تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم بإهلاكهم ودمارهم ، وقال السدي (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) يعني بدارهم (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال : صبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون : محمد والله محمد والخميس فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» (١) ورواه البخاري من حديث مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه.

وقال الإمام أحمد (٢) حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنه قال : لما صبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم وغدوا إلى حروثهم وأرضهم ، فلما رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نكصوا مدبرين فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» لم يخرجوه من هذه الوجه وهو صحيح على شرط الشيخين ، وقوله تعالى : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

ينزه تبارك وتعالى نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علوا كبيرا ولهذا قال تبارك وتعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) أي ذي العزة التي لا ترام (عَمَّا يَصِفُونَ) أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيّته (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال ، ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه من النقص قرن بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن ولهذا قال تبارك وتعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين». هكذا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة باب ١٢ ، والأذان باب ٦ ، وصلاة الخوف باب ٦ ، والجهاد باب ١٣٠ ، والمناقب باب ٢٨ ، والمغازي باب ٣٨ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٢٠ ، ١٢١ ، والترمذي في السير باب ٣ ، والنسائي في المواقيت باب ٢٦ ، والنكاح باب ٧٩ ، والصيد باب ٧٨ ، ومالك في الجهاد حديث ٤٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٠٢ ، ١١١ ، ١٦٤ ، ١٨٦ ، ٢٠٦ ، ٢٤٦ ، ٢٦٣.

(٢) المسند ٤ / ٢٨ ـ ٢٩.

٤١

رواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم من حديث سعيد عنه كذلك.

وقد أسنده ابن أبي حاتم رحمه‌الله فقال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو بكر الأعين ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا : حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين» وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا نوح حدثنا أبو هارون عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم قال : «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» ثم يسلم ، إسناده ضعيف.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا شبابة عن يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي رضي الله عنه قال أبو محمد البغوي في تفسيره : أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا إبراهيم بن سهلويه حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال : من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه قال «من قال دبر كل صلاة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ثلاث مرات فقد اكتال بالجريب (٢) الأوفى من الأجر» (٣) وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءا على حدة والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٤٣.

(٢) الجريب : مكيال.

(٣) الحديث في الدر المنثور ٥ / ٥٥٤.

بلفظ : «فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر».

٤٢

سورة ص

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣)

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى : (ذِي الذِّكْرِ) كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي تذكيركم وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير (١). وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي (ذِي الذِّكْرِ) ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة ، ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم هو قوله تعالى : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) [ص : ١٤] وقيل قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] حكاهما ابن جرير (٢) وهذا الثاني فيه بعد كثير وضعفه ابن جرير ، وقال قتادة جوابه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) واختاره ابن جرير وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها والله أعلم وقال قتادة جوابه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير (٣) عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه جعلها (ص) بمعنى صدق حق (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).

وقوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي : إن هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر. وعبرة لمن يعتبر وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم من عزة أي استكبار عنه وحمية (وَشِقاقٍ) أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة ، ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء ، فقال تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة مكذبة (فَنادَوْا) أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وليس ذلك بمجد عنهم شيئا كما قال عزوجل : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي يهربون (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ١٢ ـ ١٣] قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٤٦.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥٤٦.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٥٤٧.

٤٣

عن قول الله تبارك وتعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) قال ليس بحين نداء ولا نزو ولا فرار. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس بحين مغاث وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :

تذكر ليلى لات حين تذكر

وقال محمد بن كعب في قوله تعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) يقول نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم ، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم (١) ، وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء.

وقال مجاهد (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ليس بحين فرار ولا إجابة وقد روي نحو هذا عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة ، وعن مالك عن زيد بن أسلم (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ولا نداء في غير حين النداء ، وهذه الكلمة وهي لات هي لا التي للنفي زيدت معها التاء كما تزاد في ثم فيقولون ثمت ورب فيقولون ربت وهي مفصولة والوقف عليها ، ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين ولا تحين مناص والمشهور الأول ثم قرأ الجمهور بنصب حين تقديره وليس الحين حين مناص ومنهم من جوز النصب بها ، وأنشد : [الوافر]

تذكّر حبّ ليلى لات حينا

وأضحى الشيب قد قطع القرينا (٢)

ومنهم من جوز الجر بها وأنشد : [الخفيف]

طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء (٣)

وأنشد بعضهم أيضا : [الطويل]

ولات ساعة مندم (٤)

__________________

(١) الدر المنثور ٥ / ٥٥٧ ، بلفظ : نادوا بالتوحيد والعقاب حين مضت الدنيا عنهم ، فاستناصوا التوبة حين زالت الدنيا عنهم.

(٢) البيت لعمرو بن شأس في ديوانه ص ٧٣ ، وتذكرة النحاة ص ٧٣٤ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٤ / ١٦٩ ، ١٧٨ ، والدرر ٢ / ١٢١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٦ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٥٤٩.

(٣) البيت لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص ٣٠ ، والإنصاف ص ١٠٩ ، وتخليص الشواهد ص ٢٩٥ ، وتذكرة النحاة ص ٧٣٤ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٨٣ ، ١٨٥ ، ١٩٠ ، والدرر ٢ / ١١٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٦٤٠ ، ٩٦٠ ، والمقاصد النحوية ٢ / ١٥٦ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٤٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٦٩ ، ٦ / ٥٣٩ ، ٥٤٥ ، والخصائص ٢ / ٣٧٠ ، ورصف المباني ص ١٦٩ ، ٢٦٢ ، وسر صناعة الإعراب ص ٥٠٩ ، وشرح الأشموني ١ / ١٢٦ ، وشرح المفصل ٩ / ٣٢ ، ولسان العرب (أون) ، (لا) (لات) ، ومغني اللبيب ص ٢٥٥ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٦ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٥٤٩.

(٤) تمامه : ـ

٤٤

بخفض الساعة وأهل اللغة يقولون النوص التأخر والبوص التقدم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي ليس الحين حين فرار ولا ذهاب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) (١١)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيرا ونذيرا كما قالعزوجل : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٢] وقال جل وعلا هاهنا : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي بشر مثلهم وقال الكافرون (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين (امْشُوا) أي استمروا على دينكم (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد ، وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) قال ابن جرير (١) إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه.

[ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمة]

قال السدي إن ناسا من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض

__________________

 ـ فلمّا علمت أنّني قد قتلته

ندمت عليه لات ساعة مندم

والبيت بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٧٣٤ ، ورصف المباني ص ٢٦٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٦٨ ، ١٦٩ ، ١٧٤ ، ١٨٧ ، وتفسير الطبري ١٠ / ٥٤٩.

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٥٢.

٤٥

انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء فتعيرنا به العرب يقولون تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فاستأذن لهم علي بن أبي طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه ، قال فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم» قال وإلام تدعوهم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» فقال أبو جهل لعنه الله من بين القوم ما هي وأبيك لنعطينكها وعشرا أمثالها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تقولون لا إله إلا الله» فنفروا وقالوا سلنا غيرها قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» فقاموا من عنده غضابا وقالوا والله لنشتمك وإلهك الذي أمرك بهذا (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد فلما خرجوا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه إلى قوله لا إله إلا الله فأبى وقال بل على دين الأشياخ ونزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦].

قال أبو جعفر بن جرير (١) حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا فقالوا وما هي؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا إله إلا الله» فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) قال ونزلت من هذا الموضع إلى قوله (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) لفظ أبي كريب.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٥٠ ـ ٥٥١.

٤٦

وهكذا رواه الإمام أحمد (١) والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد غير منسوب به نحوه ، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه. وقال الترمذي حسن. وقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.

قال مجاهد وقتادة وأبو زيد يعنون دين قريش وقال غيرهم يعنون النصرانية قاله محمد بن كعب والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) يعني النصرانية قالوا لو كان هذا القرآن حقا لأخبرتنا به النصارى (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) قال مجاهد وقتادة كذب وقال ابن عباس تخرص. وقولهم (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قال في الآية الأخرى : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف : ٣١ ـ ٣٢] ولهذا لما قالوا هذا الذي دلّ على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم.

قال الله تعالى : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله تعالى ونقمته سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعا. ثم قال تعالى مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد الله ، وإن العباد لا يملكون شيئا من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير.

ولهذا قال تعالى منكرا عليهم (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد ، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء : ٥٣ ـ ٥٥] وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠] وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكما أخبر عزوجل عن قوم

__________________

(١) المسند ١ / ٣٦٢.

٤٧

صالح عليه‌السلام حين قالوا (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ. سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٥ ـ ٢٦].

وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم يعني طرق السماء ، وقال الضحاك رحمه‌الله تعالى فليصعدوا إلى السماء السابعة.

ثم قال عزوجل : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهذه الآية كقوله جلت عظمته : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) كان ذلك يوم بدر (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٦].

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦)

يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة وقوله تعالى : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال عزوجل : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر.

وقوله تعالى : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) قال مالك عن زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية (١) أي ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عزوجل.

وقوله جل جلاله : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب فإن القط هو الكتاب وقيل هو الحظ والنصيب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد سألوا تعجيل العذاب ، زاد قتادة كما قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً

__________________

(١) ليس لها مثنوية : أي ليس لها استثناء ولا رد.

٤٨

مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] وقيل سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب. وقال ابن جرير (١) سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي قاله جيد وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم. ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد. قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠)

يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد والأيد القوة في العلم والعمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي وابن زيد ، الأيد القوة ، وقرأ ابن زيد (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧] وقال مجاهد الأيد القوة في الطاعة. وقال قتادة أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقها في الإسلام ، وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر ، وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله عزوجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وأنه كان أوابا» (٢) وهو الرجاع إلى الله عزوجل في جميع أموره وشؤونه.

وقوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار كما قال عزوجل : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعا له.

قال ابن جرير (٣) حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه أن أم هانئ رضي الله عنها ذكرت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس رضي الله عنهما قد

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٥٩ ـ ٥٦٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٣٨ ، والتهجد باب ٧ ، ومسلم في الصيام حديث ١٨٨ ، ١٨٩ ، ٢٠١ ، وأبو داود في الصوم باب ٦٦ ، والنسائي في الصوم باب ٦٩ ، وابن ماجة في الصيام باب ٣١ ، والدارمي في الصوم باب ٤٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠ ، ٢٠٦.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٥٦٢.

٤٩

ظننت أن لهذه الساعة صلاة يقول عزوجل : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يصلي الضحى فأدخلته على أم هانئ رضي الله عنها فقلت أخبري هذا ما أخبرتني به فقالت : دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن من بعض فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وكنت أقول أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول صلاة الإشراق ولهذا قال عزوجل : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي محبوسة في الهواء (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي مطيع يسبح تبعا له ، وقال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي مطيع.

وقوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك ، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد كان أشد أهل الدنيا سلطانا ، وقال السدي كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف ، وقال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثين ألفا لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل ، وقال غيره أربعون ألفا مشتملون بالسلاح.

وقد ذكر ابن جرير (١) وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقرا فأنكر الآخر ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه الصلاة والسلام في المنام بقتل المدعي ، فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري؟ فقال له إن الله تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة ، فقال والله إن الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود عليه‌السلام فقتل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عزوجل (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ).

وقوله عز وعلا : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) قال مجاهد يعني الفهم والعقل والفطنة ، وقال مرة : الحكمة والعدل ، وقال مرة : الصواب ، وقال قتادة كتاب الله واتباع ما فيه ، فقال السدي (الْحِكْمَةَ) النبوة وقوله جل جلاله (وَفَصْلَ الْخِطابِ) قال شريح القاضي والشعبي : فصل الخطاب الشهود والأيمان وقال قتادة شاهدان على المدعي أو يمين المدعي عليه هو فصل

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٦٣.

٥٠

الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل أو قال المؤمنون والصالحون وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة ، وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي وقال مجاهد والسدي هو إصابة القضاء وفهم ذلك وقال مجاهد أيضا هو الفصل في الكلام وفي الحكم وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير (١) وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبّة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : أول من قال : أما بعد داود عليه‌السلام وهو فصل الخطاب ، وكذا قال الشعبي فصل الخطاب : أما بعد.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥)

قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم حديثا لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عزوجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا.

وقوله تعالى : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عزوجل : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب. وقوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي اختبرناه (٢). وقوله تعالى (وَخَرَّ راكِعاً) أي ساجدا (وَأَنابَ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك ، وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وقد اختلف الأئمة في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر ، والدليل على

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٦٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٥٧٠.

٥١

ذلك ما رواه الإمام أحمد (١) حيث قال حدثنا إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال السجدة في (ص) ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسجد فيها. ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح. وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في (ص) وقال : «سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكرا» تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات.

وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد الكنجروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت ، فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم اكتب لي عندك أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وضع بها عني وزرا ، واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود.

قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة ، رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجة عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه ، وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال البخاري (٢) عند تفسيرها أيضا حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة (ص) فقال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنعام : ٨٤] (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو ابن عبد الله المزني أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب (ص) فلما بلغ إلى الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا قال فقصها

__________________

(١) المسند ١ / ٣٦٠.

(٢) أخرجه البخاري في التفسير ، تفسير سورة ٣٨.

(٣) المسند ٣ / ٧٨ ، ٨٤.

٥٢

على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل يسجد بها بعد ، تفرد به أحمد ، وقال أبو داود (١) حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزّن (٢) الناس للسجود فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزّنتم» فنزل وسجدوا تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عزوجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا» (٣) وقال الإمام أحمد (٤) حدثنا يحيى بن آدم حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر» ورواه الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الأغر عن عطية به ، وقال لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته؟ فيقول الله عزوجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦)

هذه وصية من الله عزوجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله ، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مروان بن جناح حدثني إبراهيم أبو زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السجود باب ٥.

(٢) التشزّن : التأهب والتهيؤ للشيء والاستعداد له.

(٣) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٨ ، والنسائي في آداب القضاة باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠.

(٤) المسند ٣ / ٢٢.

٥٣

وفقهت فقلت يا أمير المؤمنين أقول؟ قال : قل في أمان الله ، قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام ، إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية وقال عكرمة (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا ، وقال السدي لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب وهذا القول أمشى على ظاهر الآية والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)

يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار فقط (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم ، ثم بين تعالى أنه عزوجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الإرشاد يدل على العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا ، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة.

ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول وهي الألباب جمع لب وهو العقل ، قال الحسن البصري والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى أن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل ، رواه ابن أبي حاتم.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣)

٥٤

يقول تعالى مخبرا أنه وهب لداود سليمان أي نبيا كما قال عزوجل : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) [النمل : ١٦] أي في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر. وقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عزوجل. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له يا بني ما أحسن؟ قال سكينة الله وإيمان؟ قال فما أقبح؟ قال كفر بعد إيمان قال فما أحلى ، قال روح الله بين عباده قال فما أبرد؟ قال عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض قال داود عليه‌السلام فأنت نبي.

وقوله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات قال مجاهد وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع وكذا قال غير واحد من السلف.

وقال ابن جرير (١) حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله عزوجل : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) قال كانت عشرين فرسا ذات أجنحة كذا رواه ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها وهذا أشبه ، والله أعلم ، وقال أبو داود (٢) حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها (٣) ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا يا عائشة؟» قالت رضي الله عنها بناتي ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع (٤) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا الذي أرى وسطهن؟» قالت رضي الله عنها فرس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما هذا الذي عليه؟» قالت رضي الله عنها جناحان قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «فرس له جناحان؟» قالت رضي الله عنها أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة قالت رضي الله عنها فضحك صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأيت نواجذه.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٧٨.

(٢) كتاب الأدب باب ٥٤.

(٣) السهودة : بيت صغير منحدر في الأرض قليلا ، شبيه بالمخدع والخزانة ، وقيل : هو كالصفة تكون بين يدي البيت ، وقيل : شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشيء.

(٤) جناحان من رقاع : أي جناحان من جلد.

٥٥

وقوله تبارك وتعالى : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله ما صليتها» فقال : فقمنا إلى بطحان (١) فتوضأ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب (٢).

ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال ، والخيل تراد للقتال وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ، ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب لأنه قال بعده (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) قال الحسن البصري : لا ، قال : والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك ، ثم أمر بها فعقرت وكذا قال قتادة ، وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبالها.

وهذا القول اختاره ابن جرير (٣) قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله عزوجل ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن

__________________

(١) بطحان : واد بالمدينة.

(٢) أخرجه البخاري في المواقيت باب ٣٦ ، ٣٩ ، والخوف باب ٤ ، والمغازي باب ٢٩ ، ومسلم في المساجد حديث ٢٠٩ ، والترمذي في الصلاة باب ١٨ ، والنسائي في السهو باب ١٠٥.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٥٧٩.

(٤) المسند ٥ / ٧٨ ، ٧٩.

٥٦

أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عزوجل وقال : «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عزوجل خيرا منه».

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم يعني شيطانا (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته. قال ابن جرير (١) ، وكان اسم ذلك الشيطان صخرا قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل أصروا قاله مجاهد أيضا وقيل حبقيق قاله السدي وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة.

وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد ، قال فطلب ذلك فلم يقدر عليه فقيل إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماءها وجعل فيها خمرا فجاء يوم ورده فإذا هو بالخمر فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم (٢) وتزيدين الجاهل جهلا ، قال ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا ، قال ثم شربها حتى غلب على عقله قال فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل ، قال وكان ملكه في خاتمه فأتى به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بألماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام ، وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٥٨٠.

(٢) تصبين الحليم : أي تجعلينه يفعل فعل أهل اللهو والجهل.

٥٧

أشياء حتى قالوا لقد فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة فقال والله لأجربنه قال : فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى عليه بأسا قال : لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال هو الشيطان صخر (١).

وقال السدي (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي ابتلينا سليمان (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال شيطانا جلس على كرسيه أربعين يوما قال كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهم يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمة ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء ، فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت : ألم تأخذه قبل؟ قال : لا وخرج وكأنه تائه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاؤوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوراة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فاستطعمهم من صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصى فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه زعم أنه سليمان ، قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فردّ الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الأمر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حبقيق (٢) قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٥٨٠ ـ ٥٨١.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٥٨٠ ـ ٥٨١.

٥٨

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال شيطانا يقال له آصف فقال له سليمان عليه الصلاة والسلام كيف تفتنون الناس؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان عليه الصلاة والسلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهنّ ولم يقربنه وأنكرنه. قال : فكان سليمان عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوما حوتا ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر فارا (١). وهذه كلها من الإسرائيليات ، ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم :

حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا : حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان عليه‌السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت أعطيته سليمان قال أنا سليمان قال كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة.

فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عزوجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن : أتنكرن من سليمان شيئا ، قلن نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته ، وكان سليمان عليه‌السلام يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال : تحمل لي هذا السمك؟ فقال نعم قال بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة والسلام السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا بالخاتم في جوفها فأخذه فلبسه.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٨٠.

٥٩

قال فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه الصلاة والسلام في طلبه وكان شيطانا مريدا فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاؤوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثيب في مكان من البيت إلا انماط معه الرصاص ، قال فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سدّ بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) قال : يعني الشيطان الذي كان سلط عليه ، إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه ، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عزوجل منه تشريفا وتكريما لنبيه عليه‌السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني : وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعا لله عزوجل ، رواه ابن أبي حاتم. وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال حدثنا أبي رحمه‌الله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية : يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شيء هو ، فقال كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مرصعا بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ ، وقد جعل له درجة منها مفصّصة بالدر والياقوت والزبرجد عن ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ ، وجعل على رؤوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسورا من ذهب مقابلة الطواويس ، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتا صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدان من ذهب وعلى رؤوس الأسدين عمودان من زبرجد ، وجعل من جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر.

ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا ، فإذا أراد سليمان عليه‌السلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع منبران من

٦٠