرب ولا نهوض (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه. وقولهعزوجل : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور متعددة ، والله أعلم.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١)

يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) أي جعلناها سقفا محفوظا رفيعا (بِأَيْدٍ) أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي قد وسعنا أرجاءها فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي جعلناها فراشا للمخلوقات (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي وجعلناها مهدا لأهلها.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي جميع المخلوقات أزواج سماء وأرض وليل ونهار ، وشمس وقمر وبر وبحر وضياء وظلام ، وإيمان وكفر وموت وحياة وشقاء وسعادة وجنة ونار ، حتى الحيوانات والنباتات ، ولهذا قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي الجؤوا إليه واعتمدوا في أموركم عليه (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تشركوا به شيئا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ

__________________

(١) الزاملة : البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع.

(٢) أخرجه البخاري في الاستسقاء باب ٢٦ ، ومسلم في الاستسقاء حديث ١٧.

٣٩٥

لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠)

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكما قال لك هؤلاء المشركون قال المكذبون الأولون لرسلهم : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) قال الله عزوجل : (أَتَواصَوْا بِهِ؟) أي أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم ، فقال متأخرهم كما قال متقدمهم.

قال الله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عنهم يا محمد (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) يعني فما نلومك على ذلك (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة ، ثم قال جل جلاله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها. وهذا اختيار ابن جرير (١) وقال ابن جريج : إلا ليعرفون ، وقال الربيع بن أنس (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إلا للعبادة ، وقال السدي : من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك ، وقال الضحاك : المراد بذلك المؤمنون.

وقوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أقرأني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين» (٣) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. فهو خالقهم ورازقهم. قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عمران ـ يعني ابن زائدة بن نشيط عن أبيه عن أبي خالد ـ هو الوالبي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى ـ «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد

__________________

(١) المسند ١ / ٣٩٤.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد ، باب ٣ ، وأبو داود في الحروف باب ٢٥ ، والترمذي في القرآن باب ٦.

(٣). ٢ / ٣٥٨.

(٤). ٢ / ٣٥٨.

٣٩٦

فقرك» (١) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة ، وقال الترمذي : حسن غريب.

وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل : سمعت حبة وسواء ابني خالد يقولان : أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء ، وقال أبو معاوية : يصلح شيئا ، فأعناه عليه فلما فرغ دعا لنا وقال : «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يعطيه الله ويرزقه» (٢). وقد ورد في بعض الكتب الإلهية : يقول الله تعالى : ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء. وقوله تعالى : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يستعجلوا ذلك فإنه واقع لا محالة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة. آخر تفسير سورة الذاريات ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الطور

وهي مكية

قال مالك عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه (٣) ، أخرجاه من طريق مالك. وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت : شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أني أشتكي فقال : «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور (٤).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ

__________________

(١) أخرجه الترمذي في القيامة باب ٣٠ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ١٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٦٩.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٢ ، باب ١ ، والأذان باب ١٠٢.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٢ ، باب ١.

٣٩٧

الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦)

قسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه ، وأنه لا دافع له عنهم ، فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى وأرسل منه عيسى ، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا إنما يقال له جبل (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) قيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل : الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ولهذا قال : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ).

ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة : «ثم رفع بي إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم» (١) يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم ، كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة ، ولهذا وجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، لأنه باني الكعبة الأرضية ، والجزاء من جنس العمل ، وهو بحيال الكعبة ، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة ، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال الكعبة ، وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة ، ثم يخرج فينتفض انتفاضة ، يخر عنه سبعون ألف قطرة ، يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلوا فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا ، ويولي عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة ،» هذا حديث غريب جدا ، تفرد به روح بن جناح هذا وهو القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي.

وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ ، منهم الجوزجاني والعقيلي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيرهم ، قال الحاكم : لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا الزهري.

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٦ ، ومناقب الأنصار باب ٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٦٤ ، والنسائي في الصلاة باب ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٠٧ ، ٢٠٩ ، ٢١٠.

٣٩٨

وقال ابن جرير (١) : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قال لعلي : ما البيت المعمور؟ قال : بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا ، وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري عن سماك ، وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ثم رواه ابن جرير عن أبي كريب عن طلق بن غنام ، عن زائدة عن عاصم عن علي بن ربيعة قال : سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور قال : مسجد في السماء يقال له الضراح ، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا. ورواه من حديث أبي الطفيل عن علي بمثله وقال العوفي عن ابن عباس : هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه. وكذا قال عكرمة ومجاهد والربيع بن أنس والسدي وغير واحد من السلف.

وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لأصحابه : «هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم» وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس ، فالله أعلم. وقوله تعالى : (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) قال سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة عن علي (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء. قال سفيان ثم تلا (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد واختاره ابن جرير : وقال الربيع بن أنس : هو العرش ، يعني أنه سقف لجميع المخلوقات ، وله اتجاه وهو مراد مع غيره كما قاله الجمهور.

وقوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال الربيع بن أنس : هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر ، الذي يحيي به الأجساد في قبورها يوم معادها ، وقال الجمهور : هو هذا البحر ، واختلف في معنى قوله المسجور فقال بعضهم : المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا كقوله : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي أضرمت فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف. ورواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وبه يقول سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهم. وقال العلاء بن بدر : إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) يعني المرسل ، وقال قتادة : المسجور المملوء ،

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٤٨٠.

٣٩٩

واختاره ابن جرير (١) ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء. وقيل : المراد به الفارغ.

قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال : الفارغ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت : إن الحوض مسجور يعني فارغا. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء. وقيل : المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه يقول السدي وغيره ، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٢) ، رحمه‌الله ، في مسنده فإنه قال : حدثنا يزيد ، حدثنا العوام ، حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال : لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال : حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات ، يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم ، فيكفه الله عزوجل».

وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه عن يزيد ، وهو ابن هارون ، عن العوام بن حوشب ، حدثني شيخ مرابط قال : خرجت ليلة لحرسي لم يخرج أحد من الحرس غيري ، فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي رؤوس الجبال ، فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ ، فلقيت أبا صالح فقال : حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم ، فيكفه الله عزوجل» فيه رجل مبهم لم يسم.

وقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) هذا هو المقسم عليه أي الواقع بالكافرين كما قال في الآية الأخرى : (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك. قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن داود عن صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي قال : خرج عمر يعس في المدينة ذات ليلة ، فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ (وَالطُّورِ) ـ حتى إذا بلغ ـ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) قال : قسم ورب الكعبة حق ، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه.

وقال الإمام أبو عبيد في فضائل القرآن : حدثنا محمد بن صالح ، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن أن عمر قرأ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوما. وقوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) قال ابن عباس وقتادة : تتحرك تحريكا. وعن ابن عباس : هو تشققها. وقال مجاهد : تدور دورا وقال الضحاك : استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض. وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة. قال : وأنشد أبو عبيدة

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٤٨٣.

(٢) المسند ١ / ٥٣.

٤٠٠