تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٧

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

وفي تفسير العيّاشي (١) : عن إسحاق بن عمّار قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ كان يدعو أصحابه. فمن أراد الله به خيرا ، سمع وعرف ما يدعوه إليه. ومن أراد به شرّا ، طبع [قلبه فلا يسمع ولا يعقل. وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ]) (٢) (عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) ، أي : عذّبوا ، كعمّار بالولاية والنّصرة.

و «ثمّ» لتباعد حال هؤلاء عن أولئك.

وقرأ (٣) ابن عامر : «فتنوا» بالفتح ، أي : من بعد ما عذّبوا المؤمنين.

قيل (٤) : كالحضرميّ أكره مولاه ، جبرا ، حتّى أرتدّ. ثمّ أسلما ، وهاجرا.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٥) : أنّه في عمّار ـ أيضا ـ.

(ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) : على الجهاد ، وما أصابهم من المشاقّ.

(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) : من بعد الهجرة والجهاد والصّبر.

(لَغَفُورٌ) : لما فعلوا قبل.

(رَحِيمٌ) (١١٠) : منعم عليهم ، مجازاة على ما صنعوا بعد.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) : منصوب ب «رحيم». أو با ذكر.

(تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ، أي : تجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها ، لا يهمّها شأن غيرها. فتقول : نفسي نفسي.

(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) : جزاء ما عملت.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١) : لا ينقصون أجورهم.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) ، أي : جعلها مثلا لكلّ قوم أنعم الله عليهم ، فأبطرتهم النّعمة ، فكفروا ، فأنزل الله بهم نقمته.

أو لمكّة.

(كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) : لا يزعج أهلها خوف.

(يَأْتِيها رِزْقُها) : أقواتها.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٣ ، ح ٧٧.

(٢) من المصدر.

(٣ و ٤) أنوار التنزيل ١ / ٥٧١ ـ ٥٧٢.

(٥) تفسير القمّي ١ / ٣٩١.

٢٨١

(رَغَداً) : واسعا.

(مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : من نواحيها.

(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) : بنعمه. جمع ، نعمة ، على ترك الاعتداد بالتّاء ، كدرع وأدرع. أو جمع نعم ، كبؤس وأبؤس.

(فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) : استعار الذّوق لإدراك أثر الضّرر ، واللّباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الخوف والجوع.

(بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) : بصنيعهم.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : قال : نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له : الثّلثان.

وكانت بلادهم خصيبة كثيرة الخير. فكانوا (٢) يستنجون بالعجين ويقولون (٣) هذا ألين لنا فكفروا بأنعم الله ، واستخفّوا بنعمة الله. فحبس الله عليهم (٤) الثّلثان ، فجدبوا حتّى أحوجهم الله إلى ما كانوا يستنجون به ، حتّى كانوا (٥) يتقاسمون عليه.

وفي محاسن البرقي (٦) : عن أبيه ، عن محمّد بن سنان ، عن أبي (٧) عيينة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ قوما وسّع الله (٨) عليهم في أرزاقهم حتّى طغوا. فاستخشنوا (٩) الحجارة فعمدوا إلى النقي (١٠) وصنعوا منه ، كهيئة الأفهار (١١) فجعلوه في مذاهبهم (١٢) ، فأخذهم الله بالسّنين. فعمدوا إلى أطعمتهم فجعلوها في الخزائن ، فبعث الله على ما في الخزائن (١٣) ما أفسده. حتّى احتاجوا إلى ما كانوا يستنجون به (١٤) في مذاهبهم ، فجعلوا يغسلونه ويأكلونه.

وفي حديث أبي بصير قال : نزلت فيهم هذه الآية (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) (إلى آخر الآية).

__________________

(١) تفسير القمّي ١ / ٣٩١.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : فكما.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : ويتقربون.

(٤) المصدر : عنهم.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : كادوا.

(٦) المحاسن / ٥٨٨ ، ح ٨٨.

(٧ و ٨) ليس في المصدر.

(٩) كذا في المصدر. وفي النسخ : واستخشوا.

(١٠) كذا في المصدر. وفي النسخ : المتقي. والنقي : الخبز المعمول من لباب الدقيق.

(١١) كذا في المصدر. وفي النسخ : الأنهار. والأفهار ـ جمع فهر ـ : الحجر ملء الكفّ.

(١٢) المذاهب ـ جمع المذهب ـ : المتوضأ.

(١٣) المصدر : خزائنهم. (١٤) المصدر : يستطيبون به.

٢٨٢

وفي تفسير العيّاشي (١) : عن حفص بن سالم ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : إنّ قوما في بني إسرائيل يؤتي لهم من طعامهم ، حتّى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها. فلم يزل الله. بهم ، حتّى اضطرّوا إلى التّماثيل يبيعونها ويأكلونها (٢). وهو قول الله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

عن زيد الشّحّام (٣) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : كان أبي يكره أن يمسح يده بالمنديل وفيه شيء من الطّعام ، تعظيما له ، إلّا أن يمصّها أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها.

قال : فإنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده (٤) ، فيضحك الخادم.

ثمّ قال : إن أهل قرية ممّن كان قبلكم ، كان الله قد وسّع (٥) عليهم حتّى طغوا.

فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النّقي ، فجعلناه نستنجئ به كان ألين علينا من الحجارة.

قال : فلمّا فعلوا ذلك ، بعث الله على أرضهم دوابّا أصغر من الجراد فلم تدع لهم شيئا خلقه الله إلّا أكلته من شجر أو غيره (٦). فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الّذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه. وهي القرية الّتي قال الله ـ تعالى ـ : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ـ إلى قوله ـ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) ، يعني : محمّداً ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

والضّمير لأهل مكّة.

قيل (٧) : عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣) ، أي : حال التباسهم بالظّلم والعذاب ما أصابهم من الجدب الشّديد. أو وقعة بدر.

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) : أمرهم بأكل الحلال ، وهو ما أحلّ الله

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٣ ، ح ٧٨.

(٢) المصدر : يتبعونها ويأكلون منها.

(٣) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٣ ، ح ٧٩.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : فيتفقده.

(٥) المصدر : أوسع.

(٦) المصدر : فلم يدع لهم شيئا خلقه الله يقدر عليه أكله من شجر الخ.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٢.

٢٨٣

لهم. وشكر ما أنعم الله عليهم ، بعد ما زجرهم عن الكفر وهدّدهم عليه بما ذكر من التّمثيل والعذاب الّذي حلّ بهم ، صدّا لهم عن صنع الجاهليّة ومذاهبها الفاسدة.

(وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤) : تطيعون. أو إن صحّ زعمكم ، أنّكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته.

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٥) : لمّا أمرهم بتناول ما أحلّ لهم ، عدّد عليهم محرّماته ليعلم أنّ ما عداها حلّ لهم. ثمّ أكّد ذلك بالنّهي عن التّحريم والتّحليل بأهوائهم ، فقال : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) وانتصاب «الكذب» ب «لا تقولوا». «وهذا حرام» بدل منه ، أو متعلّق ب «متصف» على إرادة القول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصف ألسنتكم ، فتقولوا هذا حلال وهذا حرام.

أو مفعول «لا تقولوا» ، و «الكذب» منتصب «بتصف» و «ما» مصدريّة ، أي : ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ، (١) أي : لا تحرّموا ولا تحلّلوا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل.

ووصف ألسنتكم الكذب ، مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ، كأنّ حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتهم تصفها وتعرّفها بكلامهم هذا. ولذلك عدّ من فصيح الكلام ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السّحر.

وقرئ (٢) : «كذب» بالجرّ ، بدلا من «ما». والكذب ، جمع كذوب. أو «كذب» بالرّفع ، صفة للألسنة. وبالنّصب على الذّم ، أو بمعنى : الكلم الكواذب.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٣) : ثمّ قال ـ عزّ وجلّ ـ : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

قال : هو ما كانت اليهود تقول (٤) : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (٥).

__________________

(١) ليس في ب.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٣.

(٣) تفسير القمّي ١ / ٣٩١.

(٤) المصدر : يقولون.

(٥) الانعام / ١٣٩.

٢٨٤

(لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) : تعليل يتضمّن الغرض.

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (١١٦) : لمّا كان المفتري يفتري لتحصيل مطلوب ، نفى عنه الفلاح وبيّنه بقوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) ، أي : ما يفترون لأجله. أو ما هم فيه منفعة قليلة ، ينقطع عن قريب.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧) : في الآخرة.

وفي أصول الكافي (١) : الحسين بن محمّد ، عن عليّ بن محمّد بن (٢) سعد ، عن محمّد بن مسلم ، عن إسحاق بن موسى قال : حدّثني أخي وعمّي ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم : مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتيا [ه] (٣) ، ومجلسا (٤) ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رثّ ، ومجلسا فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم.

قال : ثمّ تلا أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ ثلاث آيات من كتاب الله ، كأنّما كنّ فيه ، أو قال : [في] (٥) كفّه (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

وفي كتاب التّوحيد (٦) : محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (٧) ـ رضي الله عنه ـ في جامعه. وحدّثنا به محمّد بن الحسن الصّفّار ، عن العبّاس بن معروف قال : حدّثني عبد الرّحمن بن أبي نجران ، عن حماد بن عثمان ، عن عبد الرّحيم القصير قال : كتب أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ على يد عبد الملك بن أعين : إذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي الّتي نهى الله ـ عزّ وجلّ ـ عنها ، كان خارجا من الإيمان وساقطا عنه اسم الإيمان وثابتا عليه اسم الإسلام. فإن تاب منه واستغفر ، عاد إلى الإيمان ولم يخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال. فإذا قال للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا

__________________

(١) الكافي ٢ / ٣٧٨ ، ح ١٢.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : عن.

(٣) من المصدر.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : مجلس.

(٥) يوجد في المصدر مع المعقوفتين.

(٦) التوحيد / ٢٢٩ ، ذيل ح ٧.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : محمد بن أحمد بن الحسن بن الوليد.

٢٨٥

حلال ودان بذلك ، فعندنا (١) يكون خارجا من الإيمان والإسلام إلى الكفر. وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة ، فأحدث في الكعبة حدثا ، فأخرج عن الكعبة وعن الحرم ، فضربت عنقه وصار إلى النّار.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : ثمّ قال ـ عزّ وجلّ ـ : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

قال : هو ما كانت اليهود تقول : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) (٣).

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (٤) ، بإسناده إلى عبد الرّحمن بن سمرة : عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ حديث طويل. يقول فيه : ومن فسّر القرآن برأيه ، فقد افترى على الله الكذب.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) ، أي : في سورة الأنعام ، في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ).

(مِنْ قَبْلُ) : متعلّق ب «قصصنا» أو «بحرّمنا».

(وَما ظَلَمْناهُمْ) : بالتّحريم.

(وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٨) : حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التّحريم ، وأنّه ، كما يكون للمضرّة ، يكون للعقوبة.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) : بسببها أو ملتبسين بها ليعمّ الجهل بالله وبعقابه ، وعدم التّدبّر في العواقب لغلبة الشّهوة ، والسّوء يعمّ الافتراء على الله وغيره.

(ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) : من بعد التّوبة.

(لَغَفُورٌ) : لذلك السّوء.

(رَحِيمٌ) (١١٩) : يثيب على الإنابة.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً)

__________________

(١) المصدر : فعندها.

(٢) تفسير القمّي ١ / ٣٩١.

(٣) الأنعام / ١٣٩.

(٤) كمال الدين / ٢٥٧ ، ذيل ح ١.

٢٨٦

قيل (١) : لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلّا مفرّقة في أشخاص كثيرة ، كقوله :

ليس من الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

وهو رئيس الموحّدين ، وقدوة المحقّقين الّذي جادل فرق المشركين وأبطل مذاهبهم الزّائفة بالحجج الدّامغة. ولذلك عقّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين ، من الشّرك والطّعن في النّبوّة وتحريم ما أحلّه. أو لأنّه كان وحده مؤمنا ، وكان سائر النّاس كفّارا.

وقيل (٢) : هي فعلة ، بمعنى : مفعول ، كالرّحلة والنّخبة. من أمّه : إذا قصده ، أو اقتدى به. فإنّ النّاس كان يؤمّونه للاستفادة ، ويقتدون بسيرته لقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).

وسيأتي من الأخبار ما يؤيّد هذا.

(قانِتاً لِلَّهِ) : مطيعا له ، قائما بأوامره.

(حَنِيفاً) : مائلا عن الباطل ، مسلما.

وفي الكافي (٣) : عليّ بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ. وقال بعده ، وبهذا الإسناد قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : والأمّة واحد فصاعدا ، كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ). يقول : مطيعا لله.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي تفسير العيّاشي (٤) : عن زرارة وحمران ومحمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ وأبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً).

قال : شيء فضّله الله به.

قال أبو بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) : سمّاه الله أمّة.

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٣.

(٣) الكافي ٥ / ٦٠ ، ضمن ح ١٦.

(٤) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٤ ، ح ٨١.

٢٨٧

(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠) ، كما زعموا. فإن قريش كانوا يزعمون ، أنّهم كانوا على ملّة إبراهيم.

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) : ذكر بلفظ القلّة ، للتنّبيه على أنّه كان لا يخلّ بشكر النّعم القليلة ، فكيف بالكثيرة.

نقل : أنّه لا يتغذّى إلّا مع ضيف.

(اجْتَباهُ) : للنّبوّة.

يونس بن ظبيان (١) ، عنه : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) أمّة واحدة.

عن سماعة بن مهران (٢) قال : سمعت العبد الصالح (٣) يقول : لقد كانت الدّنيا ، وما كان فيها إلّا واحد يعبد الله. ولو كان معه غيره ، إذا لأضافه إليه حيث يقول : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). فصبر (٤) بذلك ما شاء الله ، ثمّ إنّ الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٥) : وفي رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ : وذلك أنّه كان على دين لم يكن عليه أحد غيره ، فكان أمّة واحدة. وأمّا (٦) قانتا ، فالمطيع. وأمّا الحنيف ، فالمسلم.

(وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١) ، أي : الطّريق الواضح.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : بأن حبّبه إلى النّاس ، حتّى أن أرباب الملل يتولّونه ويثنون عليه ، ورزقه أولادا طيّبة ، وعمرا طويلا في السّعة والطّاعة.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٢٢) : لمن أهل الجنّة ، كما سأله بقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : يا محمّد.

قيل (٧) : «ثمّ» إمّا لتعظيمه والتّنبيه على أنّ أجلّ ما أوتي إبراهيم اتّباع الرّسول

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٤ ، ح ٨٣.

(٢) نفس المصدر والموضع ، ح ٨٤.

(٣) كذا في بعض نسخ المصدر. وفي النسخ : عبدا صالحا.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : فعبد.

(٥) تفسير القمّي ١ / ٣٩٢.

(٦) المصدر : «وإنّما قال» بدل «وأمّا».

(٧) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٤.

٢٨٨

ـ صلّى الله عليه وآله ـ ملّة. أو لتراخي أيامه (١).

(أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) : في التّوحيد والدّعوة إليه بالرّفق ، وإيراد الدّلائل مرّة بعد أخرى ، والمجادلة مع كلّ أحد على حسب فهمه.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣) : بل كان قدوة الموحّدين.

في مصباح الشّريعة (٢) : قال الصّادق ـ عليه السّلام ـ : ولا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء ، لأنّه المنهج الأوضح. [والمقصد الأصح. قال الله ـ عزّ وجلّ ـ لأعزّ خلقه محمد ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده] (٣) قال : الله ـ عزّ وجلّ ـ : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). فلو كان لدين الله ـ تعالى ـ مسلك أقوم من الاقتداء ، لندب أولياءه وأنبياءه إليه.

وفي محاسن البرقيّ (٤) : عنه ، عن ابن فضّال ، عن حمّاد بن عثمان ، عن عبد الله بن سليمان الصّيرفيّ قال : سمعت أبا جعفر ـ عليه السّلام ـ يقول : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

ثمّ قال : أنتم ، والله ، على دين إبراهيم ومنهاجه ، وأنتم أولى النّاس به : [أنتم على ديني ودين آبائي] (٥).

عنه (٦) ، عن أبيه ومحمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن إسحاق بن عمّار ، عن عبّاد بن زياد قال : قال لي أبو عبد الله ـ عليه السّلام ـ : يا عبّاد ، ما على ملّة إبراهيم أحد غيركم.

وفي تفسير العيّاشي (٧) : عن عمر بن أبي ميثم قال : سمعت الحسين بن علي ـ عليه السّلام ـ يقول : ما أحد على ملّة إبراهيم إلّا نحن وشيعتنا ، وسائر النّاس منها براء.

عن زرارة (٨) ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : ما أبقت الحنيفيّة شيئا ، حتّى أنّ منها قصّ الشّارب و [قلم] (٩) الأظفار [والأخذ من الشارب] (١٠) والختان.

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : أمامه.

(٢) مصباح الشريعة / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٣) من المصدر.

(٤) المحاسن / ١٤٧ ، ح ٥٧.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) المحاسن / ١٤٧ ، ح ٥٦.

(٧) تفسير العياشي ١ / ٣٨٨ ، ح ١٤٦.

(٨) تفسير العياشي ١ / ٦١ ، ح ١٠٤.

(٩) من المصدر.

(١٠) ليس في المصدر.

٢٨٩

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) : تعظيم السّبت ، أو التّخلّي فيه للعبادة.

(عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، أي : على نبيّهم ، وهم اليهود ، أمرهم موسى ـ عليه السّلام ـ أن يتفرّغوا للعبادة يوم الجمعة ، فأبوا إلّا طائفة منهم. وقالوا نتفرّغ يوم السّبت ، لأنّه ـ تعالى ـ فرغ فيه من خلق السّماوات والأرض. فألزمهم الله السّبت ، وشدّد الأمر عليهم.

وقيل (١) : معناه : إنّما جعل وبال السّبت ، وهو المسخ ، على الّذين اختلفوا فيه.

فأحلّوا الصّيد فيه تارة ، وحرّموه أخرى ، واحتالوا له الحيل. وذكرهم هاهنا لتهديد المشركين ، كذكر القرية الّتي كفرت بأنعم الله.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤) :

بالمجازاة على الاختلاف. أو بمجازاة كلّ فريق بما يستحقّه.

(ادْعُ) : من بعثت إليهم.

(إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) : بالمقالة المحكمة ، وهو الدّليل الموضح (٢) المزيح للشّبهة.

(وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) : الخطابات المقنعة (٣) والعبر النّافعة. فالأولى لدعوة خواصّ الأمّة الطّالبين للحقائق ، والثّانية لدعوة عوامّهم.

(وَجادِلْهُمْ) : جادل معانديهم.

(بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : بالطّريقة الّتي هي أحسن طرق المجادلة ، من الرّفق واللّين وإيثار الوجه الأيسر والمقدّمات [الّتي هي] (٤) أشهر (٥). فإنّ ذلك أنفع في تسكين لهبهم ، وتليين شغبهم.

وفي الكافي (٦) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القاسم بن يزيد (٧) ، عن أبي عمرو الزّبيريّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. يقول فيه ـ عليه السّلام ـ : فأخبر أنّه ـ تبارك وتعالى ـ أوّل من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتّباع

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٤.

(٢) ب : الواضح.

(٣) ب : المنفعة.

(٤) ليس في ب.

(٥) ب : الأشهر.

(٦) الكافي ٥ / ١٣ ، ضمن ح ١.

(٧) كذا في المصدر وجامع الرواة ٢ / ١٥.

٢٩٠

أمره ، فبدأ بنفسه وقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١). ثمّ ثنّى برسوله فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، يعني : بالقرآن.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٢) : حدّثنا أبي ، عن الحسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : والله ، نحن السّبيل الّذي أمركم الله باتّباعه.

قوله (٣) : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). قال : بالقرآن.

وفي كتاب الاحتجاج (٤) للطّبرسيّ ـ رضي الله عنه ـ : قال أبو محمّد العسكريّ ـ عليه السّلام ـ : ذكر عند الصّادق ـ عليه السّلام ـ الجدال في الدّين ، وأنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ والأئمّة ـ عليهم السّلام ـ قد نهوا عنه.

فقال الصّادق ـ عليه السّلام ـ : لم ينه عنه مطلقا. ولكنّه نهي عن الجدال بغير الّتي هي أحسن. أما تسمعون قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٥) وقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). فالجدال بالّتي هي أحسن قد قرنه (٦) العلماء بالدّين ، والجدال بغير الّتي هي أحسن محرّم قد (٧) حرّمه الله على شيعتنا. وكيف يحرّم (٨) الله الجدال جملة وهو يقول : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٩). قال الله : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٠). فجعل [الله] (١١) علم (١٢) الصّدق والإيمان (١٣) بالبرهان. وهل يؤتى ببرهان ، إلّا بالجدال بالّتي هي أحسن.

قيل : يا ابن رسول الله ، فما الجدال بالّتي هي أحسن بالّتي ليست بأحسن؟

قال : أمّا الجدال بغير الّتي هي أحسن ، فأن تجادل مبطلا ، فيورد عليك باطلا ،

__________________

(١) يونس / ٢٥.

(٢) تفسير القمّي ٢ / ٦٦ ، ببعض التصرّف.

(٣) تفسير القمّي ١ / ٣٩٢.

(٤) الاحتجاج ١ / ١٤ ـ ١٥.

(٥) العنكبوت / ٤٦.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : أمر به.

(٧) ليس في المصدر.

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : حرّم.

(٩ و ١٠) البقرة / ١١١.

(١١) من المصدر.

(١٢) ب : علامة.

(١٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : الأمانة.

٢٩١

فلا تردّه بحجّة قد نصبها الله ـ تعالى ـ. ولكن [تحجد قوله أو] (١) تجحد (٢) حقّا يريد (٣) بذلك المبطل أن يعين به باطله. فتجحد ذلك الحقّ ، مخافة أن يكون له عليك به حجّة ، لأنّك لا تدري كيف المخلص منه. فذلك حرام على شيعتنا ، أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين. أمّا المبطلون ، فيجعلون ضعف الضّعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجّة له على باطله. وأمّا الضّعفاء ، فتغتمّ قلوبهم لما يرون من ضعف المحقّ (٤) في يد المبطل.

وأمّا الجدال بالّتي هي أحسن ، فهو ما أمر الله ـ تعالى ـ به نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له. فقال الله حاكيا عنه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٥). فقال الله في الرّدّ عليه (٦) : (قُلْ) يا محمّد (يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧).

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة ، وستقف إن شاء الله على تتمّة لهذا الكلام في العنكبوت عند قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ) (الآية).

روي (٨) عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيّا.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) ، أي : إنّما عليك البلاغ والدّعوة ، وأمّا حصول الهداية والضّلالة والمجازة عليهما فلا إليك ، بل الله أعلم بالضّالّين والمهتدين وهو المجازي لهم.

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ) ، أي : الصّبر.

(خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦) : من الانتقام للمنتقمين.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٩) : أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال يوم أحد : من له علم بعمّي حمزة؟

__________________

(١) من المصدر.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : يجحد.

(٣) أ ، ب : يؤيد.

(٤) كذا في المصدر. وفي النسخ : الحقّ.

(٥) يونس / ٧٨.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : عليهم.

(٧) يونس / ٧٩.

(٨) الاحتجاج ١ / ٥.

(٩) تفسير القمّي ١ / ١٢٣.

٢٩٢

فقال الحرث بن الصّمت (١) : أنا أعرف موضعه.

فجاء حتّى وقف على حمزة ، فكره أن يرجع إلى رسول الله فيخبره.

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ لأمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ : يا عليّ ، اطلب عمّك.

فجاء عليّ حتّى وقف على حمزة ، فكره أن يرجع إليه. فجاء رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حتّى وقف عليه. فلمّا رأى ما فعل به ، بكى.

ثم قال : ما وقفت موقفا قطّ أغلظ عليّ من هذا المكان ، لئن أمكنني الله من قريش لأمثلنّ منهم (٢) بسبعين رجلا منهم.

فنزل (٣) جبرئيل ، فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) (الآية).

فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ [بل] (٤) اصبر.

وفي تفسير العيّاشي (٥) : عن الحسين بن حمزة قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ يقول : لمّا رأى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ما صنع بحمزة بن عبد المطّلب ، قال : الّلهمّ ، لك الحمد وإليك المشتكى وأنت (٦) المستعان على ما أرى.

ثمّ قال : لئن ظفرت لأمثّلنّ ولأمثّلنّ.

قال : فأنزل الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) (الآية).

قال : فقال رسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أصبر أصبر.

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) : إلّا بتوفيقه وتثبيته.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : على الكافرين. أو على المؤمنين وما فعل بهم.

(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (١٢٧) : في ضيق صدر من مكرهم.

وقرأ (٧) ابن كثير : «في ضيق» بالكسر ، هنا وفي النّمل. وهما لغتان ، كالقول والقيل. ويجوز أن يكون الضّيق تخفيف ضيق.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) : المعاصي.

__________________

(١) المصدر : سميّة.

(٢) ليس في المصدر ، ور.

(٣) المصدر : زيادة «عليه».

(٤) من المصدر.

(٥) تفسير العياشي ٢ / ٢٧٤ ، ح ٨٥.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : وإنّك.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ٥٧٥.

٢٩٣

(وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨) : في أعمالهم.

٢٩٤

تفسير سورة الإسراء

٢٩٥
٢٩٦

سورة بني إسرائيل

مكّيّة.

وقيل : إلّا قوله (١) : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ). ـ إلى آخر ثمان آيات (٢).

وهي مائة وعشر آيات (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وفي كتاب ثواب الأعمال (٤) : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة ، لم يمت حتّى يدرك القائم ـ عليه السّلام ـ ، ويكون من أصحابه.

وفي مجمع البيان (٥) ، وفي تفسير العيّاشي (٦) : عن الحسين بن أبي العلا ، عن أبي

__________________

(١) الآية ٧٣.

(٢) كذا في أنوار التنزيل ١ / ٥٧٥. وفي النسخ :إلى آخره.

وفي مجمع البيان ٣ / ٣٩٣ : قيل مكّيّة إلّا ثماني آيات : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) إلى قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) (الآية).

وعلى هذا ـ أيضا ـ يكون إلى آخر ثمان آيات وليس إلى آخره.

وكذلك ذكر صاحب مجمع البيان أنّها مكّيّة كلّها. ثمّ قال : وقيل : مكّيّة إلا خمس آيات : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) (الآية) ، (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (الآية) ، (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) (الآية) ، (أَقِمِ الصَّلاةَ) (الآية) ، (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (الآية)

(٣) قال في مجمع البيان : مائة وإحدى عشرة كوفيّ ، وعشر آيات في اليقين. اختلافها : آية (لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) كوفيّ.

(٤) ثواب الأعمال / ١٣٣ ـ ١٣٤.

(٥) المجمع ٣ / ٣٩٣.

(٦) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٧٦ ، ح ١.

٢٩٧

عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : من قرأ سورة بني إسرائيل ـ وذكر إلى آخر ما في كتاب ثواب الأعمال.

وفي مجمع البيان (١) : ابيّ بن كعب ، عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : من قرأ سورة بني إسرائيل ، فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين ، اعطي في الجنّة قنطارين من الأجر.

و «القنطار» ألف أوقيّة ومائتا (٢) أوقيّة ، والأوقيّة منها خير من الدّنيا وما فيها.

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) «سبحان» اسم ، بمعنى : التّسبيح ، الّذي هو التّنزيه. وقد يستعمل علما له ، فيقطع عن الإضافة ، ويمنع من الصّرف (٣). وانتصابه بفعل متروك إظهاره. وتصدير الكلام به ، للتّنزيه عن العجز عمّا ذكر بعد (٤).

وفي تفسير العيّاشي (٥) : عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه السّلام ـ عن قول الله : (سُبْحانَ).

فقال : أنفة لله.

وفي رواية أخرى (٦) : عن هشام ، عنه ، مثله.

و «أسرى» و «سرى» بمعنى.

و «ليلا» نصب على الظّرفية. وفائدته الدّلالة بتنكيره على تقليل مدّة الإسراء (٧).

ولذلك قرئ : «من اللّيل» ، أي : بعضه ، كقوله (٨) : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً).

(مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) ، أي : إلى ملكوت المسجد

__________________

(١) المجمع ٣ / ٣٩٣.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : مائة.

(٣) قوله : «وقد يستعمل علما له ، فيقطع عن الإضافة ، ويمنع من الصّرف». هذا ما قاله النّحاة. قال الرّضيّ : ولا دليل عليه ، لأنّ أكثر ما يستعمل مضافا ، فلا يكون علما.

(٤) قوله : «وتصدير الكلام به للتّنزيه عن العجز عمّا ذكر بعد». فهاهنا لتنزيه الله ـ تعالى ـ عن العجز عن إسرائه عبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

(٥ و ٦) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٧٦ ، ح ٢.

(٧) قوله : «وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدّة الإسراء» ، أي : تمّ أمر الإسراء المذكور في ليلة واحدة من اللّيالي. ولم يقل : تنكيره دالّ على أنّ تمام الإسراء في بعض من ليلة واحدة ـ كما قاله صاحب الكشّاف ـ إذ هذه الدلالة ممنوعة.

(٨) الإسراء / ٧٩.

٢٩٨

الأقصى الّذي هو في السّماء ، كما يظهر من الأخبار الآتية.

(الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) : ببركات الدّين والدّنيا ، لأنّه مهبط الوحي ، ومتعبّد (١) الأنبياء من لدن موسى ، ومحفوف بالأنهار والأشجار.

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) : كذهابه في برهة من اللّيل مسيرة شهر ، ومشاهدته بيت المقدس ، وتمثّل (٢) الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم.

وصرف الكلام من الغيبة إلى التّكلّم (٣) ، لتعظيم تلك البركات والآيات.

وقرئ : «ليريه» بالياء.

وفي تفسير العياشيّ (٤) : عن سالم الحنّاط (٥) ، عن رجل ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : سألته عن المساجد الّتي لها الفضل.

فقال : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

قلت : والمسجد الأقصى ، جعلت فداك؟

فقال : ذلك في السّماء ، إليه أسرى رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

فقلت : إنّ النّاس يقولون : إنّه بيت المقدس.

فقال : مسجد الكوفة أفضل منه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٦) : حدّثني (٧) خالد ، عن الحسن بن محبوب ، عن محمّد بن سيّار (٨) ، عن مالك الأزديّ (٩) ، عن إسماعيل الجعفيّ قال : كنت في مسجد [الحرام] (١٠) قاعدا وأبو جعفر ـ عليه السّلام ـ في ناحية ، فرفع رأسه فنظر إلى السّماء مرّة وإلى الكعبة مرّة ، ثمّ قال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وكرّر ذلك ثلاث مرّات.

__________________

(١) ب : معبد.

(٢) أ ، ب : تمثيل.

(٣) قوله : «وصرف الكلام من الغيبة» (الخ) لأنّه ، وإن كان بطريق الغيبة يفهم منه كثرة البركات وتعظيمها ، لكنّ التكلّم صريح في أنّه فعل الله ـ تعالى ـ لا حاجة إلى القرينة. ففيه زيادة تعظيم. فإنّ الأكابر إذا أرادوا تعظيم فعل نسبوه إلى أنفسهم.

(٤) تفسير العيّاشي ٢ / ٢٧٩ ، ح ١٣.

(٥) المصدر : سلام الحنّاط. وفي أ : سالم الخيّاط.

(٦) تفسير القمّي ٢ / ٢٤٣.

(٧) من ب.

(٨) المصدر : يسار (سيّار ـ ط). وفي ب : سنان.

(٩) المصدر : الأسدي.

(١٠) من المصدر.

٢٩٩

ثم التفت إليّ فقال : أيّ شيء يقول أهل العراق في هذه الآية ، يا عراقيّ؟

قلت : يقولون : اسري به من المسجد الحرام إلى بيت (١) المقدس.

فقال : ليس كما يقولون ، ولكنّه اسري به من هذه إلى هذه ـ وأشار بيده إلى السّماء ـ وقال : ما بينهما حرم.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وفي كتاب الاحتجاج (٢) للطّبرسيّ ـ رضي الله عنه ـ : وعن ابن عبّاس قال : قالت اليهود للنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : موسى خير منك.

قال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ولم؟

قالوا : لأنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ كلّمه بأربعة (٣) آلاف كلمة ، ولم يكلّمك بشيء.

فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك.

قالوا : وما ذاك؟

قال : قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ). وحملت على جناح جبرئيل ـ عليه السّلام ـ حتّى انتهيت إلى السّماء السّابعة ، فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى حتّى تعلّقت بساق العرش ، فنوديت من ساق العرش : إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر [الرّؤوف الرّحيم] (٤). ورأيته بقلبي وما رأيته بعيني ، فهذا أفضل من ذلك.

فقالت اليهود : صدقت ، يا محمّد ، وهو مكتوب في التّوراة.

والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

وفي كتاب الخصال (٥) ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : عرج بالنّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ مائة وعشرين مرّة ، ما من مرّة إلّا وقد أوصى الله ـ تعالى ـ فيها النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ بالولاية لعليّ والأئمّة من ولده ـ عليهم السّلام ـ أكثر ممّا أوصاه بالفرائض (٦).

__________________

(١) المصدر : البيت.

(٢) الاحتجاج ١ / ٤٨.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : أربع.

(٤) ليس في أ ، ب.

(٥) الخصال / ٦٠٠ ـ ٦٠١ ، ح ٣.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : في الفرائض.

٣٠٠