اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

وأما الماضي المسبوق بأداة شرط جازمة ، فهو مجزوم بها محلا ، مثل «إن اجتهد علي أكرمه معلمه».

الخلاصة الإعرابية

الكلمة الإعرابية أربعة : أقسام مسند ، ومسند إليه ، وفضلة ، وأداة.

وقد سبق شرح المسند والمسند إليه ، ويسمى كل منهما عمدة ، لأنه ركن الكلام ، فلا يستغنى عنه بحال من الأحوال ، ولا تتم الجملة بدونه ، ومثالهما : «الصدق أمانة».

والمسند إليه لا يكون إلا اسما.

والمسند يكون اسما ، مثل (نافع) من قولك : «العلم نافع» ، واسم فعل ، مثل : «هيات المزار» وفعلا ، مثل : «جاء الحق وزهق الباطل».

إعراب المسند اليه :

حكم المسند اليه : أن يكون مرفوعا دائما حيثما وقع ، مثل : «فاز المجتهد. الحق منصور. كان عمر عادلا».

إلا إن وقع بعد (إنّ) أو إحدى أخواتها ، فحكمه حينئذ أنه منصوب ، مثل : «إنّ عمر عادل».

إعراب المسند

حكم المسند ـ إن كان اسما ـ أن يكون مرفوعا أيضا ، مثل : «السابق فائز. إنّ الحقّ غالب».

إلا إن وقع بعد (كان) او إحدى أخواتها ، فحكمه النصب ، مثل : «كان عليّ باب مدينة العلم».

وإن كان المسند فعلا ، فإن كان ماضيا فهو مبنيّ على الفتح أبدا ك (انتصر) ، إلا إذا لحقته واو الجماعة ، فيبنى على الضم ك (انتصرا) ، أو ضمير رفع متحرك ، فيبنى على السكون ك (انتصرت وانتصرتم وانتصرنا).

وإن كان مضارعا ، فهو مرفوع أبدا ك (ينصر). إلا إذا سبقه ناصب ، فينصب ، نحو : «لن تبلغ المجد إلا بالجدّ» ، أو جازم فيجزم نحو : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.)

٢١

وإن اتصلت به إحدى نوني التوكيد بني على الفتح ك (يجتهدنّ ويجتهدنّ) ، أو نون النسوة بني على السكون ك (الفتيات يجتهدن).

وإن كان أمرا ، فهو مبنيّ على السكون أبدا ك (اكتب) ، إلا إن كان معتلّ الآخر ، فيبنى على حذف آخره ك (اسع وادع وامش) ، أو كان متّصلا بألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المخاطبة ، فيبنى على حذف النون ك (اكتبا واكتبوا واكتبي) ، أو كان متصلا بإحدى نوني التوكيد ، فيبنى على الفتح ك (اكتبن واكتبنّ).

الفضلة وإعرابها

الفضلة : هي اسم يذكر لتتميم معنى الجملة ، وليس أحد ركنيها ـ أي : ليس مسندا ولا مسندا إليه ـ كالناس من قولك : «أرشد الأنبياء الناس».

(فأرشد مسند. والأنبياء مسند إليه ؛ والناس فضلة ، لأنه ليس مسندا ولا مسندا إليه ، وإنما أتي به لتتميم معنى الجملة ، وسميت فضلة لأنها زائدة على المسند والمسند إليه ، فالفضل في اللغة معناه الزيادة).

وحكمها : أنها منصوبة دائما حيثما وقعت ، مثل : «يحترم الناس العلماء. أحسنت إحسانا.

طلعت الشمس صافية. جاء التلاميذ إلا عليا. سافرت يوم الخميس. جلست أماك المنبر. وقف الناس احتراما للعلماء».

إلا إذا وقعت بعد حرف الجرّ ، أو بعد المضاف ، فحكمها أن تكون مجرورة ، مثل : «كتبت بالقلم. قرأت كتب التاريخ».

وما جاز أن يكون عمدة وفضلة ، جاز رفعه ونصبه ، كالمستثنى في كلام منفيّ ذكر فيه المستثنى منه ، نحو : «ما جاء أحد إلا سعيد ، وإلا سعيدا».

(فإن راعيت المعنى ، رفعت ما بعد (إلا) لوجود الإسناد ، لأن عدم المجيء إن أسند الى (أحد) فالمجيء مسند إلى سعيد وثابت له. وإن راعيت اللفظ نصبته لأنه في اللفظ فضلة ؛ لاستيفاء جملة المسند والمسند اليه».

فإن ذكر المستثنى منه ، والكلام مثبت ، نصب ما بعد (إلا) حتما ، لأنه فضلة لفظا ومعنى ، نحو : «جاء القوم إلّا سعيدا».

٢٢

وإن حذف المستثنى منه من الكلام رفع في مثل : «ما جاء إلّا سعيد» لأنه مسند اليه ، ونصب في مثل : «ما رأيت إلا سعيدا». لأنه فضلة. وخفض في مثل : «ما مررت إلا بسعيد» ، لوقوعه بعد حرف الجر.

الأداة وحكمها

الأداة : كلمة تكون رابطة بين جزءي الجملة ، أو بينهما وبين الفضلة ، أو بين جملتين.

وذلك كأدوات الشرط والاستفهام والتّحضيض والتّمني والترجي ونواصب المضارع وجوازمه وحروف الجرّ وغيرها.

وحكمها : أنها ثابتة الآخر على حالة واحدة ، لأنها مبنية.

والأداة إن كانت اسما تقع مسندا إليه ، مثل «من مجتهد؟» ، ومسندا مثل : خير مالك ما أنفقته في سبيل المصلحة العامة ، وفضلة مثل : «احترم الذي يطلب العلم ، اتّق شرّ من أحسنت إليه».

وحينئذ يكون إعرابها في أحوال الرفع والنصب والجر محليّا.

٢٣

مباحث إعرابيّة متفرقة

الجمل وأنواعها

الجملة : قول مؤلف من مسند ومسند إليه. فهي والمركّب الإسناديّ شيء واحد. مثل : (جاءَ الْحَقُّ ، وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

ولا يشترط فيما نسميه جملة ، أو مركّبا إسناديا ، أن يفيد معنى تاما مكتفيا بنفسه ، كما يشترط ذلك فيما نسميه كلاما. فهو قد يكون تامّ الفائدة نحو : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فيسمّى كلاما أيضا. وقد يكون ناقصها ، نحو : «مهما تفعل من خير أو شرّ» ، فلا يسمّى كلاما. ويجوز أن يسمّى جملة أو مركبا إسناديا. فإن ذكر جواب الشرط ، فقيل : «مهما تفعل من خير أو شرّ تلاقه» ، سمي كلاما أيضا ، لحصول الفائدة التامّة.

والجملة أربعة أقسام : فعليّة ، واسميّة ، وجملة لها محلّ من الإعراب ، وجملة لا محلّ لها من الإعراب.

١ ـ الجملة الفعليّة

الجملة الفعليّة : ما تألفت من الفعل والفاعل ، نحو : «سبق السيف العذل» ، أو الفعل ونائب الفاعل ، نحو : «ينصر المظلوم» ، أو الفعل الناقص واسمه وخبره نحو : «يكون المجتهد سعيدا».

٢ ـ الجملة الاسميّة

الجملة الاسميّة : ما كانت مؤلفة من المبتدأ والخبر ، نحو : «الحقّ منصور» أو ممّا أصله مبتدأ وخبر ، نحو : «إن الباطل مخذول. لا ريب فيه. ما أحد مسافرا. لا رجل قائما. أن أحد خيرا من أحد إلا بالعافية. لات حين مناص».

٣ ـ الجمل الّتي لها محلّ من الإعراب

الجملة إن صحّ تأويلها بمفرد ، كان لها محلّ من الإعراب ، الرفع أو النصب أو الجرّ ، كالمفرد الذي تؤوّل به ، ويكون إعرابها كإعرابه.

٢٤

فإن أوّلت بمفرد مرفوع ، كان محلّها الرفع ، نحو : «خالد يعمل الخير» ، فإن التأويل : «خالد عامل للخير».

وإن أوّلت بمفرد منصوب ، كان محلّها النصب ، نحو : «كان خالد يعمل الخير» ، فإنّ التأويل : «كان خالد عاملا للخير».

وإن أوّلت بمفرد مجرور ، كانت في محلّ جرّ ، نحو : «مررت برجل يعمل الخير» ، فإن التأويل : «مررت برجل عامل للخير».

وإن لم يصحّ تأويل الجملة بمفرد ، لأنها غير واقعة موقعه ، لم يكن لها محلّ من الإعراب ، نحو : «جاء الذي كتب» ، إذ لا يصح أن تقول : «جاء الذي كاتب».

والجمل التي لها محلّ من الإعراب سبع

١ ـ الواقعة خبرا : ومحلّها من الإعراب الرفع ، إن كانت خبرا للمبتدأ ، أو الأحرف المشبهة بالفعل ، أو (لا) النافية للجنس ، نحو : «العلم يرفع قدر صاحبه. إن الفضيلة تحبّ. لا كسول سيرته ممدوحة». والنصب إن كانت خبرا عن الفعل الناقص ، كقوله تعالى : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف : ١٧٧] ، وقوله : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].

٢ ـ الواقعة حالا : ومحلّها النصب ، نحو : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) [يوسف : ١٦].

٣ ـ الواقعة مفعولا به : ومحلها النصب أيضا ، كقوله تعالى : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] ، ونحو : «أظنّ الأمة تجتمع بعد التفرّق».

٤ ـ الواقعة مضافا إليها : ومحلّها الجرّ ، كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [الأنعام : ١١٩].

٥ ـ الواقعة جوابا لشرط جازم : إن اقترنت بالفاء أو ب (إذا) الفجائية. ومحلها الجزم ، كقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣] ، وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦].

٢٥

٦ ـ الواقعة صفة : ومحلّها بحسب الموصوف إمّا الرفع ، كقوله تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) [يس : ٢٠]. وإمّا النصب ، نحو : «لا تحترم رجلا يخون بلاده». وإمّا الجرّ ، نحو : «سقيا لرجل يخدم أمته».

٧ ـ التابعة لجملة لها محلّ من الإعراب : ومحلّها بحسب المتبوع. إمّا الرّفع ، نحو : «عليّ يقرأ ويكتب» ، وإمّا النصب ، نحو : «كانت الشمس تبدو وتخفى» ، وإمّا الجرّ ، نحو : «لا تعبأ برجل لا خير فيه لنفسه وأمته ، لا خير فيه لنفسه وأمته».

الجمل الّتي لا محلّ لها من الإعراب

الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب تسع :

١ ـ الابتدائية : وهي التي تكون في مفتتح الكلام ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١] ، وقوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥].

٢ ـ الاستئنافيّة : وهي التي تقع في أثناء الكلام ، منقطعة عمّا قبلها ، لاستئناف كلام جديد ، كقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النحل : ٣]. وقد تقترن بالفاء أو الواو الاستئنافيّتين. فالأول كقوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الأعراف : ١٩٠]. والثاني كقوله : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦].

٣ ـ التّعليليّة : وهي التي تقع في اثناء الكلام تعليلا لما قبلها ، كقوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣]. وقد تقترن بفاء التّعليل ، نحو : «تمسّك بالفضيلة ، فإنها زينة العقلاء».

٤ ـ الاعتراضيّة : وهي التي تعترض بين شيئين متلازمين ، لإفادة الكلام تقوية وتسديدا وتحسينا ، كالمبتدأ والخبر ، والفعل ومرفوعه ، والفعل ومنصوبه ، والشرط والجواب ، والحال وصاحبها ، والصفة والموصوف ، وحرف الجر ومتعلّقه والقسم وجوابه. فالأول كقول الشاعر :

وفيهنّ ، والأيام يعثرن بالفتى

نوادب لا يمللنه ، ونوائح

٢٦

والثاني كقول الآخر :

وقد أدركتني ، والحوادث جمّة

أسنّة قوم لا ضعاف ، ولا عزل

والثالث كقول غيره :

وبدّلت ، والدّهر ذو تبدّل

هيفا دبورا بالصّبا ، والشّمأل

والرابع كقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤].

والخامس نحو : «سعيت ، وربّ الكعبة ، مجتهدا».

والسادس كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦].

والسابع نحو : «اعتصم ، أصلحك الله ، بالفضيلة».

والثامن كقول الشاعر :

لعمري ، وما عمري عليّ بهيّن

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع

٥ ـ الواقعة صلة للموصول الاسميّ : كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى : ١٤] ، أو الحرفيّ كقوله : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) [المائدة : ٥٢].

والمراد بالموصول الحرفيّ : الحرف المصدريّ ، وهو يؤوّل وما بعده بمصدر وهو ستة أحرف : «إن وأنّ وكي وما ولو وهمزة التسوية».

٦ ـ التّفسيرية : كقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣] وقوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الصف : ١٠ ـ ١١].

والتّفسيريّة ثلاثة أقسام : مجرّدة من حرف التفسير كما رأيت ، ومقرونة بأي ، نحو : «أشرت إليه ، أي أذهب» ، ومقرونة بأن ، نحو : «كتبت إليه أن وافنا» ، ومنه قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون : ٢٧].

٧ ـ الواقعة جوابا للقسم : كقوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ٢ ـ ٣] ، وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧].

٢٧

٨ ـ الواقعة جوابا لشرط غير جازم : «كإذا ولو ولوا» ، كقوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ،) وقوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١] ، وقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١].

٩ ـ التابعة لجملة لا محلّ لها من الإعراب : نحو : «إذا نهضت الأمة ، بلغت من المجد الغاية ، وأدركت من السّؤدد النهاية».

٢٨

ترجمة العكبري

اسمه ونسبه :

أبو البقاء العكبري عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين الإمام العلامة ، محب الدين ، أبو البقاء العكبري البغدادي الأزجي الضرير ، النحوي الفرضي الحنبلي ، صاحب التصانيف.

مولده ونشأته العلمية :

مولده سنة ٥٣٨ ه‍ ، وذكر الدبيثي : أنه سأله عن مولده. فقال : سنة ثمان وثلاثين ، وقال القطيعي : سألته عن مولده؟ فقال : في حدود سمنة تسع وثلاثين.

وهو من من أهل باب الأزج ، وأصله من عكبرا ، قرأ النحو واللغة والأصول والحساب والخلاف والفرائض ، رحل إليه من الأقطار ، وكان يتردد على الصدور والأعيان.

قرأ على ابن الخشاب وأبي البركات ابن نجاح ، وبرع في الفقه والأصول وحاز قصب السبق في العربية. أضر في صباه بالجدري ، وكان إذا أراد أن يصنف شيئا أحضرت إليه مصنفات ذلك الفن وقرئت عليه ، فإذا حصل ما يريد في خاطره أملاه ، وكان يقال : أبو البقاء تلميذ تلامذته! وقال الشعر.

وسمع في صباه من أبي الفتح ابن البطي ، وأبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي ، وأبي بكر عبد الله بن النقور ، وأبي العباس أحمد بن المبارك بن المرقعاني وغيرهم.

وقرأ القرآن على أبي الحسن البطايحي ، وسمع الحديث من أبي الحسن ابن البطي ، وأبي زرعة المقدسي ، وأبي بكر ابن النقور ، وابن هبيرة الوزير. وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى الصغير ، وأبي حكيم النهرواني ، حتى برع فيه.

وأخذ النحو عن أبي محمد ابن الخشاب ، وأبي البركات ابن نجاح ، واللغة من ابن القصاب. وبرع في فنون عديدة من العلم ، وصنف التصانيف الكثيرة ، ورحلت إليه الطلبة من النواحي ، وأقرأ المذهب والفرائض والنحو واللغة ، وانتفع به خلق كثير.

٢٩

وقرأ الأدب على عبد الرحيم بن العصار ، والفقه على الشيخ أبي حكم إبراهيم بن دينار النهاوندي.

مكانته العلمية ومناقبه :

كان الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي يفزع إليه فيما يشكل عليه من الأدب ، وكان رقيق القلب ، سريع الدمعة.

قال محب الدين ابن النجار : وكان ثقة ، صدوقا فيما ينقله ويحكيه ، غزير الفضل ، كامل الأوصاف ، كثير المحفوظ ، متدينا ، حسن الأخلاق ، متواضعا. ذكر لي أنه بالليل تقرأ له زوجته.

قال أبو الفرج ابن الحنبلي الملقب بناصح الدين : كان ـ يعني أبا البقاء ـ إماما في علوم القرآن ، إماما في الفقه ، إماما في اللغة ، إماما في النحو ، إماما في العروض ، إماما في الفرائض ، إماما في الحساب ، إماما في معرفة المذهب ، إماما في المسائل النظريات. وله في هذه الأنواع من العلوم مصنفات مشهورة.

قال : وكان معيدا للشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في المدرسة ، وكان متدينا ، قرأت عليه كتاب «الفصيح» لثعلب ، من حفظي ، وقرأت عليه بعض كتاب «التصريف» لابن جني.

وقال الإمام عبد الصمد بن أبي الجيش : كان يفتي في تسعة علوم ، وكان واحد زمانه في النحو واللغة ، والحساب والفرائض ، والجبر والمقابلة والفقه ، وإعراب القرآن والقراءات الشاذة ، وله في كل هذه العلوم تصانيف كبار وصغار ، ومتوسطات ، وذكر أنه قرأ عليه كثيرا.

وقال ابن الدبيثي : كان متفننا في العلوم ، له مصنفات حسنة في إعراب القرآن وقراءاته المشهورة ، وإعراب الحديث ، والنحو واللغة ، سمعت عليه ، ونعم الشيخ كان.

وقال ابن النجار : قرأت عليه كثيرا من مصنفاته ، وصحبته مدة طويلة ، وكان ثقة متدينا ، حسن الأخلاق متواضعا ، كثير المحفوظ. وكان محبا للاشتغال والإشغال ليلا ونهارا ، ما يمضي عليه ساعة إلا وواحد يقرأ عليه ، أو يطالع له ، حتى ذكر لي : أنه بالليل تقرأ له زوجته في كتب الأدب وغيرها ، قال : وبقي مدة من عمره فقيد النظير ، متوحدا في فنونه التي جمعها من

٣٠

عوام الشريعة والآداب ، والحساب ، في سائر البلاد ، وذكر لي : أنه أضر في صباه بالجدري ، وذكر تصانيفه.

وقال غيره : كان أبو البقاء إذا أراد أن يصنف كتابا أحضرت له عدة مصنفات في ذلك الفن ، وقرئت عليه ، فإذا حصّله في خاطره أملاه ، فكان بعض الفضلاء يقول : أبو البقاء تلميذ تلامذته ، يعني : هو تبع لهم فيما يلقونه عليه.

وقال المزاني : سمعت الشيخ أبا البقاء يقول : جاء إليّ جماعة من الشافعية فقالوا : انتقل إلى مذهبنا ونعطيك تدريس النحو واللغة بالنظامية ، فأقسمت وقلت : لو أقمتموني وصببتم عليّ الذهب حتى أتوارى ، ما رجعت عن مذهبي.

تلاميذه :

أخذ عنه العربية خلق كثير ، وأخذ عنه الفقه جماعة من الأصحاب ، كالموفق بن صديق ، ويحيى بن يحيى الحرانيين.

وسمع منه الحديث خلق كثير. وروى عنه ابن الدبيثي ، وابن النجار ، والضياء ، وابن الصيرفي ، وبالإجازة جماعة ، منهم : الكمال البزار البغدادي.

ذكر شيء من فوائده :

ذكر أبو البقاء في شرح الهداية وجها بدخول الاستحاضة في مدة النفاس ، وقد حكاه قبله القاضي في شرح المذهب.

وحكى فيما إذا حكّ أسفل الخف بعود ونحوه من النجاسة ، فهل يقوم مقام دلكه بالأرض في طهارته أو العفو عنه؟ وجهين. وقال فيه : الكلب والحمار الأهلي والوحشي سواء في قطع الصلاة.

قال : وقال الشريف : رأيت في بعض نسخ «المجرد» يقطع الحمار الأهلي.

وقال فيه : لم أجد لأصحابنا في بعض الآية التي يجوز للجنب قراءتها حدا ، وظاهر قولهم :

أنه يجوز ذلك ، وإن كثر البعض ، وكان بمنزلة آيات متوسطة.

والأمر محمول عندي على غير ذلك ، وهو أن يحمل البعض على مقدار دون آية متوسطة ، إذا كان كلاما تاما في متعلق بما قبله وما بعده.

٣١

وحكى ابن الصيرفي أيضا عن أبي البقاء : أنه كان يختار جواز أخذ بني هاشم من الزكاة إذا منعوا حقهم من خمس الغنيمة.

وقال ابن الصيرفي أيضا : خرجت جواز دفع الرشوة إلى القاضي الظالم لدفع ظلمه على محامل الخراج ، وذاكرت بذلك شيخي أبا البقاء ، فلم يصوبه ، قال : ثم رأيت ابن عقيل في فنونه صرح بما خرجته.

قال : وسمعت شيخنا أبا البقاء يقول فيمن رأى رجلا نائما ، وقد دخل عليه وقت الصلاة : لا يوقظه ؛ لأنه غير مخاطب ، قال : ويغلب على ظني أنه حكاه عن شيخه أبي حكيم.

قال : وقرأت بخط بعض أصحاب أبي الخطاب : أنه سأل أبا الخطاب عن هذه المسألة. فقال : نعم يوقظه.

قال : وحكى عن شيخنا أبي محمد بن قدامة المقدسي مثل ذلك.

قال : ورأيت في فنون ابن عقيل هذه المسألة ، وقد جرت فيها مذاكرات بين ابن عقيل ورجل آخر معين ، واختلفا في ذلك.

ومن كلامه في حواشي المفصل : «أفعل» تستعمل على وجهين :

أحدهما : يدل على أن فضل المذكور زائد على فضل من أضيف إليه أفعل فهذا يستعمل على ثلاثة أوجه ب «من» كقولك : زيد أفضل من عمر ، وهذا لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، لعلة ليس هذا موضعها ، وبالإضافة ، كقولك : زيد أفضل القوم ، وهذا لا يضاف إلى مضاف إلى ضميره ، فلا تقول : زيد أفضل إخوته ، وبالألف واللام ، كقولك : زيد الأفضل.

والوجه الثاني : أن لا يكون «أفعل» للزيادة ، بل لاشتهار المذكور بالفضل وتخصيصه من دونهم ، كقولك : زيد أفضل القوم ، كما تقول : فاضل ، وعلى هذا يجوز أن يضاف إلى ضميره ، كقولك : زيد أفضل قومه ، وأحسن إخوته ، أي هو الفاضل من بينهم ، وهذا يثنى ويجمع ويؤنث ، ومنه الفرق بين قوله : من دخل داري فله درهم ، ومن دخل داري له درهم.

بإسقاط الفاء ، أي إنه مع إثباتها يكون ضامنا له الدرهم على دخوله ، ومع سقوطها يحتمل أن يكون أخبر عنه بأنه يملك درهما ، لا أنه ضمن له شيئا ، وقال : الفرق بين «واو» مع «واو» العطف يتبين بقولك : «قم أنت وزيد» إذا رفعت «زيد» كنت آمرا لهما بالقيام ، لأن حكم

٣٢

العطف أن يشرك بين المعطوف والمعطوف عليه في العامل ، وإذا نصت كنت آمرا المخاطب أن يتابع زيدا في القيام ، ولست آمرا زيدا بالقيام ، حتى لو لم يقم لم يلزم المخاطب القيام ، لأن هذا هو حكم «مع» لا.

ومن كلامه ـ ونقلته عن خط ابن الصيرفي ـ «لو» يقع في الكلام على ثلاثة أوجه :

أحدها : امتناع الشيء لامتناع غيره.

والثاني : أن يكون بمعنى (إن) الشرطية ، كقوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ.) [البقرة : ٢٢١].

والثالث : أن تكون بمعنى (أن) الناصبة للفعل المستقبل ، ولكنها لا تنصب ، وهو كثير في القرآن والشعر ، كقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] ، (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي) [المعراج : ١١] ، ولا يجوز أن يكون للامتناع ، إذ لا جواب لها ، ولأن (ودّ) لا تعلق عن العمل ؛ إذ ليس من باب العلم والظن ولأن (أن) قد جاءت بعدها صريحة في قوله تعالى :

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ) [البقرة : ٢٦٦] ، وإنما لم تنصب ، لأن «لو» قد تعددت معانيها ، فلم تختص ، وجرت مجرى «حتى» في الأفعال. والقسم الأول يرد في اللغة على خمسة أوجه :

أحدها : أن تدل على كلام لا نفي فيه ، كقولك : لو قمت قمت ، ويفيد ذلك امتناع قيامك لامتناع قيامه.

والثاني : أن تدخل على نفيين ، فيصير المعنى إلى إثباتهما ، كقولك : لو لم تزرني لم أكرمك ، أي : أكرمتك لأنك زرتني ، فانقلب النفي ههنا إثباتا ، لأن «لو» امتناع ، والامتناع نفي ، والنفي إذا دخل على النفي صار إيجابا.

والثالث : أن يكون النفي فيما دخلت عليه دون جوابها ، كقولك : لو لم تشتمه لأكرمك ، فالشتم واقع ، والإكرام منتف ، والامتناع أزال النفي ، وبقي الإيجاب بحاله.

والرابع : عكس الثالث ، وهو قولك : لو أحسن إليك لم تسيء إليه ، والمعنى معلوم.

٣٣

والخامس : آن تقع للمبالغة ، فلا تفيد مفادها في الوجوه الأول ، كقول عمر رضي‌الله‌عنه : «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه» ، والمعنى : أنه لو لم يكن عنده خوف لما عصى ، فكيف يعصى وعنده خوف. ولو لم يرد المبالغة لكان معنى ذلك : أنه يعصي الله ، لأنه يخافه.

وقال أيضا : «لو» في الموضع اللغوي تعلق فعلا بفعل ، والفعل الأول علة الثاني ، إلا أن يكون هنا قرينة صارفة تصرفها عن هذا الأصل. وهو أن يدل المعنى على إرادة المبالغة ، كقولك : لو أهين زيد لأحسن إلى من يهينه ، والمعنى : أنه إذا أكرم كان أولى بالإحسان ، لا أنه إذا لم يهن لم يحسن.

ومن كلامه «بله» تستعمل على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون بمعنى «غير».

والثاني : أن تكون بمعنى «دع» فتكون مبنية على الفتح.

والثالث : أن تكون بمعنى «كيف» فإن دخلت «من» عليها كانت معربة ، وجرّت بمن.

وذكر أن أبا علي الفارسي حكى عن أبي زيد القلب ، فيقال : «بهل» إلا أنها لا تستعمل مثل «بله» لأنها فرع.

وقال أبو البقاء : سألني سائل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» ، فقال : أيجوز في «الرحماء» الرفع والنصب؟ وذكر أن بعضهم زعم أن الرفع غير جائز. فأجبت : بأن الوجهين جائزان.

أما النصب : فله وجهان :

أقواهما : أن تكون «ما» كافّة لإن عن العمل فلا يكون في الرحماء ، على هذا إلا النصب ، لأن «إن» إذا كفّت عن العمل وقعت بعدها الجملة ابتدائية ، ولم يبق لها عمل ، فيتعين حينئذ نصب الرحماء ب «يرحم» إذ لم يبق لها تعلق بإن. ومثله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [البقرة : ١٧٣] على قراءة من نصب ، وفائدة دخول «ما» على هذا الوجه : إثبات المذكور ، ونفي ما عداه ، فتثبت الرحمة للرحماء دون غيرهم.

٣٤

والوجه الثاني : أن تكون «ما» زائدة ، و «إن» بمعنى «نعم» وزيادة «ما» كثيرا ، ووقوع «إن» بمعنى «نعم» كثير. فمنه قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] ، في أحد القولين. ومنه قول ابن الزبير ، حين قال له رجل : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال : «إنّ وراكبها» وهو كثير في الشعر.

فإن قيل : إنما يجيء ذلك بعد كلام تكون جوابا له ، ولم تسبق «ما» يجاب عليه : «نعم»؟

قيل : إن لم يسبق لفظا فهو سابق تقديرا ، فكأن قائلا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله من عباده من يرحم الخلق ، وإن كان مقصرا فيما بينه وبين الله تعالى ، فقال : نعم». وهذا مما يجوز أن يسأل عنه.

وأما الرفع : فجائز جوازا حسنا. وفيه عده أوجه :

أحدها : أن تكون «ما» ، بمعنى الذي ، والعائد إليها محذوف ، و «الرحماء» خبر «إن» ، والتقدير : إن الفريق الذي يرحمه‌الله من عباده الرحماء.

فإن قيل : يلزم من ذلك أن تكون «ما» هنا لمن يعقل؟

ففيه جوابان : أحدهما : أن «ما» قد استعملت بمعنى «من» كقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٣] ، وهو كثير في القرآن. ومنه : (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) [الشمس : ٥ ـ ٦] ،. في أصح القولين ، وحكى أبو زيد عن العرب : سبحان ما سبحتنّ له.

وسبحان ما سخركن لنا.

والثاني : أن «ما» تقع بمعنى «الذي» بلا خلاف ، و «الذي» تستعمل فيمن يعقل ، وفيمن لا يعقل. وإنما يعرف ذلك بما يتصل بها ، وكذلك في «ما» لا سيما إذا اتصل بها ما يصير وصفا ، وإنما تفترق «ما» والذي «في» أن «الذي» يوصف بلفظها ، و «ما» لا يوصف بلفظها.

فإن قيل : كيف يصح هذا؟ والرحماء جمع ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما» بمعنى «الذي» مفردة ، والمفرد لا يخبر عنه بالجمع؟.

٣٥

قيل : «ما» يجوز أن يخبر عنها بلفظ المفرد تارة ، وبلفظ الجمع أخرى ، مثل للأمن «وكل» قال تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام : ٢٥] ، وقال في آية أخرى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] وكذلك قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١٢] ، وقال في«كل» (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥] ، فالإفراد محمول على لفظ «من» و «ما» و «كل» والجمع محمول على معانيها.

وأما «الذي» فقد استعملت مفردة للجنس ، ورجع الضمير تارة إلى لفظها مفردا ، وتارة إلى معناها مجموعا ، قال تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) [البقرة : ١٧] ، فجاء بالضمير مفردا ومجموعا ، وقال تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر : ٣٣] ، فأعاد الضمير بلفظ الجمع ، فكذلك في قوله : «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» ، ولك على هذا الوجه أن تجعل «إن» العاملة ، وأن تجعلها بمعنى «نعم» على ما سبق.

الوجه الثاني من وجوه «ما» التي يجوز معها رفع «الرحماء» : أن تكون «ما» نكرة موصوفة في موضع : فريق أو قبيل ، و «يرحم» صفة لها ، و «الرحماء» الخبر ، والعائد من الصفة إلى الموصوف محذوف ، تقديره : إن فريقا يرحمه‌الله : الرحماء.

فإن قيل : كيف يصح الابتداء بالنكرة ، والإخبار بالمعرفة عنها؟

قيل : النكرة هنا قد خصصت بالوصف ، والرحماء لا يقصد بهم قصد قوم بأعيانهم.

فكان فيه كذلك نوع إيهام. فلما قرنت النكرة هنا بالصفة من المعرفة ، وقرنت المعرفة من النكرة بما فيها من إبهام ، صح الإخبار بها عنها ، على أن كثيرا من النكرات يجري مجرى المعارف في باب الأخبار إذا حصلت من ذلك فائحة ، والفائحة هنا حاصلة.

الوجه الثالث : أن تكون «ما» مصدرية ، وفي تصحيح الإخبار عنها بالرحماء ثلاثة أوجه.

أحدها : أن يكون المصدر هنا بمعنى المفعول ، تقديره : إن مرحوم الله من عباده الرحماء. ومنه (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١٣] ، أي مخلوقه. وقال أبو علي : لك أن تجعل «ما» من

٣٦

قوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة : ٧٢] مصدرية ، أي كتمانكم ، وكتمانكم بمعنى مكتومكم ؛ لأن الكتمان لا يظهر ، وإنما يظهر المكتوم.

الوجه الثاني : أن المضاف إلى المصدر ، أو إلى الخبر محذوف تقديره : إن ذوي رحمة الله من عباده الرحماء ، أي : المستحقون لها ، أو إن رحمة الله حق الرحماء. ومثل هذين الوجهين في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) [البقرة : ١٧٧] هل تقديره : ولكن ذا البر من آمن؟ ولكن البر برّ من آمن.

الوجه الثالث : أن لا تقدر حذف مضاف ، غير أنك تجعل «الرحماء» هم الرحمة على المبالغة ، كما قالوا : رجل عدل ، ورجل زور ، ورجل علم ، وقوم صوم ، إذا كثر منهم ذلك. ومنه قول الخنساء :

ترتع ما رتعت ، حتى إذا

أذكرت ، فإنما هي إقبال وإدبار

فثبت بما ذكرناه وهو قول من زعم امتناع الرفع في الرحماء. والله أعلم بالصواب.

وفاته :

توفى ليلة الأحد ثامن ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ـ ٦١٦ ه‍ ـ ، ودفن من الغد بمقبرة الإمام أحمد بباب حرب ، رحمه‌الله تعالى.

مصنفاته :

١. تفسير القرآن

٢. البيان في إعراب القرآن

٣. إعراب الشواذ

٤. متشابه القرآن

٥. عدد الآي

٦. إعراب الحديث

٧. كتاب التعليق في مسائل الخلاف في الفقه

٨. شرح الهداية لأبي الخطاب في الفقه

٩. كتاب المرام في نهاية الأحكام في المذهب

١٠. كتاب مذاهب الفقهاء

٣٧

١١. الناهض في علم الفرائض

١٢. بلغة الرائض في علم الفرائض

١٣. كتاب آخر في الفرائض للخلفاء

١٤. المنفح من الخطل في علم الجدل

١٥. الاعتراض على دليل التلازم ودليل التنافي

١٦. جزء الاستيعاب في علم الحساب

١٧. اللباب في البناء والإعراب شرح الإيضاح

١٨. شرح اللمع

١٩. شرح التلقين في النحو

٢٠. التلخيص في النحو

٢١. الإشارة في النحو

٢٢. تعليق على مفصل الزمخشري

٢٣. شرح الحماسة

٢٤. غوامض الألفاظ اللغوية للمقامات الحريرية

٢٥. شرح خطب ابن نباتة

٢٦. شرح بعض قصائد رؤبة

٢٧. شرح لغة الفقه أملاه على ابن النجار الحافظ

٢٨. شرح ديوان المتنبي

٢٩. أجوبة مسائل وردت من حلب

٣٠. مسائل مفردة

٣١. المشرق المعلم في ترتيب إصطلاح المنطق على حروف المعجم

٣٢. تلخيص أبيات شعر لأبي علي

٣٣. تهذيب الإنسان بتقويم اللسان

٣٤. الإعراب عن علل الإعراب.

٣٨

وصف النسخة الخطية

اعتمدنا في تحقيقنا لهذا الكتاب على نسخة خطية من دار الكتب المصرية برقم (١٢٩) نحو تيمور ، وهي مخطوطة جيدة وإن كان قد أصابها بعض البياض في أماكن قليلة ، وهي تقع في جزئين ، وقد قسمها المؤلف إلى أبواب وفصول ، وميز أسماء الأبواب والفصول بخط أكبر من باقي الكلام ، وفي الصفحة (١٥) سطرا.

وقد كان عملي في الكتاب على النحو التالي :

١ ـ قمت بنسخ المخطوط وفق القواعد العلمية ، من تصويب الأخطاء ، ووضع علامات ترقيم النص حتى يسهل قراءته.

٢ ـ قمت بتخريج الآيات القرآنية ، والدلالة على مواضعها.

٣ ـ قمت بتخريج الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في الكتاب ـ على قلتها ـ.

٤ ـ قمت بالتعليق على المواضع التي تحتاج إلى زيادة شرح وإسهاب وتوضيح.

٥ ـ صنعت مقدمة علم اللغة والنحو والإعراب.

٦ ـ صنعت فهارس تفصيلية للكتاب.

وأخيرا : أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب القارئ والسامع والناظر فيه ، وكل من شارك فيه ولو بنصح ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

٣٩

٤٠