اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

وأمّا قولهم : (شرّ أهر ذا ناب ، ومأرب دعاك إلينا لا حفاوة) ففي معنى النفي ، أي : ما أهرّ ذا ناب إلا شرّ (١).

وأمّا قولهم : (أقائم زيد) فجائز لاعتماد النكرة على الاستفهام ونيابتها عن الفعل.

وأما : (ما) في التعجّب فلما فيها من الإبهام والعموم.

فصل : الاسم الواقع بعد : (لو لا) التي يمتنع بها الشيء لوجود غيره مبتدأ.

وقال الكوفيّون : هو فاعل فعل محذوف ، ومنهم من يرفعه بنفس (لو لا) ، وقالوا : (لا) فيه بمعنى (لم) ، والدليل على أنّه مبتدأ من وجهين :

أحدهمّا : أنّ (لو لا) هذه تقتضي اسمين (٢) ، الثاني منهما خبر بدليل جواز ظهوره في اللفظ وإن لم يستعمل ، ولو كانت (لو لا) عاملة أو العامل مقدّرا بعدها لم يصحّ ذلك.

والثاني : أنّ (لو لا) لا تختصّ بالأسماء بل تدخل عليها وعلى الأفعال.

__________________

(١) الأصل في المبتدأ أن يكون معرفة وقد يكون نكرة لكن بشرط أن تفيد وتحصل الفائدة بأحد أمور منها : أن تكون في معنى المحصور نحو شر أهر ذا ناب وشيء جاء بك التقدير ما أهر ذا ناب إلا شر وما جاء بك إلا شيء على أحد القولين والقول الثاني أن التقدير شر عظيم أهر ذا ناب وشيء عظيم جاء بك فيكون داخلا في قسم ما جاز الابتداء به لكونه موصوفا لأن الوصف أعم من أن يكون ظاهرا أو مقدرا وهو ها هنا مقدر.

(٢) هذه الحالة هي : أن يكون الخبر كونا مطلقا (وإيضاح الكون المطلق أن يقال : إن كان امتناع الجواب لمجرّد وجود المبتدأ كون مطلق ويقابله الكون المقيد ، كما إذا قيل : «هل زيد محسن إليك» فتقول «لو لا زيد لهلكت» تريد : لو لا إحسان زيد إليّ لهلكت ، فإحسان زيد مانع لهلاكي ، فالخبر كون مقيد بالإحسان والأصل في معنى «لو لا» أنها حرف امتناع لوجود ، وهو الوجود المطلق). و «المبتدأ بعد لو لا» نحو «لو لا العلماء لهلك العوام» فالهلاك ممتنع لوجود العلماء ، فالعلماء مبتدأ وخبره محذوف وجوبا ، التّقدير : لو لا العلماء موجودون لهلك العوام ، وإن كان الخبر كونا مقيّدا وجب ذكره إن فقد دليله كقوله : «لو لا زيد سالمنا ما سلم» (ف «زيد» مبتدأ وجملة «سالمنا» خبره ، وإنما ذكر الخبر هنا ، لأن وجود زيد مقيد بالمسالمة ولا دليل ـ إن حذف الخبر ـ على خصوصيتهما) وفي الحديث : (لو لا قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم) (لفظ الحديث كما روي في صحيح مسلم (لو لا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر) ورواية الترمذي (لو لا أن قومك حديثو الحديث) وفي رواية مسلم : (لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت).

وجاز الوجهان إن وجد الدّليل نحو : «لو لا أنصار زيد حموه ما سلم» ويجوز «لو لا أنصار زيد ما سلم» فجملة «حموه» خبر المبتدأ ويجوز حذف الخبر في المثال الثاني وهو : «لو لا أنصار زيد ما سلم».

١٠١

بدليل قول الهذلي (١) : [الطويل]

ألا زعمت أسماء أن لا أحبّها

فقلت بلى لو لا ينازعني شغلي

وقال جرير (٢) : [البسيط]

أنت المبارك والميمون سيرته

لو لا تقوّم درء الناس لاختلفوا

وقال آخر : [البسيط]

قالت أميمة لمّا جئت زائرها

هلّا رميت ببعض الأسهم السود

لا درّ. درّك إنّي قد رميتهم

لو لا حددت ولا عذرى لمحدود

فإن قيل : لو كان ما بعدها مبتدأ لم تقع موقعه (أنّ) المفتوحة ، وقد وقعت كقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات : ١٤٣] ووقوع المفرد بعدها دليل على ارتفاعه بفعل محذوف أو بها؟

قيل : جوابه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ (أنّ) المفتوحة تكون في موضع المبتدأ في كلّ موضع لا يصحّ فيه دخول (إنّ) المكسورة عليها لئلّا يتوالى حرفان بمعنى واحد ، وقد أمن هذا في (لو لا).

والثاني : أنّ خبر المبتدأ ههنا لمّا لم يظهر بحال صار الكلام كالمفرد.

والثالث : أنّ الكلام لا يصحّ إلا بشيئين ؛ أحدهما : جعل (لا) بمعنى (لم) ، والثاني : تقدير فعل رافع. والأوّل باطل لوجهين ؛ أحدهما : أنّ وضع (لا) موضع (لم) لا يصحّ ؛ لأن (لم) تختصّ بالأفعال المستقبلة لفظا و (لا) تختصّ. والثاني : أنّ (لو لا) هنا تختصّ بالأسماء أو تكثر فيها و (لم) لا يقع بعدها الأسماء ، وأمّا تقدير الفعل فلا يصحّ لوجهين ؛ أحدهما : أنّ الفعل لا

__________________

(١) البيت من شعر أبي ذؤيب الهذلي ت ٢٧ ه‍ ، ٦٤٨ م ، وهو خويلد بن خالد بن محرث أبو ذؤيب من بني هذيل بن مدركة المضري ، شاعر فحل ، مخضرم ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وسكن المدينة واشترك في الغزو والفتوح.

(٢) جرير : (٢٨ ـ ١١٠ ه‍ / ٦٤٨ ـ ٧٢٨ م) وهو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي ، أبو حزرة ، من تميم.

أشعر أهل عصره ، ولد ومات في اليمامة ، وعاش عمره كله يناضل شعراء زمنه ويساجلهم فلم يثبت أمامه غير الفردق والأخطل. كان عفيفا ، وهو من أغزل الناس شعرا.

١٠٢

يحذف عن الفاعل إلا إذا كان هناك فعل يفسّر المحذوف ، وليس ذلك ههنا. والثاني : أنّه لو كان الأمر على ما قالوا لصحّ العطف عليه بإعادة (لا) كقولك : لو لا زيد ولا عمرو ، كقولك : لو يقم زيد ولا عمرو.

فصل : وإذا اعتمد اسم الفاعل على الاستفهام أو حرف النفي أو كان صفة أو صلة أو حالا أو خبرا أو مبتدأ بعد مبتدأ جاز رفعه بالابتداء وكان ما بعده فاعلا (١) ؛ لأن هذه الأشياء تقوّي شبهه بالفعل وارتفع بالابتداء ؛ لأن شروط الابتداء موجودة فيه ولا يحتاج إلى خبر ؛ لأنه ناب الفعل الذي هو خبر.

فإن لم يعتمد على شيء كان خبرا مقدّما فيه ضمير ويثنّى ويجمع عند سيبويه ، وقال الأخفش : يكون مبتدأ كما لو اعتمد ويعمل فيما بعده وهذا ضعيف ؛ لأن اسم الفاعل فرع في العمل على الفعل فلم يعمل إلا بما يقوّيه.

__________________

(١) قال ابن عقيل في شرحه على الألفية : لا يخلو اسم الفاعل من أن يكون معرفا بأل أو مجردا ، فإن كان مجردا عمل عمل فعله من الرفع والنصب إن كان مستقبلا أو حالا نحو هذا ضارب زيدا الآن أو غدا ، وإنما عمل لجريانه على الفعل الذي هو بمعناه وهو المضارع ومعنى جريانه عليه أنه موافق له في الحركات والسكنات لموافقة ضارب ل يضرب فهو مشبه للفعل الذي هو بمعناه لفظا ومعنى ، وإن كان بمعنى الماضي لم يعمل لعدم جريانه على الفعل الذي هو بمعناه فهو مشبه له معنى لا لفظا فلا تقول هذا ضارب زيدا أمس بل يجب إضافته فتقول هذا ضارب زيد أمس وأجاز الكسائي إعماله وجعل منه قوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) ف (ذراعيه) منصوب ب (باسط) وهو ماض وخرجه غيره على أنه حكاية حال ماضية

وولى استفهاما أو حرف ندا

أو نفيا أو جاصفة أو مسندا

أشار بهذا البيت إلى أن اسم الفاعل لا يعمل إلا إذا اعتمد على شيء قبله كأن يقع بعد الاستفهام نحو أضارب زيد عمرا أو حرف النداء نحو يا طالعا جبلا أو النفي نحو ما ضارب زيد عمرا أو يقع نعتا نحو مررت برجل ضارب زيدا أو حالا نحو جاء زيد راكبا فرسا ويشمل هذين النوعين قوله أو جاصفة وقوله أو مسندا معناه أنه يعمل إذا وقع خبرا وهذا يشمل خبر المبتدأ نحو زيد ضارب عمرا وخبر ناسخه أو مفعوله نحو كان زيد ضاربا عمرا وإن زيدا ضارب عمرا وظننت زيدا ضاربا عمرا وخبر ناسخه أو مفعوله نحو كان زيد ضاربا عمرا وإن زيدا ضارب عمرا وظننت زيدا ضاربا عمرا وأعلمت زيدا عمرا ضاربا بكرا.

وقد يكون نعت محذوف عرف

فيستحق العمل الذي وصف

قد يعتمد اسم الفاعل على موصوف مقدر فيعمل عمل فعله كما لو اعتمد على مذكور ، إذا وقع اسم الفاعل صلة للألف واللام عمل ماضيا ومستقبلا وحالا لوقوعه حينئذ موقع الفعل إذ حق الصلة أن تكون جملة فتقول هذا الضارب زيدا الآن أو غدا أو أمس هذا هو المشهور من قول النحويين.

١٠٣

فصل : وحقيقة الخبر ما صحّ أن يقال في جوابه صدق أو كذب ، فأمّا الأمر والنهي فضعيف جعلهما خبرا للمبتدأ ؛ لأنّهما ضدّ الخبر في المعنى وما جاء منه فهو متأوّل تقديره زيد أقول أضربه ، وحذف القول كثير أو يكون التقدير زيد واجب عليك ضربه ثم قام الأمر مقام هذا القول كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] أي : فليمدّنّ له.

فصل : والخبر المفرد هو المبتدأ في المعنى إذ لو لا ذلك لم يكن بينهما علقة تربط أحدهما بالآخر ؛ ولهذا جاز أن يخلوا من ضمير يعود على المبتدأ كقولك : زيد غلامك ، وإنّما وجب أن يكون في الخبر المفرد المشتقّ ضميرّ ؛ لأنه يعمل عمل الفعل كقولك : زيد ضارب أبوه عمرا ، وإذا لم يكن ظاهرا كان مضمرا ؛ ولهذا قالوا : مررت بقاع عرفج كلّه خشن ، أي : كلّه. ومررت بقوم عرب أجمعون ، أي : تعرّبوا كلّهم أجمعون.

فصل : فإن لم يكن الخبر المفرد مشتقّا لم يكن فيه ضمير ، وقال الرّماني والكوفيون : فيه ضمير. وما قالوا فاسد لثلاثة أوجه (١) :

أحدها : أنّ قولك : (هذا زيد) مبتدأ وخبر ، فزيد لا يصحّ تحمّله الضمير كما لا يعمل في الظاهر.

والثاني : أنّه لا يقع صفة فلم يكن فيه ضمير.

والثالث : أنّه قد يخالف المبتدأ في العدد كقولك : (زيد العمران أخواه) والضمير أبدا يكون على وفق المظهر ، وليس كذلك اسم الفاعل لما تقدّم.

ولا يقال قولك : زيد أخوك في معنى مناسبك ؛ لأنه لو كان كذلك لعمل في الاسم الظاهر ولوقع وصفا ، وإنّما هذا في المعنى صحيح ، والضمير يعتمد الفعل أو ما كان مشتقا منه ، ألا ترى أنّ قولك : مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، وضربي زيدا حسن وهو عمرا قبيح ،

__________________

(١) قال الأشموني في شرحه على الألفية : الخبر (المفرد الجامد) منه (فارغ) من ضمير المبتدأ خلافا للكوفيين (وإن يشتقّ) المفرد بمعنى يصاغ من المصدر ليدل على متصف به كما صرح به في شرح التسهيل (فهو ذو ضمير مستكن) فيه يرجع إلى المبتدأ والمشتق بالمعنى المذكور هو اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل. وأما أسماء الآلة والزمان والمكان فليست مشتقة بالمعنى المذكور فهي من الجوامد وهو اصطلاح.

١٠٤

جائز أن تعمل المصدر ولا تعمل ضميره ؛ لأن ضمير المصدر ليس فيه ضمير لفظ الفعل وإن كان معناهما واحدا.

فصل : اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو لزم إبراز ضمير فاعله كقولك : زيد عمرو ضاربه هو وقال الكوفيّون لا يلزم.

والدليل على لزومه من وجهين :

أحدهما : أنّ إبرازه يزيل اللبس في كثير من المواضع كهذه المسألة فيجب أن يلزم في الجميع ليطّرد الباب كما في باب : (يعد) بل هذا ألزم.

والثاني : أن اسم الفاعل فرع على الفعل في تحمّل الضمير ؛ ولهذا لا يجعل اسم الفاعل مع ضميره جملة بخلاف الفعل ولا يبرز ضمير التثنية والجمع في اسم الفاعل كما يبرز في الفعل وهذا مقتصر على الفعل ؛ فإذا انضمّ إلى ذلك جريانه على غير من هو له وجب إبراز الضمير ليظهر أثر قصوره وفرعيّته ، وليس كذلك الفعل فإنّ الضمير المتّصل لفظا قد يفصل ويزيل اللبس كقولك : (زيد أنا ضربت) ولا يظهر ذلك في اسم الفاعل كقولك : (زيد أنا ضارب) وإن جاء شيء من هذا لم يبرز فيه الضمير في الشعر فضرورة أو يكون هناك حذف جارّ ومجرور.

فصل : والجملة (١) هي الكلام الذي تحصل منه فائدة تامّة ، واشتقاقها من أجملت الشيء إذا جمعته ، وكلّ محتمل للتفصيل جملة والمبتدأ والخبر والفعل والفاعل بهذه الصفة إلا أنّه قد يعرض في الجملة يحوجها إلى ما قبلها ، وإنّما أخبرنا بالجملة مكان المفرد لثلاثة أشياء :

أحدها : الحاجة إلى توسيع العبارة في النظم والنثر.

__________________

(١) ينقسم الخبر إلى مفرد وجملة ، فأما الجملة فإما أن تكون هي المبتدأ في المعنى أو لا ، فإن لم تكن هي المبتدأ في المعنى فلا بد فيها من رابط يربطها بالمبتدأ وهذا معنى قوله حاوية معنى الذي سيقت له والرابط إما ضمير يرجع إلى المبتدأ نحو زيد قام أبوه وقد يكون الضمير مقدرا نحو السمن منوان بدرهم التقدير منوان منه بدرهم أو إشارة إلى المبتدأ ، كقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) في قراءة من رفع اللباس أو تكرار المبتدأ بلفظه وأكثر ما يكون في مواضع التفخيم كقوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) و (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) وقد يستعمل في غيرها كقولك زيد ما زيد أو عموم يدخل تحته المبتدأ نحو زيد نعم الرجل ، وإن كانت الجملة الواقعة خبرا هي المبتدأ في المعنى لم تحتج إلى رابط.

١٠٥

والثاني : أنّ ذلك قد يزيل اللبس في بعض المواضع كقولك : (زيد قام أبوه) لو قلت : (قام أبو زيد) لجاز أن يظن أنّ هذه كنية له لا أنّ له ولدا ؛ فإذا قدمت بطل كونه كنية.

والثالث : أنّ في ذكر الشيء مظهرا ومضمرا تفخيما.

وإنّما وجب أن يكون في الجملة ضمير المبتدأ ؛ لأن الخبر فيهما على التحقيق هو المتبدأ الأخير والأول أجنبيّ منه ، والضمير يربط الجملة بالأوّل حتّى يصير له بها تعلّق ، وإنّما يسوغ حذف هذا الضمير في موضع يعلم أنّه مراد من غير لبس كقولهم : السمن منوان بدرهم وكقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] أي : إنّ ذلك منه ، ولهذه العلّة جاز حذف الخبر تارة والمبتدأ أخرى وحذف الجملة بأسرها.

فصل : والظرف الواقع خبرا مقدّر بالجملة عند جمهور البصريين وقال بعضهم : هو مقدّر بالمفرد (١).

والدليل على أنّه مقدّر بالجملة من وجهين :

أحدهما : أنّه كالجملة في الصلة كقولك : (الذي خلفك زيد) فكذلك في الخبر.

والثاني : أنّ الظرف معمول لغيره.

والأصل في العمل للأفعال والأسماء نائبة عنها وجعل العمل هنا للفعل أولى ، وإذا أنيب الظرف مناب الفعل دلّ عليه واحتجّ الآخرون من وجهين :

أحدهما : أنّ الأصل في الخبر أن يكون مفردا وحمل الفروع على الأصول أولى.

__________________

(١) يجوز اعتبار شبه الجملة بنوعيه (الظروف والجار مع مجروره) صفة بعد المعرفة المحضة على تقدير متعلقة معرفة. وقد نص على هذا الصبان ـ ج ١ أول باب النكرة والمعرفة ـ حيث قال : «أسلفنا عن الدمامينى جواز كون الظرف (ويراد به فى مثل هذا التعبير : شبه الجملة بنوعيه) بعد المعرفة المحضة صفة ، بتقدير متعلقه معرفة). اه. أى : أن المتعلق المعرفة سيكون هو الصفة لمطابقته الموصوف فى التعريف. ولا مانع أن يكون شبه الجملة نفسه هو الصفة إذا استغنينا به عن المتعلّق تيسيرا وتسهيلا.

وإذا كان شبه الجملة بعد المعرفة المحضة صالحا لأن يكون صفة على الوجه السالف ، وهو صالح أيضا لأن يكون حالا بعدها كصلاحه للوصفية والحالية أيضا بعد النكرة غير المحضة ـ أمكن وضع قاعدة عامة أساسية هى : «شبه الجملة يصلح دائما أن يكون حالا أو صفة بعد المعرفة المحضة وغير المحضة ، وكذلك بعد النكرة بشرط أن تكون غير محضة ـ أو يقال : إذا وقع شبه الجملة بعد معرفة أو نكرة فإنه يصلح أن يكون حالا ، أو صفة : إلا فى صورة واحدة هى أن تكون النكرة محضة ؛ فيتعين أن يكون يعدها صفة ليس غير.

١٠٦

والثاني : أنّ الظرف إذا تقدّم على المبتدأ لم يبطل الابتداء ، ولو كان مقدّرا بالفعل لأبطله.

والجواب : أنّ الأصل في الخبر لا يمكن تقديره ههنا لما بيّنا من أنّ المفرد هو المبتدأ في المعنى والظرف ليس هو المبتدأ ، فعند ذلك نجعل العامل في الظرف ما هو الأصل في العمل لئلّا تقع المخالفة من وجهين ، وأمّا إذا تقدم الظرف ولم يعتمد فلا يبطل الابتداء به ؛ لأنه ليس بفعل على التحقيق بل هو نائب عنه ويصحّ ان يقدّر بعده المبتدأ بخلاف الفعل.

فصل : وإنّما لم يجز الإخبار بالزمان عن الجثّة لعدم الفائدة إذ كانت الجثّة غير مختصّة بزمان دون زمان ألا ترى أنّ قولك : (زيد غدا) إذا أردت مستقرّ ، غدا لا يفيد إذ هو مستقرّ في كلّ زمان وعلم السامع بذلك ثابت.

فلو قلت : يقدّر الخبر بما هو يختصّ به نحو قولك : حي أو غني أو قادم؟

قيل : إنّما يضمر ما عليه دليل ، ولا دليل على واحد من هذه بخلاف قولك : (زيد خلفك والرحيل غدا) فإنّ المحذوف منه الاستقرار والكون والحصول المطلق والظرف يدلّ عليه قطعا.

فأمّا قولهم : (الليلة الهلال) (١) فيروى بالرفع على تقدير : الليلة ليلة الهلال. وبالنصب على تقدير : الليلة طلوع الهلال. أو على أن تجعل الهلال بمعنى الاستهلال وهو من إقامة الجثة مقام المصدر ، وإنّما يكون فيما ينتظر ويجوز أن يكون ويجوز إلا يكون ، فلو قلت في انتهاء الشهر : (الليلة القمر) لم يجز ، وقد يجوز أن تقول : (زيد غدا) إذا كان غائبا وخاطبت من ينتظر قدومه.

فصل : ولا يجوز إظهار العامل في الظرف إذا كان خبرا ؛ لأن ذكر الظرف نائب عنه فلم يجمع بينهما للعلم به ، فأمّا قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) [النمل : ٤٠] فمستقرّ فيه بمعنى الساكن بعد الحركة لا الاستقرار الذي هو مطلق الكون.

__________________

(١) قال ابن عقيل في شرح الألفية : ظرف المكان يقع خبرا عن الجثة نحو زيد عندك وعن المعنى نحو القتال عندك وأما ظرف الزمان فيقع خبرا عن المعنى منصوبا أو مجرورا بفي نحو القتال يوم الجمعة أو في يوم الجمعة ولا يقع خبرا عن الجثة قال المصنف إلا إذا أفاد نحو الليلة الهلال والرطب شهري ربيع فإن لم يفد لم يقع خبرا عن الجثة نحو زيد اليوم وإلى هذا ذهب قوم منهم المصنف وذهب غير هؤلاء إلى المنع مطلقا فإن جاء شيء من ذلك يؤول نحو قولهم الليلة الهلال والرطب شهري ربيع التقدير طلوع الهلال الليلة ووجود الرطب شهري ربيع هذا مذهب جمهور البصريين وذهب قوم منهم المصنف إلى جواز ذلك من غير شذوذ لكن بشرط أن يفيد كقولك نحن في يوم طيب وفي شهر كذا.

١٠٧

فصل : يجوز تقديم الخبر (١) على المبتدأ مفردا كان أو جملة ، ومنعه الكوفّيّون والدليل على جوازه السماع والقياس ، أمّا السماع فقول الشاعر (٢) : [الوافر]

فتى ما ابن الأغرّ إذا شتونا

وحبّ الزاد في شهري قماح

وقولهم : تميميّ أنا ومشنوء من يشنؤك.

وأمّا القياس فمن وجهين :

أحدهما : أن الخبر يشبه الفعل ، والفعل يتقدم ويتأخر.

والثاني : أنّ الخبر يشبه المفعول ؛ لأنه قد يصير مفعولا في قولك : ظننت زيدا قائما ، والمفعول يجوز تقديمه ، وكذلك خبر (كان) يتقدّم على اسمها ، وخبر (إنّ) يتقدّم على اسمها إذا كان ظرفا فكذلك ههنا ، واحتجّ الآخرون بأنّ تقديم الخبر إضمار قبل الذكر وهذا غير مانع من التقديم ؛ لأنه مؤخر تقديرا فهو كقولهم : (في بيته يؤتى الحكم) وكقولك : (ضرب غلامه زيد) إذا جعلته مفعولا ؛ لأن النيّة به التأخير (٣).

فصل : إذا تقدم الظرف على الاسم واعتمد على أحد سبعة أشياء : مبتدأ على أن يكون هو خبرا أو صفة أو صلة أو حال أو كان معه استفهام أو حرف نفي أو كان عاملا في (أنّ والفعل) كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] جاز أن يعمل فيما بعده عمل الفعل في الفاعل لقوّته بما اعتمد عليه وجاز أن يكون خبرا مقدّما.

__________________

(١) يجوز تقديم الخبر وتأخيره ، وذلك فيما فقد فيه موجبهما أي فيما عدا ما يوجب تقديم الخبر. ووجوب تأخيره على الأصل ، ويجوز تقديمه لعدم المانع.

(٢) البيت لمالك الهذلي : وهو مالك بن خالد الخناعي الهذلي ، شاعر جاهلي من بني هذيل ، رويت له قصيدة خاطب فيها زوجته يخفف عنها ما أصابها يوم فقدت أولادها عمرو وعبد مناف وعباس.

(٣) قال الأشموني في شرح الألفية : (وجوّزوا التّقديم إذ لا ضررا) في ذلك نحو تميمي أنا ، ومشنوء من يشنؤك ، فإن حصل في التقديم ضرر فلعارض كما ستعرفه. إذا تقرر ذلك (فامنعه) أي تقديم الخبر (حين يستوي الجزآن) يعني المبتدأ والخبر (عرفا ونكرا) أي في التعريف والتنكير (عادمي بيان) أي قرينة تبين المراد نحو صديقي زيد ، وأفضل منك أفضل مني ، لأجل خوف اللبس ، فإن لم يستويا نحو رجل صالح حاضر ، أو استويا وأجدى بيان أي قرينة تبين المراد نحو أبو يوسف أبو حنيفة جاز التقديم ، فتقول حاضر رجل صالح ، وأبو حنيفة أبو يوسف ، للعلم بخبرية المقدم.

١٠٨

فإنّ لم يعتمد على شيء لم يعمل عند سيبويه وعمل عند الأخفش والكوفيين ، والمبرّد والدليل على أنّه لا يعمل من أربعة أوجه :

أحدهما : أنّ العامل يتخّطّى الظرف فيعمل فيما كان مبتدأ كقولك : إنّ خلفك زيدا ، ولو كان عاملا لم يبطله عامل خلف.

والثاني : أنّك تضمر المبتدأ في الظرف وهو مقدّم كقولك : في داره زيد ، ولو كان عاملا لكان واقعا في رتبته ولزم فيه الإضمار قبل الذكر لفظا وتقديرا (١).

والثالث : أنّ معمول الخبر يجوز أن يتقدّم على المبتدأ كقول الشمّاخ (٢) : [الوافر]

كلا يومي طوالة وصل أروى

ظنون آن مطّرح الظنون

و (كلا) منصوب الخبر وهو ظنون والمعمول تابع العامل ، والتابع لا يقع موقعا لا يقع فيه المتبوع.

والرابع : أنّ الظرف وحرف الجرّ غير مشتقّين ولا معتمدين فلم يعملا كقولك : هذا زيد ، فإن قالوا : الظريف نائب عن الفعل فيعمل عمله. فقد أجبنا عنه في المسألة السابقة.

فصل : فإن كان الخبر استفهاما لزم تقديمه ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام إذ كان معناه فيما بعده ، ولو قدّمت المستفهم عنه على الاستفهام لعكست المعنى ، فأمّا قولهم : (صنعت ماذا) ف (ما) غير معمولة ل (صنعت) هذه ، والتقدير : (أصنعت) ثم حذفت همزة الاستفهام ثم أتيت ب (ما) دالّة عليها و (ما) منصوبة بفعل آخر استغني عنه بالمذكور.

__________________

(١) الأصل ألا يعود الضمير على متأخر لفظا (أما أن يعود على متأخر لفظا فقط فجاز في جميع الأحوال نحو «في داره زيد» فالهاء تعود على زيد في اللفظ في الرتبة ، فرتبة زيد التقديم لأنه مبتدأ). ورتبة («الرتبة» هي أن الأصل في الفاعل ونائبه التقدم على المفعول به ، والمبتدأ مقدم على الخبر ، ورتبته الجار والمجرور والظرف بعد المفعول به ، ومثل ذلك اسم «إن» و «كان» وهكذا.) ، وقد يعود ، وذلك إذا كان الضمير مبهما محتاجا إلى تفسير.

(٢) الشماخ الذبياني : (ت ٢٢ ه‍ / ٦٤٢ م) هو الشماخ بن ضرار بن حرملة بن سنان المازني الذبياني الغطفاني. شاعر مخضرم ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وهو من طبقة لبيد والنابغة. كان شديد متون الشعر ، ولبيد أسهل منه منطقا ، وكان أرجز الناس على البديهة. جمع بعض شعره في ديوان. شهد القادسية ، وتوفي في غزوة موقان. وأخباره كثيرة. قال البغدادي وآخرون : اسمه معقل بن ضرار ، والشماخ لقبه.

١٠٩

فصل : وإنّما لزم تقديم الخبر (١) إذا كان ظرفا أو حرف جرّ على النكرة كقولك : له مال ؛ لأنه لو أخرّ لجاز أن يعتقد صفة وأنّ الخبر منتظر وبالتقديم ثمّ يزول هذا الظنّ.

فصل فيما يسدّ مسدّ الخبر :

فمن ذلك : (جواب لو لا) في قولك : لو لا زيد لأتيتك. والتقدير : لو لا زيد حاضر وموجود ، فصار طول الكلام بالجواب دالّا على المحذوف ومغنيا عنه.

ومن ذلك : (لعمرك) (٢) في القسم ، والتقدير : قسمي ، والجواب دالّ على المحذوف.

ومن ذلك قولهم : ضربي زيدا قائما. ف (قائما) حال من ضمير محذوف تقدير : ضربي زيدا إذا كان قائما. فحذفت (إذا) ؛ لأنها زمان واسم الفاعل يدلّ على الزمان ، و (كان) هذه التامّة ضميرها فاعل والحال منه.

فإن قلت : لم لا تكون الناقصة و (قائما) خبرها؟ قيل : لا يصحّ لوجهين :

أحدهما : أنّ (قائما) لم تقع في مثل هذه إلا نكرة ، وخبر (كان) يجوز أن يكون معرفة.

والثاني : أنّ الغرض من (كان) تعيين زمان الخبر ؛ فإذا حذفت لم يبق على زمانه دليل.

__________________

(١) يجب تقديم الخبر في أربع مسائل :

«إحداها» : أن يكون المبتدأ نكرة ليس لها مسوغ إلا تقدم الخبر ، والخبر ظرف أو جار ومجرور أو جملة (وإنما وجب تقديم الخبر هنا لئلا يتوهم كون المؤخر نعتا ، لأن حاجة النكرة المحضة إلى التخصيص ليفيد الإخبار عنها أقوى من المخبر) ، نحو «عندي كتاب» و «في الدار شجرة» فإن كان للنكرة مسوغ جاز الأمران نحو «رجل عالم عندي» و «عندي رجل عالم».

«الثانية» : أن يشتمل المبتدأ على ضمير يعود على بعض الخبر ، نحو : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (الآية «٢٤» من سورة محمد). فلو أجزنا تقديم المبتدأ هنا لعاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة.

«الثالثة» : أن يكون الخبر له صدر الكلام نحو «أين كتابك» (ف «كتابك» مبتدأ مؤخر و «أين» اسم استفهام متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ولا يجوز كتابك أين ، لأن لاسم الاستفهام الصدارة) و (مَتى نَصْرُ اللهِ) (الآية «٢١٤» من سورة البقرة).

«الرابعة» : أن يكون المبتدأ محصورا ب «إلا» نحو : «إنما المقدام من لا يخشى قولة الحق».

(٢) قال الأشموني في شرح الألفية : (وفي نصّ يمين ذا) الحكم وهو حذف الخبر وجوبا. (استقر) نحو لعمرك لأفعلن ، وأيمن الله لأقومن ، أي لعمرك قسمي ، وأيمن الله يميني فحذف الخبر وجوبا للعلم به ، وسد جواب القسم مسده فإن كان المبتدأ غير نص في اليمين جاز إثبات الخبر وحذفه نحو عهد الله لأفعلن وعهد الله عليّ لأفعلن.

١١٠

ومثل هذه المسألة : أكثر شربي السويق ملتوتا ، وأخطب ما يكون الأمير قائما. فأمّا قولهم : أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة. فيروى بالنصب على تقدير : أخطب أكوان الأمير يوم الجمعة. ف (يوما) ههنا خبر ، وفي الكلام مجاز وهو جعل الكون خاطبا ، ويروى بالرفع على تقدير : أخطب أيام كون الأمير ، ففيه على هذا حذف ومجاز.

ومن ذلك : كلّ رجل وضيعته. فالخبر فيه محذوف ، أي : مقرونان ، أغنى عن الخبر كون الواو بمعنى (مع) والضيعة ههنا الحرفة.

وأمّا قولهم : أنت أعلم وربّك. فتقديره : ربّك مكافئك أو مجازيك.

فصل : وأمّا قولهم : أمّا زيد فمنطلق. ف (زيد) مبتدأ و (منطلق) خبره ، وإنّما دخلت الفاء لما في (أمّا) من معنى الشرط ، فكان موضعها المبتدأ لكونها تكون في أوّل لجملة المجازى بها لكنّهم أخرّوها إلى الخبر لئلا تلي الفاء ما في تقدير حرف الشرط ، وجعلوا المبتدأ كالعوض من فعل الشرط ولا تدخل الفاء على الخبر في غير ذلك إلا في خبر (الذي) إذا وصل بفعل أو ظرف فيه ما يؤذن بأنّ ما في الخبر مستحقّ الصلة.

وكذلك صفة النكرة كقولهم : كلّ رجل يأتيني فله درهم ، فإن أدخلت على (الذي) (إنّ) جاز أن تدخل الفاء في الخبر.

وقال الأخفش : لا يجوز ، ووجه جوازه أنّ (إنّ) لا تغيّر معنى الكلام بل تؤكّد الخبر بخلاف أخواتها ، فإنّها تغيّر معنى الكلام ، والأخفش يحكم بزيادة الفاء إذا وجدها في شيء من ذلك.

١١١

باب الفاعل

الفاعل عند النحويّين : الاسم المسند إليه الفعل أو ما قام مقامه مقدّما عليه سواء وجد منه حقيقة أو لم يوجد (١).

وقال بعض النحويّين : الفاعل من وجد منه الفعل وغيره محمول عليه ، وهذا ضعيف لأربعة أوجه :

أحدها : أنّ قولهم : رخص السعر ، ومات زيد ، فاعل عندهم ولم يصدر منه فعل حقيقة.

والثاني : أنّه إذا كان فاعلا لصدور الفعل لم يجز بقاء هذا الاسم عليه مع نفيه ؛ لأن المعلول لا يثبت بدون علّة.

والثالث : أنّ قولك : ما قام زيد ، يصحّ أن تقول فيه ما فعل القيام فتنفي الفعل عنه ، فكيف يشتق له منه اسم مثبت.

والرابع : أنّ الاسم إذا تقدّم على الفعل بطل أن يكون فاعلا مع صدور الفعل منه.

فصل : وإنّما شرط فيه أن يتقدّم الفعل عليه لأربعة أوجه :

أحدها : أنّ الفاعل كجزء من الفعل لما نذكره من بعد ومحال تقدّم جزء الشيء عليه.

والثاني : أنّ كونه فاعلا لا يتصوّر حقيقة إلا بعد صدور الفعل منه ككونه كاتبا وبانيا فجعل في اللفظ كذلك.

والثالث : أن الاسم إذا تقدّم على الفعل جاز أن يسند إلى غيره كقولك : زيد قام أبوه ، وليس كذلك إذا تقدّم عليه.

والرابع : أنّ الفاعل لو جاز أن يتقدّم على الفعل لم يحتج إلى ضمير تثنية ولا جمع والضمير لازم له كقولك : الزيدان قاما والزيدون قاموا ، وليس كذلك إذا تقدّم.

فصل : والدليل على أن الفاعل جزء من أجزاء الفعل اثنا عشر وجها :

أحدها : أنّ آخر الفعل يسكّن لضمير الفاعل لئلّا يتوالى أربعة متحرّكات ك (ضربت) و (ضربنا) ولم نسكّنه مع ضمير المفعول نحو : (ضربنا) ؛ لأنه في حكم المنفصل.

__________________

(١) الفاعل وهو ما قدم الفعل او شبهه عليه وأسند إليه على جهة قيامه به أو وقوعه منه ك علم زيد ومات بكر وضرب عمرو.

١١٢

والثاني : أنّهم جعلوا النون في الأمثلة الخمسة علامة رفع الفعل مع حيلولة الفاعل بينهما ، ولو لا أنّه كجزء من الفعل لم يكن كذلك.

والثالث : أنّهم لم يعطفوا على الضمير المتّصل المرفوع من غير توكيد لجريانه مجرى الحرف من الفعل واختلاطه به.

والرابع : أنّهم وصلوا تاء التأنيث بالفعل دلالة على تأنيث الفاعل فكان كالجزء منه.

الخامس : أنّهم قالوا : (ألقيا) و (قفا) مكان : (ألق ألق) ولو لا أنّ ضمير الفاعل كجزء من الفعل لما أنيب منابه.

السادس : أنّهم نسبوا إلى (كنت) : (كنتي) ولو لا جعلهم التاء كجزء من الفعل لم يبق مع النسب.

السابع : أنّهم ألغوا : (ظننت) إذا توسّطت أو تأخّرت ولا وجه لذلك إلا جعل الفاعل كجزء من الفعل الذي لا فاعل له ومثل ذلك لا يعمل.

الثامن : امتناعهم من تقديم الفاعل على الفعل كامتناعهم من تقديم بعض حروفه (١).

والتاسع : أنّهم جعلوا : (حبّذا) بمنزلة جزء واحد لا يفيد مع أنّه فعل وفاعل.

والعاشر : أنّ من النحويّين من جعل : (حبّذا) في موضع رفع بالابتداء وأخبر عنه والجملة لا يصحّ فيها ذلك إلا إذا سمّي بها.

والحادي عشر : أنّهم جعلوا : (ذا) في : (حبذّا) بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث كما يفعل ذلك في الحرف الواحد.

والثاني عشر : أنّهم قالوا في تصغير (حبّذا) : (ما أحيبذه!) فصغروا الفعل وحذفوا منه إحدى البائين ومن الاسم الألف ، والعرب تقول : لا تحبّذه عليه فاشتقّ منهما.

__________________

(١) عند الكوفيين يجوز تقديم الفاعل تمسّكا بنحو قول الزّباء :

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا

يرفع «مشيها» على أنّه فاعل ل : «وئيدا» وهو ـ عند البصريين ـ ضرورة ، أو «مشيها» مبتدأ حذف خبره ، لسد الحال مسدّه ، أي : يظهر وئيدا.

١١٣

فصل : والعامل فى الفاعل الفعل المسند إليه وهذا أسدّ من قولهم : العامل إسناد الفعل إليه ؛ لأن الإسناد معنى والعامل هنا لفظيّ ، والذي ذكرته هو الذي أرادوه ؛ لأن الفعل لا يعمل إلا إذا كان له نسبة إلى الاسم فلمّا كان من شروط عمل الفعل الإسناد والنسبة تجوّزوا بما قالوا : والحقيقة ما قلت.

وقال خلف الكوفيّ : العامل في الفاعل الفاعليّة ، والدليل على فساد قوله من أربعة أوجه :

أحدها : أنّ (إنّ) عاملة بنفسها وهي نائبة عن الفعل فعمل الفعل بنفسه أولى.

والثاني : أنّ الفعل لفظ مختصّ بالاسم والاختصاص مؤثّر في المعنى فوجب أن يؤثّر في اللفظ كعوامل الفعل.

والثالث : أنّ الموجب لمعنى الفاعلية هو الفعل فكان هو الموجب للعمل في اللفظ.

والرابع : أنّ الاسم قد يكون في اللفظ فاعلا ، وفي المعنى مفعولا به كقولك : مات زيد ، ومفعولا في اللفظ وهو في المعنى فاعل كقولك : تصبّب زيد عرقا ، ولو كان العامل هو المعنى لانعكست هذه المسائل.

فصل : وإنّما أعرب الفاعل بالرفع (١) لأربعة أوجه :

أحدها : أنّ الغرض الفرق بين الفاعل والمفعول ، فبأيّ شيء حصل جاز.

والثاني : أنّ الفاعل أقلّ من المفعول والضمّ أثقل من الفتح ، فجعل الأثقل للأقلّ والأخف للأكثر تعديلا.

والثالث : أنّ الفاعل أقوى من المفعول إذا كان لازما لا يسوغ حذفه ، والضّمة أقوى الحركات فجعل له ما يناسبه.

__________________

(١) الأصل في الفاعل الرفع ، وقد يجرّ لفظا بإضافة المصدر نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) (الآية «٢٥١» من سورة البقرة) أو بإضافة اسم المصدر نحو قول عائشة (رض) «من قبلة الرّجل ـ امرأته الوضوء» (القبلة : مصدر قبل و «الرجل» فاعله وهو مجرور لفظا بالإضافة و «امرأته» مفعول به «الوضوء» مبتدأ مؤخر وخبره «من قبلة الرجل»).

أو يجر ب «من» أو «الباء» أو «اللام» الزوائد ، نحو : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) (الآية «١٩» من سورة المائدة) أي ما جاءنا من بشير ، و (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) (الآية «٧٩» من سورة النساء) أي كفى الله ، (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (الآية «٣٦» من سورة المؤمنون). أي هيهات ما توعدون.

١١٤

والرابع : أنّ الفاعل قبل المفعول لفظا ومعنى ؛ لأن الفعل يصدر منه قبل وصوله إلى المفعول فجعل له أوّل الحركات وهو الضّمّة.

فصل : وإنّما لم يجز أن تكون الجملة فاعلا لثلاثة أوجه (١) :

أحدها : أنّ الفاعل كجزء من الفعل ولا يمكن جعل الجملة كالجزء لاستقلالها.

والثاني : أنّ الفاعل قد يكون مضمرا ومعرفة بالألف واللام وإضمار الجملة لا يصحّ والألف واللام لا تدخل عليها.

والثالث : أنّ الجملة قد عمل بعضها في بعض ، فلا يصحّ أن يعمل فيها الفعل لا في جملتها ولا في أبعاضها إذ لا يمكن تقديرها بالمفرد هنا.

فصل : والأصل تقديم الفاعل على المفعول ؛ لأنه لازم في الجملة جار مجرى جزء من الفعل ، والمفعول قد يستغنى عنه ، والفاعل يصدر منه الفعل ثمّ يفضي إلى المفعول به بعد ذلك ، إلا أنّ تقديم المفعول جائز لقوّة الفعل بتصرفّه ، والحاجة إلى اتساع الألفاظ ، فإن خيفّ اللبس لم يجز التقديم مثل أن يكون الفاعل والمفعول لا يتبيّن فيهما إعراب ، فإن وصف أحدهما أو عطف عليه ما يفصل بينهما جاز التقديم.

__________________

(١) قال ابن هشام في شرح الشذور : لا يكونان جملة هذا هو المذهب الصحيح وزعم قوم أن ذلك جائز واستدلّوا بقوله تعالى (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ)(وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ)(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) فجعلوا جملة ليسجننه فاعلا ل (بدا) وجملة (كيف فعلنا بهم) فاعلا ل (تبين) وجملة (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) قائمة مقام فاعل ولا حجة لهم في ذلك أما الآية الأولى فالفاعل فيها ضمير مستتر عائد إمّا على مصدر الفعل والتقدير : ثم بدا لهم بداء كما تقول بدالي رأي ويؤيد ذلك أن اسناد بدا الى البداء قد جاء مصرّحا به في قول الشاعر

لعلّك والموعود حقّ لقاؤه

بدا لك في تلك القلوص بداء

وإما على السّجن بفتح السين المفهوم من قوله تعالى (لَيَسْجُنُنَّهُ) ويدلّ عليه قوله تعالى (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وكذلك القول في الآية الثانية أي وتبين هو أي التبيّن وجملة الاستفهام مفسّرة وأما الآية الثالثة فليس الإسناد فيها من الإسناد المعنوي الذى هو محلّ الحلاف وانما هو من الإسناد اللفظي اللفظي أي وإذا قيل لهم هذا اللفظ والإسناد اللفظىّ جائز في جميع الألفاظ كقول العرب زعموا مطيّة الكذب وفي الحديث لا حول ولا قوّة الّا بالله كنز من كنوز الجنّة.

١١٥

فصل : وأولى الفعلين بالعمل الأخير منهما ، وقال الكوفيّون : الأوّل أولى واتّفقوا على أنّ كلا الأمرين جائز إذا صحّ المعنى ، وأنّه لا يخيّر في إعمال أيّهما شاء إذا لم يصحّ المعنى ، وإذا تقدّم الفعل الذي يحتاج إلى فاعل أضمر فيه كقولك : ضربوني وضربت الزيدين. وقال الكسائيّ : لا يضمر.

والدليل على أنّ إعمال الثاني أولى : السماع والقياس ، فمن السماع قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] ، ولو أعمل الأول لقال : (فيها) وقوله تعالى : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف : ٩٦] ولم يقل : (أفرغه) وقوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) [الحاقة : ١٩] ولم يقل : (اقرؤوه) ومما جاء في الشعر قول الفرزدق (١) : [الطويل]

ولكنّ عدلا لو سببت وسبّني

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

ولم يقل : سبّوني ، وهو كثير في الشعر.

وأمّا القياس : فهو أنّ الثاني أقرب إلى الاسم وإعماله فيه لا يغير معنى فكان أولى كقولهم : خشّنت بصدره وصدر زيد بحرّ المعطو ، ف وكذا قولهم : مررت ومرّ بي زيد أكثر من قولهم : مر بي ومررت بزيد والعلّة فيه من وجهين :

أحدهما : أنّ العامل في الشيء كالعلّة العقلية وتلك لا يفصل بينها وبين معمولها.

والثاني : أنّ الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبيّ لا يجوز كقولهم : كانت زيدا الحّمى تأخذ ، والمعطوف هنا كالأجنبي فأحسن أحواله أن يضعف عمل الأوّل ، ويدلّ على ذلك أنّ الفعل إذا تأخر عن المفعول جاز دخول اللام عليه كقولك : لزيد ضربت ، ومنه قوله تعالى : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤] ولا يجوز ذلك مع تقديم الفعل ، وكذلك أيضا إذا جاوز

__________________

(١) الفرزدق : (٣٨ ـ ١١٠ ه‍ / ٦٥٨ ـ ٧٢٨ م) وهو همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي ، أبو فراس. شاعر من النبلاء ، من أهل البصرة ، عظيم الأثر في اللغة. يشبه بزهير بن أبي سلمى وكلاهما من شعراء الطبقة الأولى ، زهير في الجاهليين ، والفرزدق في الإسلاميين. وهو صاحب الأخبار مع جرير والأخطل ، ومهاجاته لهما أشهر من أن تذكر. كان شريفا في قومه ، عزيز الجانب ، يحمي من يستجير بقبر أبيه. لقب بالفرزدق لجهامة وجهه وغلظه. وتوفي في بادية البصرة ، وقد قارب المئة.

١١٦

الفعل الفاعل المؤسنث الحقيقي لزمت فيه التاء وإن فصل بينهما لم يلزم كلّ ذلك اهتمام بالأقرب ، وكان أبو عليّ يتمثّل عند ذلك بقول الهذلي (١) : [الطويل]

 ... وإنّما

نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي

واحتجّ الآخرون بأبيات عمل فيها الأوّل ، وليس فيها حجّة على الأولى بل الجواز ، فأمّا قول أمرئ القيس (٢) : [الطويل]

فلو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

فإنّما أعمل الأوّل فيه ؛ لأن المعنى عليه ، أي : لو كنت أسعى لأمر حقير كفاني القليل ، ولو نصب على هذا لتناقض المعنى.

فإن قالوا : الأوّل أهّم للبدء به؟

قلنا : لو اشتدّ الاهتمام به لّجعل معموله إلى جانبه على الاهتمام بالأقرب أشدّ على ما بيّنا.

__________________

(١) البيت كاملا :

بلى إنّها تعفو الكلوم وإنّما

نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي

(٢) امرؤ القيس : (١٣٠ ـ ٨٠ ق. ه / ٤٩٦ ـ ٥٤٤ م) وهو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي.

شاعر جاهلي ، أشهر شعراء العرب على الإطلاق ، يماني الأصل ، مولده بنجد ، كان أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر.

قال الشعر وهو غلام ، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب ، فبلغ ذلك أباه ، فنهاه عن سيرته فلم ينته ، فأبعده إلى حضر موت ، موطن أبيه وعشيرته ، وهو في نحو العشرين من عمره.

أقام زهاء خمس سنين ، ثم جعل ينتقل مع أصحابه في أحياء العرب ، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو ، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه ، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال : رحم الله أبي! ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا ، لا صحو اليوم ولا سكر غدا ، اليوم خمر وغدا أمر. ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد ، وقال في ذلك شعرا كثيرا.

كانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرؤ القيس) فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس ، فطلبه فابتعد وتفرق عنه أنصاره ، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل ، فأجاره ومكث عنده مدة.

١١٧

باب ما لم يسمّ فاعله

إنّما حذف الفاعل لخمسة أوجه (١) :

أحدها : ألا يكون للمتكلمّ في ذكره غرض.

والثاني : أن يترك ذكره تعظيما له واحتقارا.

والثالث : أن يكون المخاطب قد عرفه.

والرابع : أن يخاف عليه من ذكره.

والخامس : ألا يكون المتكلّم يعرفه.

فصل : وإنّما غيّر لفظ الفعل ليدلّ تغييره على حذف الفاعل ، وإنّما ضمّ أوّله وكّسر ما قبل آخره في الماضي وفتح المستقبل لوجهين :

أحدهما : أنّه خصّ بصيغة لا يكون مثلها في الأسماء ولا في الأفعال التي سميّي فاعلها لئلّا يلتبس.

فإن قلت : كان يجب أن يكسر أوّله ويضّم ما قبل آخره إذ لا نظير له؟

قيل : الخروج من كسر إلى ضمّ مستثقل جدّا بخلاف الخروج من ضمّ إلى كسر ، فأمّا : (دئل) فلا يعتدّ به لقلّته وشذوذه ، وإنّما فتح قبل الأخير في المستقبل لئلّا يلتبس بما سمّي فاعله.

والوجه الثاني : أنّهم ضمّوه عوضا من ضمّ الفاعل المحذوف وهذا ضعيف لوجهين :

__________________

(١) قال ابن هشام : نائب الفاعل وهو الذي يعبرون عنه بمفعول ما لم يسمّ فاعله والعبارة الأولى أولى لوجهين احدهما أن النائب عن الفاعل يكون مفعولا وغيره كما سيأتي والثاني أن المنصوب في قولك أعطي زيد دينارا يصدق عليه أنه مفعول للفعل الذي لم يسمّ فاعله وليس مقصودا لهم ومعنى قولي أقيم هو مقامه أنه أقيم مقامه في إسناد الفعل إليه ، ثم قال : الفعل يجب تغييره الى فعل أو يفعل ولا أريد بذلك هذين الوزنين فإن ذلك لا يتأتّى الا في الفعل الثلاثي وانما أريد أنه يضمّ أوّله مطلقا ويكسر ما قبل آخره في الماضي ويفتح في المضارع ثم بعد ذلك يقام المفعول به مقام الفاعل فيعطى أحكامه كلها فيصير مرفوعا بعد أن كان منصوبا وعمدة بعد أن كان فضلة وواجب التأخير عن الفعل بعد أن كان جائز التقديم عليه ، والمفعول به عند المحققين مقدّم في النيابة على غيره وجوبا لأنه قد يكون فاعلا في المعنى كقولك أعطيت زيدا دينارا ألا ترى أنه آخذ وأوضح من هذا ضارب زيد عمرا لأن الفعل صادر من زيد وعمرو.

١١٨

أحدهما : أنّهم غيّروا منه موضعا آخر بغير الضمّ.

والثاني : أنّ المحذوف قد أقيم المفعول مقامه.

فصل : وإنّما أقيم المفعول مقام الفاعل ليكون الفعل حديثا عنه ؛ إذ الفعل خبر ولا بدّ له من مخبر عنه ، ولمّا أقيم مقامه في الإسناد إليه رفع كما رفع الرافع له الفعل المسند إليه.

فصل : وإنّما لم يجز بناء الفعل اللازم لما يسمّ فاعله ؛ لأنه يبقى خبرا بغير مخبر عنه كقولك : جلس ، وقد ذهب قوم إلى جوازه على أن يكون المصدر المحذوف مضمرا فيه وساغ حذفه بدلالة الفعل عليه وهذا ضعيف جدّا ؛ لأن المصدر المحذوف لا يفيد إسناد الفعل إليه إذا كان الفعل يغني عنه ، ولا يصحّ تقدير مصدر موصوف ولا دالّ على عدد إذ ليس في الفعل دلالة على الصفة والعدد.

فصل : وإذا كان في الكلام مفعول به صحيح جعل القائم مقام الفاعل دون الظرف وحرف الجرّ لأربعة أوجه (١) :

__________________

(١) قال ابن هشام في شرح الشذور : إن لم يكن في الكلام مفعول به أقيم غيره من مصدر أو ظرف زمان أو مكان أو مجرور.

فالمصدر كقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وقوله تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) وكون نفخة مصدرا واضح ، وأما شيء فلأنه كناية عن المصدر وهو العفو والتقدير والله أعلم فأيّ شخص من القاتل عفي له عفو ما من جهة أخيه

وظرف الزمان كقولك : صيم رمضان ، وأصله : صام الناس رمضان.

وظرف المكان كقولك : جلس أمامك ، والدليل على أن الأمام من الظروف المتصرفة التي يجوز رفعها قول الشاعر

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

والمجرور كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها) ف (يؤخذ) فعل مضارع مبني لما لم يسم فاعله وهو خال من ضمير مستتر فيه ومنها جار ومجرور في موضع رفع أي لا يكن أخذ منها ولو قدر ما هو المتبادر من أن في يؤخذ ضميرا مستترا هو القائم مقام الفاعل ومنها في موضع نصب لم يستقم لأن ذلك الضمير عائد حينئذ على كل عدل وكل عدل حدث والأحداث لا تؤخذ وانما تؤخذ الذوات نعم ان قدر أن لا يؤخذ بمعنى لا يقبل صحّ ذلك.

وفهم من قولي فإن فقد فالمصدر الى آخره أنه لا يجوز اقامة غير المفعول به مع وجود المفعول به وهو مذهب البصريين الا الأخفش.

١١٩

أحدها : أنّ الفعل يصل إليه بنفسه كما يصل إلى الفاعل بخلاف الظرف.

والثاني : أنّ المفعول به شريك الفاعل ؛ لأن الفاعل يوجد الفعل والمفعول به يحفظه.

والثالث : أنّ المفعول في المعنى قد جعل فاعلا في اللفظ كقولك : مات زيد ، وطلعت الشمس ، وهما في المعنى مفعول بهما بخلاف الظرف.

والرابع : أنّ من الأفعال ما لم يسمّ فاعله بحال نحو : عنيت بحاجتك ، وبابه ولم يسند إلا إلى مفعول به صحيح فدلّ على أنّه أشبه بالفاعل.

وقال الكوفيّون : يجوز إقامة الظرف مقام الفاعل وإن كان معه مفعول صحيح ؛ لأنه يصير مفعولا به على السعة وهذا ضعيف لما ذكرنا.

فصل : وأمّا إقامة المصدر مقام الفاعل مع المفعول به فللبصريّون فيه مذهبان :

أحدهما : لا يجوز ؛ لأن المصدر يصل إليه في المعنى فهو غير لازم بخلاف المفعول به. والآخر يجوز ؛ لأن الفعل يصل إليه بنفسه واحتجّوا على ذلك بقرأءة أبي جعفر المدنيّ : (لِيَجْزِيَ قَوْماً) [الجاثية : ١٤] أي : ليجزى الجزاء قوما ، وبقراءة عاصم : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨] أي : نجي النجاء ، وبقول جرير :

فلو ولدت فقيرة جرو كلب

لسبّ بذلك الكلب الكلابا

وهذا ضعيف لما ذكرنا ، والقراءتان ضعيفتان على أنّ قراءة عاصم فيها وجه آخر يخرجها من هذا الباب ، وهو يكون أن الأصل : (ننجي) ثمّ أبدل النون الثانية جيما وأدغمها ، وأمّا قراءة أبي جعفر فعلى تقدير : (لنجزي الخير قوما) فالخير مفعول به وهذا الفعل يتعّدىّ إلى مفعولين وأضمر الأوّل لدلالة الثاني عليه ، وأمّا البيت فقد حمل على ما قالوا وحمل على وجه آخر ، وهو أن يكون التقدير : فلو ولدت قفيرة الكلاب ياجرو كلب لسبّ ، أي : جنس الكلاب.

فصل : وإنّما جاز إقامة حرف الجرّ والظرف والمصدر ـ أيّها شئت ـ مقام الفاعل لتساويها في ضعفها عن المفعول به ، وإنّما يقام الظرف مقام الفاعل إذا جعل مفعولا على السعة ؛ لأنه إذ كان ظرفا كان حرف الجرّ مقدّرا معه وهو : (في) ، و (في) يقع فيها الفعل لا بها ولأنّ الفعل

١٢٠