تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٩٨)

إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم فأحب أن يختلي بآلهتهم فيكسرها فقال لهم كلاما هو حق في نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) قال قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم ، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال (إِنِّي سَقِيمٌ) أي ضعيف

فأما الحديث الذي رواه ابن جرير (١) هاهنا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثني هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله تعالى ، قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله في سارة هي أختي» (٢) فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «إن المعاريض لمندوحة عن الكذب» (٣) وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى : (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) وقال (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي. قال سفيان في قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) يعني طعين وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلو بآلهتهم ، وكذا قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) فقالوا له وهو في بيت آلهتهم : اخرج فقال إني مطعون فتركوه مخافة الطاعون.

وقال قتادة عن سعيد بن المسيب رأى نجما طلع فقال (إِنِّي سَقِيمٌ) كابد نبي الله عن دينه (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٤). وقال آخرون (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٠١.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٨ ، والنكاح باب ١٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥٤ ، وأبو داود في الطلاق باب ١٦ ، والترمذي في تفسير سورة ٢١ باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٠٣.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ١١٦.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٥٠١.

٢١

الموت ، وقيل أراد (إِنِّي سَقِيمٌ) أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى ، وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على ظهره وقال (إِنِّي سَقِيمٌ) وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. رواه ابن أبي حاتم. ولهذا قال تعالى : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي إلى عيدهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتبارك لهم فيه. قال السدي : دخل إبراهيم عليه‌السلام إلى بيت الآلهة فإذا هم في بهو عظيم وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة وقالوا إذا كان حين نرجع وقد باركت الآلهة في طعامنا أكلناه ، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال (أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ).

وقوله تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) قال الفراء معناه مال عليهم ضربا باليمين. وقال قتادة والجوهري فأقبل عليهم ضربا باليمين. وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى هاهنا : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) قال مجاهد وغير واحد أي يسرعون ، وهذه القصة هاهنا مختصرة وفي سورة الأنبياء مبسوطة فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون تقدير الكلام خلقكم وعملكم ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره والله خلقكم والذي تعملونه وكلا القولين متلازم ، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان بن معاوية عن أبي مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة مرفوعا قال : «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» وقرأ بعضهم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا (ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونجاه الله من النار وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها ولهذا قال تعالى : (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ

٢٢

نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (١١٣)

يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه بعد ما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وقال (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني أولادا مطيعين عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم ، قال الله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وهذا الغلام هو إسماعيل عليه‌السلام فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه‌السلام وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه‌السلام ولد ولإبراهيم عليه‌السلام ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة ، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا إسحاق ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل فإنه لا يقال «وحيد» إلا لمن ليس له غيره ، وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة أيضا وليس ذلك في كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مسلم من غير حجة وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر: ٥٣].

وقال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] أي يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا وإسماعيل وصف هاهنا بالحلم لأنه مناسب لهذا المقام؟.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران (١)

__________________

(١) فاران : هي من اسماء مكة ، وقيل : هو اسم لجبال مكة (معجم البلدان : فاران)

٢٣

وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك والله أعلم. وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بمعنى شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) قال عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الآية (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).

وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رؤيا الأنبياء في المنام وحي» ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي امض لما أمرك الله من ذبحي (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عزوجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم : ٥٤ ـ ٥٥]. وقال تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد على شهادة الموت وقيل أسلما يعني استسلما وانقادا ، إبراهيم امتثل لأمر الله تعالى وإسماعيل لطاعة الله وأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم ومعنى (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أكبّه على وجهه.

وقال الإمام أحمد (١) حدثنا سريج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات وثم تله للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض فقال له يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد رأيتنا نتّبع ذلك الضرب من الكباش ، وذكر تمام الحديث في المناسك بطوله.

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ٢٩٧.

٢٤

ثم رواه أحمد بطوله عن يونس عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه إلا أنه قال إسحاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تسمية الذبيح روايتان والأظهر عنه إسماعيل لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن قتادة عن جعفر بن إياس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال خرج عليه كبش من الجنة قد رعى (١) قبل ذلك أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنه واتبع الكبش فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم افلته فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه فو الذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى وحش يعني يبس (٢).

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرنا القاسم قال اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل كعب يحدث عن الكتب فقال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» (٣) فقال له كعب أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال نعم قال فداك أبي وأمي ـ أو فداه أبي وأمي ـ أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك ، قال لبعض حاجته قال فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين غدوت بابنك ، قال لحاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه قال ولم أذبحه؟ قال تزعم أن ربك أمرك

__________________

(١) في تفسير الطبري لفظ «رعاها» بدل «رعي».

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥١٦.

(٣) روي بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣١ ، والدعوات باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٣٤ ـ ٣٤٥ ، والترمذي في الدعوات باب ١٣٠ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧ ، والدارمي في السير باب ٢٨ ، والرقاق باب ٨٥ ، ومالك في القرآن حديث ٢٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٨١ ، ٢٩٥ ، ٢ / ٢٧٥ ، ٣٨١ ، ٣٩٦ ، ٤٢٦ ، ٣ / ١٣٤ ، ٢٠٨ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، ٢٥٨ ، ٢٧٦ ، ٢٩٢ ، ٣٨٤ ، ٣٩٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨.

٢٥

بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمرني بذلك لأفعلن قال فتركه ويئس أن يطاع.

وقد رواه ابن جرير (١) عن يونس بن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال إن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة فذكره بطوله وقال في آخره وأوحى الله تعالى إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجيب لك فيها قال إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله تبارك وتعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي وبين أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعلم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق سل تعط فقال أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان ، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة» هذا حديث غريب منكر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة وهي قوله إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق إلى آخره والله أعلم فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل وإنما حرفوه بإسحاق حسدا منهم كما تقدم وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث كان إسماعيل لا إسحاق فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام.

وقوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي قد حصل المقصود من رؤياك واضجاعك ولدك للذبح وذكر السدي وغيره أنه أمرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئا بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا). وقوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا كقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٢ ـ ٣] وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل خلافا لطائفة من المعتزلة والدلالة من هذه ظاهرة لأن الله تعالى شرع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥١١.

٢٦

ذلك مستسلما لأمر الله تعالى منقادا لطاعته ولهذا قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم: ٣٧].

وقوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة قال أبو الطفيل : وجدوه مربوطا بسمرة في ثبير (١) ، وقال الثوري أيضا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا داود العطار عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى فدي به إسحاق ، وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى شقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر ، وعن الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير وقال ابن جريج قال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام وقال مجاهد ذبحه بمنى عند المنحر. وقال هشيم عن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان أفتى الذي جعل عليه نذرا أن ينحر نفسه فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك لو كنت أفتيته بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا فإن الله تعالى قال في كتابه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فدي بكبش. وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال وعل (٢) وقال محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول ما فدي إسماعيل عليه‌السلام إلا بتيس من الأروي (٣) أهبط عليه من ثبير.

وقد قال الإمام أحمد (٤) حدثنا سفيان حدثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه ، وقالت مرة أنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمر هما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» قال سفيان لم يزل قرنا الكبش

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥١٥.

(٢) الوعل : هو تيس الجبل.

(٣) الأروي : قيل : هي أنثى الوعل ، وقيل هي الشاة الواحدة من شياه الجبل.

(٤) المسند ٤ / ٦٨ ، ٥ / ٣٨٠.

٢٧

معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[فصل] في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو

[ذكر من قال هو إسحاق عليه الصلاة والسلام] قال حمزة الزيات عن أبي ميسرةرحمه‌الله قال : قال يوسف عليه الصلاة والسلام للملك في وجهه ترغب أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله (١) ، وقال الثوري عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل أن يوسف عليه‌السلام قال للملك كذلك أيضا وقال سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال : قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم قالوا ذلك؟ قال : «إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه ، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن».

وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال افتخر رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال : أنا فلان بن فلان ابن الأشياخ الكرام ، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وكذا روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق ، وعن أبيه العباس وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك ، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن أبي بزة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اختيار ابن جرير ، وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق ، وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار أنه قال هو إسحاق(٢).

وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده وقد حكى البغوي هذا القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن مسعود

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥١٢.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥١١.

٢٨

والعباس رضي الله عنهم ومن التابعين عن كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي قال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ولكن لم يصح سنده. قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث ذكره قال هو إسحاق ففي إسناده ضعيفان وهما الحسن بن دينار البصري متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث. وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان به مرفوعا ، ثم قال قد رواه مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف عن العباس رضي الله عنه قوله وهذا أشبه وأصح.

[ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به]

قد تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال ابن جرير (١) حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدي إسماعيل عليه‌السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود ، وقال إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو إسماعيل عليه‌السلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.

وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه‌السلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال الله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ويقول الله تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا ، وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥١١ ، ٥١٢.

٢٩

كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر أي ابني إبراهيم أمر بذبحه فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لكون إسحاق أباهم والله أعلم أيهما كان وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عزوجل.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال إسماعيل ذكره في كتاب الزهد. وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره وإليه ذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء.

وقد روى ابن جرير (١) في ذلك حديثا غريبا فقال حدثني محمد بن عمار الرازي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال على الخبير سقطتم : كنا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءه رجل فقال : يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر الله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل (٢).

وهذا حديث غريب جدا وقد رواه الأموي في مغازيه حدثنا بعض أصحابنا أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق وذكره ، كذا كتبته من نسخة مغلوطة وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فجعل

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥١٤.

(٢) لفظ الطبري : ففداه بمائة من الإبل ، وإسماعيل الثاني.

٣٠

هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى : (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي أي العمل ، ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا قال وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام قال وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك هذا ما اعتمد عليه في تفسيره وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم بل هو بعيد جدا والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر (١) ، وقوله تعالى : (نَبِيًّا) حال مقدرة أي سيصير منه نبي صالح.

وقال ابن جرير (٢) حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما الذبيح إسحاق قال وقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) قال بشر بنبوته قال وقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته. وحدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت داود يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) قال إنما بشر به نبيا حين فداه الله عزوجل من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) قال بشر به حين ولد وحين نبىء وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)؟؟ ما كان من أمره لما جاد لله تعالى بنفسه وقال الله عزوجل (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) وقوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) كقوله تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) [هود : ٤٨].

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢)

__________________

(١) انظر تفسير سورة هود الآية ٧١ ، وتفسير سورة الحجر الآية ٥٣.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥١٦.

٣١

يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة من قتل الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم في أخس الأشياء ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم ثم أنزل الله عزوجل على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين وهو التوراة كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] وقال عزوجل هاهنا : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي في الأقوال والأفعال (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا لهما من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا ثم فسره بقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ).

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٢)

قال قتادة ومحمد بن إسحاق يقال إلياس هو إدريس ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إلياس هو إدريس ، وكذا قال الضحاك وقال وهب بن منبه هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران بعثه الله تعالى في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهما‌السلام وكانوا قد عبدوا صنما يقال له بعل فدعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن عبادة ما سواه ، وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد واستمروا على ضلالتهم ولم يؤمن به منهم أحد فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر ، فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل الله أن يقبضه إليه ، وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب عليهما الصلاة والسلام فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه فجاءته فرس من نار فركب وألبسه الله تعالى النور وكساه الريش وكان يطير مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب والله أعلم بصحته (١).

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تخافون الله عزوجل في عبادتكم غيره (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي بعلا يعني ربا. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن ، وفي رواية عن قتادة قال : وهي لغة أزد

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٢٠ ، ٥٢١.

٣٢

شنوءة. وقال ابن إسحاق أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل : وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق ، وقال الضحاك هو صنم كانوا يعبدونه. وقوله تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي أتعبدون صنما (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، قال الله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي للعذاب يوم الحساب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي الموحدين منهم وهذا استثناء منقطع من مثبت. وقوله تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي ثناء جميلا (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) كما يقال في إسماعيل إسماعين وهي لغة بني أسد ، وأنشد بعض بني نمير في ضب صاده : [رجز]

يقول رب السوق لما جينا

هذا وربّ البيت إسرائينا (١)

ويقال ميكال وميكائيل وإبراهيم وإبراهام وإسرائيل وإسرائين وطور سيناء وطور سينين وهو موضع واحد وكل هذا سائغ وقرأ آخرون «سلام على إدراسين» (٢) وهي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقرأ آخرون «سلام على آل ياسين» يعني آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) قد تقدم تفسيره ، والله أعلم.

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨)

يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه‌السلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها.

__________________

(١) يروى الشطر الثاني من الرجز :

هذا لعمر الله إسرائينا

وهو في تفسير الطبري ١٠ / ٥٢٤ ، والرجز لأعرابي في المقاصد النحوية ٢ / ٤٤٥ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٥٦ ، والدرر ٢ / ٢٧٢ ، وسمط اللئالي ص ٦٨١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٦ ، وشرح التصريح ١ / ٢٦٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٢٩ ، ولسان العرب (فطن) (يمن) ، والمعاني الكبير ص ٦٤٦ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٧ ، وجمهرة اللغة ص ٢٩٣ ، وتاج العروس (فطن) ، (يمن) ، (سرو). والمخصص ١٣ / ٢٨٢.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥٢٤.

٣٣

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨)

قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (١) ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه. وقوله تعالى : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الموقر أي المملوء بالأمتعة.

(فَساهَمَ) أي قارع (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي المغلوبين ، وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وهم يضنون به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك ، وأمر الله تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليه‌السلام فلا يهشم له لحما ولا يكسر له عظما فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه‌السلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي فقام يصلي في بطن الحوت ، وكان من جملة دعائه يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس ، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله قتادة. وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه ، وقيل أربعين يوما قاله أبو مالك. وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية ، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك ، وفي شعر أمية بن أبي الصلت: [الطويل]

وأنت بفضل منك نجيت يونسا

وقد بات في أضعاف حوت لياليا (٢)

وقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء قاله الضحاك بن قيس وأبو العالية ووهب بن منبه وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير ، وقد ورد في الحديث الذي سنورده إن شاء الله تعالى ما يدل على ذلك إن صح الخبر ، وفي حديث ابن عباس «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وقال

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٤ ، ٣٥ ، وتفسير سورة ٤ باب ٦ ، وسورة ٦ باب ٤ ، والتوحيد باب ٥٠ ، وأبو داود في السنة باب ١٣ ، والترمذي في الصلاة باب ٢٠.

(٢) البيت في السيرة النبوية لابن هشام ١ / ٢٢٨.

٣٤

ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب والسدي والحسن وقتادة (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) يعني المصلين ، وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك ، وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه ، وقيل المراد (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) هو قوله عزوجل (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨] قاله سعيد بن جبير وغيره.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه ـ ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأقبلت الدعوة تحف بالعرش ، قالت الملائكة يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة فقال الله تعالى أما تعرفون ذلك؟ قالوا يا رب ومن هو؟ قال عزوجل عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قالوا يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء ، قال بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء» (١).

ورواه ابن جرير (٢) عن يونس عن ابن وهب به ، زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : طرح بالعراء وأنبت الله عزوجل عليه اليقطينة قلنا : يا أبا هريرة وما اليقطينة ، قال شجرة الدباء. قال أبو هريرة رضي الله عنه : وهيأ الله له أرويّة (٣) وحشية تأكل من خشاش الأرض (٤) أو قال : هشاش الأرض ـ قال فتنفسخ (٥) عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره وهو : [الطويل]

فأنبت يقطينا عليه برحمة

من الله لولا الله ألقي ضاحيا (٦)

وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسندا مرفوعا في تفسير سورة الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : (فَنَبَذْناهُ) أي ألقيناه (بِالْعَراءِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء قيل على جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٨١ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٠.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٠.

(٣) الأرويّة : الشاة الجبلية.

(٤) خشاش الأرض أهوامها وحشراتها.

(٥) تتفشّخ : أي تفرج ما بين رجليها.

(٦) البيت في تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٠.

٣٥

(وَهُوَ سَقِيمٌ) أي ضعيف البدن ، قال ابن مسعود رضي الله عنه كهيئة الفرخ ليس عليه ريش ، وقال السدي كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوس وقاله ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد أيضا (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد قالوا كلهم : اليقطين هو القرع. وقال هشيم عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين وفي رواية عنه كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين (١) ، وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره ، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبه وقشره أيضا وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة (٢).

وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) روى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعد ما نبذه الحوت ، رواه ابن جرير (٣) حدثني الحارث حدثنا أبو هلال عن شهر به ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت.

(قلت) : ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولا أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت فصدقوه كلهم وآمنوا به ، وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى : (أَوْ يَزِيدُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه : بل يزيدون وكانوا مائة وثلاثين ألفا وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين ألفا والله أعلم ، وقال سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفا.

وقال مكحول كانوا مائة ألف وعشرة آلاف رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير (٤) حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال سمعت زهيرا يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال يزيدون عشرين ألفا.

ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن الوليد بن مسلم عن زهير عن رجل عن أبي العالية عن أبي بن كعب به وقال غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير به. قال ابن جرير (٥) : وكان

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ٤ ، ٢٥ ، ٣٥ ـ ٣٧ ، والترمذي في الأطعمة باب ٤١ ، والدارمي في الأطعمة باب ١٩ ، ومالك في النكاح حديث ٥١.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٢.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٢.

(٥) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٢.

٣٦

بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك معناه إلى المائة الألف أو كانوا يزيدون عندكم ، يقول كذلك كانوا عندكم ولهذا سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] وقوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧] وقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد وقوله تعالى : (فَآمَنُوا) أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه‌السلام جميعهم (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي إلى وقت آجالهم كقوله جلت عظمته (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ(١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠)

يقول تعالى منكرا على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون أي من الذكور أي يودون لأنفسهم الجيد (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل : ٥٨] أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين ، يقول عزوجل فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم ولهذا قال تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) كقوله عزوجل : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ـ ٢٢].

وقوله تبارك وتعالى : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جل وعلا (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩] أي يسألون عن ذلك يوم القيامة. وقوله جلت عظمته : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ) أي من كذبهم (لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) أي صدر منه الولد (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب ، فأولا جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولدا تعالى وتقدس ، وجعلوا ذلك الولد أنثى ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم.

ثم قال تعالى منكرا عليهم (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) أي أيّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين كقوله عزوجل : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [الإسراء : ٤٠] ولهذا قال تبارك وتعالى : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون (أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي حجة على

٣٧

ما تقولونه ، (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي هاتوا برهانا على ذلك يكون مستندا إلى كتاب منزل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قال مجاهد : قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهاتهن ، قالوا بنات سروات الجن وكذا قال قتادة وابن زيد ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ) أي الذين نسبوا إليهم ذلك (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قال زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، حكاه ابن جرير (١).

وقوله جلت عظمته : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا. قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير قي قوله تعالى : (عَمَّا يَصِفُونَ) عائد إلى الناس جميعهم ثم استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل ، وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) وفي هذا الذي قاله نظر (٢) والله سبحانه وتعالى أعلم.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ(١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١٧٠)

يقول تعالى مخاطبا للمشركين : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذرئ للنار (٣) (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٩٧] فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة كما قال تبارك وتعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٨ ـ ٩] أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل ، ثم قال تبارك وتعالى منزها للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي له موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٥.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٦.

(٣) ذرئ للنار : أي خلق للنار.

٣٨

لا يتجاوزه ولا يتعداه.

وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه وكان ممن بايع يوم الفتح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما لجلسائه : «أطّت (١) السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد» (٢) ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وقال الضحاك في تفسيره (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) قال كان مسروق يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم» فذلك قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (٣).

وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وكذا قال سعيد بن جبير وقال قتادة كانوا يصلون الرجال والنساء جميعا حتى نزلت (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فتقدم الرجال وتأخر النساء (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي نقف صفوفا في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) [الصافات : ١] قال ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزل (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) فصفوا وقال أبو نضرة كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال : أقيموا صفوفكم استووا قياما يريد الله تعالى بكم هدى الملائكة ثم يقول (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) تأخر يا فلان تقدم يا فلان ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (٤).

وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا» (٥) الحديث (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الملائكة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) الملائكة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) الملائكة تسبح الله عزوجل.

وقال قتادة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة كما قال تبارك وتعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ

__________________

(١) الأطيط : هو صوت الرحل ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها.

(٢) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٧٣.

(٣) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٨.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٥٣٩.

(٥) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٤ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٨٣.

٣٩

بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: ٢٦ ـ ٢٩] وقوله جل وعلا : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جل جلاله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢] وقال تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ١٥٦ ـ ١٥٧] ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم عزوجل وتكذيبهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (١٧٩)

يقول تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] وقال عزوجل : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] ولهذا قال جل جلاله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم وكيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي تكون لهم العاقبة. وقوله جل وعلا : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر ، ولهذا قال بعضهم غيّا (١) ذلك إلى يوم بدر وما بعدها أيضا في معناها.

وقوله جلت عظمته (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ثم قال عزوجل : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك فإن الله تعالى يغضب عليهم بذلك ويعجل لهم العقوبة ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة. قال الله تبارك وتعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ

__________________

(١) غيّا ذلك إلى يوم بدر : أي جعل يوم بدر غاية لذلك.

٤٠