تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

وقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب ، وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال البخاري رحمه‌الله : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الناس أكرم؟ قال : «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : «فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : «فعن معادن العرب تسألوني»؟ قالوا : نعم. قال : «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» (١) وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان ، ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به.

[حديث آخر] قال مسلم رحمه‌الله : حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا كثير بن هشام ، حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (٢) ورواه ابن ماجة عن أحمد بن سنان عن كثير بن هشام به.

[حديث آخر] وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله» تفرد به أحمد رحمه‌الله.

[حديث آخر] وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة ، حدثنا عبيد بن حنين الطائي ، سمعت محمد بن حبيب بن خراش العصري يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى».

[حديث آخر] قال أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي ، حدثنا الحسن بن الحسين ، حدثنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة ، عن المستظل بن حصين عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان» (٤). ثم قال لا نعرفه

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١٤ ، ١٩ ، وتفسير سورة ١٢ ، باب ٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٦٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٣١.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ٣٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٨٥ ، ٥٣٩.

(٣) المسند ٥ / ١٥٨.

(٤) الجعلان ، جمع جعل : دويبة صغيرة.

٣٦١

عن حذيفة إلا من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا القطان ، حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن (١) في يده ، فما وجد لها مناخا في المسجد حتى نزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أيدي الرجال ، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : «يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى ، إن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ـ ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» هكذا رواه عبد بن حميد عن أبي عاصم الضحاك عن مخلد عن موسى بن عبيدة به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد ، كلكم بنو آدم طف الصاع (٣) لم يملؤوه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى ، وكفى بالرجل أن يكون بذيا بخيلا فاحشا». وقد رواه ابن جرير (٤) عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة به ولفظه «الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملؤوه ، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة زوج درة بنت أبي لهب ، عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت : قام رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله عزوجل ، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم».

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود عن

__________________

(١) المحجن : عصا معقوفة الرأس.

(٢) المسند ٤ / ١٥٨.

(٣) طف الصاع : أي قريب بعضكم من بعض.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٣٩٩.

(٥) المسند ٦ / ٤٣٢.

(٦) المسند ٦ / ٦٩.

٣٦٢

القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما أعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى ، تفرد به أحمد.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي عليم بكم خبير بأموركم ، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ويرحم من يشاء ، ويعذب من يشاء ، ويفضل من يشاء على من يشاء ، وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الآحاديث الشريفة من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ولا يشترط سوى الدين لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في (كتاب الأحكام) ولله الحمد والمنة ، وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول : أنا أولى الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال غيره : أنا أولى به منك ولك منه نسبة.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨)

يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال : أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا ، فقال سعد رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا ، وهو مؤمن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو مسلم؟ حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أو مسلم؟ ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم ، فلا أعطيه شيئا

__________________

(١) المسند ١ / ١٧٦.

٣٦٣

مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم» (١) أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به ، فقد فرق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المؤمن والمسلم ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام ، وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا لأنه تركه من العطاء ، ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير (٢). وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه‌الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك.

وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة : نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة ، وإنما قيل لهؤلاء تأديبا : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. ثم قال تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي لا ينقصكم من أجوركم (شَيْئاً) كقوله عزوجل : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب إليه وأناب.

وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما المؤمنون الكمل (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هي التصديق المحض (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون ، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٩ ، ومسلم في الإيمان باب ٢٣٧.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٤٠٠.

(٣) المسند ٣ / ٨.

٣٦٤

عزوجل» وقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرونه بما في ضمائركم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

ثم قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) يعني الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول الله تعالى ردا عليهم : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار يوم حنين : «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟» كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن (١).

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن قيس عن أبي عون ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم تقاتلك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم. ونزلت هذه الآية (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم قال : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) آخر تفسير سورة الحجرات ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٥٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٢.

٣٦٥

تفسير سورة ق

وهي مكية

وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات. وأما ما يقوله العامة إنه من (عم) فلا أصل له ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم.

والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه باب تحزيب القرآن ثم قال : حدثنا مسدد ، حدثنا قران بن تمام ، وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، سليمان بن حيّان ، وهذا لفظه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده ، قال عبد الله بن سعيد : حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال : قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد ثقيف ، قال فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، وأنزل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني مالك في قبة له ، قال مسدد : وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقيف ، قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا ، قال أبو سعيد ، قائما على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام ، فأكثر ما يحدثنا بهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لقي من قومه قريش ثم يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا سواء وكنا مستضعفين مستذلين ـ قال مسدد بمكة ـ فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالا بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا» فلما كانت ليلة أبطأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلنا : لقد أبطأت علينا الليلة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «إنه طرأ على حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» (١). قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا : ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة. وحزب المفصل وحده ، ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر به ، ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عبد الرحمن هو ابن يعلى الطائفي به. إذا علم هذا فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة ق. بيانه ثلاث : البقرة وآل عمران والنساء. وخمس : المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة. وسبع : يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل. وتسع : سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان. وإحدى عشرة : الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس. وثلاث عشرة : الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم. فتعين أن أوله سورة ق. وهو الذي قلنا ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في رمضان باب ٩ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ٩.

٣٦٦

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العيد؟ قال : بقاف واقتربت (٢) ، ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به. وفي رواية لمسلم عن فليح عن ضمرة عن عبيد الله عن أبي واقد قال : سألني عمر رضي الله عنه ، فذكره.

[حديث آخر] وقال أحمد (٣) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن أم هشام بنت حارثة قالت : لقد كان تنورنا وتنور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا على لسان رسول الله ، وكان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس (٤) ، رواه مسلم من حديث ابن إسحاق به. وقال أبو داود : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن خبيب عن عبد الله بن محمد بن معن عن ابنة الحارث بن النعمان قالت ما حفظت (ق) إلا من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب بها كل جمعة. قالت : وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة به ، والقصد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع لاشتمالها على ابتداء الخلق ، والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب ، والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب ، والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥)

(ق) : حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى : (ص) ـ (ن) ـ (الم) ـ (حم) ـ (طس) ونحو ذلك ، قاله مجاهد وغيره وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ، وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا : (ق) جبل

__________________

(١) المسند ٥ / ٢١٧ ، ٢١٨.

(٢) أخرجه مسلم في صلاة العيدين حديث ١٤ ، ١٥ ، والترمذي في الجمعة باب ٣٣ ، والنسائي في العيدين باب ١٢ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٥٧.

(٣) المسند ٦ / ٤٣٥ ، ٤٣٦.

(٤) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٤٥.

٣٦٧

محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف ، وكأن هذا ، والله أعلم ، من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب ، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افترى في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما بالعهد من قدم فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل كتب الله وآياته ، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : «وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (١) فيما قد يجوزه العقل ، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل ، والله أعلم.

وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة ، حتى أن الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، رحمة الله عليه ، أورد هاهنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال : حدثنا أبي قال : حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي ، حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ، ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلا يقال له (ق) ، السماء الدنيا مرفوفة عليه (٢) ، ثم خلق الله تعالى من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ، ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له (ق) السماء الثانية مرفوفة عليه ، حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سموات ، قال وذلك في قوله تعالى : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ، والذي رواه علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزوجل (ق) هو اسم من أسماء الله عزوجل والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى : (ص) ـ (ن) ـ (حم) ـ (طس) ـ (الم) ونحو ذلك ، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل : المراد قضي الأمر والله ، وأن قوله جل ثناؤه (ق) قال : دلت على المحذوف من بقية الكلم كقول الشاعر : [الرجز]

قلت لها قفي فقالت قاف (٣)

وفي هذا التفسير نظر لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٥٠ ، وأبو داود في العلم باب ١١ ، والترمذي في العلم باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٥٩ ، ١٠٢ ، ٢١٤ ، ٤٧٤ ، ٥٠٢ ، ٣ / ٤٦ ، ٥٦.

(٢) مرفوفة عليه : أي مسقوفة عليه.

(٣) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (وقف) وتهذيب اللغة ١٥ / ٦٧٩ ، وتاج العروس (سين). وتفسير الطبري ١١ / ٤٠٦.

٣٦٨

يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟ وقوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي الكريم العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) وفي هذا نظر بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه ، وإن لم يكن القسم ملتقي لفظا ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] وهكذا قال هاهنا : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر ، كقوله جل جلاله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس : ٢] أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.

ثم قال عزوجل مخبرا عنهم في تعجبهم أيضا من المعاد واستبعادهم لوقوعه (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي يقولون أإذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا ترابا ، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟ (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي بعيد الوقوع. ومعنى هذا أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه. قال الله تعالى رادا عليهم : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي حافظ لذلك فالعلم شامل والكتاب أيضا فيه كل الأشياء مضبوطة. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم ، وعظامهم وأشعارهم (١) ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم ، ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل ، والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٨ ـ ٩].

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٠٧.

٣٦٩

يقول تعالى منبها للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) أي بالمصابيح (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) قال مجاهد : يعني من شقوق ، وقال غيره : فتوق ، وقال غيره : صدوع ، والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٣ ـ ٤] أي كليل عن أن يرى عيبا أو نقصا.

وقوله تبارك وتعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي وسعناها وفرشناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) وهي الجبال لئلا تميد بأهلها وتضطرب ، فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩] وقوله (بَهِيجٍ) أي حسن نضر (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي ومشاهدة خلق السموات والأرض وما جعل الله فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة (وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي خاضع خائف وجل رجاع إلى الله عزوجل.

وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) أي نافعا (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) أي حدائق من بساتين ونحوها (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي طوالا شاهقات ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وغيرهم : الباسقات الطوال (١) (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي منضود (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي للخلق (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) وهي الأرض التي كانت هامدة ، فلما نزل الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك ، مما يحار الطرف في حسنها ، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء ، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ، كذلك يحيي الله الموتى وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث ، كقوله عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣] وقال سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت : ٣٩].

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ(١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤١١.

٣٧٠

يقول تعالى مهددا لكفار قريش ، بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم ، من النقمات والعذاب الأليم في الدنيا كقوم نوح وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع أهل الأرض وأصحاب الرس ، وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان (وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور ، وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض ، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق. (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو اليماني ، وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والشكر.

(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسوله ، ومن كذب رسولا فكأنما كذب جميع الرسل كقوله جل وعلا : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] وإنما جاءهم رسول واحد فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال ، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك. وقوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه كما قال عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال الله جل جلاله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٨ ـ ٧٩] وقد تقدم في الصحيح «يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يقول لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢)

يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأنه خالقه وعلمه محيط بجميع أموره ، حتى أنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل» (١) وقوله عزوجل : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأيمان باب ١٥ ، ومسلم في الأيمان حديث ٢٠١ ، ٢٠٢ ، وأبو داود في الطلاق باب ١٥ ، والترمذي في الطلاق باب ٨ ، والنسائي في الطلاق باب ٢٢ ، وابن ماجة في الطلاق باب ١٤ ، ١٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٩٨ ، ٤٢٥ ، ٤٧٤ ، ٤٨١ ، ٤٩١.

٣٧١

إليه ، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد وهما منفيان بالإجماع ، تعالى الله وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) كما قال في المحتضر (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [الواقعة : ٨٥] يعني ملائكته.

وكما قال تبارك وتعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عزوجل ، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك. فللملك لمة في الإنسان كما أن للشيطان لمة (١) ، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (٢) ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى هاهنا : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) يعني الملكين الذين يكتبان عمل الإنسان.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي مترصد (ما يَلْفِظُ) أي ابن آدم (مِنْ قَوْلٍ) أي ما يتكلم بكلمة (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١٢] وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام. وهو قول الحسن وقتادة ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، فعلى قولين وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

وقد قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزوجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه» (٤) قال : فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث ، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث محمد بن عمرو به ، وقال الترمذي : حسن صحيح وله شاهد في الصحيح.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢ ، باب ٢٥.

(٢) أخرجه البخاري في الأحكام باب ٢١ ، وبدء الخلق باب ١١ ، والاعتكاف باب ١١ ، ١٢ ، وأبو داود في الصوم باب ٧٨ ، والسنة باب ١٧ ، والأدب باب ٨١ ، وابن ماجة في الصيام باب ٦٥ ، والدارمي في الرقاب باب ٦٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥ ، ٣٠٩ ، ٦ / ٣٣٧.

(٣) المسند ٣ / ٤٦٩.

(٤) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٣ ، والترمذي في الزهد باب ١٢ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٢ ، ومالك في الكلام باب ٥.

٣٧٢

وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمير على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال له أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة فعند ذلك يقول تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ثم يقول : عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره ، وذلك قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال يكتب الملك كل شيء حتى الأنين فلم يئن أحمد حتى مات رحمه‌الله. وقوله تبارك وتعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يقول عزوجل : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص.

وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو ، وقيل الكافر ، وقيل غير ذلك ، وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان ، أخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه ، عن جده علقمة بن وقاص قال : إن عائشة رضي الله عنها قالت : حضرت أبي رضي الله عنه وهو يموت ، وأنا جالسة عند رأسه فأخذته غشية ، فتمثلت ببيت من الشعر :

من لا يزال دمعه مقنّعا

فإنه لا بدّ مرّة مدقوق (١)

__________________

(١) الرواية عند ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث ٤ / ١١٥.

من لا يزال دمعه مقنّعا

لا بدّ يوما أن يهراق

هكذا ورد ، وتصحيحه :

من لا يزال دمعه مقنّعا

لا بدّ يوما أنّه يهراق

وهو من الضرب الثاني من بحر الرجز ، ورواه بعضهم : ـ

٣٧٣

قالت : فرفع رضي الله عنه رأسه فقال : يا بنية ليس كذلك ولكن كما قال الله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وحدثنا خلف بن هشام ، حدثنا أبو شهاب الخياط عن إسماعيل بن أبي خالد عن البهي قال : لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت : [الطويل]

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (١)

فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه : ليس كذلك ، ولكن قولي (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وقد أوردت لهذا الأثر طرقا كثيرة في سيرة الصديق رضي الله عنه عند ذكر وفاته ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : «سبحان الله إن للموت لسكرات» (٢) وفي قوله : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) قولان : [أحدهما] أن ما هاهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتنأى وتفر قد حل بك ونزل بساحتك [والقول الثاني] أن «ما» نافية بمعنى ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه وقد قال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا حفص عن ابن عمر الحدي ، حدثنا معاذ بن محمد الهذلي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره فقالت له الأرض يا ثعلب ديني ، فخرج وله حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات» ومضمون هذا المثل كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض ، كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت.

وقوله تبارك وتعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق والبعث ، وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له» قالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل» فقال القوم : حسبنا الله

__________________

 ـ ومن لا يزال الدّمع فيه مقنّعا

فلا بدّ يوما أنه مهراق

وهو من الضرب الثالث من الطويل ، فسّروا المقنع بأنه المحبوس في جوفه» ، وكذلك الرواية في النهاية في غريب الحديث للزمخشري ٣ / ١٢٨.

(١) البيت لحاتم الطائي في ديوانه ص ١٩٩ ، والأغاني ١٧ / ٢٩٥ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٣٤ ، ١١٣٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢١٢ ، والدرر ١ / ٢١٥ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٥٢ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٦١ ، ولسان العرب (قرن) ، وأساس البلاغة (حشر) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حشرج) ، وهمع الهوامع ١ / ٦٥ ، والرواية في ديوان حاتم الطائي «أماويّ» بدل «لعمرك».

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٢ ، والترمذي في الجنائز باب ٧ ، وابن ماجة في الجنائز باب ٦٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٦٤ ، ٧٠ ، ٧٧ ، ١٥١.

٣٧٤

ونعم الوكيل.

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ، وهو اختيار ابن جرير ثم روي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يحيى بن رافع مولى لثقيف قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) فقال سائق يسوقها إلى الله تعالى وشاهد يشهد عليها بما عملت ، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد. وقال مطرف عن أبي جعفر مولى أشجع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : السائق الملك والشهيد العمل ، وكذا قال الضحاك والسدي ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : السائق من الملائكة والشهيد الإنسان نفسه ، يشهد على نفسه ، وبه قال الضحاك بن مزاحم أيضا.

وحكى ابن جرير (١) ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [أحدها] أن المراد بذلك الكافر ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان. [والثاني] أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة ، والدنيا كالمنام ، وهذا اختيار ابن جرير ، ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما. [والثالث] أن المخاطب بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبه يقول زيد بن أسلم وابنه ، والمعنى على قولهما : لقد كنت في غفلة من هذا الشأن قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك فبصرك اليوم حديد.

والظاهر من السياق خلاف هذا بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) يعني من هذا اليوم (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي قوي لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا حتى الكفار في الدنيا ، يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك ، قال الله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨]. وقال عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢].

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩)

يقول تعالى مخبرا عن الملك الموكل بعمل ابن آدم أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٤٢٠.

٣٧٥

ويقول : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي معتمد محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد : هذا كلام الملك السائق ، يقول ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته وقد اختار ابن جرير أنه يعم السائق والشهيد ، وله اتجاه وقوة ، فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) وقد اختلف النحاة في قوله : (أَلْقِيا) فقال بعضهم هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية كما روي عن الحجاج أنه كان يقول يا حرسي اضربا عنقه ، ومما أنشد ابن جرير (١) على هذه قول الشاعر : [الطويل]

فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر

وإن تتركاني أحم عرضا ممنّعا (٢)

وقيل : بل هي نون التأكيد سهلت إلى الألف ، وهذا بعيد لأن هذا إنما يكون في الوقف ، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد ، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب ، فلما أدى الشهيد عليه أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم ، وبئس المصير (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) أي كثير الكفر والتكذيب بالحق عنيد معاند للحق ، معارض له بالباطل مع علمه بذلك (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة (مُعْتَدٍ) أي فيما ينفقه ويصرفه يتجاوز فيه الحد.

وقال قتادة : معتد في منطقه وسيره وأمره (مُرِيبٍ) أي شاك في أمره مريب لمن نظر في أمره (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي أشرك بالله فعبد معه غيره (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) وقد تقدم في الحديث أن عنقا من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق : إني وكلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، وبالمصورين (٣) ، ثم تلوى عليهم ، قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا معاوية هو ابن هشام ، حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، ومن قتل نفسا بغير نفس فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم».

(قالَ قَرِينُهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو الشيطان الذي وكل به (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافرا يتبرأ منه شيطانه فيقول : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أي ما أضللته (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي بل كان هو في نفسه ضالا قابلا للباطل معاندا للحق ، كما أخبر سبحانه وتعالى في الآية الأخرى في قوله: (وَقالَ

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٤٢٢.

(٢) البيت لسويد بن كراع العكلي في لسان العرب (جزز) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٢٣٩ ، وتاج العروس (جزز) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٨٣٩ ، والمخصص ٢ / ٥.

(٣) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٦.

(٤) المسند ٣ / ٤٠.

٣٧٦

الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].

وقوله تبارك وتعالى : (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) يقول الرب عزوجل للإنسي وقرينه من الجن ، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى ، فيقول الإنسي يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، ويقول الشيطان : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي عن منهج الحق ، فيقول الرب عزوجل لهما : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي عندي (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) قال مجاهد : يعني قد قضيت ما أنا قاض (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لست أعذب أحدا إلا بذنب أحد ولكن لا أعذب أحد إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥)

يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة : هل امتلأت؟ وذلك أنه تبارك وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين ، فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر في سياق الآية وعليه تدل الأحاديث.

قال البخاري (١) عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثني حرمي بن عمارة ، حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟» حتى يضع قدمه فيها فتقول : قط قط».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وعزتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة» (٣) ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه ، ورواه أبان العطار وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه.

__________________

(١) تفسير سورة ٥٠ ، باب ١.

(٢) المسند ٣ / ٢٣٤.

(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٣٨.

٣٧٧

[حديث آخر] قال البخاري (١) : حدثنا محمد بن موسى القطان ، حدثنا أبو سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي ، حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان : «يقال لجهنم هل امتلأت ، وتقول هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط» ورواه أبو أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين به.

[طريق أخرى] قال البخاري (٢) : وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عزوجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عزوجل من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله عزوجل ينشئ لها خلقا آخر».

[حديث آخر] قال مسلم (٣) في صحيحه. حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتجت الجنة والنار فقالت النار : فيّ الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم فقضي بينهما فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» انفرد به مسلم دون البخاري من هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقد رواه الإمام أحمد (٤) من طريق أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه بأبسط من هذا السياق فقال : حدثنا حسن وروح قالا : حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف ، وقالت الجنة أي رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ، وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد ، قال ويلقى فيها وتقول هل من مزيد ، ويلقى فيها وتقول هل من مزيد ، حتى يأتيها عزوجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني (٥) ، وأما الجنة فيبقى

__________________

(١) كتاب التفسير تفسير سورة ٥٠ ، باب ١ ، وأخرجه الترمذي في الجنة باب ٢٠.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٠ ، باب ١.

(٣) كتاب الجنة حديث ٣٤ ، ٣٥.

(٤) المسند ٣ / ١٣.

(٥) قدني ، قدني : أي حسبي ، حسبي.

٣٧٨

فيها ما شاء تعالى أن يبقى فينشئ الله سبحانه وتعالى لها خلقا ما يشاء».

[حديث آخر] وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثني عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس ، حدثنا عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة ، فأسجد سجدة يرضى بها عني ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم ، فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود الخيل ، حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال ، وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وأنا على الحوض» قيل : وما الحوض يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ، وأبرد من الثلج. وأطيب ريحا من المسك ، وآنيته أكثر من عدد النجوم لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا ولا يصرف فيروى أبدا» (١) وهذا القول هو اختيار ابن جرير.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الحماني عن نضر الخزاز عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال : ما امتلأت قال تقول وهل فيّ من مكان يزاد في ، وكذا رواه الحاكم بن أبان عن عكرمة (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) وهل في مدخل واحد قد امتلأت. قال الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدا يقول : لا يزال يقذف فيها حتى تقول قد امتلأت فتقول : هل من مزيد ، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا فعند هؤلاء أن قوله تعالى : (هَلِ امْتَلَأْتِ) إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذ هل بقي في مزيد يسع شيئا؟ قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) قال قتادة وأبو مالك والسدي (وَأُزْلِفَتِ) أدنيت وقربت من المتقين (غَيْرَ بَعِيدٍ) وذلك يوم القيامة ، وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي راجع تائب مقلع (حَفِيظٍ) أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه ، وقال عبيد بن عمير : الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلسا فيقوم حتى يستغفر الله عزوجل (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عزوجل كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ورجل ذكر الله تعالى خاليا ، ففاضت عيناه»(٢).

(وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي ولقي الله عزوجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٦ / ١٢٧ ، ١٢٨.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ٣٦ ، والزكاة باب ١٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ٩١ ، والترمذي في الزهد باب ٥٣ ، ومالك في الشعر حديث ١٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٣٩.

٣٧٩

(ادْخُلُوها) أي الجنة (بِسَلامٍ) قال قتادة سلموا من عذاب الله عزوجل ، وسلم عليهم ملائكة الله ، وقوله سبحانه وتعالى : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبدا ، ولا يظعنون أبدا ولا يبغون عنها حولا ، وقوله جلت عظمته : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال : من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ماذا تريدون فأمطره لكم؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم ، قال كثير : لئن أشهدني الله تعالى ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات.

وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا» وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن عامر الأحول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة» (٢) ورواه الترمذي وابن ماجة عن بندار عن معاذ بن هشام به. وقال الترمذي حسن غريب وزاد : كما يشتهي.

وقوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) كقوله عزوجل : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عزوجل : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قال : يظهر لهم الرب عزوجل في كل جمعة.

وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعا فقال في مسنده : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عمير أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة (٣) إلى رسول الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذه؟» فقال : هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك ، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير ، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن ، يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا جبريل وما يوم المزيد؟» قال عليه‌السلام : إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس واديا أفيح (٤) فيه كثب المسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من

__________________

(١) المسند ٣ / ٩.

(٢) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٢٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٩ ، والدارمي في الرقاق باب ١١٠.

(٣) النكتة : هي الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه.

(٤) الوادي الأفيح : الواسع.

٣٨٠