اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

فصل : ولا تكون (أو) بمعنى : (الواو) ولا بمعنى : (بل) عند البصرّيين وأجازه الكوفّيون.

وحجّة الأوّلين : أنّ الأصل استعمال كل حرف فيما وضع له لئلّا يفضي إلى اللبس وإسقاط فائدة الوضع.

واحتّج الآخرون : بأنّ ذلك قد جاء في القرآن والشعر فمن ذلك قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] أي : ويزيدون ، وقال تعالى : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام : ١٤٦] وهي بمعنى الواو ، و (الحوايا) عطفت على الشحوم أو الظهور وقال الشاعر (١) : [الطويل]

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

أي : بل أنت.

والجواب : أنّ (أو) في الآية الأولى لشكّ الرأي ، أي : لو رأيتهم لقلت هم مائة ألف أو يزيدون ، وقيل : هي للتخيير ، وقيل : للتقريب ، وقيل : للتفصيل ، أي : بعض الناس يجزرهم كذا وبعضهم كذا ، وأمّا الآية الثانية ف (أو) تنبّه على تحريم هذه الأشياء وإنّ اختلفت مواضعها أو على حلّ المستثنى وإن اختلفت مواضعه ، وهذا كما ذكرنا في دلالة (أو) على تفريق الأشياء على الأزمنة ، وأمّا البيت فالمحفوظ فيه : (أم أنت) ، ولو قدّر صحّة ما رووا فهي على الشكّ أي صورتها أو أنت أملح من غيركما ؛ ولهذا كقولهم : الحسن والحسين أفضل أم ابن الحنفية.

فصل : و (إمّأ) ك (أو) في الشك والتخيير والإباحة ، إلا أنّها أثبت منها في الشكّ لأنّك تبتدىء بها شاكّا و (أو) ياتي الشكّ بها بعد لفظ اليقين.

فصل : وقد زعم قوم أنّها مركّبة من (إن) الشرطية و (ما) النافية ؛ لأن المعنى في قولك : قام إمّا زيد وإما عمرو ، وإن لم يكن قام زيد فقد قام عمرو وهذا تعسّف لا حاجة إليه ؛ لأن وضعها مفردة أقرب من دعوى التركيب ، وليست (إمّا) من حروف العطف أمّا الأولى فليس قبلها ما يعطف عليه ، وأمّا الثانية فيلزمها الواو وهي العاطفة.

__________________

(١) من شعر ذي الرمة.

٢٨١

فصل : وأمّا (لا) فتثبت الفعل للأوّل دون الثاني ، ولا يحسن إظهار العامل بعدها لئلّا يلتبس بالدعاء ، ألا ترى أنّك لو قلت : قام زيد لا قام عمرو ، لأشبه الدعاء عليه.

فصل : وإذا عطفت بالواو وزدت معها : (لا) أفادت المنع من الجميع كقولك : والله لا كلّمت زيدا ولا عمرا ، ولو حذفتها جاز أن تكّلم أحدهما ؛ لأن الواو للجمع وإعادة (لا) كإعادة الفعل فيصير الكلام بها جملتين.

فصل : وأمّا (بل) فتشرك بها في الإعراب وتضرب بها عن الأوّل نفيا كان أو إثباتا كقولك : ما قام زيد بل عمرو وقام زيد بل عمرو ، ومن هنا استعملت في الغلط ، وقد جاءت للخروج من قصّة إلى قصة كقوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) ثمّ قال : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء : ١٦٥ ـ ١٦٦] ، وقيل : ههنا لا تدلّ على أنّ الأوّل لم يكن بل دلّت على الانتقال من حديث إلى حديث آخر ، وهذا كما يذكر الشاعر معاني ثمّ يقول : فعد عن ذلك ، أو : فدع ذا.

فصل : وأمّا : (لكن) فللاستدراك مشدّدة كانت أو مخففة وليست للغلط إلا أنّها في العطف مخفّفة البتّة وما بعدها مخالف لما قبلها ؛ لأن ذلك هو معنى الاستدراك ؛ ولهذا كان الاستثناء المنقطع مقدرا ب (لكن) ، وإذا كانت معها (الواو) فالعطف بها لا ب (لكن) فالاستدراك لازم والعطف عارض فيها.

فصل : ولا يعطف بها إلا بعد النفي وذهب الكوفّيون إلى العطف بها بعد الإثبات.

وحجّة الأوّلين : أنّ الاستدراك لازم لها والاستدراك لا يكون إلا المختلفين ؛ فإذا كان الأوّل نفيا كان الثاني إثباتا فيصح أن يقدر العامل بعدها كقولك : ما قام زيد لكن عمرو ، أي : لكن قام عمرو ولا يصح ذلك بعد الإثبات كقولك : قام زيد لكن عمرو ، لأنك إن قدرت لكن قام عمرو ، ولم يكن الثاني مخالفا للأوّل وإن قدرت لكن ما قام عمرو لم يصح لأنّك قدرت مع العامل ما ليس بعامل ، وحرف العطف إنّما ينوب عن العامل فقط ويدل على ذلك أنّك لو قلت : قام زيد لكن عمرو لم يقم ، كان جائزا فظهور النفي والفعل بعد الاسم دليل على أنّه لم يكن مقدرا بعد لكن.

٢٨٢

واحتّج الآخرون بأن (لكن) ك (بل) في المعنى فكانت مثلها في العطف وهذا باطل لوجهين :

أحدهما : ما ذكرنا من اختلافهما في المعنى.

والثاني : أنّهما لو استويا في العطف لأدّى إلى الاشتراك ، والأصل أن ينفرد كل حرف بحكم ، وقد ذكرنا ما يبين به الفرق بين الحرفين في الفصل قبله.

فصل : وأمّا (أم) (١) فيعطف بها متصلة ومنقطعة فالمتّصلة هي المعادلة لحرف الاستفهام. ويقدّر الكلام فيها ب (أيّهما) كقولك : أزيد عندك أم عمرو ، أي : أيّهما عندك ، فإن كان بعد (أم) جملة تامة مخالفة للأولى كانت منقطعة كقولك : أزيد عندك أم عمرو في الدار ؛ لأن (أيّا) لا تقع ههنا ، وسببه أنّ (أيهما) اسم مفرد فالخبر عنه واحد ؛ فإذا اختلف الخبران لم يستند إلى أيّهما.

فصل : فإن كان مكان الهمزة (هل) كانت (أم) منقطعة كقولك : هل زيد عندك أم عمرو ؛ لأن (هل) لا تستعمل في الإثبات توبيخا بخلاف الهمزة ، ألا ترى إلى قول الراجز (٢) : [الرجز]

أطربا وأنت قنّسري

ولو قلت : هل تطرب وأنت شيخ؟! على التوبيخ لم يجز ، وكذلك لا تستعمل.

(هل) في التسوية ، والهمزة تستعمل فيها ، فلما كانت الهمزة أوسع تصرفا خصّت (أم) بمعادلتها.

فصل : وقد تأتي (أم) بمعنى : (بل والهمزة) ، وذلك بعد الخبر والاستفهام ، فمن الخبر : إنها لإبل أم شاء ، وذلك أنّه رأى شيئا من بعيد فظنه إبلا ثم بان خلاف ذلك ، فاستفهم بعد

__________________

(١) أم على نوعين : متّصلة ومنقطعة.

فالمتصلة هي التي يكون ما بعدها متّصلا بما قبلها ، ومشاركا له في الحكم وهي التي تقع بعد همزة الاستفهام أو همزة التسوية ، فالأول كقولك «أعليّ في الدار أم خالد؟» ، والثاني كقوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.) وإنما سميت متصلة لأنّ ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر.

و «أم» المنقطعة هي التي تكون لقطع الكلام الأول واستئناف ما بعده. ومعناها الإضراب ، كقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ.) والمعنى «بل جعلوا لله شركاء» ، قال الفرّاء «يقولون هل لك قبلنا حقّ؟ أم أنت رجل ظالم» يريدون «بل أنت رجل ظالم» وتارة تتضمّن مع الإضراب استفهاما إنكاريّا ، كقوله تعالى (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ.) ولو قدّرت «أم» في هذه الآية للاضراب المحض ، من غير تضمّن معنى الانكار ، لزم المحال.

(٢) من شعر العجاج بن رؤبة.

٢٨٣

فرجع عن الأوّل ف (أم) جمعت الإضراب والاستفهام وتقول في الاستفهام : هل زيد عندك؟ أم عمرو في الدار؟ فهما سؤالان والمتصّلة سؤال واحد.

فصل : والفرق بين (أم) المتّصلة و (أو) أنّ (أو) لأحد الشيئين و (أم) سؤال عن المشكوك في عينه ، فمثاله أن تقول : أزيد عندك أو عمرو؟ شاكّ في أصل وجود أحدهما عنده ؛ فإذا قال : نعم ، أثبتّ وجود أحدهما مبهما ؛ فإذا أردت التعيين قلت : أزيد عندك أم عمرو؟ فالجواب أن تقول : زيد أو عمرو ، ولا تقول : (نعم) ولا : (لا) ، ولو قال في جواب (أو) : (لا) أو : (نعم) جاز.

فصل : وأمّا (حتّى) (١) فقد تكون بمعنى (الواو) بشروط قد ذكرت في بابها.

فصل : وحروف العطف غير عاملة ؛ لأنها لو عملت لعملت عملا واحدا ، والواقع بعدها أعمال مختلفة ، ولأنّها غير مختّصة بالأسماء ولا بالأفعال فعلم أنّها نائبة عن ذكر العامل لا نائبة عنه في العمل.

فصل : ولا يعطف على الضمير المرفوع المتصل حتّى يؤكد ، وقال الكوفّيون : يجوز من غير توكيد.

حجّة الأوّلين : أنّ الضمير إن كان مستترا لم يعطف عليه ؛ لأن العطف من أحكام الألفاظ لا المعاني ، وإن كان ملفوظا به فهو في حكم جزء من الفعل بدليل أنّ الفعل يسكن له وأدلة أخرى قد ذكرناها في باب الفاعل فالعطف عليه كالعطف على بعض الكلمة فإذا أكّد قوي.

واحتج الآخرون بقوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] وبقول الشاعر (٢) : [الخفيف]

__________________

(١) حتى العطف بها قليل. وشرط العطف بها أن يكون المعطوف اسما ظاهرا ، وأن يكون جزءا من المعطوف عليه أو كالجزء منه ، وأن يكون أشرف من المعطوف عليه أو أخسّ منه ، وأن يكون مفردا لا جملة ، نحو «يموت الناس حتى الأنبياء. غلبك الناس حتى الصبيان. أعجبني عليّ حتى ثوبه». واعلم أنّ «حتى» تكون أيضا حرف جرّ ، كما تقدم. وتكون حرف ابتداء ، فما بعدها جملة مستأنفة.

(٢) البيت من شعر عمر بن أبي ربيعة : (٢٣ ـ ٩٣ ه‍ / ٦٤٣ ـ ٧١١ م) وهو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي القرشي ، أبو الخطاب. أرق شعراء عصره ، من طبقة جرير والفرزدق ، ولم يكن في قريش أشعر منه.

٢٨٤

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى

كنعاج الملا تعسّفن رملا

وبأنّ العطف كالتوكيد والبدل.

والجواب : أمّا الآية فإنّ (لا) سد فيها مسدّ التوكيد ، وأمّا البيت فقيل : (الواو) واو الحال و (زهر) مبتدأ ، وقيل : هو شاذّ لا يقاس ، وأمّا التوكيد والبدل فهما المضمر في المعنى بخلاف المعطوف.

فصل : ولا يعطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجارّ ، وأجازه الكوفّيون من غير إعادة ، وحجّة الأوّلين من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الضمير المجرور مع الجارّ كشيء واحد ؛ ولذلك لم يكن إلا متصّلا فالعطف عليه كالعطف على بعض الكلمة.

والثاني : أنّ المعطوف لو كان مضمرا لم يكن بدّ من إعادة الجرّ ، فكذلك إذا كان معطوفا عليه.

والثالث : أنّ الضمير كالتنوين مع الإضافة وأنّه على حرف واحد كما لا يعطف على التنوين كذلك الضمير.

واحتّج الآخرون بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] على قراءة الجرّ وبأبيات أنشدوها أمّا الآية فقراءة الجرّ فيها ضعيفة والقارئ بها كوفيّ تنبيها على أصولهم ، وقيل : هي واو القسم وجواب القسم ما بعدها ، وقيل : أراد إعادة (الباء) فحذفها ، وأمّا الأبيات فمنها ما لا يثبت في الرواية ، وما يثبت منها فهو شاذّ وبعضها يمكن إعادة الجارّ معه وله نظير نذكره من بعد.

__________________

ولد في الليلة التي توفي بها عمر بن الخطاب ، فسمي باسمه. وكان يفد على عبد الملك بن مروان فيكرمه ويقربه.

رفع إلى عمر بن عبد العزيز أنه يتعرض للنساء ويشبب بهن ، فنفاه إلى دهلك ، ثم غزا في البحر فاحترقت السفينة به وبمن معه ، فمات فيها غرقا.

٢٨٥

مسألة : ولا يجوز العطف على عاملين ، وأجازه الأخفش وصورته : ما زيد بذاهب ولا قائم عمرو ، ف (قائم) معطوف على المجرور ، و (عمرو) معطوف على المرفوع ، ولا يجيزه الأخفش إلا إذا ولي المجرور المجرور وتأخر المرفوع كقولك : زيد في الدار والسوق وعمرو.

وحجّة الأولين من وجهين :

أحدهما : أنّ حرف العطف نائب عن العامل ، وليس من قوته أن ينوب عن اثنين فلذلك لا يصحّ إظهارهما بعده.

والثاني : أنه لو جاز العطف على عاملين لجاز على أكثر ولجاز أن يتقدم المرفوع على المجرور كقولك : زيد في الدار وعمرو السوق أنّه واحتج الآخرون بقوله تعالى : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله : (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية : ٥] ف (اختلاف) بالجرّ معطوف على : (خَلَقَكُمْ) و (آيات) الثالثة معطوفة على (آيات) الأولى المنصوبة ب (إنّ) وبقول الشاعر (١) : [المتقارب]

هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيّها

ولا قاصر عنك مأمورها

ف (قاصر) معطوف على (آتيك) ، و (مأمورها) على (منهيّهّها).

وقال آخر : [المتقارب]

أكلّ امرىء تحسبين امرءا

ونار توقّد في الحرب نارا

والجواب : أمّا الآية فلا حجّة فيها ؛ لأن الآيات ذكرت توكيدا رفعت أو نصبت لتقدّم ذكرها ، وأمّا البيت فيروى بالرفع على أنّه خبر مقدّم وبالنصب عطفا على موضع خبر ليس وبالجرّ على غير ما احتّج به ، وبيانه أنّ (مأمورها) مرفوع ب (قاصر) ؛ لأنه من سبب اسم : (ليس) فلا يكون عطفا على عاملين.

فإن قيل : من شروط ذلك أن يكون الضمير هو اسم ليس ليكون من سببه ، والضمير في (مأمورها) للأمور لا للمنهي؟

__________________

(١) الأبيات للإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه.

٢٨٦

قلنا : بل هي للمنهي ؛ لأن المنهي أمر من جملة الأمور وأنّث الضمير ؛ لأن المنهيّ مضاف إلى مؤنّث فجوز تأنيث ضميره كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه ، وكما قال تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] والتقدير : ولا يقصر عنك مأمور المنهيّات والإضافة للتمييز ؛ لأن في المنهيات مأمورا على هذا المعنى حمله سيبويه ، وأمّا البيت الآخر فالتقدير فيه : (وكلّ نار) فحذفه لتقدّم ذكره.

٢٨٧

باب عمل اسم الفاعل

إنّما أعمل اسم الفاعل إذا كان للحال أو الاستقبال لوجهين :

أحدهما : أنّه جار على الفعل المضارع في حركاته وسكناته في الأغلب ف (ضارب) على زنة : (يضرب) ، و (يكرم) على زنة : (مكرم) ، فأمّا : (مضروب) فكان قياسه : (مضرب) ؛ لأنه على زنة : (يضرب) ولكنّهم زادوا (الواو) لينفصل الثلاثي من الرباعيّ ، وفتحوا (الميم) لثقل الضمّة مع الواو ، وأمّا (فعل وفعيل) فسيأتي الكلام عليهما.

والثاني : أنّ الأصل في الأسماء ألا تعمل ، كما أنّ الأصل في الأفعال ألا تعرب ، إلا أنّ المضارع أعرب لمشابهة اسم الفاعل فينبغي ألا يعمل اسم الفاعل إلا ما أشبه منه المضارع في الحال والاستقبال.

فصل : فأمّا اسم الفاعل إذا كان للمضيء فلا يعمل ، ومن الكوفيّين من يعمله.

وحجّة الأوّلين في ذلك : أنّ الماضي لا يشبه اسم الفاعل ، ولا اسم الفاعل يشبهه ، فلم تحمل علته في العمل كما لم يحمل الماضي على الاسم في الإعراب.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف : ١٨] وبقوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الأنعام : ٩٦] فنصب المعطوف وبقولهم هذا معطي زيد درهما أمس ولا ناصب للدرهم إلا الاسم.

والجواب : أمّا الآية الأولى فحكاية حال كما يحكى الماضي بلفظ المضارع مثل قولك :

مررت بزيد أمس يكتب ، وأمّا الآية الثانية ففيها جوابان :

أحدهما : أنّه على الحكاية أيضا ؛ لأنه سبحانه وتعالى في كلّ يوم يفلق الإصباح ويجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا.

والثاني : أنّ الشمس والقمر ينتصبان بفعل محذوف ، أي : وجعل الشمس ، وهكذا يقدّر في المسألة المستشهد بها ، أي : أعطاه درهما.

٢٨٨

فصل : اسم الفاعل (١) المعمل عمل الفعل تجوز إضافته فيجرّ ما بعده ، والتنوين فيه مراد ، وحذف تخفيفا فإنّ ثنّي أو جمع حذف منه النون وأضيف لا غير إنّ لم يكن فيه ألف ولام ، وإن نونت نصبت به لا غير ، وكذا إذا أثبت النون فإن كان فيه ألف ولام وهو مفرد لم تضفه إلا لمّا فيها ألف واللام على ما نبيّنه ، وإن كان مثنّى أو مجموعا جاز أن تحذف النون وتضيف كقولك : هذان الضاربا زيد ، ويجوز أن تنصب ويكون حذف النون تخفيفا لطوله بالألف واللام فان أثبتّ النون لم تكن فيه الإضافة.

فصل : وقد حمل قولهم : هذا الضارب الرجل على الحسن الوجه في الجمع بين الألف واللام والإضافة ؛ لأن الإضافة لم تعرف فيهما والجيّد النصب ؛ لأن الألف واللام تمنع الإضافة.

__________________

(١) يعمل اسم الفاعل عمل الفعل المشتق منه ، إن متعديا ، وإن لازما. فالمتعدّي نحو «هل مكرم سعيد ضيوفه؟». واللازم ، نحو «خالد مجتهد أولاده».

ولا تجوز إضافته إلى فاعله ، كما يجوز ذلك في المصدر ، فلا يقال «هل مكرم سعيد ضيوفه».

وشرط عمله أن يقترن بأل. فإن اقترن بها ، لم يحتج إلى شرط غيره. فهو يعمل ماضيا أو حالا أو مستقبلا ، معتمدا على شيء أو غير معتمد ، نحو «جاء المعطي المساكين أمس أو الآن أو غدا».

فإن لم يقترن بها ، فشرط عمله أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال ، وأن يكون مسبوقا بنفي ، أو استفهام ، أو اسم مخبر عنه به ، أو موصوف ، أو باسم يكون هو حالا منه ، فالأول ، نحو «ما طالب صديقك رفع الخلاف». والثاني نحو «هل عارف أخوك قدر الإنصاف؟». والثالث نحو «خالد مسافر أبواه». والرابع نحو «هذا رجل مجتهد أبناؤه». والخامس نحو «يخطب عليّ رافعا صوته».

وقد يكون الاستفهام والموصوف مقدّرين. فالأول نحو «مقيم سعيد أم منصرف؟» والتقدير أمقيم أم منصرف؟ والثاني كقول الشاعر

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها ، وأوهى قرنه الوعل

أي كوعل ناطح صخرة. ونحو «يا فاعلا الخير لا تنقطع عنه ، أي يا رجلا فاعلا.

واعلم أنّ مبالغة اسم الفاعل تعمل عمل الفعل ، كاسم الفاعل ، بالشروط السابقة ، نحو «أنت حمول النائبة ، وحلّال عقد المشكلات».

والمثنّى والجمع ، من اسم الفاعل وصيغ المبالغة ، يعملان كالمفرد منهما ، كقوله تعالى (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً ،) وقوله (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ.)

وإذا جرّ مفعول اسم الفاعل بالإضافة إليه ، جاز في تابعه الجرّ مراعاة للفظه ، والنصب مراعاة لمحله ، نحو «هذا مدرّس النحو والبيان ، أو البيان» ونحو «أنت معين العاجز المسكين ، أو المسكين».

٢٨٩

فإن قلت : هذا الضارب زيدا لم تجز الإضافة ؛ لأن القياس ترك الإضافة في الجميع إلا أنّها جازت إذا كان في الثاني ألف ولام حملا على باب الحسن الوجه فيجري غيره على القياس.

فصل : وإنّما يعمل اسم الفاعل وما حمل عليه عمل الفعل إذا اعتمد على شيء قبله مثل أن يكون خبرا أو حالا أو صفة أو صلة أو كان معه حرف النفي أو الاستفهام ؛ لأنه ضعيف في العمل لكونه فرعا فقوي بالإعتماد ، وقال الأخفش وطائفة معه : يعمل وإن لم يعتمد لقوّة شبهه بالفعل.

فصل : ويعمل فعّال وفعول ومفعال عمل اسم الفاعل ؛ لأن ما فيها من المبالغة وزيادة الحرف جبر لما دخلها من النقص عن اسم الفاعل في جريانه على الفعل ومن الكوفيّين من منع إعمال ذلك وهو مذهب مخالف لنصوص العرب فقد قال الشاعر (١) : [الطويل]

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

إذا عدموا زادا فإنّك عاقر

وقال آخر : [الطويل]

فيال رزام رشّحوا بي مقدّما

إلى الموت خوّاضا إليه الكتائبا

فصل : فأمّا (فعل وفعيل) فيعملان عند سيبويه للمعنى الذي ذكرنا ، وقال الشاعر :

[الكامل]

حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس ينجيه من الأقدار

فصل : و (فعل وفواعل) جمعا يعملان عمل المفرد لما بينهما من المشابهة ، قال طرفة : [الرمل]

ثمّ زادوا أنّهم في قومهم

غفر ذنبهم غير فجر

والعرب تقول : (هؤلاء حواجّ بيت الله) بالنصب على الإعمال وبالجرّ على الإضافة.

__________________

(١) من شعر أبو طالب : (٨٥ ـ ٣ ق. ه / ٥٤٠ ـ ٦١٩ م) وهو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش ، أبو طالب.

والد الإمام علي كرم الله وجهه ، وعم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكافله ومربيه ومناصره. كان من أبطال بني هاشم ورؤسائهم ، ومن الخطباء العقلاء الأباة.

وله تجارة كسائر قريش. نشأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته ، وسافر معه إلى الشام في صباه. ولما أظهر الدعوة إلى الإسلام همّ أقرباؤه (بنو قريش) بقتله فحماه أبو طالب وصدهم عنه.

وفي الحديث : «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب». مولده ووفاته بمكة.

٢٩٠

باب الصفة المشبّهة باسم الفاعل

وهي كل صفة (١) لا تجري على الفعل ممّا لا مبالغة فيه نحو : حسن وبطل وشديد ، ومشابهتها له في أنّها تثّنى وتجمع وتؤنث ، وهي مشتقّة كما أنّه مشتقّ ف (حسن وحسنان وحسنون وحسنه وحسنتان وحسنات) مثل : (ضارب وضاربان وضاربون وضاربة وضاربتان وضاربات) وينقص عن اسم الفاعل أنّه على غير زنة الفعل فلهذا نقص عن عمله فلا يتقدّم معموله عليه.

فصل : وتجتمع الإضافة والألف واللام في هذا الباب وما حمل عليه لما ذكرنا في باب الإضافة ، إلا أنّه يجوز ههنا في الاسم الثاني عدّة أوجه :

أحدها : (مررت برجل حسن وجهه) على أنّ ترفع بالصفة ولا ضمير فيها لارتفاع الظاهر بها والهاء تعود على الموصوف.

والثاني : (برجل حسن وجهه) فنصب على التشبيه بالمفعول وأجاز قوم نصبه على التمييز.

والثالث : (برجل حسن وجهه) بالإضافة في قول سيبويه ، ومنعه الأكثرون واحتجّ بقول الشماخ (٢) : [الطويل]

__________________

(١) تعمل الصفة المشبهة عمل اسم الفاعل المتعدّي إلى واحد ، لأنها مشبّهة به ويستحسن فيها أن تضاف إلى ما هو فاعل لها في المعنى ، نحو «أنت حسن الخلق ، نقيّ النفس ، طاهر الذّيل».

ولك في معمولها أربعة أوجه :

١ ـ أن ترفعه على الفاعليّة ، نحو «عليّ حسن خلقه ، أو حسن الخلق أو الحسن خلقه ، أو الحسن خلق الأب».

٢ ـ أن تنصبه على التّشبيه بالمفعول به ، إن كان معرفة ، نحو «عليّ حسن خلقه ، أو حسن الخلق ، أو الحسن الخلق ، أو الحسن خلق الأب».

٣ ـ أن تنصبه على التمييز ، إن كان نكرة ، نحو «عليّ حسن خلقا ، أو الحسن خلقا».

٤ ـ أن تجرّه بالإضافة ، نحو «عليّ حسن الخلق ، أو الحسن الخلق ، أو حسن خلقه ، أو حسن خلق الأب ، أو الحسن خلق الأب».

(٢) البيتين من شعر الشماخ الذبياني :(ـ ٢٢ ه‍ / ـ ٦٤٢ م) وهو الشماخ بن ضرار بن حرملة بن سنان المازني الذبياني الغطفاني. شاعر مخضرم ، أدرك الجاهلية والإسلام ، وهو من طبقة لبيد والنابغة. كان شديد متون الشعر ، ولبيد أسهل منه منطقا ، وكان أرجز الناس على البديهة. جمع بعض شعره في ديوان. شهد القادسية ، وتوفي في غزوة موقان. وأخباره كثيرة. قال البغدادي وآخرون : اسمه معقل بن ضرار ، والشماخ لقبه.

٢٩١

أمن دمنتين عّرس الركب فيهما

بحقل الرّخامى قد عفا طللاهما

أقامت على ربعيهما جارتا صفا

كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما

ف (جونتا) صفة ل (جارتا) والضمير المثّنى لهما.

ومن حجة من خالفه : أنّ ذلك يفضي إلى إضافة الشيء إلى نفسه ، وتأوّلوا البيت على أنّ الضمير للأعالي وهو خلاف الظاهر ، فإنّ حمل التثنية على الجمع ليس بقياس ، وليست الإضافة هنا من إضافة الشيء إلى نفسه ؛ لأن (الحسن) للوجه و (الهاء) ليست للوجه ، وإنّما حصّلت التعريف كما تحصله الألف واللام.

والوجه الرابع : (مررت برجل حسن الوجه) بالإضافة.

والخامس : (الوجه) بالنصب على التشبيه بالمفعول أو التمييز.

والسادس : (الوجه) بالرفع وفيه ثلاث مذاهب :

أ ـ أحدها : أنّه فاعل والعائد محذوف تقديره : مررت برجل حسن الوجه منه فحذف للعلم به كما قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي : هي المأوى له ومثله حذف العائد في الصلة وأشباهها.

ب ـ والثاني : أنّ في (حسن) ضمير فاعل ، و (الوجه) بدل منه ، وجاز ذلك لما كان الوجه جزءا من الرجل ، والرجل مشتمل عليه ولا حذف على هذا الوجه.

ت ـ والثالث : أنّ الألف واللام بدل من الهاء ، وهو قول الفرّاء ، وهو في غاية الضعف لوجهين :

أحدهما : أنّ البدل ما كان في معنى الأصل ، والهاء تعرّف بالإضافة والألف واللام تعرّف بالعهد وهما مختلفان.

والثاني : أنّهما لو كانا بدلا من الهاء هنا لكانا كذلك في غيره ، وليس كذلك ألا ترى أنّك لو قلت : زيد الغلام حسن ، وأنت تريد غلامه لم يجز.

٢٩٢

ومن المفعول قول الآخر (١) :

ودعوا نزال فكنت أوّل نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل

ومنها أنّ الألف واللام دخلتا على بعضها كقولهم : النجاء بمعنى أنج.

فصل : وفائدة وضع هذه الأشياء من وجهين :

أحدهما : أنّه أبلغ في المعنى من الألفاظ التي نابت عنها.

والثاني : الاختصار ، فإنّه لا يظهر فيها علم التثنية والجمع والتأنيث إذ كانت اسما والامر يظهر فيه ذلك.

فصل : ومعظم هذه الأسماء تنوب عن الأمر للمخاطب ، وإنّما كان ذلك لوجهين ؛ أحدهما : أنّ المخاطب يتنبّه للمراد منه بالإشارة وما هو أخفى منها ؛ فإذا لم يكن اللفظ صريحا في الدلالة على المعنى كهذه الأسماء خص بها المخاطب ليقوى بالمواجهة.

والوجه السابع : أنّ يكون في الصفة الألف واللام كقولك : مررت بالرجل الحسن ، فإن كان (الوجه) بعدها فيه الألف واللام ففيه الرفع والنصب والجرّ على ما تقدّم ، وإن كان (وجهه) بالهاء ففيه الرفع والنصب على ما تقدّم ، وأمّا الجرّ فممتنع ؛ لأن الإضافة مع الألف واللام في الأوّل لا تكون إلا إذا كان في المضاف إليه الألف واللام لما بينهما من المشابهة وهنا التعريفان مختلفان ، وقد وقع في هذا الوجه خمسة أوجه جائزه وواحد ممتنع ، فإمّا أن يكون الوجه نكرة والصفة نكرة فالأوجه الثلاثة جائزة ؛ لأنه قد علم أنّه لا يريد إلا وجه الممرور به وإن كان في الصفة الألف واللام فالرفع والنصب جائزان والجرّ ممتنع لما تقدم ، فإذن جملة الوجوه الجائزة ستة عشر واثنان ممتنعان.

فصل : وأمّأ (أفعل منك) بعد اسم الفاعل فإنّه لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، فعند ذلك تقول : (مررت برجل أفضل منه أبوه) فترفع على أنّه خبر متقدّم ، ومثله : (مررت برجل خير منه أبوه وشرّ منه غلامه) ؛ لأن أصل خير وشرّ : (أخير وأشرر) ومن العرب من يعمل أفعل ؛ لأنه وصف مشتقّ.

__________________

(١) البيت من شعر الضبي الشاعر : وهو ربيعة بن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد بن عمرو ، ينتهي إلى ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار. شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام. وكان ممن أصفق عليه كسرى ثم عاش في الإسلام زمانا.

٢٩٣

فصل : فأمّا ما عمله في المضمر فجائز ؛ لأن مضمره ليس بلفظ بل هو النيّة فإمّا يقع موقع المضمر فقولهم : ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل منه في عين زيد ، فالكحل مرفوع ب (أحسن) وجاز ذلك لما كان المعنى أحسن هو ؛ لأن الذي يحسن بالكحل الرجل لا الكحل ، ومنه الحديث المرفوع : «ما من أيّام أحبّ إلى الله فيها الصوم من عشر ذي الحجّة» (١).

فصل : وإذا صغّر المصدر لم يعمل لوجهين :

أحدهما : أنّ التصغير كالوصف.

والثاني : أنّه يبعد من شبه الفعل ؛ إذ الأفعال لا تصغّر ولا عبرة بتصغير فعل التعجب لما نذكره هناك.

فصل : فإن وصف المصدر قبل المعمول لم يعمل ؛ لأن الوصف يبعده من الفعل ؛ لأن الفعل لا يوصف ، ولأنّ الوصف يفصل بين الموصول وصلته والمصدر موصول ومعموله من صلته.

فصل : وأقوى المصادر عملا المنوّن ؛ لأنه أشبه بالفعل إذ كان نكره وإن الفعل لا يضاف ثّم يليه المضاف ؛ لأن الإضافة في حكم الأسماء ، وقد لا تعرفّ إذا حذف.

__________________

(١) أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة (٧٥٨) ، وأخرجه ابن ماجه (١٧٢٨) ، وأخرجه أحمد في مسنده (٦٤٦٩) ، وأخرجه ابن الأعرابي في معجمه (٩٣٨).

٢٩٤

باب ما يعمل من المصادر عمل الفعل

فصل : كلّ مصدر صحّ تقديره ب (أن والفعل) عمل عمل فعله المشتقّ منه ، وإنّما كان كذلك ؛ لأنه يشبه الفعل في أنّ حروفه فيه ، وأنّه يشاركه في الدلالة على الحدث ، وأنّه يكون للأزمنة الثلاثة ، فإن لم يحس تقديره بأن والفعل لم يعمل ؛ لأن الأصل في العمل للفعل ، وإذا لم يصحّ تقدير الاسم بالفعل بطل شبهه به ، والذي لا يقدر بأن والفعل المصدر المؤكد نحو : ضربت ضربا ، فأما قولك : (ضربا زيدا) فالعمل للفعل المقدر الناصب للمصدر ، وربّما وقع في كلام بعض النحوييّن : أنّ (ضربا) هذا هو العامل ، وذلك تجوّز من قائله.

فصل : ويعمل المصدر وإنّ لم يعتمد بخلاف اسم الفاعل ؛ لأنه قوي بكونه أصلا للفعل وأنّه موصوف لا وصف (١).

__________________

(١) يعمل المصدر عمل فعله تعدّيا ولزوما.

فإن كان فعله لازما ، احتاج إلى الفاعل فقط ، نحو «يعجبني اجتهاد سعيد».

وإن كان متعدّيا احتاج إلى فاعل ومفعول به. فهو يتعدّى إلى ما يتعدّى إليه فعله ، إمّا بنفسه ، نحو «ساءني عصيانك أباك» ، وإمّا بحرف الجرّ ، نحو «ساءني مرورك بمواضع الشّبهة». واعلم أن المصدر لا يعمل عمل الفعل لشبهه به ، بل لأنه أصله.

ويجوز حذف فاعله من غير أن يتحمّل ضميره ، نحو «سرّني تكريم العاملين». ولا يجوز ذلك في الفعل ، لأنه إن لم يبرز فاعله كان ضميرا مستترا ، كما تقدّم في باب الفاعل.

ويجوز حذف مفعوله ، كقوله تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ،) أي استغفار إبراهيم ربّه لأبيه.

وهو يعمل عمل فعله مضافا ، أو مجرّدا من «أل» والإضافة ، أو معرّفا بأل ، فالأول كقوله تعالى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) والثاني كقوله عزوجل (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ.) والثالث إعماله قليل ، كقول الشاعر

لقد علمت أولى المغيرة أنّني

كررت ، فلم أنكل عن الضّرب مسمعا

وشرط لإعمال المصدر أن يكون نائبا عن فعله ، نحو «ضربا اللصّ» ، أو أن يصحّ حلول الفعل مصحوبا بأن أو «ما» المصدريتين محلّه. ؛ فإذا قلت «سرّني فهمك الدّرس» ، صحّ أن تقول «سرّني أن تفهم الدرس». وإذا قلت «يسرّني عملك الخير» ، صحّ أن تقول «يسرّني أن تعمل الخير». وإذا قلت «يعجبني قولك الحقّ الآن» ، صحّ أن تقول «يعجبني ما تقول الحقّ الآن». غير أنه إذا أريد به المضيّ أو الاستقبال قدّر بأن ، وإذا أريد به الحال قدّر بما ، كما رأيت. ـ

٢٩٥

عرّفت كان التعريف ساريا من الثاني إلى الأوّل بعد أن مضى لفظه على لفظ النكرة بخلاف الألف واللام ، ثم ما فيه الألف واللام وعمله ضعيف ؛ لأن الألف واللام أداة زائدة في أوّله تنقله من التنكير إلى التعريف في أوّل أحواله ومع ذلك فعمله جائز ؛ لأن الشبه فيه باق وهو قليل في الاستعمال ، ولم يأت في القرآن منه معمل في غير الظرف فيما علمنا وإن جاء معملا في الظرف كقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٤٨] فأمّا قول الشاعر : [المتقارب]

ضعيف النكاية أعداءه

يخال الفرار يراخي الأجل

فتقديره : (ضعيف النكاية في أعدائه) فلمّا حذف حرف الجر وصل المصدر ، وقيل : لا يحتاج إلى حرف يعدّيه فأمّا قول الشاعر (١) : [الطويل]

لقد علمت أولى المغيرة أنّني

كررت فلم أنكل عن الضّرب مسمعا

ف (مسمعا) منصوب ب (الضرب) ، وقيل : منصوب ب (كررت) وحرف الجرّ محذوف والأوّل أقوى ؛ لأن المصدر أقرب إليه وهو معتد بنفسه ، ويروى : (لحقت) وهو الناصب في أقوى الوجهين ؛ لأن الفعل وإن تقدّم فهو أقوى من المصدر ولا سيما مع الألف واللام.

فصل : ولا يتقدّم معمول المصدر عليه ولا يفصل بينهما بخبر ولا صفة ولا أجنبي بحال ؛ لأنه موصول.

__________________

لذلك لا يعمل المصدر المؤكّد ، ولا المبيّن للنوع ، ولا المصغّر ، ولا ما لم يرد به الحدث. فلا يقال «علّمته تعليما المسألة» ، على أنّ «المسألة منصوبة بتعليما» بل بعلّمت ، ولا «ضربت ضربة وضربتين اللصّ» ، على نصب اللص بضربة أو ضربتين ، بل بضربت ، ولا «يعجبني ضريبك اللصّ» ، ولا «لسعيد صوت صوت حمام» ، على نصب «صوت» الثاني بصوت الأول بل يفعل محذوف ، أو يصوت صوت حمام ، أي يصوّت تصويته. ويجوز أن يكون مفعولا به لفعل محذوف ، أي يشبه صوت حمام.

(١) البيت من شعر المرار الفقعسي : وهو المرّار بن سعيد بن خالد بن نضلة الفقعسي الأسدي.

شاعر كان جده خالد بن نضلة قائد بني أسد يوم الكلاب وعاش في العصر الأموي ، كان قصيرا مفرط القصر ، ولكنه كان شجاعا كريما ولكنه كان من الشعراء اللصوص وقد سجن مرتين كان من سكان البادية ، وكان كثير الشعر ، ولكن فقد أكثره وموضوعات شعره تتناول الوصف والرثاء والفخر والغزل والهجاء.

٢٩٦

فصل : والمصدر لا يتحمل الضمير لأنه اسم جامد فهو ك (زيد والغلام) ، وإنّما يحذف الفاعل معه حذفا كقوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً) [البلد : ١٤ ـ ١٥] ف (إطعام) خبر مبتدأ محذوف ، والفاعل محذوف ، أي إطعام هو ، وهو المذكور في قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وأجاز قوم أن يتحمّل الضمير كما تحمله الصفة المشبّهة وكالظرف ؛ لأنه يعمل في الظاهر فيعمل في المضمر وهذا ضعيف ؛ لأن تلك الأشياء يوصف بها وتكون أحوالا فجرت مجرى الفعل.

فصل : والمصدر يضاف إلى الفاعل ؛ لأنه غيره بخلاف اسم الفاعل ؛ لأنه هو الفاعل في المعنى ويضاف إلى المفعول ؛ لأنه كالفاعل في تحقّق الفعل به ، ويجوز أن يقدّر المصدر بفعل لم يسّم فاعله كقولك : عجبت من ضرب زيد ، أي : من أن يضرب.

فصل : وإذا عطفت على المضاف إلى المصدر جاز أن تجرّ المعطوف حملا على اللفظ وأنّ تنصبه أو ترفعه حملا على الموضع ، وكذلك الوصف.

٢٩٧

باب أسماء الفعل (١)

وذلك نحو : (صه ومه ورويد ونزال) وكلّها أسماء والدليل على ذلك أشياء :

أحدها : أنّها تدلّ على معنى في نفسها ولا تدلّ على زمانه من طريق الوضع ، وحقيقة القول فيه : أنّ (صه) اسم ل (اسكت) وليس اللفظان عبارتين عن شيء واحد مثل : اسكت واصمت ، ف (صه) اسم ومسمّاه لفظ اخر وهو السّكت ، فالزمان معلوم من المسمّى لا من الاسم.

والوجه الثاني : أنّها تنوّن فرقا بين المعرفة والنكرة والتعريف والتنكير من خصائص الأسماء.

والثالث : أنّها تقع موقع الفاعل والمفعول فمن الفاعل قول زهير : [الكامل]

ولأنت أشجع من أسامة إذ

دعيت نزال ولجّ في الذعر

والثاني : أنّها لو جعلت أمرا للغائب أو خبرا لاحتاجت في الأمر إلى تقدير اللام واللام لا تقدر مع صريح الفعل فكيف تقدّر مع الاسم ، وأمّا الخبر عن الغائب فيفتقر إلى ذكره مقدما أو مؤخرا ، وقد جاء شيء منها للغائب كقوله : «يا معشر الشباب ؛ من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ومن لم يستطع فعليه بالصوم» (٢).

__________________

(١) اسم الفعل كلمة تدلّ على ما يدلّ عليه الفعل ، غير أنها لا تقبل علامته. وهو ، إما أن يكون بمعنى الفعل الماضي ، مثل «هيهات» ، بمعنى «بعد» أو بمعنى الفعل المضارع ، مثل «أفّ» ، بمعنى أتضجّر ، أو بمعنى فعل الأمر ، مثل «آمين» ، بمعنى استجب.

ومن أسماء الأفعال «شتان» بمعنى افترق ، و «وي» ، بمعنى أعجب ، و «صه» بمعنى اسكت ، و «مه» بمعنى انكفف ، و «بله» بمعنى دع واترك ، و «عليك» ، بمعنى الزم ، و «اليك عني» ، بمعنى تنحّ عني ، و «إليك الكتاب» ، بمعنى حذه ، و «ها وهاك وهاء القلم» أي خذه.

واسم الفعل يلزم صيغة واحدة للجميع. فنقول «صه» ، للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث ، إلا ما لحقته كاف الخطاب ، فيراعى فيه المخاطب فتقول «عليك نفسك ، وعليك نفسك ، وعليكما أنفسكما ، وعليكم أنفسكم ، وعليكنّ أنفسكنّ ، وإليك عني ، وإليك عني ، وإليكما عني ، وإليكم عني ، وإليكنّ عني ، وهاك الكتاب وهاك الكتاب ، وهاكما الكتاب ، وهاكم الكتاب ، وهاكنّ الكتاب».

(٢) حديث صحيح أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود (١٩٠٥) ، و (٥٠٦٥) ، و (٥٠٦٦) ، وأخرجه مسلم (١٤٠٢) ، وأخرجه النسائي (٢٢٤٠) ، وأخرجه أبو داود (٢٠٤٦) ، وأخرجه ابن ماجه (١٨٤٥) ، وأخرجه أحمد في مسنده (٣٥٨١) ، وأخرجه الدارمي في سننه (٢١٦٥).

٢٩٨

وإنّما ساغ ذلك لتقدم الخطاب ، وقد حكي عن بعض العرب أنّه قال : عليه رجلا ليسي يريد ليطلب رجلا غيري ، والأصل : ليس إيّاي فحصل في الحكاية شذوذ من وجهين ، وحكي عن بعضهم أنّه قيل له : إليك ، فقال : إليّ أي ، قيل له : تنحّ ، فقال : اتنحى وهذا خبر.

فصل : وهذه الأسماء في لزومها وتعديها على حسب ما نابت عنه ف (صه) و (مه) و (واها) لازمة ؛ لأن (صه) ناب عن اسكت. (ومه) عن (اكفف). و (واها) عن (اتعجب).

ومنها ما يتعدى بحرف الجر كقولك : (عليك بالرفق) كأنك قلت : تخلّق به.

ومنها ما يتعدى بنفسه كقولك : (تراك زيدا ومناعه) أي : اتركه وأمنعه.

فصل : وأمّا ما جاء منها خبرا فهو : (شتان) وهو اسم ل (افترق) ولا يكون فاعله إلا اثنين كقولك : شتّان زيد وعمرو ، أي : افترقا حملا على أصله ، وقد تزاد معه : (ما) كما قال الشاعر (١) : [السريع]

شتّان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر

فأمّا قول العامّة : شتان بين فلان وفلان فخطأ لعدم الفاعلين ، والحكم بزيادة (بين) هنا خطأ ؛ لأنها لم تزد في شيء من الكلام أصلا ، وإنّما تكرّر في بعض المواضع توكيدا ، ولأنّها لو كانت زائدة هنا لم يبق لشتان فاعل إذ كان ما بعدها مجرورا لا في موضع المرفوع ، إذ كانت (بين) لم تزد للتوكيد كما في قولك : ما جاءني من رجل ، فأمّا (شتّان ما بين زيد وعمرو) فأجازه الأصمعي ومنعه غيره.

فصل : وأمّا (هيهات) فبمعنى : (بعد) ومنه :

هيهات منزلنا بنعف سويقة

أي : بعد فأمّا قوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) [المؤمنون : ٣٦] فقيل : اللام زائدة ، و (ما) الفاعل ، وقيل : ليست زائدة والفاعل مضمر ، والتقدير : بعد التصديق لما توعدون.

فصل : وأمّا (رويد) فتستعمل مصدرا كقولك : (رويد زيد) أي : إمهال زيد ، ومنه قوله :

(فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] وتكون صفة كقولك : ضعه وضعا رويدا ، وهي معربة فيهما

__________________

(١) البيت من شعر الأعشى.

٢٩٩

وتكون اسما للفعل كقولك : رويد زيدا أي أمهل زيدا ، وهي ههنا مبنيّة ، وهي تصغير إرواد على حذف الزوائد ؛ لأن الفعل منه : أرود إروادا.

فصل : وأمّا (بله) فيكون مصدرا بمعنى غير فيجرّ ما بعده ويكون اسما ل (دع) فينصب ما بعده (١).

فصل : وأمّا ألفاظ الإغراء (٢) فالمتّفق عليه منها عندك ودونك ووراءك ومن حروف الجرّ عليك وإليك ، فعند الأكثرين أنّه يقتصر على المسموع منها ؛ لأن القياس في ذلك ابتداء وضع لغة وقاس عليها قوم فأمّا عندك زيدا فمعناه خذه في أيّ نواحيك كان ودونك خذه من قرب وعليك بمعنى الزمه وإليك تنحّ.

فصل : ومعنى الإغراء الإلصاق والحثّ حذرا من الفوات ، وأمّا التحذير فيشبه الإغراء وليس به ؛ لأن قولك : الأسد الأسد يدلّ على شدّة طلبك فراره من الأسد ، وقولك : عليك زيدا يدلّ على شدّة طلبك أخذ زيد ففي هذا التحذير من فواته وفي الأوّل التحذير من قربانه.

__________________

(١) أسماء الأفعال ، إما مرتجلة ، وهي ما وضعت من أول أمرها أسماء أفعال ، وذلك مثل «هيهات وأفّ وآمين».

وإما منقولة ، وهي ما استعملت في غير اسم الفعل ، ثم نقلت إليه.

والنّقل إما عن جارّ ومجرور كعليك نفسك ، أي خذه ، ومكانك ، أي اثبت. وإما عن مصدر كرويد أخاك أي أمهله ، وبله الشّرّ أي اتركه ودعه. وإما عن تنبيه ، نحو «ها لكتاب» ، أي خذه.

وإما معدولة كنزال وحّذار ، وهما معدولان عن انزل واحذّر.

(«رويد» في الأصل مصدر «ارود في سيره روادا أو رويدا» أي تأنى ورفق. وهو مصغر تصغير الترخيم ، بحذف الزوائد ، لأن أصله «ارواد». (بله) في الأصل مصدر بمعنى الترك ، ولا فعل له من لفظه ، وإنما فعله من معناه وهو «ترك». وكلاهما الآن اسم فعل أمر مبني على الفتح ، فإن نوّنتهما ، نحو «رويدا أخاك وبلها الشر» ، أو أضفتهما نحو رويد أخيك وبله الشر «فهما حينئذ مصدران منصوبان على المفعولية المطلقة لفعلهما المحذوف. وما بعد المنون منصوب على أنه مفعول به له ، وما بعد المضاف مجرور لفظا بالإضافة إليه ، من باب إضافة المصدر إلى مفعوله).

(٢) الإغراء نصب الاسم بفعل محذوف يفيد الترغيب والتشويق والإغراء. ويقدّر بما يناسب المقام كالزم واطلب وافعل ، ونحوها.

وقائدته تنبيه المخاطب على أمر محمود ليفعله ، نحو «الاجتهاد الاجتهاد» مو «الصدق وكرم الخلق».

ويجب في هذا الباب حذف العامل إن كرّر المغرى به ، أو عطف عليه ، فالأول نحو «النجدة النّجدة».

٣٠٠