تفسير القرآن العظيم - ج ٧

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٧

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٤٨٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر ، عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال رأى جبريل عليه‌السلام (١).

وقال مجاهد في قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل في صورته مرتين ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وقوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان وغشيها نور الرب وغشيتها ألوان ما أدري ما هي؟ وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا مالك بن مغول ، حدثنا الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال فراش من ذهب ، قال : وأعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات (٣). انفرد به مسلم (٤).

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره ـ شك أبو جعفر ـ قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى إلى السدرة ، فقيل له إن هذه السدرة ، فغشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر ، وقال فكلمه عند ذلك فقال له سل. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا ، فرآها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأى ربه بقلبه ، وقال ابن زيد قيل : يا رسول الله أي شيء رأيت يغشى تلك السدرة؟ قال : «رأيت يغشاها فراش من ذهب ، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله عزوجل».

وقوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذهب يمينا ولا شمالا (وَما طَغى) ما جاوز ما أمر به ، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي ، وما أحسن ما قال الناظم :

رأى جنة المأوى وما فوقها ولو

رأى غيره ما قد رآه لتاها

وقوله تعالى : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) كقوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) [طه : ٢٣] أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا ، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٨٣.

(٢) المسند ١ / ٤٢٢.

(٣) المقحمات : الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار.

(٤) كتاب الإيمان حديث ٢٧٩.

٤٢١

تلك الليلة لم تقع لأنه قال : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس ، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة سبحان.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن طلحة عن الوليد بن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة قال محمد أظنه عن ابن مسعود أنه قال : إن محمدا لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما مرة فإنه سأله أن يريه نفسه في صورته فأراه صورته فسد الأفق ، وأما الأخرى فإنه صعد معه حين صعد به ، وقوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : فلما أحسّ جبريل ربه عزوجل عاد في صورته وسجد ، فقوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) قال : خلق جبريل عليه‌السلام ، وهكذا رواه أحمد وهو غريب.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى(٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦)

يقول تعالى مقرعا للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم البيوت لها مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه‌السلام (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ) وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف ، له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش ، قال ابن جرير (٢) : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات ، يعنون مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا اللات بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في الجاهلية السويق ، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.

وقال البخاري (٣) : حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم ، حدثنا أبو الأشهب ، حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : (اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قال : كان اللات رجلا يلت السويق سويق الحاج ، قال ابن جرير (٤) : وكذا العزى من العزيز ، وكانت شجرة عليها بناء وأستار

__________________

(١) المسند ١ / ٤٠٧.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٢٠.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٣ ، باب ٢.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٥٢٠.

٤٢٢

بنخلة ، وهي بين مكة والطائف ، وكانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».

وروى البخاري (١) من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق» فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ، كما قال النسائي : أخبرنا أحمد بن بكار ، وعبد الحميد بن محمد قالا : حدثنا مخلد ، حدثنا يونس عن أبيه ، حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى ، فقال لي أصحابي : بئس ما قلت! قلت هجرا. فأتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له فقال : «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم لا تعد» (٢).

وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري (٣) عن عائشة نحوه ، وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر تعظمها العرب كتعظيم الكعبة. غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.

قال ابن إسحاق في السيرة : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة. بها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها ، وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيمعليه‌السلام ومسجده : فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة ، وكانت سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم ، حلفاء بني هاشم (٤).

قلت : بعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول : [رجز]

يا عزّى كفرانك لا سبحانك

إنّي رأيت الله قد أهانك (٥)

وقال النسائي : أخبرنا علي بن المنذر ، أخبرنا ابن فضيل ، حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات ، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال : «ارجع فإنك لم تصنع شيئا» فرجع خالد ، فلما أبصرته السدنة وهم

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٣ ، باب ٢.

(٢) أخرجه النسائي في الأيمان باب ١٢.

(٣) تفسير سورة ٥٣ ، باب ٢.

(٤) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٨٣ ، ٨٤.

(٥) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (عزز) ، وتاج العروس (عزز) ، والمخصص ١٥ / ١٩٠.

٤٢٣

حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون : يا عزى ، يا عزى ، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ، ثم رجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال «تلك العزى!».

قال ابن إسحاق : وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب(١).

قلت : وقد بعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المغيرة بن شعبة ، وأبا سفيان صخر بن حرب ، فهدماها وجعلا مكانها مسجدا بالطائف. قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها ، ويقال علي بن أبي طالب قال : وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة. قلت : وكان يقال لها الكعبة اليمانية ، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية ، فبعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه ، قال : وكانت فلس لطيئ ولمن يليها بجبل طيئ من سلمى وأجا ، قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه ، واصطفى منه سيفين : الرسوب والمخذم ، فنفله إياهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام ، وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت. قال ابن إسحاق : وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين هدمها في الإسلام : [الطويل]

ولقد شددت على رضاء شدة

فتركتها قفرا بقاع أسحما

قال ابن هشام : إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل : [الوافر]

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وعمرت من عدد السنين مئينا

مائة حدتها بعدها مائتان لي

وعمرت من عدد الشهور سنينا

هل ما بقي إلا كما قد فاتنا

يوم يمر وليلة تحدونا

قال ابن إسحاق : وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد ، وله يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة : [الكامل]

بين الخورنق والسّدير وبارق

والبيت ذي الكعبات من سنداد (٢)

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٨٥.

(٢) البيت للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٧ ، ولسان العرب (كعب) ، (برق) ، وكتاب العين ١ / ٢٠٧ ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٢٥ ، وتاج العروس (كعب) ، (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٩ ، والشعر والشعراء ص ٢٦١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٦٥.

٤٢٤

ولهذا قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ثم قال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى ، وتختارون لأنفسكم الذكور ، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت (قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جورا باطلة ، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها ، وقال تعالى منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة :

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي من تلقاء أنفسكم (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجة (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم ، وإلا حظ نفوسهم في رئاستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له.

ثم قال تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أي ليس كل من تمنى خيرا حصل له (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء : ١٢٣] ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال ، ولا كل من ود شيئا يحصل له. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى ، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته» تفرد به أحمد.

وقوله : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والآخرة والمتصرف في الدنيا والآخرة ، فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله ، وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠)

يقول تعالى منكرا على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى ، وجعلهم لها أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً

__________________

(١) المسند ١ / ٣٥٧ ، ٣٨٧.

٤٢٥

أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩] ولهذا قال تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم علم صحيح يصدّق ما قالوه ، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا يجدي شيئا ولا يقوم أبدا مقام الحق ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»(١).

وقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره. وقوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا ، فذاك هو غاية ما لا خير فيه ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه. وقد روى الإمام أحمد (٢) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا» (٣) وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي هو الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل الذي لا يجور أبدا لا في شرعه ولا في قدره.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي لا يتعاطون المحرمات والكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأخرى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) [النساء : ٣١] وقال هاهنا : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) وهذا استثناء منقطع ، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الوصايا باب ٨ ، والنكاح باب ٤٥ ، والفرائض باب ٢ ، والأدب باب ٥٧ ، ومسلم في البر حديث ٢٨ ، والترمذي في البر باب ٥٦ ، ومالك في حسن الخلق حديث ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٥ ، ٢٨٧ ، ٣١٢ ، ٣٤٢ ، ٤٧٠ ، ٤٨٢ ، ٤٩١ ، ٤٩٢ ، ٥٠٤ ، ٥١٧ ، ٥٣٩.

(٢) المسند ٦ / ٧١.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٧٩.

٤٢٦

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور ، حدثنا معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم ، وكذا قال مسروق والشعبي. وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا اللَّمَمَ) إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم. وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه ، قال الشاعر : [رجز]

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك ما ألمّا؟ (٥)

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه. قال : وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما؟

وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٧٦ ، ٣٤٣ ، ٣٧٩ ، ٤٣١ ، ٥٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ١٢ ، والقدر باب ٩ ، ومسلم في القدر حديث ٢٠ ، ٢١.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٥١٦.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٥٢٨.

(٥) الرجز لأبي خراش في الأزهية ص ١٥٨ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٩٠ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٣٤٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٦٢٥ ، ولسان العرب (جمم) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢١٦ ، وتاج العروس (جمم) ، ولأمية بن أبي الصلت في الأغاني ٤ / ١٣١ ، ١٣٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٤ ، ولسان العرب (لمم) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٣٤٧ ، ٤٢٠ ، وكتاب العين ٨ / ٣٥٠ ، وتاج العروس (لمم) ، ولأمية أو لأبي خراش في خزانة الأدب ٢ / ٢٩٥ ، ولسان العرب (لمم) ، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٢ ، والجنى الداني ص ٢٩٨ ، ولسان العرب (لا) ، ومغني اللبيب ١ / ٢٤٤ ، وكتاب العين ٨ / ٣٢١ ، وديوان الأدب ٣ / ١٦٦ ، وتاج العروس (لا) ، وتفسير الطبري ١١ / ٥٢٧.

٤٢٧

عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : هو الرجل الذي يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما؟

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم قال : هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق ، وكذا قال البزار : لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه ، وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل ، وفي صحته مرفوعا نظر.

ثم قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمم من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود ، قال : فذلك الإلمام ، وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود إليه.

وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول الله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وقال ابن جرير (٢) عن عطاء عن ابن عباس (إِلَّا اللَّمَمَ) يلم بها في الحين قلت : الزنا؟ قال : الزنا ثم يتوب. وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اللمم ، الذي يلم المرة. وقال السدي : قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب ، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم ، حكاه البغوي.

وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح ـ وهو ضعيف ـ عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال : اللمم ما دون الشرك ، وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الآخرة ، وكذا رواه شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة ، تكفره الصلوات فهو اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٢٧.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٢٧ ، ٥٢٨.

٤٢٨

حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الآخرة. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك.

وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي رحمته وسعت كل شيء ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها كقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣] وقوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر عنكم ، وتقع منكم حين أنشأ أباكم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير. وكذا قوله : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد؟ قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ثم كنا مراضع فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا لا أبالك فماذا بعد هذا ننتظر؟ رواه ابن أبي حاتم عنه.

وقوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٤٩]. وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا : بم نسميها؟ قال : «سموها زينب» (١) وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٢) حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك» (٣) ثم رواه عن غندر عن شعبة عن خالد الحذاء به ، وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة من طرق عن خالد الحذاء به.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا : أخبرنا سفيان عن منصور عن

__________________

(١) أخرجه مسلم في الآداب حديث ١٦ ، ١٧.

(٢) المسند ٥ / ٤١ ، ٤٥ ، ٤٦.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٥٤ ، ٩٥ ، ومسلم في الزهد حديث ٦٥ ، وأبو داود في الحدود باب ٢٣.

(٤) المسند ٦ / ٥.

٤٢٩

إبراهيم عن همام بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب (١). ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري عن منصور به.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى(٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١)

يقول تعالى ذاما لمن تولى عن طاعة الله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١] (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) [القيامة : ٣٢] قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم قطعه (٢) ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وغير واحد. قال عكرمة وسعيد : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرا ، فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل.

وقوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق وقطع معروفه ، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عيانا؟ أي ليس الأمر كذلك. وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا ، ولهذا جاء في الحديث «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا» وقد قال الله تعالى (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : ٣٩]

وقوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال سعيد بن جبير والثوري : أي بلغ جميع ما أمر به ، وقال ابن عباس (وَفَّى) لله بالبلاغ ، وقال سعيد بن جبير (وَفَّى) ما أمر به ، وقال قتادة (وَفَّى) طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] فقام بجميع الأوامر وترك جميع النواهي وبلغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله. قال الله تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٣].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٨ ، ٦٩ ، وأبو داود في الأدب باب ٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ١١ / ٥٣١.

٤٣٠

هذه الآية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال «أتدري ما وفى؟» قلت : الله ورسوله أعلم. قال «وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار» ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير وهو ضعيف.

وقال الترمذي في جامعه : حدثنا أبو جعفر السمناني ، حدثنا أبو مسهر ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل أنه قال : «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» (١) قال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا أبي ، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) حتى ختم الآية.

ورواه ابن جرير (٢) عن أبي كريب عن رشدين بن سعد عن زبان به.

ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨] (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) أي كما لا يحمل عليه وزر غيره ، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه‌الله ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.

وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به» (٣) فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله ، كما جاء في الحديث «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» (٤) والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الوتر باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٨٦ ، ٢٨٧.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٣٣.

(٣) أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤ ، وأبو داود في الوصايا باب ١٤ ، والترمذي في الأحكام باب ٣٦ ، والنسائي في الوصايا باب ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٧٢.

(٤) أخرجه النسائي في البيوع باب ١ ، وابن ماجة في التجارات باب ١ ، والدارمي في البيوع باب ٦ ، وأحمد ـ

٤٣١

آثار عمله ووقفه ، وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢] الآية. والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله.

وثبت في الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» (١). وقوله تعالى : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) أي يوم القيامة كقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٠٥] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وهكذا قال هاهنا : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي الأوفر.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا(٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى(٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥)

يقول تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي المعاد يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مسلم بن خالد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود إني رسول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو النار.

وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) قال : لا فكرة في الرب. قال البغوي : وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة».

كذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ ، وإنما الذي في الصحيح «يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته» (٢) وفي الحديث الآخر الذي في السنن «تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله تعالى فإن الله خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة» أو كما قال :

وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما

__________________

ـ في المسند ٦ / ٣١ ، ٤٢ ، ١٢٦ ، ١٢٧ ، ١٩٣ ، ٢٢٠.

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ٦ ، والنسائي في الزكاة باب ٦٤ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٤ ، ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٨٠ ، ٣٩٧ ، ٥٠٥ ، ٥٢١.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢١٤.

٤٣٢

وهما مختلفان (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) كقوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) كقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].

وقوله تعالى : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة وهي النشأة الآخرة يوم القيامة (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي ملك عباده المال وجعله لهم قنية مقيما عندهم لا يحتاجون إلى بيعه ، فهذا تمام النعمة عليهم ، وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين ، منهم أبو صالح وابن جرير وغيرهما ، وعن مجاهد (أَغْنى) موّل (وَأَقْنى) أخدم ، وكذا قال قتادة ، وقال ابن عباس ومجاهد أيضا (أَغْنى) أعطى (وَأَقْنى) رضى.

وقيل : معناه أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه ، قاله الحضرمي بن لاحق ، وقيل : (أَغْنى) من شاء من خلقه ، (وَأَقْنى) أي أفقر من شاء منهم ، قاله ابن زيد ، حكاهما ابن جرير وهما بعيدان من حيث اللفظ. وقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم : هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له (مرزم الجوزاء) كانت طائفة من العرب يعبدونه (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهم قوم هود ويقال لهم عاد بن إرم بن سام بن نوح كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) [الفجر : ٦ ـ ٨] فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٦ ـ ٧] أي متتابعة.

وقوله تعالى : (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي دمرهم فلم يبق منهم أحدا (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي أشد تمردا من الذين من بعدهم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) يعني مدائن لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال : فغشاها ما غشى يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء : ١٧٣] قال قتادة ، كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، فانضرم عليهم الوادي شيئا فشيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن وهب بن عطية عن الوليد بن مسلم عن خليد عنه به ، وهو غريب جدا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري؟ قاله قتادة وقال ابن جريج (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) يا محمد والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير (١).

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ(٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٤٠.

٤٣٣

تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢)

(هذا نَذِيرٌ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) أي من جنسهم أرسل كما أرسلوا كما قال تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت القريبة وهي القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي لا يدفعها إذا من دون الله أحد ولا يطلع على علمها سواه ، والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم كما قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] وفي الحديث : «أنا النذير العريان» (١) أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئا ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عريانا مسرعا ، وهو مناسب لقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة. كما قال في أول السورة التي بعدها : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني أبو حاتم لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبرتهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه».

وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبو نضرة : لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال : «مثلي ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال : «مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان» ثم قال : «مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة ، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم» ثم يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ذلك» وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان.

ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم (تَعْجَبُونَ) من أن يكون صحيحا (وَتَضْحَكُونَ) منه استهزاء وسخرية (وَلا تَبْكُونَ) أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٩].

وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال : الغناء هي يمانية أسمد لنا غن لنا ، وكذا قال عكرمة ، وفي رواية عن ابن عباس (سامِدُونَ) معرضون ، وكذا قال مجاهد وعكرمة ، وقال الحسن غافلون ، وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفي رواية عن ابن عباس تستكبرون ، وبه يقول السدي ، ثم قال تعالى آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوحيد والإخلاص (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٦ ، والاعتصام باب ٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٦.

(٢) المسند ١ / ٤٠٢ ، ٥ / ٣٣١ ، ٦ / ٧٠.

٤٣٤

فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا.

قال البخاري (١) : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد به دون مسلم ، وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال : قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه (٣). وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.

آخر تفسير سورة النجم.

تفسير سورة القمر

وهي مكية

قد تقدم في حديث أبي واقد : أن رسول الله كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر ، وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار لإشمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥)

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقال : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] وقد وردت الأحاديث بذلك. قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا : حدثنا خلف بن موسى ، حدثني أبي عن قتادة عن أنس أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب ، فلم يبق منها إلا شف يسير فقال : «والذي

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٣ ، باب ٤.

(٢) المسند ٦ / ٣٩٩ ، ٤٠٠.

(٣) أخرجه النسائي في الافتتاح باب ٤٩.

٤٣٥

نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيرا» قلت : هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العمي عن أبيه ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : ربما أخطأ.

[حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا شريك ، حدثنا سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عمر قال : كنا جلوسا عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والشمس على قعيقعان (٢) بعد العصر فقال : «ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى» وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى (٤) وأخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا محمد بن عبيد ، أخبرنا الأعمش عن أبي خالد عن وهب السوائي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها» وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني إسماعيل بن عبيد الله قال : قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله : ماذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر به الساعة؟ فقال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أنتم والساعة كهاتين» تفرد به أحمد رحمه‌الله ، وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه (٧). وقال الإمام أحمد (٨) : حدثنا بهز بن أسد ، حدثنا سليمان ابن المغيرة ، حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير قال : خطب عتبة بن غزوان ، قال بهز ، وقال قبل هذه المرة : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم(٩) وولت حذاء (١٠) ، ولم يبق منها إلا

__________________

(١) المسند ٢ / ١١٥ ، ١١٦.

(٢) قعيقعان : جبل بمكة.

(٣) المسند ٥ / ٣٨٨.

(٤) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٩ ، ومسلم في الفتن حديث ١٣٢ ، ١٣٥.

(٥) المسند ٤ / ٣٠٩.

(٦) المسند ٣ / ٢٢٣.

(٧) أخرجه البخاري في المناقب باب ١٧ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٢٤ ، ١٢٥.

(٨) المسند ٤ / ١٧٤ ، ٥ / ٦١.

(٩) آذنت برم : أي آذنت بانقطاع.

(١٠) ولت حذاء : أي ولست مسرعة.

٤٣٦

صبابة (١) كصبابة الإناء يتصابها صاحبها (٢) ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها ، فانتقلوا منها بخير ما بحضرتكم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا ، والله لتملئونه أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ (٣) من الزحام» (٤) وذكر تمام الحديث انفرد به مسلم.

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثني ابن علية ، أخبرنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة ، فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال : ألا إن الله يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق (٥) ، فقلت لأبي : أيستبق الناس غدا؟ فقال : يا بني إنك لجاهل ، إنما هو السباق بالأعمال ، ثم جاءت الجمعة الأخرى ، فحضرنا فخطب حذيفة فقال : ألا إن الله عزوجل يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة (٦).

وقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قد كان هذا في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : «خمس قد مضين الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر» (٧) وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

[رواية أنس بن مالك] : قال الإمام أحمد (٨) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين فقال : (اقْتَرَبَتِ

__________________

(١) الصبابة : البقية القليلة.

(٢) يتصابها صاحبها : أي يشربها.

(٣) الكظيظ : الممتلئ.

(٤) أخرجه مسلم في الزهد باب ١٤.

(٥) اليوم المضمار وغدا السباق : أي اليوم العمل في الدنيا وغدا السباق إلى الجنة.

(٦) تفسير الطبري ١١ / ٥٤٥ ، ٥٤٦.

(٧) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٢ باب ٤ ، وسورة ٢٥ باب ٤ ، وسورة ٤٤ باب ١ ، ٥ ، ٦.

(٨) المسند ٣ / ١٦٥.

٤٣٧

السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ، وقال البخاري : حدثني عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك ، أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما (٢). وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدب عن شيبان عن قتادة ، ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي ويحيى القطان وغيرهما عن شعبة عن قتادة به.

[رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار فرقتين : فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد. فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن.

وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به ، ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم ، كلاهما عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده فذكره.

[رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما] قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا بكر عن جعفر عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : انشق القمر في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك به مثله. وقال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود بن أبي هند عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه ، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا ، وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، حدثنا محمد بن يحيى القطعي ، حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : سحر القمر ، فنزلت (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ـ إلى قوله ـ (مُسْتَمِرٌّ).

[رواية عبد الله بن عمر] قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر

__________________

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٤.

(٢) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ٣٦ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤٣ ، ٤٥.

(٣) المسند ٤ / ٨١ ، ٨٢.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب باب ٣٦ ، وتفسير سورة ٥٤ باب ١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤٧.

٤٣٨

أحمد بن الحسن القاضي قالا : حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدوري : حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن الأعمش ، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انشق فلقتين ، فلقة من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد» (١) وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد به ، قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وقال الترمذي : حسن صحيح.

[رواية عبد الله بن مسعود] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقتين ، حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا» (٣) وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به ، وأخرجاه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود به.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، حدثنا عمي يحيى بن عيسى ، عن الأعمش عن إبراهيم عن رجل عن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى ، فانشق القمر فأخذت فرقة خلف الجبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اشهدوا اشهدوا» قال البخاري: وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله بمكة وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة (٥). قال : فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفّار (٦) ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، قال : فجاء السفار فقالوا ذلك.

وقال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا هشيم ، حدثنا مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين ، فقال كفار قريش أهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد

__________________

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٤٤ ، ٤٥ ، والترمذي في تفسير سورة ٥٤ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٤٧.

(٢) المسند ١ / ٣٧٧.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٤ باب ١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤٨.

(٤) تفسير الطبري ١١ / ٥٤٥.

(٥) ابن أبي كبشة : رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان ، وعبد الشعرى. فلما خالفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عبادة الأوثان شبهوه به ، وقيل إنّ ابن أبي كبشة كان جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمة.

(٦) السفّار : أي المسافرون.

٤٣٩

صدق ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قال : فسئل السفار ، قال : وقدموا من كل وجهة فقالوا : رأيناه ، ورواه ابن جرير من حديث المغيرة به ، وزاد فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). ثم قال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب عن محمد هو ابن سيرين قال : نبئت أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول : لقد انشق القمر.

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثني محمد بن عمارة ، حدثنا عمرو بن حماد ، حدثنا أسباط عن سماك عن إبراهيم عن الأسود ، عن عبد الله قال : لقد رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق ، ورواه الإمام أحمد (٣) عن مؤمل عن إسرائيل عن سماك عن إبراهيم ، عن الأسود عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر. وقال ليث عن مجاهد : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار فرقتين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : «اشهد يا أبا بكر» فقال المشركون : سحر القمر حتى انشق.

وقوله تعالى ، (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي دليلا وحجة وبرهانا (يُعْرِضُوا) أي لا ينقادون له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحر سحرنا به ومعنى (مُسْتَمِرٌّ) أي ذاهب ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما : أي باطل مضمحل لا دوام له (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي كذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.

وقوله : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) قال قتادة : معناه أن الخير واقع بأهل الخير ، والشر واقع بأهل الشر ، وقال ابن جريج : مستقر بأهله ، وقال مجاهد (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي يوم القيامة ، وقال السدي : مستقر أي واقع ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في القرآن (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب. وقوله تعالى: (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩] وكذا قوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١].

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٥٤٥.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٥٤٥.

(٣) المسند ١ / ٤١٣.

٤٤٠