تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٧

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله ـ تعالى ـ : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) قال : قتل عليّ بن أبي طالب ، وطعن (١) الحسن ـ عليهما السّلام ـ.

(وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) قال : قتل الحسين ـ عليه السّلام ـ.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) فإذا جاء نصر دم الحسين ـ عليه السّلام ـ.

(بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون وترا لآل محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ إلّا قتلوه.

(وَكانَ وَعْداً) (٢) (مَفْعُولاً) خروج القائم ـ عليه السّلام ـ.

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) خروج الحسين ـ عليه السّلام ـ في سبعين من أصحابه ، عليهم البيض المذهّب ، لكلّ بيضة وجهان ، المؤدّون إلى النّاس ، أنّ هذا الحسين قد خرج حتّى لا يشكّ المؤمنون فيه ، وأنّه ليس بدجّال ولا شيطان ، والحجّة القائم ـ عليه السّلام ـ بين أظهركم. فإذا استقرّت المعرفة في قلوب [المؤمنين] (٣) أنّه الحسين ـ عليه السّلام ـ جاء الحجّة الموت ، فيكون الّذي يغسّله ويكفّنه ويحنّطه ويلحّده في حفرته الحسين بن عليّ ـ عليه السّلام ـ ولا يلي الوصيّ إلّا الوصيّ.

وفي تفسير العيّاشي (٤) ، بعد أن نقل هذا الحديث إلى آخره قال : وزاد إبراهيم في حديثه : ثمّ يملكهم الحسين ـ عليه السّلام ـ حتّى يقع حاجباه على عينيه.

وفي تفسير العيّاشي (٥) : عن حمران ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : كان يقرأ : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). ثمّ قال : هؤلاء (٦) وهو القائم وأصحابه (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ).

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٧) : وخاطب الله أمّة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) ، يعني : فلانا وفلانا وأصحابهما ، ونقضهم العهد.

(وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) ، يعني : ما ادّعوه من الخلافة. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) ، يعني : يوم الجمل. (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، يعني : أمير المؤمنين ـ صلوات الله

__________________

(١) ليس في ب.

(٢) كذا في المصدر والمصحف. وفي النسخ : وعد الله.

(٣) من المصدر.

(٤) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٨١ ، ح ٢٠.

(٥) نفس المصدر ، ح ٢١.

(٦) ليس في المصدر. (٧) تفسير القمّي ٢ / ١٤.

٣٦١

عليه ـ وأصحابه : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) ، أي : طلبوكم وقتلوكم. (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) : يتمّ ويكون. (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) لبني أميّة على آل محمّد.

(وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) من الحسن والحسين ، ابني (١) عليّ ـ عليهم السّلام ـ وأصحابهما [فقتلوا الحسين بن عليّ] (٢) وسبوا نساء آل محمد.

وفي تفسير العيّاشيّ (٣) : عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه ـ عليهم السّلام ـ قال : قال أمير المؤمنين في خطبة (٤) : أيّها النّاس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّ بين جوانحي علما جمّا ، فسلوني قبل أن تشغر (٥) برجلها فتنة شرقيّة (٦) تطأ في خطامها (٧) ، ملعون ناعقها ومولّيها وقائدها وسائقها والمتحرّض (٨) فيها ، [فكم عندها من رافعة] (٩) ذيلها يدعو بويلها دخلة (١٠) أو حولها ، لا مأوى يكنّها ولا أحد يرحمها ، فإذا استدار الفلك قلتم : مات أو هلك وبأيّ واد سلك. فعندها توقّعوا الفرج ، وهو تأويل هذه الآية (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً). والّذي فلق الحبّة وبريء النّسمة ، ليعيش إذ ذاك ملوك ناعمين ، ولا يخرج الرّجل منهم من الدّنيا حتّى يولد لصلبه ألف ذكر ، آمنين من كلّ بدعة وآفة والتّنزيل ، عاملين بكتاب الله وسنّة رسوله قد اضمحلّت عليهم الآفات والشّبهات.

عن رفاعة بن موسى (١١) قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : إنّ أوّل من يكرّ إلى الدّنيا الحسين بن عليّ ـ عليهما السّلام ـ ويزيد بن معاوية وأصحابه ، فيقتلهم حذو القذّة بالقذّة (١٢).

ثمّ قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ :

__________________

(١) المصدر : أبناء.

(٢) من المصدر.

(٣) تفسير العياشي ٢ / ٢٨٢ ، ح ٢٢.

(٤) المصدر : خطبته.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : تستقر.

وتشغر ، أي : ترفع. قيل : كنى بشغر رجلها عن خلو تلك الفتنة من مدبر. أو هو كناية عن كثرة مداخل الفساد فيها.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : فتية مشرقية.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : حصامي. والخطام : كلما يجعل في أنف البعير ليقتاد به.

(٨) المصدر : المتحرز.

(٩) من المصدر.

(١٠) كذا في المصدر. وفي النسخ : داخلة.

(١١) نفس المصدر ، ح ٢٣.

(١٢) القذة : ريش السهم ، وهذا القول يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان.

٣٦٢

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

وفي تفسير علي بن إبراهيم (١) ، متّصلا بآخر تفسيره المتقدّم ، أعني : قوله : وسبوا نساء آل محمّد. (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) ، يعني : القائم ـ صلوات الله عليه ـ وأصحابه. (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) ، يعني : يسوّد (٢) وجوههم. (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، يعني : رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وأصحابه وأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ. (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً). أي : يعلوا عليكم فيقتلوكم (٣).

ثمّ عطف على آل محمّد ـ عليه وعليهم السّلام ـ فقال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) ، أي : ينصركم على عدوّكم.

ثمّ خاطب بني أميّة ، فقال : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) ، يعني : إن عدتم بالسّفيانيّ ، عدنا بالقائم من آل محمّد ـ صلوات الله عليه وآله ـ. (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) ، أي : حبسا (٤) يحصرون فيها.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) : للحالة ، أو الطّريقة الّتي هي أقوم ، أو الطّرق.

وفي أصول الكافي (٥) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، [عن ابن أبي عمير ،] (٦) عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن موسى بن أكيل النّميريّ ، عن العلا بن سيابة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) قال : يهدي إلى الإمام.

وفي الكافي (٧) : عليّ بن إبراهيم ، عن بكر بن صالح بن قاسم بن يزيد ، عن أبي عمرو الزّبيريّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يقول فيه ـ عليه السّلام ـ :

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ / ١٤. ويوجد قبلها في جميع النسخ نصّ الرواية الّتي أوردها المصنّف (ره) ذيل اوّل الآية ٧ : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) (... فَلَها) ولذلك حذفناها هاهنا.

(٢) المصدر : يسوّدون.

(٣) ب : فيقتلكم.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : حبستها.

(٥) الكافي ١ / ٢١٦ ، ح ٢.

(٦) من المصدر.

(٧) نفس المصدر ٥ / ١٣ ، ح ١.

٣٦٣

ثمّ ثلّث بالدّعاء إليه بكتابه (١) ـ أيضا ـ فقال ـ تبارك وتعالى ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [، أي : يدعو.

وفي تفسير العيّاشي (٢) : عن أبي إسحاق (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]) (٣) قال : يهدي إلى الولاية (٤).

وفي كتاب معاني الأخبار (٥) ، بإسناده إلى موسى بن جعفر : عن أبيه ، جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، محمّد بن عليّ ، عن أبيه ، عليّ بن الحسين ـ عليهم السّلام ـ قال : الإمام منّا لا يكون إلّا معصوما ، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها ، ولذلك لا يكون إلّا منصوصا.

فقيل : يا ابن رسول الله ، فما معنى المعصوم؟

فقال : هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن [لا يفترقان إلى يوم القيامة.

والامام يهدي إلى القرآن ، والقرآن] (٦) يهدي إلى الإمام. وذلك قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

وفي نهج البلاغة (٧) : قال ـ عليه السّلام ـ : أيّها النّاس ، إنّه من استنصح (٨) [الله] (٩) وفّق ، ومن اتّخذ قوله دليلا ، هدي للّتي هي أقوم.

(وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩).

وقرأ (١٠) حمزة والكسائي : «ويبشر» بالتّخفيف.

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠) : عطف على (لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) ، والمعنى : أنّه يبشّر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم ، وعقاب أعدائهم. أو على «يبشّر» بإضمار يخبر.

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : بكناية.

(٢) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٨٢ ، ح ٢٤.

(٣) ليس في ب.

(٤) المصدر : الإمام.

(٥) المعاني / ١٣٢ ، ح ١.

(٦) من المصدر.

(٧) النّهج / ٢٠٥ ، الخطبة ١٤٧.

(٨) أي : من أطاع أوامره ، وعلم أنّه يهديه إلى مصالحه ، ويردّه عن مفاسده ، ويرشده إلى ما فيه نجاته ، ويصرفه عمّا فيه عطبه. (قاله ابن أبي الحديد في شرحه)

(٩) من المصدر.

(١٠) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٩.

٣٦٤

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) : ويدعو الله عند غضبه بالشّرّ على نفسه وأهله وماله.

أو يدعو فيما يحسبه خيرا وهو شرّ.

(دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) ، مثل دعائه بالخير.

(وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١) : يسارع إلى كلّ ما يخطر بباله ولا ينظر عاقبته.

وقيل (١) : المراد : آدم ـ عليه السّلام ـ فإنّه لمّا انتهى الرّوح إلى سرّته ذهب لينهض ، فسقط.

نقل (٢) : أنّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ دفع أسيرا إلى سودة بنت زمعة ، فرحمته لأنينه ، فأرخت أكتافه فهرب ، فدعا عليها بقطع اليد ثمّ ندم ، فقال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : الّلهمّ ، إنّما أنا بشر ، فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة عليه. فنزلت.

ويجوز أن يراد بالإنسان : الكافر ، وبالدّعاء : استعجاله بالعذاب استهزاء ، كقول النّضر بن الحارث : الّلهمّ ، انصر خير الحزبين (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ) (الآية) (٣) فأجيب له ، فضرب عنقه يوم بدر صبرا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : ثمّ عطف على [آل محمّد] (٥) بني أميّة فقال : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) قال : يدعو على أعدائه (٦) بالشّرّ ، كما يدعو لنفسه بالخير ويستعجل الله بالعذاب ، وهو قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

وفي مصباح الشّريعة (٧) : قال الصّادق ـ عليه السّلام ـ : واعرف طريق نجاتك وهلاكك كيلا تدعو (٨) الله بشيء عسى فيه هلاكك وأنت تظنّ أنّ فيه نجاتك ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

وفي تفسير العيّاشيّ (٩) : عن سلمان الفارسيّ قال : إنّ الله لمّا خلق آدم ، فكان (١٠)

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٩.

(٣) الأنفال / ٣٢.

(٤) تفسير القمّي ٢ / ١٤.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : يدعو لأعدائه.

(٧) مصباح الشريعة / ١٣٢.

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : لا تدعو.

(٩) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٨٣ ، ح ٢٦.

(١٠) المصدر : وكان.

٣٦٥

أوّل ما خلق عيناه ، فجعل ينظر إلى جسده كيف يخلق. فلمّا حانت أن يتبالغ الخلق (١) في رجليه ، فأراد القيام ، فلم يقدر. وهو قول الله : خلق (٢) الإنسان عجولا. وإنّ الله لمّا خلق آدم ونفخ فيه ، لم يلبث أن تناول عنقود العنب فأكله (٣).

عن هشام بن سالم (٤) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : لمّا خلق الله (٥) آدم ، و (٦) نفخ فيه من روحه ، وثب ليقوم قبل أن يتمّ خلقه فسقط ، فقال الله ـ عزّ وجلّ ـ : وخلقنا (٧) الإنسان عجولا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) : تدلّان على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد بإمكان غيره.

(فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ، أي : الآية الّتي هل اللّيل بالإشراق. والإضافة فيها للتّبيين ، كإضافة العدد إلى المعدود.

(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) : مضيئة. أو مبصرة للنّاس ، من أبصره. أو مبصرا أهله ، كقولهم : أجبن الرّجل : إذا كان أهله جبناء.

وقيل (٨) : الآيتان القمر والشّمس ، وتقدير الكلام : وجعلنا نيري اللّيل آيتين ، أو جعلنا اللّيل والنّهار ذوي آيتين ، ومحو آية اللّيل الّتي هي القمر جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النّور ، أو نقص نورها شيئا فشيئا إلى المحاق ، وجعل آية النّهار الّتي هي الشّمس مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها.

(لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) : لتطلبوا في بياض النّهار أسباب معاشكم ، وتتوصّلوا به إلى استبانة أعمالكم.

(وَلِتَعْلَمُوا) : باختلافهما ، أو بحركاتهما.

(عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) : جنس الحساب.

(وَكُلَّ شَيْءٍ) : تفتقرون إليه في أمر الدّين والدّنيا.

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : فلمّا جاء به لم يبلغ الخلق.

(٢) المصحف : كان.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ بدل العبارة الأخيرة : لم يستجمع أن يتناول عنقودا فأكله.

(٤) نفس المصدر ، ح ٢٧.

(٥ و ٦) ليس في المصدر.

(٧) المصدر : «خلق» بدل «وخلقنا». وفي المصحف : «وكان».

(٨) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٩.

٣٦٦

(فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢) : بيّنّاه تبياناً غير ملتبس.

وفي تفسير العيّاشيّ (١) : عن أبي بصير (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) قال : هو السّواد الّذي في جوف القمر.

عن نصر بن قابوس (٢) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : السّواد الّذي في القمر محمّد رسول الله.

عن أبي الطّفيل (٣) قال : كنت في مسجد الكوفة فسمعت عليّا ـ عليه السّلام ـ وهو على المنبر ، وناداه ابن الكوّاء وهو في مؤخّر المسجد فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن هذا (٤) السّواد في القمر.

فقال (٥) : هو قول الله ـ تعالى ـ : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ).

عن ابن (٦) أبي الطّفيل (٧) قال : قال عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ : سلوني عن كتاب الله ، فإنّه ليس من آية إلّا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار أو في سهل أو في جبل.

قال : فقال له ابن الكوّاء : فما هذا (٨) السّواد في القمر؟

فقال : أعمى سأل عن عمياء ، أمّا سمعت الله يقول : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) فذلك محوها.

وفي كتاب الخصال (٩) : حدّثنا عليّ بن أحمد بن موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثنا عليّ بن الحسن [الهسنجاني] (١٠) قال : حدّثنا سعد بن كثير بن عفير قال : حدّثني أبي لهيعة (١١) وراشد (١٢) بن سعد ، عن حريز بن (١٣) عبد الله ، عن أبي عبد الرّحمن البجليّ (١٤) ، عن عبد الله بن عمر (١٥) قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في مرضه الّذي توفيّ فيه :

__________________

(١) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٨٣ ، ح ٢٨.

(٢) نفس المصدر ، ح ٢٩.

(٣) نفس المصدر ، ح ٣٠.

(٤) المصدر : هذه.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : فقال : قال.

(٦) لا يوجد في الثقلين ٣ / ١٤٢ عند نقل الرواية عن نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر ، ح ٣١.

(٨) المصدر : هذه.

(٩) الخصال / ٦٤٣ ، ح ٢٣.

(١٠) من المصدر.

(١١) كذا في المصدر. وفي النسخ : أبي لهيفة.

(١٢) المصدر : رشدين.

(١٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : عن.

(١٤) المصدر : الحبليّ. (١٥) المصدر : عمر [و].

٣٦٧

ادعوا لي أخي. فأرسلوا إلى عليّ ـ عليه السّلام ـ فدخل ، فولّيا وجوههما إلى الحائط وردّا (١) عليهما ثوبا ، فأسرّ إليه (٢) والنّاس محتوشوه (٣) وراء الباب ، فخرج عليّ ـ عليه السّلام ـ فقال له رجل من النّاس : أسرّ إليك نبيّ الله شيئا؟

فقال : نعم ، أسرّ إليّ ألف باب في كلّ باب ألف باب.

قال : ووعيته؟

قال : نعم ، وعقلته.

قال : فما السّواد الّذي في القمر؟

قال : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يقول (٤) : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ ـ إلى قوله ـ النَّهارِ مُبْصِرَةً).

قال له الرّجل : عقلت ، يا عليّ ، [ووعيت] (٥).

وفي كتاب علل الشّرائع (٦) ، بإسناده إلى عبد الله بن يزيد بن سلم ، أنّه سأل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ فقال : ما بال الشّمس والقمر لا يستويان في الضوء (٧) والنّور؟

قال : لمّا خلقهما الله ـ عزّ وجلّ ـ أطاعا ولم يعصيا شيئا ، فأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ جبرئيل ـ عليه السّلام ـ أن يمحو ضوء القمر فمحاه ، فأثّر المحو (٨) في القمر خطوطا سوداء ، ولو أنّ القمر ترك على حاله بمنزلة الشّمس لم يمح (٩) لما عرف اللّيل من النّهار ولا النّهار من اللّيل ، ولا علم الصّائم كم يصوم ، ولا عرف النّاس عدد السّنين ، وذلك قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ) (الآية).

قال : صدقت ، يا محمّد.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

وفي كتاب الاحتجاج (١٠) للطّبرسي ـ رضي الله عنه : وروى القاسم بن معاوية ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه قال : لمّا خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ القمر كتب عليه : لا إله

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : ردى.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : «فأسدى» بدل «فأسرّ إليه».

(٣) المصدر : محتوشون. واحتوش القوم فلانا : اجتمعوا عليه ، وجعلوه في وسطهم.

(٤) المصدر : قال.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) العلل / ٤٧٠ ، ح ٣٣.

(٧) كذا في ب. وفي غيرها : الصغر. (٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : المحوق.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : لم يمسح. (١٠) الاحتجاج / ١٥٨.

٣٦٨

إلّا الله ، محمّد رسول الله ، عليّ أمير المؤمنين ، وهو السّواد الّذي ترونه.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وعن الأصبغ بن نباتة (١) قال : قال ابن الكوّاء لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : أخبرني عن المحو الّذي يكون في القمر.

فقال ـ عليه السّلام ـ : الله أكبر ، الله أكبر ، [الله أكبر ،] (٢) رجل أعمى يسأل عن مسألة عمياء ، أما سمعت الله يقول : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ ـ إلى قوله ـ النَّهارِ مُبْصِرَةً).

وفي نهج البلاغة (٣) : قال ـ عليه السّلام ـ : وجعل شمسها [آية مبصرة لنهارها ، وقمرها] (٤) آية ممحوّة من (٥) ليلها ، وأجراهما في مناقل مجراهما وقدّر سيرهما في مدارج درجهما (٦) ، ليميّز بين اللّيل والنّهار بهما ، وليعلم عدد السّنين والحساب بمقاديرهما.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) : عمله وما قدر له ، كأنّه طير إليه من عشّ الغيب ووكر القدر لما كانوا يتيمّنون ويتشاءمون بسنوح الطّائر وبروحه ، استعير لما هو سبب الخير والشّرّ من قدر الله ـ عزّ وجلّ ـ وعمل العبد.

(فِي عُنُقِهِ) : لزوم الطّوق في عنقه.

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (٧) ، بإسناده إلى سدير الصّيرفيّ : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يقول فيه : فنظرت في كتاب الجفر في صبيحة هذا اليوم ، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا [والرزايا] (٨) وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الّذي خصّ الله به محمّدا والأئمّة من بعده ـ عليهم السّلام ـ وتأمّلت منه مولد قائمنا وغيبته (٩) وإبطاءه وطول عمره ، وبلوى المؤمنين في ذلك الزّمان ، وتولّد الشّكوك في قلوبهم من طول غيبته ، وارتداد أكثرهم عن دينهم ، وخلعهم ربقة (١٠) الإسلام من

__________________

(١) نفس المصدر / ٢٦٠.

(٢) من المصدر.

(٣) النهج / ١٢٨ ، الخطبة ٩١.

(٤) من المصدر.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : «يمحوه عن» بدل «ممحوّة من».

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : وقدّر مسيرهما في مدرج درجها.

(٧) كمال الدّين / ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ، ح ٥٠.

(٨) من المصدر.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : «مولد غائبنا» بدل «منه مولد قائمنا وغيبته».

(١٠) الربقة : العروة.

٣٦٩

أعناقهم (١). قال الله ـ تعالى جلّ ذكره ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ، يعني : الولاية. فأخذتني الرّقّة ، واستولت عليّ الأحزان.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) يقول : خيره وشرّه معه حيث كان ، لا يستطيع فراقه حتّى يعطى كتابه يوم القيامة بما عمل.

وفي تفسير العيّاشي (٣) : عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ وأبي عبد الله ـ عليهما السّلام ـ عن قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال (٤) : قدره الّذي قدر عليه.

(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) : هي صحيفة عمله. أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله ، فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النّفس أحوالا ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات.

ونصبه ، بأنّه مفعول. أو حال من مفعول محذوف ، وهو ضمير الطّائر ، ويعضده قراءة يعقوب (٥) : «ويخرج» ـ من خرج ـ وغيره : «ويخرج».

وقرئ (٦) : «ويخرج» ، أي : الله ـ عزّ وجلّ ـ.

(يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٣) : لكشف الغطاء. وهما صفتان للكتاب ، أو «يلقاه» صفة و «منشورا» حال من مفعوله.

وقرأ ابن عامر (٧) : «يلقاه» على البناء للمفعول ، من لقيته كذا.

(اقْرَأْ كِتابَكَ) : على إرادة القول.

(كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤) ، أي : كفى نفسك ، و «الباء» مزيده و «حسيبا» تمييز و «على» صلته ، لأنّه إمّا بمعنى : الحاسب ، كالصّريم بمعنى :

__________________

(١) المصدر : أعناقهم الّتي.

(٢) تفسير القمّي ٢ / ١٧.

(٣) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٧٤ ، ح ٣٢.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : كان.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٥٨٠.

وقوله : «ويعضده قراءة يعقوب» ، أي : ويقوّي الحاليّة قراءة يعقوب ، لأنّه على هذه القراءة لا يحتمل إلّا الحاليّة فيكون حالا من فاعل «يخرج».

(٦ و ٧) نفس المصدر والموضع.

٣٧٠

الصّارم ، وضريب (١) القداح بمعنى : ضاربها ، من حسب عليه كذا. أو بمعنى : الكافي ، فوضع موضع الشّهيد لأنّه يكفي المدّعي ما أهمّه.

وتذكيره (٢) ، على أنّ الحساب والشّهادة ممّا يتولّاه الرّجال ، أو على تأويل النّفس بالشّخص.

وفي تفسير العيّاشيّ (٣) : عن خالد بن نجيح ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ) قال : يذكر العبد (٤) جميع ما عمل وما كتب عليه حتّى كأنّه فعله (٥) تلك السّاعة ، فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (٦).

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) : لا ينجي اهتداؤه غيره ، ولا يردي ضلاله سواه.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : ولا تحمل نفس (٧) حاملة وزرا وزر نفس أخرى ، بل إنّما تحمل وزرها.

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥) : يبيّن الحجج ويمهّد الشّرائع ، فيلزمهم الحجّة. وفيه دليل على أنّ لا وجوب قبل الشّرع.

وفي مجمع البيان (٨) : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

وروي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : لا تجن (٩) يمينك عن شمالك. وهذا مثل ضربه ـ عليه السّلام ـ. وفي هذا دلالة واضحة على بطلان قول من يقول : إنّ أطفال الكفّار يعذّبون مع آبائهم في النّار.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) : وإذا تعلّقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السّابق ، أو دنا وقته المقدّر ، كقولهم : إذا أراد المريض أن يموت ، ازداد مرضه شدّة.

__________________

(١) أ ، ب : ضرب.

(٢) قوله : «وتذكيره» ، أي : يجب بحسب الظّاهر أن يقال : حسيبة ، لأنّه صفة النّفس ، لكنّه ذكّر إمّا باعتبار أنّ الحاسب والشاهد في الأغلب صفة للذكور فغلب التّذكير على التّأنيث ، أو باعتبار أنّ النّفس بمعنى الشّخص.

(٣) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٨٤ ، ح ٣٣.

(٤) المصدر : بالعبد.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : فعل.

(٦) الكهف / ٤٩.

(٧) ليس في ب.

(٨) المجمع ٣ / ٤٠٤.

(٩) المصدر : تحن. وفي ب : تجر.

٣٧١

(أَمَرْنا مُتْرَفِيها) : متنعّميها بالطّاعة على لسان (١) رسول بعثناه إليهم. ويدلّ على ذلك ما قبله وما بعده ، فإنّ الفسق هو الخروج عن الطّاعة والتّمرّد في العصيان ، فيدلّ على الطّاعة من طريق المقابلة.

وقيل (٢) : أمرناهم بالفسق ، لقوله : (فَفَسَقُوا فِيها) ، كقولك : أمرته فقرأ. فإنّه لا يفهم منه إلّا الأمر بالقراءة ، على أنّ الأمر مجاز من الحمل عليه أو التّسبّب له ، بأن صبّ عليهم من النّعم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق. ويحتمل أن لا يكون له مفعول منويّ ، كقولهم : أمرته فعصاني.

وقيل (٣) : معناه : كثّرنا ، يقال : أمّرت الشّيء فأمّر : إذا كثّرته. وفي الحديث : «خير المال سكّة مأبورة ومهرة مأمورة» (٤) ، أي : كثيرة النّتاج. وهو ـ أيضا ـ مجاز من معنى الطّلب ، ويؤيّده قراءة يعقوب : «آمرنا مترفيها» ، ورواية «أمّرنا» عن أبي عمرو.

ويحتمل أن يكون منقولا من «أمر» بالضّمّ أمارة ، أي : جعلناهم أمراء.

وتخصيص المترفين ، لأنّ غيرهم يتبعهم ولأنّهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور.

وفي تفسير العيّاشيّ (٥) : عن حمران ، عن أبي جعفر في قول الله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) قال : تفسيرها : أمرنا أكابرها.

عن حمران (٦) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ في قول الله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) مشدّدة ميمه (٧) ، تفسيرها ، كثّرنا. وقال : لا قرأتها (٨) مخفّفة.

وفي مجمع البيان (٩) : وقرأ يعقوب : «آمرنا» بالمدّ على وزن «عامرنا» ، وهو قراءة عليّ بن أبي طالب ـ عليه السّلام ـ. وقرأ : «أمّرنا» (١٠) ـ نافع بتشديد الميم ـ محمّد بن عليّ

__________________

(١) ليس في ب.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٨٠.

(٣) نفس المصدر والموضع.

(٤) قوله : «سكّة مأبورة ومهرة مأمورة». قال في الصّحاح : «السّكّة» الطّريقة المصطفّة من النّخل ، و «المأبورة» الملقّحة. و «المهرة» الأنثى من ولد الفرس. قال : ومعنى هذا الكلام : خير المال نتاج أو زرع.

(٥) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٨٤ ، ح ٣٥.

(٦) نفس المصدر ، ح ٣٤.

(٧) كذا في تفسير الصّافي ٣ / ١٨٢. وفي النسخ : مضمومة. وفي المصدر : منصوبة.

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : لأقرأنها.

(٩) المجمع ٣ / ٤٠٥.

(١٠) كذا في المصدر. وفي النسخ : وقرأ نافع.

٣٧٢

ـ عليهما السّلام ـ بخلاف.

وفي عيون الأخبار (١) ، في باب مجلس الرّضا ـ عليه السّلام ـ مع سليمان المروزيّ بعد كلام طويل ، قال الرّضا ـ عليه السّلام ـ : ألا تخبرني عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) ، يعني بذلك : أنّه يحدث إرادة؟

قال : نعم.

قال : فإذا حدث إرادة كان قولك : إنّ الإرادة هي هو (٢) أو شيء منه باطلا ، لأنّه لا يكون أن يحدث نفسه ولا يتغيّر عن حاله (٣) ، تعالى الله عن ذلك.

قال سليمان : إنّه لم يكن عنى بذلك : أنّه يحدث إرادة.

قال : فما عنى به؟

قال : عنى : فعل الشّيء.

قال الرّضا ـ عليه السّلام ـ : ويلك كم تردّد في هذه المسألة ، وقد أخبرتك أنّ الإرادة محدثة ، لأنّ فعل الشّيء محدث.

قال : فليس لها معنى؟

قال الرضا ـ عليه السّلام ـ : قد وصف نفسه عندكم حتّى وصفها بالإرادة بما لا معنى [له] (٤) ، فإذا لم يكن لها معنى قديم ولا حديث بطل قولكم : إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لم يزل مريدا.

قال سليمان : إنّما عنيت : أنّها فعل من الله ـ تعالى ـ لم يزل.

قال : ألا تعلم أنّ ما لم يزل لا يكون مفعولا وقديما وحديثا في حالة واحدة.

فلم يحر (٥) جوابا.

(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) ، يعني : كلمته السّابقة بالعذاب بحلوله. أو بظهور معاصيهم. أو بأنهما كهم في المعاصي.

(فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦) : أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارها.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا) : وكثيرا أهلكنا.

__________________

(١) العيون ١ / ١٤٩ ، ح ١.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : هي.

(٣) المصدر : حالة.

(٤) من المصدر.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : فلم يجر.

٣٧٣

(مِنَ الْقُرُونِ) : بيان «لكم» وتمييز له.

(مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) ، كعاد وثمود.

(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧) : يدرك بواطنها وظواهرها ، فيعاقب عليها.

وتقديم «الخبير» لتقدّم متعلّقه.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) : مقصورا عليها همّه.

(عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) : قيّد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة ، لأنّه لا يجد كلّ متمنّ ما يتمنّاه ولا كلّ واحد جميع ما يهواه ، وليعلم أنّ الأمر بالمشيئة والهمّ فضل. و «لمن نريد» بدل من «له» بدل البعض.

وقرئ (١) : «يشاء» والضّمير فيه «لله» حتّى يطابق المشهورة.

وقيل (٢) : «لمن» فيكون مخصوصا بمن أراد الله به ذلك.

وقيل (٣) : الآية في المنافقين ، كانوا يراؤون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلّا مساهمتهم في الغنائم ونحوها.

(ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٨) : مطرودا من رحمته.

وفي مجمع البيان (٤) : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ). قيل : القرن (٥) مائة سنة. وروي ذلك مرفوعا.

وقيل (٦) : أربعون سنة. رواية ابن سيرين مرفوعا.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً)

وروى ابن عبّاس (٧) ، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : معنى الآية : من كان يريد ثواب الدّنيا بعمله الّذي افترضه الله عليه ، لا يريد به وجه الله والدّار الآخرة ، عجّل له فيها ما يشاء [الله] (٨) من عرض الدّنيا وليس له ثواب في الآخرة ، وذلك أنّ الله ـ سبحانه ـ يؤتيه ذلك ليستعين به على الطّاعة فيستعمله في معصية

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٥٨١.

(٢ و ٣) نفس المصدر والموضع.

(٤) المجمع ٣ / ٤٠٧.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : «قبل القرآن» بدل «قيل : القرن».

(٦ و ٧) نفس المصدر والموضع.

(٨) من المصدر.

٣٧٤

الله ، فيعاقبه الله عليه.

(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) : حقّها من السّعي ، وهو الإتيان بمّا امر به والانتهاء عمّا نهي عنه لا التّقرّب بما يخترعون بآرائهم.

وفائدة «اللّام» اعتبار النّيّة والإخلاص.

(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) : إيمانا صحيحا لا شرك ولا تكذيب معه ، فإنّه العمدة.

(فَأُولئِكَ) : الجامعون للشّرائط الثّلاثة.

(كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) : من الله ، أي : مقبولا عنده مثابا عليه ، فإنّ شكر الله الثّواب على الطّاعة.

وفي روضة الواعظين (١) للمفيد ـ رضي الله عنه ـ : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ومن أراد الآخرة فليترك زينة الحياة الدّنيا.

وفي من لا يحضره الفقيه (٢) : وروى معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ أنّه قال : تقول : أحرم لك شعري وبشري ولحمي وعظامي ومخّي وعصبي من النّساء [والثياب] (٣) والطّيب ، أبتغي بذلك وجهك والدّار الآخرة.

والحديث طويل.

أخذت منه موضع الحاجة.

وفي الكافي (٤) : عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن أبي الحسن ، عليّ بن يحيى ، عن أيّوب عن أعين ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له احتج.

فيقول : ربّ ، خلقتني وهديتني فأوسعت عليّ ، فلم أزل أوسع على خلقك وأيسر عليهم لكي تنشر عليّ هذا اليوم رحمتك وتيسّره.

فيقول الله (٥) ـ جلّ ثناؤه وتعالى ذكره ـ : صدق عبدي ، أدخلوه الجنّة.

وفي أصول الكافي (٦) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه [عن ابن محبوب] (٧) ، عن جميل ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : العبادة ثلاثة : قوم عبدوا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ / ١٤٦.

(٢) الفقيه ٢ / ٢٠٦ ، ح ٩٣٩.

(٣) من المصدر.

(٤) الكافي ٣ / ٤٠ ، ح ٨.

(٥) المصدر : الربّ.

(٦) نفس المصدر ٢ / ٨٤ ، ح ٥.

(٧) من المصدر.

٣٧٥

الله ـ عزّ وجلّ ـ خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله ـ تبارك وتعالى ـ طلب الثّواب فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله ـ عزّ وجلّ ـ حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي (١) أفضل العبادات (٢).

وفي نهج البلاغة (٣) : هذا ما أمر (٤) به عبد الله ، عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله ابتغاء وجه الله ، ليولجه به الجنّة فيعطيه به الأمنة (٥).

وفيه (٦) : وليس رجل ، فيما أعلم (٧) ، أحرص على جماعة أمّة محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ وألفتها منّى (٨) ، أبتغي بذلك حسن الثّواب وكريم (٩) المآب.

وفي أمالي الصّدوق (١٠) ـ رحمه الله ـ ، بإسناده إلى النّبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : من صام يوما تطوّعا ابتغاء ثواب الله وجبت له المغفرة.

وبإسناده (١١) إلى الصّادق ، جعفر بن محمّد [عن أبيه] (١٢) ـ عليهما السّلام ـ في قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (الآيات) حديث طويل ، ستقف بتمامه ـ إن شاء الله تعالى ـ في (هَلْ أَتى) (١٣). وفيه : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [يقولون : لا نريد جزاء تكافئوننا (١٤) به ، ولا شكورا] (١٥) تثنون علينا به ، ولكنّا إنّما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه.

(كُلًّا) ، أي : كلّ واحد من الفريقين. والتّنوين بدل من المضاف إليه.

(نُمِدُّ) : بالعطاء مرّة بعد أخرى ، ونجعل آنفه مدد السّالفة.

(هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) : بدل من «كلّا».

(مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) : من معطاه ، متعلّق «بنمدّ».

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : «فتلك» بدل «وهي».

(٢) المصدر : العبادة.

(٣) النهج / ٣٧٩ ، الكتاب ٢٤.

(٤) يوجد في ب بعدها زيادة : الله.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : ابتغاء وجه ربّه ليولجني به الجنّة ويعطني الأمنة.

(٦) نفس المصدر / ٤٦٦ ، الكتاب ٧٨.

(٧) المصدر : «فاعلم» بدل «فيما أعلم».

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : «والفقهاء متى» بدل «وألفتها منّي».

(٩) المصدر : كرم.

(١٠) الأمالي / ٤٤٢ ، ح ٢.

(١١) نفس المصدر / ٢١٥ ، ح ١١.

(١٢) من المصدر.

(١٣) الدّهر / ١.

(١٤) المصدر : تكلّفوننا.

(١٥) ليس في ب.

٣٧٦

(وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (٢٠) : ممنوعا ، لا يمنعه في الدّنيا من مؤمن ولا كافر تفضّلا.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) : في الرّزق.

وانتصاب «كيف» «بفضّلنا» على الحال.

(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١) ، أي : التّفاوت في الآخرة أكبر ، لأنّ التّفاوت فيها بالجنّة ودرجاتها ، والنّار ودركاتها.

وفي مجمع البيان (١) : وروي أنّ ما بين أعلى درجات الجنّة وأسفلها ما بين السّماء والأرض.

وروى العيّاشيّ (٢) ، بالإسناد : عن أبي بصير قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : لا تقولنّ الجنّة واحدة ، إنّ الله يقول (٣) : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ). ولا تقولنّ درجة واحدة ، إنّ الله يقول : درجات بعضها فوق بعض. إنّما تفاضل القوم بالأعمال.

قال وقلت له : إنّ المؤمنين يدخلان الجنّة فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر ، فيشتهي أن يلقى صاحبه.

قال : من كان فوقه فله أن يهبط ، ومن كان تحته لم يكن له أن يصعد لأنّه لم يبلغ ذلك المكان ، ولكنّهم إذا أحبّوا ذلك واشتهوه التقوا على الأسرّة.

عن أنس (٤) ، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : وإنّما يرتفع العباد غدا في الدّرجات وينالون الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم.

وفي كتاب جعفر بن محمّد الدّوريستيّ (٥) ، بإسناده إلى عمرو بن ميمون : أنّ ابن مسعود حدّثهم ، عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : يكون في النّار قوم ما شاء الله أن يكونوا ، ثمّ يرحمهم الله فيكونون في أدنى الجنّة ، فيغتسلون في نهر الحياة ، يسمّيهم أهل الجنّة : الجهنّميّون. لو أضاف أحدهم أهل الدّنيا لأطعمهم وسقاهم وفرشهم ولحفهم وروّحهم ، لا ينقص ذلك.

وفي أصول الكافي (٦) : عليّ بن محمّد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر ،

__________________

(١) المجمع ٣ / ٤٠٧.

(٢) نفس المصدر ٥ / ٢١٠ ، وفيه صدر للحديث.

(٣) الرحمن / ٦٢.

(٤) نور الثقلين ٣ / ١٤٧ ، ح ١٢٥.

(٥) نفس المصدر ، ح ١٢٦.

(٦) الكافي ١ / ١١ ـ ١٢ ، ح ٨.

٣٧٧

عن محمّد بن سليمان الدّيلميّ ، عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : فلان من عبادته ودينه و (١) فضله كذا.

فقال : كيف عقله؟

قلت : لا أدري ، فقال : إنّ الثّواب على قدر العقل ، إنّ رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشّجر ظاهرة الماء ، وأنّ ملكا من الملائكة مرّ به ، فقال : يا ربّ ، أرني ثواب عبدك هذا.

فأراه الله ذلك ، فاستقلّه الملك.

فأوحى الله إليه : أن اصحبه.

فأتاه الملك في صورة إنسيّ ، فقال له : من أنت؟

فقال : أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان ، فأتيتك لأعبد الله معك.

فكان معه يومه ذلك ، فلمّا أصبحا (٢) قال له الملك : إنّ مكانك لنزه ، وما يصلح إلّا للعبادة.

فقال له العابد : إنّ لمكاننا هذا عيبا.

فقال : وما هو؟

قال : ليس لرّبنا بهيمة ، فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فإنّ هذا الحشيش يضيع.

فقال له الملك : وما لربّك حمار؟

فقال : لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش.

فأوحى الله إلى الملك : إنّما أثيبه على قدر عقله.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : الخطاب للرّسول والمراد به أمّته ، أو لكلّ أحد.

(فَتَقْعُدَ) : فتصير ، من قولهم : شحذ الشّفرة حتّى قعدت كأنّها حربة. أو فتعجز ، من قولهم : قعد عن الشّيء : إذا عجز عنه.

(مَذْمُوماً مَخْذُولاً) (٢٢) : جامعا على نفسك الذّم من الملائكة والمؤمنين ،

__________________

(١) أ ، ب ، المصدر : في.

(٢) المصدر : أصبح.

٣٧٨

والخذلان من الله. ومفهومه : أنّ الموحّد يكون ممدوحا منصورا.

(وَقَضى رَبُّكَ) ، أي : أمر أمرا مقطوعا به.

(أَلَّا تَعْبُدُوا) : بأن لا تعبدوا.

(إِلَّا إِيَّاهُ) : لأنّ غاية التّعظيم لا تحقّ إلّا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو كالتّفصيل لسعي الآخرة.

ويجوز أن تكون «أن» مفسّرة و «لا» ناهية.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) : وبأن تحسنوا. أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، لأنّهما السّبب الظّاهر للوجود والتّعيّش.

ولا يجوز أن تتعلّق الباء «بالإحسان» ، لأنّ صلته لا تتقدّم عليه (١).

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما).

«إمّا» «إن» الشّرطيّة زيدت عليها «ما» تأكيدا ، ولذلك صحّ لحوق النّون المؤكّدة للفعل (٢).

و «أحدهما» فاعل «يبلغنّ» ، أو بدل على قراءة حمزة والكسائي من ألف «يبلغان» الراجع إلى «الوالدين».

و «كلاهما» عطف على «أحدهما» فاعلا ، أو بدلا ، ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف (٣) ومعنى «عندك» : أن يكونا في كنفك أو كفالتك.

(فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) : فلا تتضجّر ممّا يستقذر منهما وتستثقل من مؤنتهما ، وهو صوت يدلّ على التّضجّر.

__________________

(١) قوله : «لأن صلته لا تتقدّم عليه» ، أي : صلة المصدر لا تتقدّم على المصدر. أمّا إذا كان معمول المصدر ظرفا وجارّا ومجرورا ، جاز أن يتقدّم عليه.

(٢) قوله : «ولذلك صحّ لحوق النّون المؤكّدة للفعل» للقاعدة المقرّرة في النّحو : أنّ فعل الشّرط يؤكّد بالنّون المؤكّدة إذا لحق «ما» حرف الشّرط.

(٣) قوله : «ولذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف» ، أي : لأجل أنّه معطوف على «أحدهما» لا يجوز أن يكون تأكيدا لألف «يبلغان».

٣٧٩

وقيل (١) : اسم الفعل الّذي هو «أتضجّر» وهو مبنيّ على الكسر لالتقاء السّاكنين ، وتنوينه في قراءة نافع وحفص للتّنكير.

وقرأ (٢) ابن كثير وابن عامر ويعقوب ، بالفتح ، على التّخفيف (٣).

وقرئ (٤) به منوّنا وبالضّمّ للإتباع ، كمنذ منوّنا وغير منوّن.

والنّهي عن ذلك يدلّ على المنع من سائر أنواع الإيذاء ، قياسا بطريق الأولى.

وقيل (٥) : عرفا ، كقولك : فلان لا يملك النّقير والقطمير. ولذلك منع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حذيفة من قتل أبيه وهو في صفّ المشركين ، نهى عمّا يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما (٦).

(وَلا تَنْهَرْهُما) : ولا تزجرهما عمّا لا يعجبك بإغلاظ.

وقيل (٧) : النّهي والنّهر والنّهم أخوات.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٨) : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قال : لو علم أنّ شيئا أقلّ من (أُفٍ) لقاله. (وَلا تَنْهَرْهُما) ، أي : لا تخاصمهما.

(وَقُلْ لَهُما) : بدل التّأفيف والنّهر (قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) : جميلا لا شراسة فيه.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) : تذلّل لهما وتواضع فيهما. جعل للذّلّ جناحا ، كما جعل لبيد في قوله :

وغداة ريح قد كشفت وقرة (٩)

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها

للشّمال يدا ، وللقرة زماما. وأمره بخفضه (١٠) مبالغة. أو أراد جناحه ، كقوله (١١) : و (اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ). وإضافته إلى «الذّلّ» للبيان والمبالغة ، كما أضيف حاتم إلى

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٨٢.

(٣) قوله : «وقرأ ...». ليس المراد بالتّخفيف تخفيف الفاء إذ ليس هو قراءة ابن عامر ، بل المراد أنّ فتح الفاء هو تخفيف الكسرة.

(٤ و ٥) نفس المصدر والموضع.

(٦) قوله : «وقيل عرفا ...» ، أي : يدلّ عرفا على ما ذكره ، فيكون معناه : ما ذكر ، وهو المنع من سائر الأذى ، كما أنّ قولهم : فلان لا يملك النّقير والقطمير ، معناه : أنّه لا يملك شيئا.

(٧) نفس المصدر والموضع.

(٨) تفسير القمّي ٢ / ١٨.

(٩) القرة : البرودة.

(١٠) كذا في أنوار التنزيل ١ / ٥٨٢. وفي النسخ : بحفضهما.

(١١) الحجر / ٨٨.

٣٨٠