تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

معمر بن المثنى بيت الأعشى فقال : [البسيط]

كأنّ مشيتها من بيت جارتها

مور السحابة لا ريث ولا عجل (١)

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي تذهب فتصير هباء منبثا وتنسف نسفا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزوا ولعبا (يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي يدفعون ويساقون (إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) وقال مجاهد والشعبي ومحمد بن كعب والضحاك والسدي والثوري : يدفعون فيها دفعا (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها) أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها و (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ولا يظلم الله أحدا بل يجازي كلا بعمله.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠)

أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وقد نجاهم من عذاب النار ، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] أي هذا بذاك تفضلا منه وإحسانا. وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله ، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه». وحدثنا أبي ، أخبرنا هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال : بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة عنده

__________________

(١) البيت في ديوان الأعشى ص ١٠٥ ، ولسان العرب (مور) ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٧٢ ، ٢ / ٢٥٦ ، وتاج العروس (مور)

٤٠١

من أزواجه وخدمه ، وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم ، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك ، فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا ، ومعنى (مَصْفُوفَةٍ) أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الصافات : ٤٤] (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حسانا من الحور العين ، وقال مجاهد (وَزَوَّجْناهُمْ) أنكحناهم بحور عين ، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته هاهنا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨)

يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه ، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة ، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك ، ولهذا قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، ثم قرأ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

ورواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به ، وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به ، ورواه البزار عن سهل بن بحر عن الحسن بن حماد الوراق ، عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفا ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي ، أخبرني محمد بن شعيب ، أخبرني شيبان ، أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) قال : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان ، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا.

وقال الحافظ الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا محمد بن

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٤٨٨.

٤٠٢

عبد الرحمن بن غزوان ، حدثنا شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أظنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك ، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به» وقرأ ابن عباس (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية.

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية يقول : والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار تلحق بهم (١) ، وهذا راجع إلى التفسير الأول ، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا ، وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد ، وهو اختيار ابن جرير وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال : سألت خديجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما في النار» فلما رأى الكراهية في وجهها قال : «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت : يا رسول الله فولدي منك؟ قال : «في الجنة» قال : ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم (٢) الآية.

هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فقد قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب أنى لي هذه؟ فيقول : باستغفار ولدك لك» (٤) إسناده صحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» (٥).

وقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد فقال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٨٨.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٣٥.

(٣) المسند ٢ / ٥٠٩.

(٤) أخرجه ابن ماجة في الأدب باب ١.

(٥) أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤ ، وأبو داود في الوصايا باب ١٤ ، والترمذي في الأحكام باب ٣٦ ، والنسائي في الوصايا باب ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٦ ، ٣٥٠.

٤٠٣

غيره من الناس ، سواء كان أبا أو ابنا كما قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) [المدثر : ٣٨ ـ ٤٠] وقوله : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى. وقوله : (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتعاطون فيها كأسا أي من الخمر ، قاله الضحاك (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا ، وقال ابن عباس : اللغو الباطل والتأثيم الكذب ، وقال مجاهد : لا يستبون ولا يؤثمون.

وقال قتادة : كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها ، كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية ، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا ، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٦ ـ ٤٧] وقال : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ١٩] وقال هاهنا (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) وقوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة ، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم ، كما قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة : ١٧ ـ ١٨].

وقوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤلنا (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).

وقد ورد في هذا المقام حديث رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن دينار ، حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان ، فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا ، فيقول أحدهما لصاحبه : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عزوجل فغفر لنا» ثم قال البزار : لا نعرفه يروى إلا بهذا الإسناد.

قلت : وسعيد بن دينار الدمشقي؟ قال أبو حاتم : هو مجهول وشيخه الربيع بن صبيح ، قد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه وهو رجل صالح ثقة في نفسه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا

٤٠٤

عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) فقالت : اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. قيل للأعمش في الصلاة؟ قال : نعم.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ(٣٤)

يقول تعالى آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه بأن يبلغ رسالته إلى عباده ، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه ، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش ، والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء (وَلا مَجْنُونٍ) وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي قوارع الدهر ، والمنون الموت ، يقولون ننظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه ، قال الله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي انتظروا فإني منتظر معكم ، وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.

قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قائل منهم : احتبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من هلك قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم ، فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (١).

ثم قال تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون ، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك. وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن ، قال الله تعالى : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه ، فليأتوا بمثل ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا القرآن ، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من الجن والإنس ما جاءوا بمثله ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٤٩٤.

٤٠٥

ولا بعشر سور من مثله ، ولا بسورة من مثله.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣)

هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ، أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ، قال البخاري (١) : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان قال : حدثوني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) كاد قلبي أن يطير (٢) ، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به. وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى ، وكان إذ ذاك مشركا ، فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.

ثم قال تعالى : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي أهم خلقوا السموات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله ، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له ، ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي المحاسبون للخلائق ، ليس الأمر كذلك بل الله عزوجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.

وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي مرقاة إلى الملأ الأعلى (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال ، أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شيء وليس لهم دليل ، ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثا ، واختيارهم لأنفسهم الذكور على الإناث ، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) أي أجرة إبلاغك إياهم رسالة الله ، أي لست تسألهم على ذلك شيئا

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٢ ، باب ١.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب ٩.

٤٠٦

(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يقول تعالى : أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه ، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين كفروا هم المكيدون (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله ، ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) أي عليهم يعذبون به لما صدقوا ، ولما أيقنوا بل يقولون : هذا سحاب مركوم ، أي متراكم ، وهذا كقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ـ ١٥]. وقال الله تعالى (فَذَرْهُمْ) أي دعهم يا محمد (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) وذلك يوم القيامة (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا ، لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئا (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). ثم قال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ٢١].

ولهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم ، بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه ، عادوا إلى أسوأ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير ، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه» وفي الأثر الإلهي : كم أعصيك ولا تعاقبني؟ قال الله تعالى : يا عبدي كم أعافيك وأنت لا تدري؟ وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال الضحاك : أي إلى الصلاة. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١١ / ٥٠٠.

٤٠٧

وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما ، وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول : هذا في ابتداء الصلاة ، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول ذلك (١).

وقال أبو الجوزاء (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي من نومك من فراشك ، واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد (٢) ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية. حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعارّ (٣) من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال ، رب اغفر لي ـ أو قال ثم دعا ـ استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» (٤) وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن مسلم به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال : من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيرا ، وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له.

وقد قال عبد الرزاق في جامعه : أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عثمان الفقير ، أن جبريل علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، قال معمر : وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس وهذا مرسل ، وقد وردت أحاديث مسندة من طرق يقوي بعضها بعضا بذلك ، فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ٦٥ ، والوتر باب ١٩ ، والنسائي في الافتتاح باب ١٨ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١ ، والدارمي في الصلاة باب ٣٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٥٠ ، ٦٩.

(٢) المسند ٥ / ٣١٣.

(٣) تعار : أي استيقظ.

(٤) أخرجه البخاري في التهجد باب ٢١ ، والترمذي في الدعوات باب ٢٦ ، وابن ماجة في الدعاء باب ١٦ ، والدارمي في الاستئذان باب ٥٣.

٤٠٨

ذلك» (١) رواه الترمذي ، وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال إسناد على شرط مسلم ، إلا أن البخاري علله ، قلت : علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني وغيرهم ، ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج ، على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، ورواه أبو داود ، واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم ، عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بآخر عمره : إذا أراد أن يقوم من المجلس «سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك». فقال رجل : يا رسول الله ، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ، قال : «كفارة لما يكون في المجلس» وقد روي مرسلا عن أبي العالية ، فالله أعلم.

وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله سواء ، وروي مرسلا أيضا والله أعلم ، وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال : «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه ، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر ، إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم على الصحيفة : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه ، ومن رواية جبير بن مطعم ، ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله ، وما يتعلق به ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩]. وقوله تعالى : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) قد تقدم في حديث ابن عباس ، أنهما الركعتان اللتان قبيل صلاة الفجر ، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعا «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» (٢) يعني ركعتي الفجر ، رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب الإمام أحمد القول بوجوبهما ، وهو ضعيف الحديث «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل علي غيرها قال : «لا إلا أن تطوع» (٣) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شيء من

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٢٧ ، والترمذي في الدعوات باب ٣٢.

(٢) أخرجه أبو داود في التطوع باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٠٥.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٤ ، والصوم باب ١ ، والحيل باب ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ٨ ، وأبو داود في الصلاة باب ١ ، والترمذي في الزكاة باب ٢.

٤٠٩

النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر (١) ، وفي لفظ لمسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» (٢).

آخر تفسير سورة الطور ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة النجم

وهي مكية

قال البخاري : حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ـ يعني الزبيدي ـ حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة (وَالنَّجْمِ) قال : فسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف (٣) ، وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن أبي إسحاق به ، وقوله في الممتنع إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤)

قال الشعبي وغيره : الخالق يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق ، رواه ابن أبي حاتم : واختلف المفسرون في معنى قوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني بالنجم الثريا إذا سقط مع الفجر ، وكذا روي عن ابن عباس وسفيان الثوري واختاره ابن جرير (٤) ، وزعم السدي أنها الزهرة ، وقال الضحاك (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) إذا رمي به الشياطين وهذا القول له اتجاه. وروى الأعمش عن مجاهد في قوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه البخاري في التهجد باب ٢٧.

(٢) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٩٦.

(٣) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٢٩ ، وتفسير سورة ٥٣ ، باب ٤ ، والمغازي باب ٨ ، ومسلم في المساجد حديث ١٠٥ ، ١٠٦ ، وأبو داود في السجود باب ٣ ، والنسائي في الافتتاح باب ٤٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٨ ، ٤٣٧ ، ٤٤٣.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٥٠٣.

٤١٠

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) يعني القرآن إذا نزل ، وهذه الآية كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة : ٧٥ ـ ٨٠].

وقوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه بارّ راشد تابع للحق ليس بضال ، وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم ، والغاوي هو العالم بالحق ، العادل عنه قصدا إلى غيره ، فنزه الله رسوله وشرعه ، عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود. وعن علم الشيء وكتمانه ، والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه وما بعثه به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ، ولهذا قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي ما يقول قولا عن هوى وغرض (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان كما رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ـ أو مثل أحد الحيين ـ ربيعة ومضر» فقال رجل : يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر؟ قال : «إنما أقول ما أقول».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن الأخنس ، أخبرنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر يتكلم في الغضب. فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق» (٣) ورواه أبو داود عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه» ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يونس ، حدثنا ليث عن محمد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا أقول إلا حقا قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٥٧ ، ٢٦١ ، ٢٦٧.

(٢) المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٢.

(٣) أخرجه أبو داود في العلم باب ٣ ، والدارمي في المقدمة باب ٤٣.

(٤) المسند ٢ / ٣٤٠ ، ٣٦٠.

٤١١

يا رسول الله؟ قال : «إني لا أقول إلا حقا» (١).

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى(٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى(١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه علمه الذي جاء به إلى الناس (شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل عليه الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢١] وقال هاهنا (ذُو مِرَّةٍ) أي ذو قوة ، قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس : ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خلق طويل حسن. ولا منافاة بين القولين فإنه عليه‌السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة.

وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» (٢) وقوله تعالى : (فَاسْتَوى) يعني جبريل عليه‌السلام ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة : والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد هو مطلع الشمس. وقال قتادة : هو الذي يأتي منه النهار ، وكذا قال ابن زيد وغيرهم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا مصرف بن عمرو اليامي أبو القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف ، حدثني أبي عن الوليد هو ابن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة ، أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى (فَاسْتَوى) أي هذا الشديد القوي ذو المرة هو ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأفق الأعلى ، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى وذلك ليلة الإسراء ، كذا قال ولم يوافقه أحد على ذلك ، ثم شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال وهو كقوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا) فعطف بالآباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن فكذلك قوله (فَاسْتَوى) وهو ، قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الترمذي في البر باب ٥٧.

(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤ ، والترمذي في الزكاة باب ٢٣ ، والنسائي في الزكاة باب ٩٠ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٦ ، والدارمي في الزكاة باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٤ ، ١٩٢ ، ٣٧٧ ، ٣٨٩ ، ٤ / ٦٢ ، ٥ / ٣٧٥.

٤١٢

ألم تر أن النّبع يصلب عوده

ولا يستوي والخروع المتقصّف (١)

وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه‌السلام وتدلى إليه فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه‌السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقْرَأْ) ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال. فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء ، يا محمد أنت رسول الله حقا وأنا جبريل ، فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه ، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الأفق ، فاقترب منه وأوحى إليه عن الله عزوجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة وجلالة قدره وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه.

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل عليه‌السلام فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت فضل علمه بالله علي. وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحي» ثم قال البزار : «لا يرويه إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة.

(قلت) الحارث بن عبيد هذا هو أبو قدامة الإيادي أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعفه ، وقال : ليس هو بشيء ، وقال الإمام أحمد : مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كثر وهمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد ، فهذا الحديث من غرائب رواياته ، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقا عجيبا ولعله منام ، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله أنه قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق ،

__________________

(١) البيت لجرير في ديوانه ص ٢٩٨ ، وبلا نسبة في أساس البلاغة (قصف) ، وتفسير الطبري ١١ / ٥٠٦.

(٢). ١ / ٣٩٥ ، ٣٩٨ ، ٤٠٧.

٤١٣

يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم. انفرد به أحمد. وقال أحمد (١) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن منبه عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل أن يراه في صورته فقال : ادع ربك ، فدعا ربه عزوجل فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع وينتشر ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعق فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه ، تفرد به أحمد.

وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هبار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه سبحانه وتعالى ، فانطلق حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال : يا بني ما قلت له ، فذكر له ما قال له ، قال : فما قال لك؟ قال : قال : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» قال : يا بني والله ما آمن عليك دعاءه ، فسرنا حتى نزلنا الشراة وهي مأسدة ونزلنا إلى صومعة راهب فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسد فيها كما تسرح الغنم. فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة ، والله ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لا بني عليها ثم افرشوا حولها ، ففعلنا فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فإذا هو فوق المتاع ، فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد.

وقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان بينه وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاب قوسين ، أي بقدرهما إذا مدا ، قاله مجاهد وقتادة وقد قيل إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها. وقوله تعالى : (أَوْ أَدْنى) قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] أي ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله : (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧] وقوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع وهكذا هاهنا هذه الآية (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله تعالى عليه

__________________

(١) المسند ١ / ٣٢٢.

٤١٤

وسلم إنما هو جبريل عليه‌السلام ، وهو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله تعالى.

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال : «رأى محمد ربه بفؤاده مرتين» (١) فجعل هذه إحداهما ، وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الإسراء : «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى» ، ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية فإن هذه كانت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ، ولهذا قال بعده : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.

وقد قال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جبريل له ستمائة جناح».

وقال ابن وهب : حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان أول شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد (٣) ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد يا محمد! فنظر رسول الله يمينا وشمالا فلم ير أحدا ثلاثا ، ثم رفع بصره فإذا هو ثاني إحدى رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال يا محمد جبريل جبريل يسكنه. فهرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئا ، ثم خرج من الناس ثم نظر فرآه فدخل في الناس فلم ير شيئا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عزوجل (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) يعني جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ويقولون : القاب نصف إصبع ، وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما ، رواه ابن جرير (٤) وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب وفي حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر شاهدا لهذا.

وروى البخاري عن طلق بن غنام عن زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : حدثنا عبد الله أن محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٨٦.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٠٨.

(٣) أجياد : موضع بأسفل مكة.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٣ ، في الترجمة.

٤١٥

وقال ابن جرير (١) : حدثني ابن بزيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ، فعلى ما ذكرناه يكون قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى ، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل ، وكلا المعنيين صحيح. وقد ذكر عن سعيد بن جبير في قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : أوحى الله إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) [الضحى : ٦] ـ (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] وقال غيره : أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

وقوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) قال مسلم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال : رآه بفؤاده مرتين ، وكذا رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثله ، وكذا قال أبو صالح والسدي وغيرهما : إنه رآه بفؤاده مرتين (٢) ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره. وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد ، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم ، وقول البغوي في تفسيره وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة فيه نظر والله أعلم.

وقال الترمذي (٣) : حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان ، حدثنا يحيى بن كثير العنبري عن سلمة بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه ، قلت : أليس الله يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين. ثم قال : حسن غريب. وقال أيضا : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال : لقي ابن عباس كعبا بعرفة فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم ، فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين.

وقال مسروق : دخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ، فقالت : لقد تكلمت بشيء قفّ له شعري فقلت : رويدا ، ثم قرأت (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فقالت : أين يذهب بك إنما هو جبريل ، من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كنتم شيئا مما أمر به أو يعلم الخمس التي

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥١١.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٨٦.

(٣) تفسير سورة ٥٣ ، باب ٤.

٤١٦

قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل ، لم يره في صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في أجياد وله ستمائة جناح قد سد الأفق.

وقال النسائي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد عليهم الصلاة والسلام؟ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أني أراه» (١) وفي رواية «رأيت نورا» (٢) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال : قالوا : يا رسول الله رأيت ربك؟ قال : «رأيته بفؤادي مرتين» ثم قرأ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ورواه ابن جرير (٣) عن ابن حميد عن مهران عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال : «لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين» ثم تلا (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى).

ثم قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، أخبرني عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ، قلت نعم ، قال : قد رآه ثم قد رآه ، قال : فسألت عنه الحسن فقال : قد رأى جلاله وعظمته ورداءه ، وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مجاهد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، أخبرنا أبو خلدة عن أبي العالية قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ربك؟ قال : «رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ، ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير» وذلك غريب جدا.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ربي عزوجل» فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد (٥) أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة ـ أحسبه يعني في النوم ـ فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قال : قلت لا ، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩١.

(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٢.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٥١٠.

(٤) المسند ١ / ٢٩٠.

(٥) المسند ١ / ٣٦٨.

٤١٧

ثديي ـ أو قال نحري ـ فعلمت ما في السموات وما في الأرض. ثم قال : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قال : قلت نعم ، يختصمون في الكفارات والدرجات ، قال : وما الكفارات والدرجات؟ قال : قلت المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه ، وقال : قل يا محمد إذا صليت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون قال : والدرجات بذل الطعام وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام» وقد تقدم في آخر سورة (ص) عن معاذ نحوه.

وقد رواه ابن جرير (١) من وجه آخر عن ابن عباس وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال : حدثني أحمد بن عيسى التميمي ، حدثني سليمان بن عمر بن سيار ، حدثني أبي عن سعيد بن زربي عن عمر بن سليمان ، عن عطاء عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت لا يا رب ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما في السموات والأرض فقلت يا رب في الدرجات والكفارات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فقلت يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما وفعلت وفعلت فقال ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أفعل بك ألم أفعل بك؟ قال فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها قال فذاك قوله في كتابه : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي» إسناده ضعيف.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هبار بن الأسود رضي الله عنه أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لأهل مكة اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى ، فبلغ قوله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سلط الله عليه كلبا من كلابه. قال هبار : فكنت معهم فنزلنا بأرض كثيرة الأسد ، قال فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا واحدا حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم. وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة أن ذلك كان بأرض الزرقاء وقيل بالسراة ، وأنه خالف ليلتئذ ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله فجاء الأسد فجعل يزأر ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه لعنه الله.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥١٠.

٤١٨

الإسراء. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة (سُبْحانَ) بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ويستشهد بهذه الآية ، وتابعه جماعة من السلف والخلف ، وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل (٢) من الدر والياقوت» وهذا إسناد جيد قوي ، وقال أحمد (٣) أيضا : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به أعلم. إسناده حسن أيضا.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين ، حدثني عاصم بن بهدلة قال ، سمعت شقيق بن سلمة يقول : سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح» سألت عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني ، قال فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب ، وهذا أيضا إسناد جيد.

وقال أحمد (٥) : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا حسين ، حدثنا عاصم بن بهدلة حدثني شقيق بن سلمة قال : سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني جبريل عليه‌السلام في خضر معلق به الدر» إسناد جيد أيضا.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يحيى عن إسماعيل ، حدثنا عامر قال : أتى مسروق عائشة فقال يا أم المؤمنين هل رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عزوجل؟ قالت : سبحان الله لقد قفّ شعري لما قلت ، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤] الآية. ومن أخبرك

__________________

(١) المسند ١ / ٤٦٠.

(٢) التهاويل : الأشياء المختلفة الألوان.

(٣) المسند ١ / ٣٩٥.

(٤) المسند ١ / ٤٠٧.

(٥) المسند ١ / ٤٠٧.

(٦) المسند ٦ / ٤٩ ، ٥٠.

٤١٩

أن محمدا قد كتم فقد كذب ، ثم قرأت (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة: ٦٧] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين.

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال : كنت عند عائشة فقلت : أليس الله يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ٢٣] (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال : «إنما ذاك جبريل» لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض (٢) ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به.

[رواية أبي ذر] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان حدثنا همام : حدثنا قتادة عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسألته. قال : وما كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل رأى ربه عزوجل؟ فقال : إني قد سألته فقال : «قد رأيته نورا أني أراه» هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أني أراه» (٤). وقال حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لسألته. فقال : عن أي شيء كنت تسأله؟ قال : قلت : كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر : قد سألته فقال «رأيت نورا» (٥) وقد حكى الخلال في علله أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث فقال : ما زلت منكرا له وما أدري ما وجهه.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عون الواسطي ، أخبرنا هشيم عن منصور عن الحكم عن إبراهيم عن أبيه عن أبي ذر قال : رآه بقلبه ولم يره بعينه ، وحاول ابن خزيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وبين أبي ذر ، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الإسراء فأجابه بما أجابه به ، ولو سأله بعد الإسراء لأجابه بالإثبات ، وهذا ضعيف جدا ، فإن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد سألت عن ذلك بعد الإسراء ولم يثبت لها الرؤية ، ومن قال إنه خاطبها على قدر عقلها أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه كابن خزيمة في كتاب التوحيد ، فإنه هو المخطئ والله أعلم. وقال النسائي : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام عن منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال : رأى

__________________

(١) المسند ٦ / ٢٣٦ ، ٢٤١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٣ ، باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٨٧.

(٣) المسند ٥ / ١٤٧.

(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩١.

(٥) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٢.

٤٢٠