تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان ، ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ، ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة ، فقال معاوية رضي الله عنه : وما الذي يديره يا أبا إسحاق؟ قال : تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي درن إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس. وذكر تمام الخبر وهو غريب جدا.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) قال بعضهم لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة ـ أو كلمة نحوها ـ ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (١) قال روح فرده خاسئا وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به.

وقال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٧٥ ، والأنبياء باب ٤٠ ، وتفسير سورة ٣٨ باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٩٨.

٦١

معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي فسمعناه يقول : «أعوذ بالله منك ـ ثم قال ـ ألعنك بلعنة الله» ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال : «لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين إصبعي هاتين ـ الإبهام والتي تليها ـ ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل».

وقد روى أبو داود (٣) منه «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به.

وقال الإمام أحمد (٤) حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يزنّ بشرب الخمر فقلت بلغني عنك حديث أنه «من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عزوجل له توبة أربعين صباحا ، وإن الشقي من شقي في بطن أمه ، وإنه من أتى البيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه» فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول : «من شرب من الخمر شربة لا تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد كان حقا على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة» قال وسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٤٠ ، والنسائي في السهو باب ١٩.

(٢) المسند ٣ / ٨٣.

(٣) كتاب الصلاة ، باب ما يؤمر المصلي أن يورأ عن الممر بين يديه.

(٤) المسند ٢ / ١٧٦.

٦٢

من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عزوجل» وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن سليمان عليه‌السلام سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة ، سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عزوجل قد أعطانا إياها».

وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجة من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزوجل خلالا ثلاثا» (١) وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين.

فقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله يقول : «قال الله عزوجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتا في الأرض فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا فشكا ذلك إلى الله عزوجل فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال ولم يا رب؟ قال لما جرى على يديك من الدماء ، قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك؟ قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تمّ قرّب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس بن سلمة الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلا استفتحه ب «سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب» وقد قال أبو عبيد : حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن مسمار قال لما مات نبي الله داود عليه‌السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك قال أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عزوجل : أرسلت إلى عبدي

__________________

(١) أخرجه النسائي في المساجد باب ٦.

(٢) المسند ٤ / ٥٤.

٦٣

وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني ، لأهبن له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.

قال الله جلت عظمته : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) والتي بعدها قال فأعطاه ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه هكذا أورده أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه ، وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال : إلهي كن لسليمان كما كنت لي ، فأوحى الله عزوجل إليه : أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكون له كما كنت لك. وقوله تبارك وتعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) قال الحسن البصري رحمه‌الله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضبا لله عزوجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع ، الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر.

وقوله جل وعلا : (حَيْثُ أَصابَ) أي حيث أراد من البلاد. وقوله جل جلاله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر ، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللئالئ والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى ، أو قد أساء في صنيعه واعتدى.

وقوله عزوجل : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب.

وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خير بين أن يكون عبدا رسولا ـ وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به ـ وبين أن يكون نبيا ملكا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح ، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدرا عند الله عزوجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم القيامة أيضا فقال تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي في الدنيا والآخرة.

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا

٦٤

تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليمان سوى قلبه ، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة ، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا ، فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا ، فلما طال المطال ، واشتد الحال ، وانتهى القدر المقدور ، وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وفي هذه الآية الكريمة قال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ).

قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه‌الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عزوجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق ، قال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ، فو الله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو ، قال وكان له

٦٥

أندران (١) أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض ، هذا لفظ ابن جرير (٢) رحمه‌الله.

وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عزوجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك» انفرد بإخراجه البخاري (٤) من حديث عبد الرزاق به ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم (٥).

وقوله عزوجل : (رَحْمَةً مِنَّا) أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة. وقوله جلت عظمته : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة ، وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عزوجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عزوجل أن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره ، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه ، ولهذا قال جل وعلا : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع منيب ، ولهذا قال جل جلاله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٢ ـ ٣] واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان وغيرها. وقد أخذوها بمقتضاها والله أعلم بالصواب.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)

__________________

(١) الأندر : بيت يجمع فيه الطعام.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٥٨٩ ـ ٥٩٠.

(٣) المسند ٢ / ٣١٤.

(٤) كتاب الغسل باب ٢٠ ، والتوحيد باب ٧ ، ٣٥.

(٥) تفسير الطبري ١٠ / ٥٩٠ ، بلفظ : فأحياهم الله بأعيانهم ، وزادهم مثلهم.

٦٦

وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨)

يقول تبارك وتعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يقول أولي القوة والعبادة. (وَالْأَبْصارِ) يقول الفقه في الدين (١). وقال مجاهد (أُولِي الْأَيْدِي) يعني القوة في طاعة الله تعالى والأبصار يعني البصر في الحق وقال قتادة والسدي : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين.

وقوله تبارك وتعالى : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال مجاهد أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همّ غيرها وكذا قال السدي ذكرهم للآخرة وعملهم لها. وقال مالك بن دينار نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها ، وكذا قال عطاء الخراساني. وقال سعيد بن جبير يعني بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها ، وقال في رواية أخرى ذكرى الدار عقبى الدار ، وقال قتادة كانوا يذكرون الناس الدار الآخرة والعمل لها ، وقال ابن زيد جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة.

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون.

وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله عزوجل : (هذا ذِكْرٌ) أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر ، وقال السدي يعني القرآن العظيم.

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤)

يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة لحسن مآب وهو المرجع والمنقلب ثم فسره بقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب والألف واللام هاهنا بمعنى الإضافة كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها ، قال

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٥٩٢.

٦٧

ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله بن مسلم يعني ابن هرمز عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة (١) لا يدخله ـ أو لا يسكنه ـ إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل» وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة.

وقوله عزوجل : (مُتَّكِئِينَ فِيها) قيل متربعين فيها على سرر تحت الحجال (٢) (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا (وَشَرابٍ) أي من أي أنواعه شاؤوا أتتهم به الخدام (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة : ١٨] (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن (أَتْرابٌ) أي متساويات في السن والعمر هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار. ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) كقوله عزوجل (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] وكقوله جل وعلا (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] وكقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [فصلت : ٨] أي غير مقطوع وكقوله عزوجل : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) [الرعد : ٣٥] والآيات في هذا كثيرة جدا.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال عزوجل : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) وهم الخارجون عن طاعة الله عزوجل المخالفون لرسل الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَشَرَّ مَآبٍ) أي لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله جل وعلا : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم (فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا فَلْيَذُوقُوهُ

__________________

(١) الحبرة : حلة يمنية.

(٢) الحجلة ، بفتح الحاء والجيم : بيت كالقبة يستر بالثياب ، وتكون له أزرار كبيرة.

٦٨

حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره ، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم.

ولهذا قال عزوجل : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي وأشياء من هذا القبيل : الشيء وضده يعاقبون بها. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم في غير حديثه ، ورواه ابن جرير (٢) عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به.

وقال كعب الأحبار : غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة (٣) من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه ، رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله تعالى : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) ألوان من العذاب (٤) ، وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة والجميع مما يعذبون به ، ويهانون بسببه.

وقوله عزوجل : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ) أي داخل (مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي لأنهم من أهل جهنم (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي فيقول لهم الداخلون (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي فبئس المنزل والمستقر والمصير (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) كما قال عزوجل : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] أي لكل منكم عذاب بحسبه (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٨ ، ٨٣.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٦٠٠.

(٣) الحمة : سم العقرب.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٦٠٠.

٦٩

كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا ما لنا لا نراهم معنا في النار. قال مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار ، فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) أي في الدار الدنيا (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) يسألون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم ، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عزوجل : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ إلى قوله ـ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف : ٤٤ ـ ٤٩] وقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله إنما أنا منذر لست كما تزعمون (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي غفار مع عظمته وعزته (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي غافلون ، قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عزوجل : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) يعني القرآن.

وقوله تعالى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني في شأن آدم عليه الصلاة والسلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) حيث قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال : احتبس علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريعا فثوب (٢) بالصلاة فصلى

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٤٣.

(٢) التثويب : إقامة الصلاة.

٧٠

وتجوز (١) في صلاته فلما سلم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما أنتم على مصافكم» ثم أقبل إلينا فقال : «إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عزوجل في أحسن صورة فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قلت لا أدري يا رب ـ أعادها ثلاثا ـ فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنا مله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : في الكفارات. قال : وما الكفارات؟ قلت : نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال : وما الدرجات؟ قلت : إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام ، قال : سل ، قلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك ـ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنها حق فادرسوها وتعلموها» فهو حديث المنام المشهور ، ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق ، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به ، وقال : حسن صحيح وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر ، وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو في قوله تعالى :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٥)

هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي أول سورة الأعراف وفي سورة الحجر وسبحان والكهف وهاهنا وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله عزوجل فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا. كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عزوجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه ، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله

__________________

(١) تجوز في صلاة : خففها وأسرع بها.

٧١

تعالى وكفر بذلك فأبعده الله عزوجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه ، وحضرة قدسه ، وسماه إبليس إعلاما له بأنه قد أبلس (١) من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى

وقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) كما قال عزوجل : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء : ٦٥].

وقوله تبارك وتعالى : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الأول وفسره مجاهد بأن معناه أنا الحق والحق أقول ، وفي رواية عنه : الحق مني وأقول الحق ، وقرأ آخرون بنصبهما قال السدي هو قسم أقسم الله به(٢).

(قلت) وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] وكقوله عزوجل : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) [الإسراء : ٦٣].

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه ، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عزوجل والدار الآخرة ، قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال : أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم ، الله أعلم ، فإن الله عزوجل قال لنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أخرجاه من حديث الأعمش ، به وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين به من الإنس والجن ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وروى ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي غسان مالك بن إسماعيل : حدثنا قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (لِلْعالَمِينَ) قال : الجن والإنس ، وهذه الآية الكريمة كقوله

__________________

(١) أبلس : أي يئس.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٦٠٨.

٧٢

تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] وكقوله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] وقوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أي خبره وصدقه (بَعْدَ حِينٍ) أي عن قريب قال قتادة بعد الموت وقال عكرمة يعني يوم القيامة ، ولا منافاة بين القولين فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة ، وقال قتادة في قوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) قال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين (١).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦٠٩.

٧٣

تفسير سورة الزمر

وهي مكية

قال النسائي (١) حدثنا محمد بن النضر بن مساور حدثنا حماد عن مروان أبي لبابة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ(٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤)

يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك كما قال عزوجل : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥] وقال تبارك وتعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] وقال جل وعلا هاهنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي المنيع الجناب (الْحَكِيمِ) أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد ولهذا قال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له.

وقال قتادة في قوله تبارك وتعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) شهادة أن لا إله إلا الله (٢) ثم أخبر عزوجل عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد : (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)

__________________

(١) كتاب الصيام باب ٣٤.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٦١١.

٧٤

أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردّها والنهي عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأنّ هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وأخبر أن الملائكة التي في السموات من الملائكة المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤] تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي يوم القيامة (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ويجزي كل عامل بعمله ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١] وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله تعالى وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه ، ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى فقال تبارك وتعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه بل هو محال وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عزوجل : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] كل هذا من باب الشرط ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم.

وقوله تعالى : (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد ، فإنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي كل شيء عبد لديه فقير إليه وهو الغني عما سواه الذي قد قهر الأشياء فدانت وذلت وخضعت تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ

٧٥

فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦)

يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والأرض وما بين ذلك من الأشياء وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يقلب ليله ونهاره (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منها يطلب الآخر طلبا حثيثا كقوله تبارك وتعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤] هذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم (١).

وقوله عزوجل : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ثم ينقضي يوم القيامة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي مع عزته وعظمته وكبريائه وهو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه.

وقوله جلت عظمته : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وهي حواء عليها‌السلام كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١] وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي خلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام ، (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ... (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] وقوله عزوجل : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي قدركم في بطون أمهاتكم (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي يكون أحدكم أولا نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

وقوله جل وعلا : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) يعني في ظلمة الرحم وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو مالك والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد. وقوله جل جلاله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يذهب بعقولكم؟

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ(٧) وَإِذا مَسَّ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦١٢ ـ ٦١٣.

٧٦

الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٨)

يقول تبارك وتعالى مخبرا عن نفسه أنه الغني عما سواه من المخلوقات كما قال موسى عليه الصلاة والسلام (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وفي صحيح مسلم «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا» (١).

وقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي يحبه منكم ويزدكم من فضله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا بل كل مطالب بأمر نفسه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي فلا تخفى عليه خافية.

وقوله عزوجل : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له كما قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧] ولهذا قال تبارك وتعالى : (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع كما قال جل جلاله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٣].

وقوله تعالى : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي في حال العافية يشرك بالله ويجعل له أندادا (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه تمتع بكفرك قليلا وهو تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠] وقوله تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤].

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩)

يقول عزوجل أمّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا ، لا يستوون عند الله كما قال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران : ١١٣] وقال تبارك وتعالى هاهنا : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) أي في حال

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥ ، والترمذي في القيامة باب ٤٨ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٠ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٥٤.

٧٧

سجوده وفي حال قيامه ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة وليس هو القيام وحده كما ذهب إليه آخرون. وقال الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : القانت المطيع لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن والسدي وابن زيد : آناء الليل جوف الليل. وقال الثوري عن منصور بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء ، وقال الحسن وقتادة آناء الليل أوله وأوسطه وآخره.

وقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي في حال عبادته خائف راج ولا بد في العبادة من هذا وهذا وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ولهذا قال تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجل وهو في الموت فقال له : «كيف تجدك؟» فقال : أرجو وأخاف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عزوجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه» (١). ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة من حديث سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان به وقال الترمذي غريب ، وقد رواه بعضهم عن ثابت عن أنس عن النبي مرسلا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبّة عن عبيدة النميري حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزاز حدثنا يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة كما روى ذلك أبو عبيدة عنه رضي الله تعالى عنه ، وقال الشاعر : [البسيط]

ضحّوا بأشمط عنوان السجود به

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا (٢)

وقال الإمام أحمد (٣) : كتب إليّ الربيع بن نافع حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن تميم الداري رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع كلاهما عن الهيثم بن حميد به. وقوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجنائز باب ١١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣١.

(٢) البيت لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٢١٦ ، ولسان العرب (عنن) ، (ضحا) ، وتاج العروس (عنن) ، وتهذيب اللغة ١ / ١١١.

(٣) المسند ٤ / ١٠٣.

٧٨

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل ، والله أعلم.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم ، وقوله : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) قال مجاهد : فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان (١).

وقال شريك عن منصور عن عطاء في قوله تبارك وتعالى : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) قال : إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا ثم قرأ (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) وقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) قال الأوزاعي ليس يوزن لهم ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفا ، وقال ابن جريح بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ، ولكن يزادون على ذلك ، وقال السدي (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني في الجنة (٢). وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) قال السدي يعني من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي(١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦)

يقول تعالى قل يا محمد وأنت رسول الله (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيامة وهذا شرط معناه التعريض بغيره بطريق الأولى والأحرى (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وهذا أيضا تهديد وتبرّ منهم (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي إنما الخاسرون كل الخسران (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران البيّن الظاهر

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٦٢٢.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٦٢٢.

٧٩

الواضح ثم وصف حالهم في النار فقال : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) كما قال عزوجل : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤١].

وقال تعالى : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٥٥] وقوله جل جلاله : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده لينزجروا عن المحارم والمآثم. وقوله تعالى : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٨)

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم (١) والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم قال عزوجل : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام حين آتاه التوراة (فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف : ١٤٥]. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذو والعقول الصحيحة والفطر المستقيمة.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) (٢٠)

يقول تعالى أفمن كتب الله أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له. ثم أخبر عزوجل عن عباده السعداء أن لهم غرفا في الجنة وهي القصور الشاهقة (مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) أي طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها» فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٦٢٤.

٨٠