تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

تفسير سورة الفتح

وهي مدنية

قال الإمام أحمد (١) حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال سمعت عبد الله بن مغفل يقول قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجّع (٢) فيها قال معاوية لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته (٣) ، أخرجاه من حديث شعبة به.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣)

نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى ، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله عزوجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحا باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية (٤).

وقال البخاري (٥) : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتانا فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم

__________________

(١) المسند ٤ / ٨٥ ، ٨٦ ، ٥ / ٢٤.

(٢) الترجيع : أي ترديد القراءة.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٨ ، باب ١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٣٧.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٣٣٢.

(٥) كتاب المغازي باب ٣٥.

٣٠١

تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليّ ، قال فقلت في نفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك؟ قال : فركبت راحلتي فحركت بعيري فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي يا عمر ، أين عمر قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (٢) ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه‌الله ، وقال علي بن المديني هذا إسناد مدني جيد لم نجده إلا عندهم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض» ثم قرأها عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله لقد بين الله عزوجل ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ـ حتى بلغ ـ (فَوْزاً عَظِيماً) أخرجاه في الصحيحين (٤) من رواية قتادة به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مجمع بن يعقوب قال : سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري ، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه ، وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون (٦) الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : فقال : رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أي رسول الله أو فتح هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية فقسمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية عشر سهما. وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس أعطي الفارس سهمين وأعطي الراجل

__________________

(١) المسند ١ / ٣١.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٤٨ باب ١.

(٣) المسند ٣ / ١٩٧.

(٤) أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٥ ، ومسلم في الجهاد حديث ٩٧.

(٥) المسند ٣ / ٤٢٠.

(٦) ينفرون : أي يزجرون.

٣٠٢

سهما ورواه أبو داود (١) في الجهاد عن محمد بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به.

وقال ابن جرير (٢) حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، حدثنا جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال : سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم قال : فقلنا أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي» قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها (٣) بشجرة ، فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي قال : وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه ، فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤) وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي حتى ترم قدماه فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أفلا أكون عبدا شكورا؟» (٦) أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به.

وقال الإمام أحمد (٧) : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا». أخرجه مسلم (٨) في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عون الخراز وكان ثقة بمكة حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر عن قتادة عن أنس قال قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تورمت قدماه ـ أو قال ساقاه ـ فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : «أفلا أكون

__________________

(١) كتاب الجهاد باب ٥٧.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٣٣٢.

(٣) خطام الناقة : زمامها.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٦٤.

(٥) المسند ٤ / ٢٥٥.

(٦) أخرجه البخاري في التهجد باب ٦ ، وتفسير سورة ٤٨ ، باب ٢ ، ومسلم في المنافقين حديث ٧٩ ، والترمذي في الصلاة باب ١٨٧ ، والنسائي في قيام الليل باب ١٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٢٠٠

(٧) المسند ٦ / ١١٥.

(٨) كتاب المنافقين حديث ٨٠ ، ٨١.

٣٠٣

عبدا شكورا» غريب من هذا الوجه فقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان.

وقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) هذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه التي لا يشاركه فيها غيره ، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو صلوات الله وسلامه عليه في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو أكمل البشر على الإطلاق وسيدهم في الدنيا والآخرة ، ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة : «حبسها حابس الفيل» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها» (١) فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي في الدنيا والآخرة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي بسبب خضوعك لأمر الله عزوجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك كما جاء في الحديث الصحيح «وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله عزوجل إلا رفعه الله تعالى» (٢) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما عاقبت أي في الدنيا والآخرة أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)

يقول تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي جعل الطمأنينة ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعنه : الرحمة وقال قتادة : الوقار في قلوب المؤمنين ، وهم الصحابة رضي الله عنهم ، يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله ، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشروط باب ١٥ ، وأبو داود في الجهاد باب ١٥٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٢٩ ، ٣٣٠.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٦٩ ، والترمذي في البر باب ٨٢ ، والدارمي في الزكاة باب ٣٤ ، ومالك في الصدقة حديث ١٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٨٦.

٣٠٤

واستقرت زادهم إيمانا مع إيمانهم ، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب ، ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين فقال سبحانه وتعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لأباد خضراءهم ، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة والبراهين الدامغة ، ولهذا قال جلت عظمته : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً).

ثم قال عزوجل : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) قد تقدم حديث أنس رضي الله عنه حين قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها ، بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) كقوله جل وعلا : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : ١٨٥] الآية.

وقوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ، ولهذا قال تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) ثم قال عزوجل مؤكدا لقدرته على الانتقام من الأعداء أعداء الإسلام ومن الكفرة والمنافقين (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على الخلق (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين (وَنَذِيراً) أي للكافرين وقد تقدم تفسيرها في سورة الأحزاب. (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد : تعظموه (وَتُوَقِّرُوهُ) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام (وَتُسَبِّحُوهُ) أي تسبحون الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره.

ثم قال عزوجل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) كقوله جل وعلا : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم فهو

٣٠٥

تعالى هو المبايع بواسطة رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١١١].

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري : حدثنا علي بن بكار عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله» وحدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحجر «والله ليبعثه الله عزوجل يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على من استلمه بالحق فمن استلمه فقد بايع الله تعالى» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث والله غني عنه (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان وكانت تحت شجرة سمر (١) بالحديبية ، وكان الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ قيل ألفا وثلاثمائة ، وقيل وأربعمائة ، وقيل وخمسمائة ، والأوسط أصح.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

قال البخاري (٢) : حدثنا قتيبة ، حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ورواه مسلم (٣) من حديث سفيان بن عيينة به ، وأخرجاه أيضا من حديث الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال : كنا يومئذ ألفا وأربعمائة ، ووضع يده في ذلك الماء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى رووا كلهم (٤) ، وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطاهم سهما من كنانته فوضعوه في بئر الحديبية ، فجاشت (٥) بالماء حتى كفتهم فقيل لجابر رضي الله عنه : كم كنتم يومئذ؟ قال : كنا ألفا وأربعمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا (٦) ، وفي رواية في الصحيحين عن

__________________

(١) شجرة سمر : شجرة الطلح ، وهي شجرة طويلة عظيمة.

(٢) تفسير سورة ٤٨ ، باب ١.

(٣) كتاب الإمارة ، حديث ٦٧ ، ٦٩.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، ومسلم في الفضائل حديث ٦.

(٥) جاشت : أي فارت.

(٦) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٥ ، ومسلم في الإمارة حديث ٧٢ ، ٧٣.

٣٠٦

جابر رضي الله عنه أنهم كانوا خمس عشرة مائة (١).

وروى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال : خمس عشرة مائة ، قلت فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانوا أربع عشرة مائة قال رحمه‌الله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قال البيهقي : هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول خمس عشرة مائة ثم ذكر الوهم فقال أربع عشرة مائة ، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين ، والمشهور الذي رواه غير واحد عنه أربع عشرة مائة ، وهذا هو الذي رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن العباس الدوري عن يحيى بن معين عن شبابة بن سوار عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وكذلك هو الذي في رواية سلمة بن الأكوع ومعقل بن يسار والبراء بن عازب رضي الله عنهم ، وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير ، وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول : كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين.

وروى محمد بن إسحاق في السيرة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل كل بدنة عن عشرة نفر ، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما بلغني عنه يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة (٢) ، كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ذكر سبب هذه البيعة العظيمة

قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة ، ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها ، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته. فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٥ ، ومسلم في الإمارة حديث ٨٠.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٣٠٨ ، ٣٠٩.

٣٠٧

دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين أن عثمان رضي الله عنه قد قتل ، قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : «لا نبرح حتى نناجز القوم».

ودعا رسول الله الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموت ، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ، فبايع الناس ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، فكان جابر رضي الله عنه يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ (١) إليها يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي كان من أمر عثمان رضي الله عنه باطل (٢).

وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قريبا من هذا السياق ، وزاد في سياقه أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان رضي الله عنه ، سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين ، وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل ، ونادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بالبيعة ، فأخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا ، فسار المسلمون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على أن لا يفروا أبدا. فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ، ودعوا إلى الموادعة والصلح.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا تمتام ، حدثنا الحسن بن بشر ، حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عنه قال : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل مكة ، فبايع الناس فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله» فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان رضي الله عنه خيرا من أيديهم لأنفسهم. قال ابن هشام وحدثني من أثق به

__________________

(١) ضبأ إليها : أي استتر بها.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٣١٥ ، ٣١٦.

٣٠٨

عمن حدثه بإسناد له عن ابن مليكة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان رضي الله عنه ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، وقال عبد الملك بن هشام النحوي : فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : إن أول من بايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي (١) ، وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال : لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي فقال : ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علام تبايعني؟ فقال أبو سنان رضي الله عنه : على ما في نفسك ، هذا أبو سنان وهب الأسدي رضي الله عنه.

وقال البخاري (٢) : حدثنا شجاع بن الوليد أنه سمع النضر بن محمد يقول : حدثنا صخر عن نافع رضي الله عنه قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر رضي الله عنهما أسلم قبل عمر وليس كذلك ، ولكن عمر رضي الله عنه يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار ، أن يأتي به ، ليقاتل عليه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع عند الشجرة ، وعمر رضي الله عنه لا يدري بذلك ، فبايعه عبد الله رضي الله عنه ، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر رضي الله عنه ، وعمر رضي الله عنه يستلئم (٣) للقتال ، فأخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع تحت الشجرة ، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر رضي الله عنهما. ثم قال البخاري ، وقال هشام بن عمار : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عمر بن محمد العمري ، أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس كانوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يعني عمر رضي الله عنه : يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدهم يبايعون فبايع ، ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه ، فخرج فبايع.

وقد أسنده البيهقي عن أبي عمرو الأديب عن أبي بكر الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان ، عن دحيم ، حدثني الوليد بن مسلم فذكره ، وقال الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه ، قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ، وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال : بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم (٤) عن قتيبة عنه.

وروى مسلم (٥) عن يحيى بن يحيى عن يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله الأعرج ، عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع الناس ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٣١٦.

(٢) كتاب المغازي باب ٣٥.

(٣) استلئم : أي ليس ما عنده من عدة الحرب.

(٤) كتاب الإمارة حديث ٦٧.

(٥) كتاب الإمارة حديث ٦٨.

٣٠٩

وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. وقال البخاري (١) : حدثنا المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة. قال يزيد : قلت يا أبا مسلمة على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ؟ قال : على الموت.

وقال البخاري (٢) أيضا : حدثنا أبو عاصم! حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ، ثم تنحيت فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سلمة ألا تبايع؟» قلت : قد بايعت ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقبل فبايع». فدنوت فبايعته ، قلت : علام بايعته يا سلمة؟ قال : على الموت. وأخرجه مسلم (٣) من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد ، وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم أنهم بايعوه على الموت.

وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها ، فقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جباها يعني الركي (٤) ، فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت فسقينا واستقينا. قال : ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة ، فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بايعني يا سلمة قال : فقلت يا رسول الله : قد بايعتك في أول الناس قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأيضا» قال ورآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عزلا (٥) فأعطاني حجفة أو درقة (٦) ، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تبايع يا سلمة؟» قال : قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأيضا» فبايعته الثالثة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟» قال : قلت يا رسول الله لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «إنك كالذي قال الأول اللهم ابغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي».

قال : ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال : وكنت خادما لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أسقي فرسه وأحسّه وآكل من

__________________

(١) كتاب الجهاد باب ١١٠.

(٢) كتاب الأحكام باب ٤٣.

(٣) كتاب الإمارة حديث ٨٠.

(٤) الركي : البئر ، وجباها : ما حولها.

(٥) الأعزل : الذي ليس معه سلاح.

(٦) الحجفة : ترس صغير ، والدرقة : نوع من التروس.

٣١٠

طعامه ، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله ، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها ، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين قتل ابن زنيم! فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الأربعة ، وهم رقود ، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ثم قلت : والذي كرم وجه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه! قال : ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مركز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه» فعفا عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية ، وهكذا رواه مسلم (١) عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه أو قريبا منه.

وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، قال : فانطلقنا من قابل حاجين فخفي علينا مكانها ، فإن كان تبينت لكم فأنتم أعلم ، وقال أبو بكر الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزبير ، حدثنا جابر رضي الله عنه قال ، لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له الجد بن قيس مختبئا تحت إبط بعيره ، رواه مسلم (٢) من حديث ابن جريج عن ابن الزبير به. وقال الحميدي أيضا : حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابرا رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم خير أهل الأرض اليوم» (٣) قال جابر رضي الله عنه : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة ، قال سفيان إنهم اختلفوا في موضعها أخرجاه من حديث سفيان ، وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يونس حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي ، حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي حدثنا محمد بن ثابت العبدي عن خداش بن عياش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر» قال : فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره فقلنا تعال فبايع. فقال : أصيب بعيري

__________________

(١) كتاب الجهاد حديث ١٣٢ ، وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ٤٩.

(٢) كتاب الإمارة حديث ٦٩.

(٣) أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٥.

(٤) المسند ٣ / ٣٥٠.

٣١١

أحب إلي من أن أبايع وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا قرة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من يصعد الثنية ثنية المرار (١) فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل» فكان أول من صعد خيل بني الخزرج ثم تبادر الناس بعد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فقلنا : تعال يستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم ، فإذا هو رجل ينشد ضالة ، رواه مسلم (٢) عن عبيد الله به.

وقال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها : «لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد» قالت : بلى يا رسول الله ، فانتهرها فقالت لحفصة رضي الله عنها (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد قال الله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢] رواه مسلم (٣) ، وفيه أيضا عن قتيبة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : إن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدرا والحديبية» (٤) ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) كما قال عزوجل في الآية الأخرى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ١٨].

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤)

يقول تعالى مخبرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعتذروا بشغلهم لذلك وسألوا أن يستغفر لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد بل على وجه

__________________

(١) ثنية المرار : موضع بين مكة والمدينة.

(٢) كتاب المنافقين حديث ١٢.

(٣) كتاب فضائل الصحابة حديث ١٦٣.

(٤) كتاب فضائل الصحابة حديث ١٦١ ، ١٦٢.

٣١٢

التقية والمصانعة ، ولهذا قال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس ، وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا ونافقتمونا ، ولهذا قال تعالى : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

ثم قال تعالى : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص بل تخلف نفاق (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم ، وتستباد خضراؤهم ولا يرجع منهم مخبر (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي هلكى ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد ، وقال قتادة : فاسدين (١) ، وقيل هي بلغة عمان. ثم قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله فإن الله تعالى سيعذبه في السعير ، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لمن تاب إليه وأناب وخضع لديه.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٥)

يقول تعالى مخبرا عن الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الحديبية ، إذ ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى خيبر يفتتحونها أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم ، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم ، فأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يأذن لهم في ذلك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم ، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين ، فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا ولهذا قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) قال مجاهد وقتادة وجويبر وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية واختاره ابن جرير (٢).

وقال ابن زيد هو قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) [التوبة : ٨٣] وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر ، لأن هذه الآية التي في براءة نزلت في غزوة تبوك وهي متأخرة عن غزوة الحديبية ، وقال ابن جريج (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) يعني بتثبيطهم

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢٤١.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٣٤٣.

٣١٣

المسلمين عن الجهاد (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي أن نشرككم في المغانم (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ليس الأمر كما زعموا ولكن لا فهم لهم.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧)

اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم الذين هم أولو بأس شديد على أقوال [أحدها] أنهم هوازن ، رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أو عكرمة أو جميعا ، ورواه هشيم عن أبي بشر عنهما وبه يقول قتادة في رواية عنه [الثاني] ثقيف ، قاله الضحاك. [الثالث] بنو حنيفة ، قاله جويبر ورواه محمد بن إسحاق عن الزهري وروي مثله عن سعيد وعكرمة. [الرابع] هم أهل فارس ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه يقول عطاء ومجاهد وعكرمة في إحدى الروايات عنه. وقال كعب الأحبار : هم الروم ، وعن ابن أبي ليلى وعطاء والحسن وقتادة : وهم فارس والروم ، وعن مجاهد : هم أهل الأوثان ، وعنه أيضا : هم رجال أولو بأس شديد ، ولم يعين فرقة ، وبه يقول ابن جريج وهو اختيار ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق القواريري عن معمر عن الزهري في قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : لم يأت أولئك بعد.

وحدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن ابن أبي خالد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : هم البارزون قال وحدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف الآنف ، كأن وجوههم المجان المطرقة» قال سفيان : هم الترك ، قال ابن أبي عمر : وجدت في مكان آخر ، حدثنا ابن أبي خالد عن أبيه قال : نزل علينا أبو هريرة رضي الله عنه ففسر قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقاتلوا قوما نعالهم الشعر» قال : هم البارزون يعني الأكراد ، وقوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) يعني شرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم ، ولكم النصرة عليهم أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار.

ثم قال عزوجل : (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يعني زمن الحديبية حيث دعيتم فتخلفتم (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً). ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فمنها لازم كالعمى

٣١٤

والعرج المستمر ، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول ، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ. ثم قال تبارك وتعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَ) أي ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار ، والله تعالى أعلم.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٩)

يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية ، قال البخاري (١) : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق أن عبد الرحمن رضي الله عنه قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت : ما هذا المسجد؟ قالوا هذه الشجرة حيث بايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم.

وقوله تعالى : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من الصدق والوفاء والسمع والطاعة (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) وهي الطمأنينة (عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) وهو ما أجرى الله عزوجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا موسى يعني ابن عبيدة ، حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال : بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيها الناس ، البيعة البيعة نزل روح القدس ، قال : فثرنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال : فبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الأخرى فقال الناس : هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف».

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً

__________________

(١) كتاب المغازي باب ٣٥.

٣١٥

لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٢٤)

قال مجاهد في قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هي جميع المغانم إلى اليوم (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني فتح خيبر ، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني صلح الحديبية (١) (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال ، وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يعتبرون بذلك ، فأن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم ، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم إنه العالم بعواقب الأمور ، وإن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر كما قال عزوجل (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته ، وموافقتكم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تبارك وتعالى : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها ، قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم ، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون ، وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هي خيبر ، وهذا على قوله عزوجل : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) إنها صلح الحديبية ، وقاله الضحاك وابن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال قتادة : هي مكة واختاره ابن جرير (٢) ، وقال ابن أبي ليلى والحسن البصري : هي فارس والروم ، وقال مجاهد : هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن سماك الحنفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.

وقوله تعالى : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يقول عزوجل مبشرا لعباده المؤمنين ، بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم ، ولا نهزم جيش الكفر فارا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا ، لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين. ثم قال تبارك وتعالى : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي هذه سنة الله وعادته في خلقه ، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن إلا نصر الله

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٥١.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٣٥٣.

٣١٦

الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعددهم وكثرة المشركين وعددهم.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء ، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، بل صان كلا من الفريقين وأوجد بينهم صلحا فيه خير للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة ، وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى ، فأوقفوهم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إليهم فقال : «أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه». قال وفي ذلك أنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة بالسلاح ، من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعا عليهم فأخذوا. قال عفان : فعفا عنهم ونزلت هذه الآية : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) (٢) ورواه مسلم وأبو داود في سننه والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما من طرق عن حماد بن سلمة به.

وقال أحمد (٣) أيضا : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الحسين بن واقد ، حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ سهيل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال : «اكتب باسمك اللهم ـ وكتب ـ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة» فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله «فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح ، فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ الله تعالى بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحدا أمانا؟»

__________________

(١) المسند ٣ / ١٢٢ ، ١٢٤ ، ١٢٥ ، ٢٩٠.

(٢) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٣٣ ، وأبو داود في الجهاد باب ١٢٠ ، والترمذي في تفسير سورة ٤٨ باب ٣.

(٣) المسند ٤ / ٨٦ ، ٨٧.

٣١٧

فقالوا : لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) الآية رواه النسائي من حديث حسين بن واقد به.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، حدثنا جعفر عن ابن أبزى قال : لما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر رضي الله عنه : يا نبي الله ، تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟ قال : فبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله ، فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى ، فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة ، فقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه : «يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل» فقال خالد رضي الله عنه : أنا سيف الله وسيف رسوله ، فيومئذ سمي سيف الله ، فقال : يا رسول الله ابعثني أين شئت ، فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (عَذاباً أَلِيماً) قال فكف الله عزوجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل.

ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه ، وهذا السياق فيه نظر فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية ، لأن خالدا رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة المشركين يومئذ ، كما ثبت في الصحيح ، ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء لأنهم قاضوه على أن يأتي في العام المقبل فيعتمر ، ويقيم بمكة ثلاثة أيام ، ولما قدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه.

فإذا قيل : فيكون يوم الفتح؟ فالجواب : ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هديا ، وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عرمرم ، فهذا السياق فيه خلل وقد وقع فيه شيء فليتأمل والله أعلم.

وقال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال : إن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق : وفي ذلك أنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا يقال له ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٥٦.

٣١٨

فأتوه باثني عشر فارسا من الكفار فقال لهم : «هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟» قالوا : لا ، فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية (١).

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار من مشركي العرب من قريش ، ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي هم الكفار دون غيرهم (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله وهذا من بغيهم وعنادهم ، وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقوله عزوجل : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم ، لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ولكن بين إفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل ، ولهذا قال تعالى : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي إثم وغرامة (بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين ، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام ، ثم قال تبارك وتعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا.

قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد مولى بني هاشم ، حدثنا حجر بن خلف قال : سمعت عبد الله بن عوف يقول : سمعت جنيد بن سبع يقول : قاتلت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أول النهار كافرا ، وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا نزلت (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) قال : كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين ، ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به ، وقال فيه عن أبي جمعة جنيد بن سبع فذكره ، والصواب أبو جعفر حبيب بن سباع ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف به : وقال : كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة ،

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٣١٤ ، وتفسير الطبري ١١ / ٣٣٥ ، ٣٥٦.

٣١٩

وفينا نزلت (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري. حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي حمزة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذابا أليما بقتلهم إياهم.

وقوله عزوجل : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وذلك حين أبوا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ، وأبوا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) وهي قول «لا إله إلا الله» كما قال ابن جرير وعبد الله ابن الإمام أحمد (١). حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة عن ثوير عن أبيه عن الطفيل ، يعني ابن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «وألزمهم كلمة التقوى» قال «لا إله إلا الله» (٢) وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة ، وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزوجل» وأنزل الله في كتابه وذكر قوما فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات : ٣٥] وقال الله جل ثناؤه : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فاستكبروا عنها ، واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قضية المدة ، وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير (٣) من حديث الزهري ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم.

وقال مجاهد : كلمة التقوى الإخلاص ، وقال عطاء بن أبي رباح هي «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير» وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن عباية بن ربعي عن علي رضي الله عنه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : «لا إله إلا الله والله اكبر» وكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٦٥ ، ومسند أحمد ٥ / ١٣٨.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٤٨ باب ٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣١ ، ٣٣٢.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٣٦٥.

٣٢٠