تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» (١) رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به. هكذا يقول أبو إسحاق ، وأهل العراق يقولون أبو مسلم الأغر ، وأهل المدينة يقولون أبو عبد الله الأغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني : حدثنا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبيد الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها فلا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه» (٢).

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سليم بن عبد الله الرقي ، حدثنا مصعب بن إبراهيم ، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : سئل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أينام أهل الجنة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون» وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري ، حدثنا المقدام بن داود ، حدثنا عبد الله بن المغيرة ، حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون» ، وقال أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن يعقوب ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله : هل ينام أهل الجنة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، النوم أخو الموت ، ثم قال : لا نعلم أحدا أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي ، هكذا قال ، وقد تقدم خلاف ذلك ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم ، فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب ولهذا قال عزوجل : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٣) ، وقوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ

__________________

(١) أخرجه في الجنة حديث ٢٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٩ باب ١٠ ، والدارمي في الرقاق باب ١٠٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٩ ، ٣ / ٣٨ ، ٩٥.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢١ ، والترمذي في الجنة باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٥ ، ٣١٩ ، ٣٧٠ ، ٤٠٧ ، ٤١٦ ، ٤٤٥ ، ٤٦٢.

(٣) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٨ ، ومسلم في المنافقين حديث ٧١ ، ٧٦ ، ٧٨.

٢٤١

بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتفهمون ويعملون.

ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مسليا له وواعدا له بالنصر ، ومتوعدا لمن كذبه بالعطب والهلاك : (فَارْتَقِبْ) أي انتظر (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فسيعملون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة ، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] الآية. وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥١ ـ ٥٣].

٢٤٢

تفسير سورة الجاثية

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥)

يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض ، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقا لأن به يحصل الرزق (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. وقوله عزوجل : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي جنوبا وشمالا ودبورا وصبا (١) ، برية وبحرية ، ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر ، ومنها ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج ، وقال سبحانه وتعالى أولا : (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى ، وهذه الآيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٦٤] وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا غريبا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة ، والله أعلم.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (١١)

__________________

(١) رياح الدبور ، هي الرياح التي تأتي من دبر الكعبة ، ورياح الصبا : هي الرياح التي تستقبل الكعبة.

٢٤٣

يقول تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي متضمنة الحق من الحق ، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟ ثم قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر بآيات الله ولهذا قال : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) أي تقرأ عليه (ثُمَّ يُصِرُّ) أي على كفره وجحوده استكبارا وعنادا (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه ما سمعها (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابا أليما موجعا.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي إذا حفظ شيئا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ، ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (١) ، ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ثم قال تبارك وتعالى : (هذا هُدىً) يعني القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وهو المؤلم الموجع. والله سبحانه وتعالى أعلم.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥)

يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) وهي السفن فيه بأمره تعالى. فإنه هو الذي أمر البحر بحملها (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في المتاجر والمكاسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية والآفاق القاصية ، ثم قال عزوجل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار ، وجميع ما تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال : (جَمِيعاً مِنْهُ) أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تبارك وتعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣].

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٢٩ ، ومسلم في الإمارة حديث ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، وأبو داود في الجهاد باب ٨١ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٤٥ ، ومالك في الجهاد وحديث ٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٦ ، ٧ ، ١٠ ، ٥٥ ، ٦٣ ، ٧٦ ، ١٢٨.

٢٤٤

وروى ابن جرير (١) من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) كل شيء هو من الله. وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ، فذلك جميعا منه ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا الفريابي عن سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال : سأل رجل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : مم خلق الخلق؟ قال : من النور والنار والظلمة والثرى. قال : وائت ابن عباس رضي الله عنهما فاسأله ، فأتاه فقال له مثل ذلك ، فقال : ارجع إليه فسله مما خلق ذلك كله. فرجع إليه فسأله فتلا (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) هذا أثر غريب وفيه نكارة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي يصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم وكان هذا في ابتداء الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم ، ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ، وقال مجاهد : (لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) لا ينالون نعم الله تعالى ، وقوله تبارك وتعالى : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عزوجل مجازيهم بأعمالكم السيئة في الآخرة ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢٠)

يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم وجعله الملك فيهم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من المآكل والمشارب (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي في زمانهم (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات ، فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا (إِنَّ رَبَّكَ)

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢٥٥.

٢٤٥

يا محمد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي سيفصل بينهم بحكمة العدل ، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم وأن تقصد منهجهم.

ولهذا قال جل وعلا : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) أي اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ، وقال جل جلاله هاهنا : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، ثم قال عزوجل : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ) يعني القرآن (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣)

يقول تعالى : «لا يستوي المؤمنون والكافرون» كما قال عزوجل : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وقال تبارك وتعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوها وكسبوها (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار.

قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مؤمل بن إهاب ، حدثنا بكير بن عثمان التنوخي ، حدثنا الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن الله تعالى بنى دينه على أربعة أركان ، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله من الفاسقين ، قيل : وما هن يا أبا ذر؟ قال يسلم حلال الله لله وحرام الله لله وأمر الله لله ونهي الله لله لا يؤتمن عليهن إلا الله.

قال أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كما أنه لا يجتني من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار». هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجرا بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات أجل كما يجتني من الشوك العنب (١). وقد روى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ١٩٦.

٢٤٦

اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ولهذا قال تعالى : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وقال عزوجل : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالعدل (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

ثم قال جل وعلا : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسنا فعله وما رآه قبيحا تركه ، وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين ، وعن مالك فيما روي عنه من التفسير لا يهوي شيئا إلا عبده ، وقوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) يحتمل قولين : أحدهما وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك ، والآخر وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئا يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها. ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) كقوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦].

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦)

يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثم معاد ولا قيامة ، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد ، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البداءة والرجعة ، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع ، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه ، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) قال الله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي يتوهمون ويتخيلون.

فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول تعالى يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره» (١) وفي رواية «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» (٢) وقد أورده ابن جرير (٣) بسياق غريب جدا فقال : حدثنا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤٥ ، باب ١ ، والتوحيد باب ٣٥ ، ومسلم في الألفاظ حديث ٢ ، ٣ ، وأبو داود في الأدب باب ١٦٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٨ ، ٢٧٢.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٩٩ ، ٣١١.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٢٦٤.

٢٤٧

أبو كريب ، حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ويسبون الدهر فقال الله عزوجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله.

ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قال الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال «يقول الله تعالى : استقرضت عبدي فلم يعطني وسبني عبدي ، يقول وا دهراه وأنا الدهر» قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر ، فينسبون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عزوجل ، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار ، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال ، هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد ، والله أعلم ، وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث.

وقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق ، وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا. قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن : ٩] (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) [المرسلات : ١٢ ـ ١٣] (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود: ١٠٤] وقال هاهنا (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ـ ٧] أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.

٢٤٨

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال عزوجل : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي يوم القيامة (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات.

وقال ابن أبي حاتم : قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس ، فقال له : يا شيخ أما علمت أن لله تعالى يوما يخسر فيه المبطلون؟ قال : فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله تعالى ، ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي على ركبها من الشدة والعظمة ، ويقال إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة ، لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ويقول : نفسي نفسي نفسي! لا أسألك اليوم إلا نفسي. وحتى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول : لا أسألك اليوم إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني! قال مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي على الركب. وقال عكرمة : جاثية متميزة على ناحيتها وليس على الركب ، والأول أولى.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كأني أراكم جاثين بالكوم (١) دون جهنم» وقال إسماعيل بن أبي رافع المديني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه ، مرفوعا في حديث الصور : فيتميز الناس وتجثو الأمم ، وهي التي يقول الله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩] ولهذا قال سبحانه وتعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عزوجل : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [القيامة : ١٣ ـ ١٥] ولهذا قال جلت عظمته : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل جلاله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا

__________________

(١) الكوم : أي المواضع العالية.

٢٤٩

حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقوله عزوجل : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.

قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابلون الملائكة في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة ، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر ، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ثم قرأ (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات وهي الخالصة الموافقة للشرع (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء (١).

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي البين الواضح. ثم قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا ، أما قرئت عليكم آيات الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها ، وأعرضتم عن سماعها ، وكنتم قوما مجرمين في أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) أي إذا قال لكم المؤمنون ذلك (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي لا نعرفها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أي إن نتوهم وقوعها إلا توهما أي مرجوحا ولهذا قال : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي بمتحققين. قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي من العذاب والنكال (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ). وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة :

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٠.

٢٥٠

«ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى يا رب. فيقول أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول : لا. فيقول الله تعالى : فاليوم أنساك كما نسيتني» (١).

قال الله تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) أي إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا تسخرون وتستهزءون بها (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتكم فاطمأننتم إليها فأصبحتم من الخاسرين ، ولهذا قال عزوجل : (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين ، قال : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) أي المالك لهما وما فيهما ، ولهذا قال (رَبِّ الْعالَمِينَ) ثم قال جل وعلا : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال مجاهد : يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري» (٢) ورواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه. وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي لا يغالب ولا يمانع (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إله إلا هو.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ١٦ ، والترمذي في القيامة باب ٦.

(٢) أخرجه مسلم في البر حديث ١٣٦ ، وأبو داود في اللباس باب ٢٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٨ ، ٣٧٦ ، ٤١٤ ، ٣٢٧ ، ٤٤٢ ، ٦ / ١٩.

٢٥١

سورة الأحقاف

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦)

يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صلوات الله عليه دائما إلى يوم الدين ، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام ، والحكمة في الأقوال والأفعال ، ثم قال تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي لا على وجه العبث والباطل (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص ، وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي لا هون عما يراد بهم ، وقد أنزل الله تعالى إليهم كتابا وأرسل إليهم رسولا ، وهم معرضون عن ذلك كله أي وسيعلمون غب ذلك.

ثم قال تعالى : (قُلْ) أي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض وما يملكون من قطمير ، إن الملك والتصرف كله إلا لله عزوجل ، فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأمركم بعبادة هذه الأصنام (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي دليل بين على هذا المسلك الذي سلكتموه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي لا دليل لكم لا نقليا ولا عقليا على ذلك ، ولهذا قرأ آخرون : أو أثرة من علم أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أو أحد يأثر علما (١) ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أو بينة من الأمر.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٧٣.

٢٥٢

وقال الإمام أحمد (١) حدثنا يحيى عن سفيان عن صفوان بن سليم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال سفيان : لا أعلم إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أثرة من علم ، قال : الخط. وقال أبو بكر بن عياش : أو بقية من علم. وقال الحسن البصري : أو أثارة شيء يستخرجه فيثيره. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وأبو بكر بن عياش أيضا : أو أثارة من علم يعني الخط. وقال قتادة : أو أثارة من علم خاصة من علم وكل هذه الأقوال متقاربة. وهي راجعة إلى ما قلناه وهو اختيار ابن جرير رحمه‌الله وأكرمه وأحسن مثواه.

وقوله تبارك وتعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناما ، ويطلب ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة ، وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ، لأنها جماد حجارة صم ، وقوله تبارك وتعالى : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) كقوله عزوجل : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥].

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ(٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩)

يقول عزوجل مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم : أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله عزوجل : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم ، أن يجيرني منه ، كقوله تبارك وتعالى : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) [الجن: ٢٢ ـ ٢٣] وقال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧] ولهذا قال سبحانه وتعالى هاهنا : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ

__________________

(١) المسند ١ / ٢٢٦.

٢٥٣

كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هذا تهديد لهم ووعيد أكيد وترهيب شديد.

وقوله عزوجل : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم وغفر ورحم ، وهذه الآية كقوله عزوجل في سورة الفرقان : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٥ ـ ٦] وقوله تبارك وتعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي لست بأول رسول طرق العالم بل جاءت الرسل من قبلي فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) ما أنا بأول رسول ، ولم يحك ابن جرير (١) ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.

وقوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : نزل بعدها (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة : إنها منسوخة بقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قالوا : ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين : هذا قد بين الله تعالى ، ما هو فاعل بك يا رسول الله ، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الفتح : ٥] هكذا قال ، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا : هنيئا لك يا رسول الله فما لنا؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ، وقال الضحاك (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ما أدري بما ذا أومر وبما ذا أنهى بعد هذا؟

وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال : أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة ، ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة (٢)؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ولا شك أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا ، أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء ، وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٢٧٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٢٧٧.

(٣) المسند ٦ / ٤٣٦.

٢٥٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه ، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عزوجل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه» فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يفعل بي».

قالت : فقلت والله لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذلك عمله» فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له «ما أدري وأنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يفعل بي» (١) وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك ، وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة وابن سلام والغميصاء (٢) وبلال وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم ، وقوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي إنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي بين النذارة وأمري ظاهر لكل ذي لب وعقل ، والله أعلم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٤)

يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ) أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزل علي لأبلغكموه ، وقد كفرتم به وكذبتموه. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي ، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣ ، والتعبير باب ١٣.

(٢) وقيل : هي الرميصاء بنت ملحان بن خالد بن زيد ، أم أنس بن مالك. انظر كتاب الثقات لابن حبان ٣ / ١٣٢.

٢٥٥

وقوله عزوجل : (فَآمَنَ) أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيته (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنتم عن اتباعه ، وقال مسروق : فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره ، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وهذه كقوله تبارك وتعالى : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص : ٥٣] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) قال مسروق والشعبي : ليس بعبد الله بن سلام هذه الآية مكية ، وإسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم واختاره ابن جرير.

وقال مالك عن أبي النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة ، إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه (١).

قال : وفيه نزلت (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث مالك به ، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ويوسف بن عبد الله بن سلام وهلال بن يساف والسدي والثوري ومالك بن أنس ، وابن زيد أنهم كلهم قالوا : إنه عبد الله بن سلام.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه ، يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا رضي الله عنهم ، وأشباههم وأقرانهم من المستضعفين والعبيد والإماء ، وما ذلك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا وأخطئوا خطأ بينا كما قال تبارك وتعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣] أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) وأما أهل السنة والجماعة ، فيقولون : في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم هو بدعة لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.

وقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي كذب قديم أي مأثور عن الناس الأقدمين فينتقصون القرآن وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب مناقب عبد الله بن سلام ، ومسلم فضائل الصحابة حديث ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٥٠.

٢٥٦

«بطر الحق وغمط الناس» (١).

ثم قال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) وهو التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ) أي لما قبله من الكتب (لِساناً عَرَبِيًّا) أي فصيحا بينا واضحا (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) تقدم تفسيرها في سورة حم السجدة وقوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلون (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم ، والله أعلم.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) (١٦)

لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عزوجل : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] وقوله جل جلاله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال عزوجل هاهنا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما.

وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة ، أخبرني سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد رضي الله عنه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى ، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ونزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) الآية. ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجة من حديث شعبة بإسناده نحوه وأطول منه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحام وغشيان وثقل وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي بمشقة أيضا من الطلق وشدته (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).

وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) [لقمان :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٤٧ ، وأبو داود في اللباس باب ٢٦ ، والترمذي في البر باب ٦١ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٥ ، ٤٢٧ ، وعند الترمذي بلفظ «غمص» بدل «غمط».

٢٥٧

١٤] وقوله تبارك وتعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي وصحيح ، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

قال محمد بن إسحاق بن يسار عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه ، فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت: ما يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط ، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيّ ما شاء ، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه : فأتاه فقال له ما تصنع ، قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون ذلك ، فقال له علي رضي الله عنه : أما تقرأ القرآن : قال : بلى. قال : أما سمعت الله عزوجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] فلم نجده بقي إلا ستة أشهر قال : فقال عثمان رضي الله عنه والله ما فطنت لهذا عليّ بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها قال : فقال بعجة : فو الله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه ، فلما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه. قال : وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة ، فما زالت تأكله حتى مات (١) ، رواه ابن أبي حاتم ، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عزوجل : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ).

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرين شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين لأن الله تعالى يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي قوي وشب وارتجل. (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين ، قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قلت لمسروق : متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال إذا بلغت الأربعين فخذ حذرك.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو عبد الله القواريري ، حدثنا عروة بن قيس الأزدي ، وكان قد بلغ مائة سنة ، حدثنا أبو الحسن السلولي عمر بن أوس قال : قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه ، وإذا بلغ الستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٩.

٢٥٨

غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه الله تعالى في أهل بيته ، وكتب في السماء أسير الله في أرضه» وقد روي هذا من غير وجه ، وهو في مسند الإمام أحمد (١) ، وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق ، تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ، ثم تركتها حياء من الله عزوجل ، وما أحسن قول الشاعر : [الطويل]

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه

فلمّا علاه قال للباطل : ابعد (٢)!

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي في المستقبل (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي نسلي وعقبي (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى اللهعزوجل ويعزم عليها ، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد «اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا».

قال الله عزوجل : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله تعالى المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فيغفر لهم الكثير من الزلل ويتقبل منهم اليسير من العمل.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله عزوجل من تاب إليه وأناب ، ولهذا قال تعالى : (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) قال ابن جرير (٣) حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف ، عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن الروح الأمين عليه الصلاة والسلام قال : «يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فيقتص بعضها ببعض ، فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة» قال : فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا قال : قلت فإن ذهبت الحسنة؟ قال (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله وزاد عن الروح الأمين.

__________________

(١) المسند ٣ / ٢١٨.

(٢) البيت لدريد بن الصمة في ديوانه ص ٦٩ ، والأصمعيات ص ١٠٨ ، والشعر والشعراء ص ٧٥٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨٢١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٩٨.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٢٨٦.

٢٥٩

قال : قال الرب جل جلاله : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره ، وهو حديث غريب وإسناده جيد لا بأس به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن معبد ، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن يوسف بن سعد ، عن محمد بن حاطب قال : ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال له يوما : لقد شهدت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه ، وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم ، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه ، فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده ، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم ، فسألوه فقال علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) قال : والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم ، قالها ثلاثا. قال يوسف فقلت لمحمد بن حاطب : الله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه؟ قال : الله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ(١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (٢٠)

لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز ، والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف ، لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه ، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وفي صحة هذا نظر ، والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما وهذا أيضا قاله ابن جريج. وقال آخرون عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما ، وهذا أيضا قول السدي ، وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق ، فقال لوالديه (أُفٍّ لَكُما) عقهما.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني ، قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وأن يستخلفه فقد

٢٦٠