تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئا ثم روى من حديث الأسود بن هلال قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال فقالوا : (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) من ذنب فقال : لقد حملتموه على غير المحمل قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟ قال قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الزهري : تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على أداء فرائضه (١) ، وكذا قال قتادة : قال وكان الحسن يقول اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة ، وقال أبو العالية (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أخلصوا له الدين والعمل.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت فما أتقي؟ فأومأ إلى لسانه. ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به. ثم قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد حدثني ابن شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قل ربي الله ثم استقم» قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله بطرف لسان نفسه ثم قال : «هذا» وهكذا رواه الترمذي (٤) وابن ماجة (٥) من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقد أخرجه مسلم (٦) في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل آمنت بالله ثم استقم» وذكر تمام الحديث.

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ١٠٨.

(٢) المسند ٤ / ٣٨٤ ، ٣٨٥.

(٣) المسند ٣ / ٤١٣.

(٤) كتاب الزهد باب ٦١.

(٥) كتاب الفتن باب ١٣.

(٦) كتاب الإيمان حديث ٦٢.

١٦١

وقوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه : يعني عند الموت قائلين (أَلَّا تَخافُوا) قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير : وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال : «إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان» (١) وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم حكاه ابن جرير (٢) عن ابن عباس والسدي.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد السلام بن مطهر حدثنا جعفر بن سليمان قال سمعت ثابتا قرأ سورة «حم السجدة» حتى بلغ (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) قال فيؤمن الله تعالى خوفه ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى ولما كان يعمل له في الدنيا وقال زيد بن أسلم : يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث. رواه ابن أبي حاتم وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جدا وهو الواقع.

وقوله تبارك وتعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم في الحياة الدنيا أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ) أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم رحيم بكم رؤوف حيث غفر وستر ورحم ولطف. وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) فقال :

حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي سعيد حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٦٤ ، ٦ / ١٤٠ ، بلفظ : أشري بروح وريحان ورب غير غضبان».

(٢) تفسير الطبري ١١ / ١٠٨.

١٦٢

فقال أبو هريرة رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد : أو فيها سوق؟ فقال : نعم أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عزوجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ويوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيء (١) على كثبان المسك والكافور ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا. قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر» قلنا لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى أنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا يذكره ببعض غدراته في الدنيا ـ أي رب أفلم تغفر لي ، فيقول بلى ، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه ـ قال ـ فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ـ قال ـ ثم يقول ربنا عزوجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا ما اشتهيتم ، قال فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة ، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشتري وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه. وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبيبنا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به» (٢) وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار به نحوه ثم قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاءه الله كره الله لقاءه» قلنا يا رسول الله : كلنا نكره الموت قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه ـ قال ـ وإن الفاجر ـ أو الكافر ـ إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو

__________________

(١) الدنيء : الخسيس.

(٢) أخرجه الترمذي في صفة الجنة باب ١٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٩.

(٣) المسند ٣ / ١٠٧.

١٦٣

ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه» (١) وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)

يقول عزوجل : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي دعا عباد الله إليه (وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم «المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة» (٢) وفي السنن مرفوعا «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين»(٣).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عروبة الهروي حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : «سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين الآذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه» قال : وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو كنت مؤذنا ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد قال : وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو كنت مؤذنا لكمل أمري وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم اغفر للمؤذنين» ثلاثا ، قال : فقلت يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعافهم وتلك لحوم حرمها الله عزوجل على النار لحوم المؤذنين» قال وقالت عائشة رضي الله عنها ولهم هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤١ ، ومسلم في الذكر حديث ١٤ ، ١٦ ـ ١٨.

(٢) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١٤ ، وابن ماجة في الأذان باب ٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٦٩ ، ٢٦٤ ، ٤ / ٩٥ ، ٩٨.

(٣) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ٣٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٢ ، ٢٨٤ ، ٣٨٢ ، ٥ / ٢٦٠ ، ٦ / ٦٥.

١٦٤

صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قالت : فهو المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعا إلى الله وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة إنها نزلت في المؤذنين وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال في قوله عزوجل (وَعَمِلَ صالِحاً) قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة.

ثم أورد البغوي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين كل أذانين ـ صلاة ـ ثم قال في الثالثة ـ لمن شاء» (١) وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال الثوري : لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من حديث الثوري به وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به. والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية لأنها مكية والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه في منامه فقصه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتا كما هو مقرر في موضعه فالصحيح إذن أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله.

وقوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي فرق عظيم بين هذه وهذه (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه كما قال عمر رضي الله عنه :

ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

وقوله عزوجل : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهو الصديق أي إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك ، ثم قال عزوجل : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الموصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك فإنه يشق على النفوس (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٤ ، ١٦ ، ومسلم في المسافرين حديث ٣٠٤ ، وأبو داود في التطوع باب ١١ ، والترمذي في الصلاة باب ٢٢ ، والنسائي في الأذان باب ٣٩ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١٠ ، والدارمي في الصلاة باب ١٤٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٨٦ ، ٥ / ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٧.

١٦٥

عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم (١).

وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي أن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك فإذا استعذت بالله ولجأت إليه كفه عنك ورد كيده ، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» (٢) ، وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الأعراف عند قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٩٩ ـ ٢٠٠] وفي سورة المؤمنين عند قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون : ٩٧ ـ ٩٨].

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفترقان ، والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام ، ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات. ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به ولهذا قال تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ١١٢.

(٢) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١١٩ ، ١٢٠ ، والترمذي في المواقيت باب ٦٥ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٢ ، والدارمي في الصلاة باب ٣٣ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، ٣ / ٥٠ ، ٤ / ٨٠ ، ٨١ ، ٨٣ ، ٨٥ ، ٦ / ١٥٦.

١٦٦

وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) كقوله عزوجل : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).

وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذابا لقوم». وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ) أي على قدرته على إعادة الموتى (أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) (٤٣)

قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) قال ابن عباس : الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه. وقال قتادة وغيره هو الكفر والعناد ، وقوله عزوجل : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي إنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان. ثم قال عزوجل تهديدا للكفرة : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وعيد أي من خير أو شر إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم ولهذا قال : (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ثم قال جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) قال الضحاك والسدي وقتادة وهو القرآن (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين ولهذا قال : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي حكيم في أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود أي في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته.

ثم قال عزوجل : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير (١) ولم

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ١١٧.

١٦٧

يحك هو ولا ابن أبي حاتم غيره وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي لمن تاب إليه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد».

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (٤٥)

لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٩٨ ـ ١٩٩] وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي لقالوا هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا أعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟ هكذا روي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم؟ وقيل المراد بقولهم (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي هل أنزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ.

ثم قال عزوجل : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل يا محمد هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي لا يفهمون ما فيه (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال مجاهد يعني بعيد من قلوبهم قال ابن جرير (١) معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول.

وقلت وهذا كقوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١] وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم. وقال السدي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه : جالسا عند رجل من المسلمين

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ١٦٠.

١٦٨

يقضي إذ قال : يا لبيكاه فقال له عمر رضي الله عنه لم تلبي ، هل رأيت أحدا أو دعاك أحد؟ فقال دعاني داع من وراء البحر فقال عمر رضي الله عنه أولئك ينادون من مكان بعيد رواه ابن أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي كذب وأوذي (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الشورى : ١٤] بتأخير الحساب إلى يوم المعاد (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوا غير محققين لشيء كانوا فيه ، هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل ، والله أعلم.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨)

يقول تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) اي إنما يعود نفع ذلك على نفسه (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي إنما يرجع وبال ذلك عليه (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ثم قال جل وعلا : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة فقال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» (١) وكما قال عزوجل : (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) [النازعات : ٤٤] وقال جل جلاله: (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧].

وقوله تبارك وتعالى : (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي الجميع بعلمه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وقد قال سبحانه وتعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] وقال جلت عظمته : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨] وقال تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [فاطر : ١١] وقوله جل وعلا : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رؤوس الخلائق أين شركائي الذين عبدتموهم معي (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧ ، وتفسير سورة ٣١ ، باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ١ ، ٥ ، ٧ ، وأبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في الإيمان باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٥ ، ٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، والفتن باب ٢٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٢٦.

١٦٩

ذهبوا فلم ينفعوهم (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وظن المشركون يوم القيامة وهذا بمعنى اليقين (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لا محيد لهم عن عذاب الله كقوله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٣].

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٥١)

يقول تعالى لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك فإن مسه الشر وهو البلاء أو الفقر (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن هذا لي إني كنت أستحقه عند ربي (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي يكفر بقيام الساعة أي لأجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر ويكفر كما قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إلي ربي كما أحسن إلي في هذه الدار ، يتمنى على الله عزوجل مع إساءته العمل وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.

ثم قال تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عزوجل كقوله جل جلاله : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات : ٣٩] (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الشدة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض ما طال لفظه وقل معناه والوجيز عكسه وهو ما قل ودل وقد قال تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢] الآية.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤)

يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ؟) أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله؟ ولهذا قال عزوجل : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في كفر وعناد ومشاقة للحق ومسلك

١٧٠

بعيد من الهدى ثم قال جل جلاله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزلا من عند الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلائل خارجية (فِي الْآفاقِ) من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان قال مجاهد والحسن والسدي : ودلائل في أنفسهم قالوا : وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبيح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال :

وإذا نظرت تريد معتبرا

فانظر إليك ففيك معتبر

أنت الذي تمسي وتصبح في

الدنيا وكلّ أموره عبر

أنت المصرف كان في صغر

ثم استقلّ بشخصك الكبر

أنت الذي تنعاه خلقته

ينعاه منه الشّعر والبشر

أنت الذي تعطي وتسلب لا

ينجيه من أن يسلب الحذر

أنت الذي لا شيء منه له

وأحقّ منه بماله القدر

وقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم وهو يشهد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء : ١٦٦] الآية. وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي في شك من قيام الساعة ولهذا لا يتفكرون فيه ولا يعلمون له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبئون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا خلف بن تميم حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سعيد الأنصاري قال : إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم ، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق والمكذب به هالك ، ثم نزل.

ومعنى قوله رضي الله عنه إن المصدق به أحمق أي لأنه لا يعمل له عمل مثله ولا يحذر منه ولا يخاف من هوله وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه فهو أحمق بهذا الاعتبار والأحمق في اللغة ضعيف العقل ، وقوله والمكذب به هالك هذا واضح ، والله أعلم. ثم قال تعالى مقررا أنه على كل شيء قدير وبكل شيء محيط

١٧١

وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا إله إلا هو.

١٧٢

تفسير سورة الشورى

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٦)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة. وقد روى ابن جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه : أخبرني عن تفسير قول الله تعالى : (حم عسق) قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشيء وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه : أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عزوجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى : (حم عسق) يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا منه سين : يعني سيكون ق : يعني واقع بهاتين المدينتين.

وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال : حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال : أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر (حم عسق) فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا ، قال حم اسم من أسماء الله تعالى ، قال فعين؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر ، قال فسين؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال فقاف؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس. وقوله عزوجل : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي كما أنزل إليك هذا القرآن

١٧٣

كذلك أنزل الكتب والصحف على الأنبياء قبلك. وقوله تعالى : (اللهُ الْعَزِيزُ) أي في انتقامه (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله.

قال الإمام مالك رحمه‌الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتفصد عرقا (١). أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري.

وقد رواه الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف ينزل عليك الوحي؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قاله ـ وقال ـ وهو أشده علي ـ قال ـ وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول» (٢). وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد ، وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة.

وقوله تبارك وتعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) كقوله تعالى : (الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) [الرعد : ٩] (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣] والآيات في هذا كثيرة.

وقوله عزوجل : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب الأحبار أي فرقا من العظيمة (٤) (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) كقوله جل وعلا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] وقوله جل جلاله : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إعلام بذلك وتنويه به ، وقوله

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ٢ ، والترمذي في المناقب باب ٧ ، والنسائي في الافتتاح باب ٣٧ ، ومالك في القرآن حديث ٧ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٥٧.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ١٥٨.

(٣) المسند ٢ / ٢٢٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ١١ / ١٢٨.

١٧٤

سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يعني المشركين (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عدا ، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٨)

يقول تعالى وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي واضحا جليا بينا (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَها) أي من سائر البلاد شرقا وغربا ، وسميت مكة أم القرى لأنها أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها ، ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو واقف بالحزورة (٢) في سوق مكة «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» (٣) وهكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح.

وقوله عزوجل : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة.

وقوله جل وعلا : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [التغابن : ٩] أي يغبن أهل الجنة أهل النار ، وكقوله عزوجل : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٣ ـ ١٠٥].

قال الإمام أحمد (٤) حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي يده كتابان فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان؟» قال : قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي في يده اليمنى : «هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ـ ثم

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٠٥.

(٢) الحزورة : موضع بمكة.

(٣) أخرجه الترمذي في المناقب باب ٦٨ ، وابن ماجة في المناسك باب ١٠٣ ، والدرامي في السير باب ٦٦.

(٤) المسند ٢ / ١٦٧.

١٧٥

أجمل (١) على آخرهم ـ لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ـ ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي في يساره : هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا» فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا الأمر قد فرغ منه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ثم قال (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده فقبضها ثم قال «فرغ ربكم عزوجل من العباد ـ ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال فريق في الجنة ـ ونبذ باليسرى وقال ـ فريق في السعير» (٣) وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن مانع الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به.

وقال الترمذي حسن صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها ـ ثم قال : فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله عزوجل ـ ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث به ورواه ابن جرير (٤) عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي قبيل عن شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره.

ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح عن يحيى بن أبي أسيد أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : إن الله تعالى يقول : إن الله تعالى لما خلق آدم نفضه نفض المزود (٥) وأخرج منه كل ذريته فخرج أمثال النغف (٦) فقبضهم قبضتين ثم قال شقي وسعيد ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في الجنة وفريق في السعير (٧) وهذا الموقوف أشبه بالصواب والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال الإمام أحمد (٨) حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد يعني ابن سلمة أخبرنا الجريري عن أبي نضرة قال : إن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعني يزورونه

__________________

(١) أجمل على آخرهم : أي جمعوا وأحصوا فلا يزاد عليهم ولا ينقص.

(٢) قال بيده : أي أشار بيده.

(٣) أخرجه الترمذي في القدر باب ٨.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ١٣٠.

(٥) المزود : وعاء للزاد.

(٦) النغف : هو دود يكون في أنوف الإبل والغنم.

(٧) انظر تفسير الطبري ١١ / ١٣٠.

(٨) المسند ٤ / ١٧٦ ، ٥ / ٦٨.

١٧٦

فوجدوه يبكي ، فقالوا له ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني ، قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله تعالى قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدا منها حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمة رضي الله عنهم أجمعين.

وقوله تبارك وتعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي إما على الهداية أو على الضلالة ولكنه تعالى فاوت بينهم فهدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء عنه وله الحكمة والحجة البالغة ولهذا قال عزوجل : (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

وقال ابن جرير (١) حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي سويد أنه حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب خلقك الذين خلقتهم جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار لو ما أدخلتهم كلهم الجنة فقال يا موسى ارفع ذرعك فرفع قال قد رفعت قال ارفع فرفع فلم يترك شيئا قال يا رب قد رفعت قال ارفع قال قد رفعت إلا ما لا خير فيه قال كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)

يقول تعالى منكرا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير ، ثم قالعزوجل : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله جل وعلا : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩] (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) أي الحاكم في كل شيء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في جميع الأمور.

وقوله جل جلاله : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما وما بينهما (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج. وقوله تبارك وتعالى :

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ١٣٠.

١٧٧

(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا خلقا من بعد خلق وجيلا بعد جيل ونسلا بعد نسل من الناس والأنعام وقال البغوي رحمه‌الله يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة. قال مجاهد نسلا من الناس والأنعام ، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)

يقول تعالى لهذه الأمة : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فذكر أول الرسل بعد آدم عليه‌السلام وهو نوح عليه‌السلام وآخرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عليهم‌السلام وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧] الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥]. وفي الحديث «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» (١) أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] ولهذا قال تعالى هاهنا : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.

وقوله عزوجل : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ، ولهذا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٤٣ ، ١٤٤ ، وأبو داود في السنّة باب ١٣.

١٧٨

قال تبارك وتعالى : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة ثم قال عزوجل : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. وقوله جلت عظمته : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥)

اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسه ، قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. وقوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك ، أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عزوجل : (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.

وقوله جل وعلا : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي في الحكم كما أمرني الله ، وقوله جلت عظمته : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختيارا وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا واختيارا. وقوله تبارك وتعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي نحن برآء منكم ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] وقوله تعالى : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) قال مجاهد : أي لا خصومة. قال السدي : وذلك قبل نزول آية السيف ، وهذا متجه لأن هذه الآية مكية ، وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عزوجل : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي يوم القيامة ، كقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) وقوله جل وعلا : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب يوم الحساب.

١٧٩

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨)

يقول تعالى متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي باطلة عند الله (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي منه (وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي يوم القيامة ، قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد : جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى وطمعوا أن تعود الجاهلية ، وقال قتادة : هم اليهود والنصارى قالوا لها : ديننا خير من دينكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالله منكم (١) ، وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه (وَالْمِيزانَ) وهو العدل والإنصاف ، قاله مجاهد وقتادة ، وهذه كقوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] وقوله : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن : ٧ ـ ٩].

وقوله تبارك وتعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فيه ترغيب فيها وترهيب منها وتزهيد في الدنيا ، وقوله عزوجل : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي : يقولون (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سبأ : ٢٩] ، وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا وكفرا وعنادا (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون وجلون من وقوعها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) أي كائنة لا محالة ، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها.

وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد ، وفي بعض ألفاظه أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره ، فناداه فقال : يا محمد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا من صوته : «هاؤم» ، فقال له : متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» فقال : حب الله ورسوله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت مع من أحببت» (٢) ، فقوله في الحديث «المرء مع من أحب» (٣) هذا متواتر لا محالة ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ١٣٩.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب ٦ ، والأدب باب ٩٥ ، ومسلم في البر حديث ١٦١ ، والدارمي في الرقاق باب ٧١.

(٣) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٦ ، ومسلم في البر حديث ـ

١٨٠