تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

ربنا نكذب فلك الحمد ، فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧] وما أشبه ذلك من الآيات.

وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة ، وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله تعالى لها خلقا أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحا ، وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة ، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة ، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة ، وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٤] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة ، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها ، ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا.

ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضا عن الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم ، وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل عليها ، ثم قال مخبرا عنهم (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي لا يجيرهم منه أحد (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب ، ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفودا وفودا كما تقدم بيانه ، ولله الحمد والمنة والله أعلم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥)

يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي ولم يكرثه (١) خلقهن بل قال لها كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة خائفة وجلة ، أفليس ذلك بقادر

__________________

(١) لم يكرثه : أي لم يشتد عليه ولم يبلغ منه المشقة.

٢٨١

على أن يحيي الموتى؟ كما قال عزوجل في الآية الأخرى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] ولهذا قال تعالى : (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ثم قال جل جلاله مهددا ومتوعدا لمن كفر به (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي يقال لهم أما هذا حق أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي لا يسعهم إلا الاعتراف (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ثم قال تبارك وتعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال وأشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى ، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل فتكون (من) في قوله (مِنَ الرُّسُلِ) لبيان الجنس ، والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي ، حدثنا السري بن حيان ، حدثنا عباد بن عباد ، حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ظل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال : «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله. (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كقوله تبارك وتعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١] وكقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) كقوله جل وعلا : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] وكقوله عزوجل : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [يونس : ٤٥] الآية. وقوله جل وعلا : (بَلاغٌ). قال ابن جرير (١) يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون تقديره ، وذلك لبث بلاغ ، والآخر أن يكون تقديره هذا القرآن بلاغ. وقوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي لا يهلك على الله إلا هالك ، وهذا من عدله عزوجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب ، والله أعلم.

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٠٣.

٢٨٢

سورة محمد

وهي مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣)

يقول تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بآيات الله (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ثم قال جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وسرائرهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) عطف خاص على عام وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه. وقوله وتبارك تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة حسنة ولهذا قال جل جلاله : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي أمرهم. وقال مجاهد : شأنهم. وقال قتادة وابن زيد : حالهم والكل متقارب. وقد جاء في حديث تشميت العاطس «يهديكم الله ويصلح بالكم» (١).

ثم قال عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) أي إنما أبطلنا أعمال الكفار. وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شؤونهم لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل أي اختاروا الباطل على الحق (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ(٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ١٢٦ ، وأبو داود في الأدب باب ٩١ ، والترمذي في الأدب باب ٣ ، وابن ماجة في الأدب باب ٢٠ ، والدارمي في الاستئذان باب ٣.

٢٨٣

يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أهلكتموهم قتلا (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه ، والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ، ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل يومئذ فقال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : ٦٧ ـ ٦٨] ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه منسوخة بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وقال الآخرون وهم الأكثرون : ليست منسوخة ، ثم قال بعضهم : إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله.

وقال آخرون منهم : بل له أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر. وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال له : «ما عندك يا ثمامة؟» فقال إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت (١). وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال : الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضا ، وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا «الأحكام» ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.

وقوله عزوجل : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام (٢) ، وكأنه أخذه من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال» (٣). وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن إبراهيم بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال : إن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إني سيبت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها وقلت : لا قتال ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الآن جاء القتال لا تزال

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٦٣٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣٠٨.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٤.

(٤) المسند ٤ / ١٠٤.

٢٨٤

طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام ، فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (١) وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به.

وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : لما فتح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتح قالوا يا رسول الله سيبت الخيل ووضعت السلاح ووضعت الحرب أوزارها قالوا لا قتال قال : «كذبوا الآن جاء القتال ، لا يزال الله تعالى يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله ، وهم على ذلك وعقر دار المسلمين بالشام». وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به ، والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم ، وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب. وقال قتادة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى لا يبقى شرك ، وهذا كقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [الأنفال : ٣٩]. ثم قال بعضهم : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عزوجل ، وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى. وقوله عزوجل : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو أخباركم كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢].

وقال تبارك وتعالى في سورة براءة : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ١٤ ـ ١٥] ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها.

ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد(٢) في مسنده حيث قال : حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي ـ رجل كانت له صحبة ـ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يعطى الشهيد ست خصال : عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من

__________________

(١) أخرجه النسائي في الخيل باب ٧.

(٢) المسند ٤ / ٢٠٠.

٢٨٥

الجنة ، ويزوج من الحور العين ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإيمان» تفرد به أحمد رحمه‌الله.

[حديث آخر] قال أحمد (١) أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج الحور العين ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه» (٢). وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يغفر للشهيد كل شيء إلا الدّين» (٣) وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته» (٤) ورواه أبو داود والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدا.

وقوله تبارك وتعالى : (سَيَهْدِيهِمْ) أي إلى الجنة كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يونس : ٩]. وقوله عزوجل (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي أمرهم وحالهم (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي عرفهم بها وهداهم إليها. قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا (٥) ، وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا ، وقال محمد بن كعب : يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل بن حيان : بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة ، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه ، ذكره ابن أبي حاتم رحمه‌الله.

وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل

__________________

(١) المسند ٤ / ١٣١.

(٢) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب ٢٥ ، والدارمي في فضائل القرآن باب ١٥ ، وابن ماجة في الجهاد.

(٣) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١١٩.

(٤) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٢٦.

(٥) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣١٠.

٢٨٦

الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار ، يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا» (١).

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) كقولهعزوجل : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى : (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) كما جاء في الحديث «من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة» ثم قال تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ثبت الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القطيفة ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!» (٢) أي فلا شفاه الله عزوجل. وقوله سبحانه وتعالى : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أحبطها وأبطلها ، ولهذا قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي لا يريدونه ولا يحبونه (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) (١٣)

يقول تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يعني المشركين بالله المكذبين لرسوله (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم ، أي ونجى المؤمنين من بين أظهرهم ، ولهذا قال تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها).

ثم قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد ، حين سأل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب وقال : أما هؤلاء فقد هلكوا ، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : كذبت يا عدو الله بل أبقى الله تعالى لك ما يسوؤك ، وإن الذين عددت لأحياء ، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر ، والحرب سجال ، أما إنكم ستجدون مثلة (٣) لم آمر بها ، ولم تسوؤني ، ثم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٨.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٨.

(٣) مثل بفلان مثلا ومثلة ، بالضم : نكّل به ، ومثل بالقتيل : إذا جدع أنفه أو أذنه ، أو مذاكيره ، أو شيئا من أطراقه.

٢٨٧

ذهب يرتجز ويقول : اعل هبل اعل هبل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تجيبوه؟» فقالوا : يا رسول الله وما نقول قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولوا : «الله أعلى وأجل» ثم قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تجيبوه؟» قالوا : وما نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا : «الله مولانا ولا مولى لكم» (١).

ثم قال سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضما وقضما ، وليس لهم همة إلا في ذلك ، ولهذا ثبت في الصحيح «المؤمن يأكل في معىّ واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» (٢) ثم قال تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي يوم جزائهم ، وقوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) يعني مكة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو سيد المرسلين وخاتم الأنبياء ، فإذا كان الله عزوجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم ، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) [هود : ٢٠].

وقوله تعالى : (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي الذين أخرجوك من بين أظهرهم. وقال ابن أبي حاتم : ذكر أبي عن محمد بن عبد الأعلى عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال فالتفت إلى مكة وقال : «أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إلي ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذحول (٣) الجاهلية ، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ).

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٦٤ ، والمغازي باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٩٣.

(٢) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ١٢ ، ومسلم في الأشربة حديث ١٨٢ ـ ١٨٦ ، والترمذي في الأطعمة باب ٢٠ ، وابن ماجة في الأطعمة باب ٣ ، والدارمي في الأطعمة باب ١٣ ، ٢٠ ، ومالك في صفة النبي حديث ٩ ، ١٠.

(٣) الذحول ، جمع ذحل : الأحقاد والعداوات.

٢٨٨

كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)

يقول تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على بصيرة ويقين من أمر الله ودينه بما أنزل في كتابه من الهدى والعلم ، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي ليس هذا كهذا ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] وكقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] ثم قال عزوجل (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) قال عكرمة (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي نعتها (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة : يعني غير متغير (١). وقال قتادة والضحاك وعطاء الخراساني : غير منتن ، والعرب تقول : أسن الماء إذ تغير ريحه ، وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم : غير آسن يعني الصافي الذي لا كدر فيه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : قال عبد الله رضي الله عنه : أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك.

(وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة ، وفي حديث مرفوع «لم يخرج من ضروع الماشية» (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٧] (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ١٩] (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [الصافات : ٤٦] وفي حديث مرفوع «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وهو في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح. وفي حديث مرفوع «لم يخرج من بطون النحل».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الجريري عن حكيم بن معاوية عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها بعد» ورواه الترمذي (٣) في صفة الجنة عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي إياس الجريري وقال : حسن صحيح. وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه الأنهار تشخب (٤) من جنة عدن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) المسند ٥ / ٥.

(٣) كتاب صفة الجنة باب ٢٧.

(٤) تشخب : تسيل.

٢٨٩

في جوبة (١) ثم تصدع بعد أنهارا» (٢) وفي الصحيح «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن» (٣).

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصقر السكري قالا : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة ، حدثني عبد الرحمن بن عياش عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم ، وحدثنيه أيضا أبي الأسود عن عاصم بن لقيط قال : إن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت : يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم: «على أنهار عسل مصفى ، وأنهار من خمر ما بها من صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله ، وأزواج مطهرة» قلت : يا رسول الله أولنا فيها زوجات مصلحات؟ قال «الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم ، غير أن لا توالد» (٤) وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا يعقوب بن عبيدة عن يزيد بن هارون ، أخبرني الجريري عن معاوية بن قرة عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض ، حافاتها قباب اللؤلؤ وطينها المسك الأذفر (٥) ، وقد رواه أبو بكر بن مردويه من حديث مهدي بن حكيم عن يزيد بن هارون به مرفوعا.

وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) كقوله عزوجل : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان : ٥٥] وقوله تبارك وتعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] وقوله سبحانه وتعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي مع ذلك كله. وقوله سبحانه وتعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي هؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء ، أي ليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي حارا شديد الحر لا يستطاع (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ـ عياذا بالله تعالى من ذلك.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ

__________________

(١) الجوبة : الحضرة المستديرة الواسعة.

(٢) أخرجه الدارمي في الرقاب باب ١٠١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤١٦.

(٣) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٤ ، والترمذي في صفة الجنة باب ٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٥.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٣ ، ١٤.

(٥) المسك الأذفر : هو المسك الجيد النوعية.

٢٩٠

عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩)

يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم ، حيث كانوا يجلسون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستمعون كلامه فلا يفهمون منه شيئا فإذا خرجوا من عنده (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الصحابة رضي الله عنهم (ما ذا قالَ آنِفاً) أي الساعة. لا يعقلون ما قال ولا يكترثون له. قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح. ثم قال عزوجل : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) أي والذين قصدوا الهداية وفقهم الله تعالى لها فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي وهم غافلون عنها (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي أمارات اقترابها كقوله تبارك وتعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) [النجم : ٥٦ ـ ٥٧] وكقوله جلت عظمته : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] وقوله سبحانه وتعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقوله جل وعلا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] فبعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة ، لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى به الدين وأقام به الحجة على العالمين.

وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمارات الساعة وأشراطها وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله ، كما هو مبسوط في موضعه. وقال الحسن البصري : بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة وهو كما قال ولهذا جاء في أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي التوبة ونبي الملحمة ، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبي (١).

وقال البخاري : حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٢) ثم قال تعالى : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣]. (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [سبأ : ٥٢].

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦١ ، باب ١ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٢٤ ، ١٢٥ ، والترمذي في الأدب باب ٦٧ ، ومالك في أسماء النبي حديث ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٥. ٤٠٤ ، ٤٠٧.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٩ ، وتفسير سورة ٧٩ باب ١ ، ومسلم في الجمعة حديث ٤٣ ، والفتن حديث ١٣٢ ، ١٣٥ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٧ ، والفتن باب ٢٥ ، والدارمي في الرقاب باب ٤٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٠٩ ، ٥ / ٩٢ ، ١٠٣ ، ١٠٨.

٢٩١

وقوله عزوجل : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله ولا يتأتى كونه آمرا بعلم ذلك ، ولهذا عطف عليه قوله عزوجل : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وفي الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي» (١). وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت» (٢) وفي الصحيح أنه قال : «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (٣).

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت عبد الله بن سرجس قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكلت معه من طعامه فقلت غفر الله لك يا رسول الله فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولك» فقلت أستغفر لك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم ولكم» وقرأ (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ثم نظرت إلى نغض كتفه (٤) الأيمن ـ أو كتفه الأيسر شعبة الذي شك ـ فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل (٥) ، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن عاصم الأحول به ، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى: حدثنا محمد بن عون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور عن أبي نصيرة عن أبي رجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما فإن إبليس قال : إنما أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون».

وفي الأثر المروي «قال إبليس وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله عزوجل : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» (٦) والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا. وقوله تبارك وتعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم كقوله تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] وكقوله سبحانه وتعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦٠] وهذا القول ذهب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٦١.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٨ ، ٢٤ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٠١.

(٣) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٣.

(٤) نغض الكتف : أعلى الكتف وقيل : هو العظم الرقيق الذي على طرفه.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٨٢.

(٦) أخرجه في المسند ٣ / ٢٩ ، ٤١ ، ٧٦.

٢٩٢

إليه ابن جريج وهو اختيار ابن جرير (١) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة ، وقال السدي متقلبكم في الدنيا ومثواكم في قبوركم ، والأول أولى وأظهر ، والله أعلم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣)

يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله عزوجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٧٧] وقال عزوجل هاهنا : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي مشتملة على حكم القتال ولهذا قال : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء ، ثم قال مشجعا لهم (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا أي في الحالة الراهنة (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي جد الحال ، وحضر القتال (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) أي خلصوا له النية (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ).

وقوله سبحانه وتعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي عن الجهاد ونكلتم عنه (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال ، وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة.

قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان ، حدثني معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوى الرحمن عزوجل فقال مه ، فقالت هذا مقام العائذ بك من

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣١٨.

٢٩٣

القطيعة فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك» (١) قال أبو هريرة رضي الله عنه : اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد به قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ). ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل ابن علية ، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (٣). أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل هو ابن علية به ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره النسأ (٥) في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه». تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيح. وقال أحمد (٦) أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إن لي ذوي أرحام ، أصل ويقطعون ، وأعفو ويظلمون ، وأحسن ويسيئون أفأكافئهم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، إذن تتركون جميعا ولكن جد بالفضل وصلهم ، فإنه لن يزال معك ظهير من الله عزوجل ما كنت على ذلك» تفرد به أحمد من هذا الوجه وله شاهد من وجه آخر.

وقال الإمام أحمد (٧) : حدثنا يعلى ، حدثنا قطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» رواه البخاري (٨). وقال أحمد (٩) : حدثنا بهز ، حدثنا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٧ ، ومسلم في البر حديث ١٦ ، وأبو داود في الأدب باب ١٣ ، والتوحيد باب ٣٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٠ ، ٣٨٢ ، ٤٠٦ ، ٤٥٥.

(٢) المسند ٥ / ٣٨.

(٣) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٣ ، والترمذي في القيامة باب ٥٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٦ ، ٣٨.

(٤) المسند ٥ / ٢٧٩.

(٥) النّسأ : أي التأخير والتأجيل.

(٦) المسند ٢ / ١٨١.

(٧) المسند ٢ / ١٦٣.

(٨) كتاب الأدب باب ١٥ ، وأخرجه أيضا أبو داود في الزكاة باب ٤٥ ، والترمذي في البر باب ١٠.

(٩) المسند ٢ / ١٨٩.

٢٩٤

حماد بن سلمة ، أخبرنا قتادة عن أبي ثمامة الثقفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل (١) تتكلم بلسان طلق ذلق (٢) ، فتقطع من قطعها وتصل من وصلها».

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ، والرحم شجنة (٤) من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها بتته» (٥) وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به ، وهذا هو الذي يروي بتسلسل الأولية (٦) وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد (٧) : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو مريض فقال له عبد الرحمن رضي الله عنه ، وصلت رحمك إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمها من اسمي ، فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته ـ أو قال ـ من بتها أبته» (٨) تفرد به أحمد (٩) من هذا الوجه ، ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري عن أبي سلمة عن الرداد ـ أو أبي الرداد ـ عن عبد الرحمن بن عوف به ، ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه ، والأحاديث في هذا كثيرة جدا.

وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عيسى ابن يونس عن الحجاج بن يونس عن الحجاج بن الفرافصة ، عن أبي عمر البصري عن سليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها

__________________

(١) حجنة المغزل : ضارته ، وهي المعوجة التي في رأسه.

(٢) لسان طلق ذلق : أي فصيح بليغ.

(٣) المسند ٢ / ١٦٠.

(٤) الشجنة : هي الشعبة في غصن من غصون الشجرة ، والمقصود أن القرابة مشتبكة كاشتباك العروق.

(٥) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٣ ، والترمذي في البر باب ١٦.

(٦) تسلسل الأولية : هو نوع من المسلسل من الحديث ، وهو ما تتابعت فيه الرواية ، وأن يقول كل راو لتلميذه : حدثني فلان وهو أول حديث سمعته.

(٧) المسند ١ / ١٩١.

(٨) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٤٥ ، والترمذي في البر باب ٩.

(٩) المسند ١ / ١٩٤.

٢٩٥

اختلف» (١) وبه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» والأحاديث في هذا كثيرة ، والله أعلم.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨)

يقول تعالى آمرا بتدبر القرآن وتفهمه وناهيا عن الإعراض عنه فقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي بل على قلوب أقفالها ، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه ، قال ابن جرير (٢) : حدثنا بشر حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد قال : حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنه قال : تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به.

ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي زين لهم ذلك وحسنه (وَأَمْلى لَهُمْ) أي غرهم وخدعهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي مالؤوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون. ولهذا قال الله عزوجل : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ما يسرون وما يخفون ، الله مطلع عليه وعالم به كقوله تبارك وتعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) [النساء : ٨١].

ثم قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠] الآية. وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٩٣] أي بالضرب (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام :

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٩٥ ، ٥٢٧.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٣٢١.

٢٩٦

٩٣] ولهذا قال هاهنا : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١)

يقول تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ، بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر ، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم ، وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم ، ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة. والأضغان : جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره.

وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) يقول عزوجل ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه ، وحملا للأمور على ظاهر السلامة وردا للسرائر إلى عالمها (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه ، وهو المراد من لحن القول كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه.

وفي الحديث «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن سلمة عن عياض بن عياض عن أبيه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : «إن منكم منافقين فمن سميت فليقم ـ ثم قال ـ قم يا فلان ، قم يا فلان قم يا فلان ـ حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال ـ إن فيكم أو منكم ـ منافقين فاتقوا الله» قال فمر عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه فقال : ما لك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بعدا لك سائر اليوم. وقوله عزوجل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب ، فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا : إلا لنعلم أي لنرى.

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٧٣.

٢٩٧

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ(٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥)

يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه ، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ، وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير ، بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات.

وقد قال الإمام أحمد بن نصر المروزي (١) في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله ذنب» كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، ثم روي من طريق عبد الله بن المبارك أخبرني بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها.

ثم أمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي بالردة ، ولهذا قال بعدها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) كقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] الآية.

ثم قال جل وعلا لعباده المؤمنين : (فَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا عن الأعداء (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم

__________________

(١) هو أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك الشهيد المروزي ، كان رأسا في الحديث والفقه والعبادة ، قيل لم يكن للشافعية في وقته مثله ، توفي في المحرم سنة ٢٩٤ وهو في التسعين من عمره. له ترجمة في الثقات لابن حبان ٨ / ١٤.

٢٩٨

وعددكم ، .. ولهذا قال : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي في حال علوكم على عدوكم .. فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المهادنة ، والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ودعوه إلى الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك. وقوله جلت عظمته : (وَاللهُ مَعَكُمْ) فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا والله أعلم.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ(٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨)

يقول تعالى تحقيرا لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عزوجل ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء ، ليعود نفع ذلك عليكم ويرجع ثوابه إليكم ، ثم قال جل جلاله : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي يحرجكم تبخلوا (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ).

قال قتادة : قد علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. وقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي لا يجيب إلى ذلك (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي إنما نقص نفسه من الأجر وإنما يعود وبال ذلك عليه (وَاللهُ الْغَنِيُ) أي عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه دائما ، ولهذا قال تعالى : (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي بالذات إليه ، فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي عن طاعته واتباع شرعه (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير(١) : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٣٢٩.

٢٩٩

استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ثم قال «هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ، ورواه عنه غير واحد ، وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم ، والله أعلم.

آخر تفسير سورة القتال ولله الحمد والمنة.

٣٠٠