اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

فصل : ولا يجوز تقديم حال المجرور عليه ؛ لأن العامل في الحال هو العامل في صاحب الحال ، والعامل في صاحبها هو الحرف المعلّق بالفعل فصار كالشيء الواحد فتقديمها على الجارّ يفصل بين الفعل والحرف ؛ ولأنّ حرف الجرّ لا تصرّف له وهو العامل في صاحب الحال ، وليس له معنى يعمل به فامتنع قولك : (مررت قائما بزيد) و (قائما مررت بزيد) والقيام لزيد (١).

وقال بعض النحويّين يجوز تقديمها عليه واحتجّ بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ : ٢٨] وبقول الشاعر : [الطويل]

فإن تك أذواد أصبن ونسوة

فلن يذهبوا فرعا بقتل حبال

أي : بقتل حبال. (فزعا) أي هدرا. والجواب : أمّا (كافّة) فحال من الكاف لا من الناس والهاء فيها للمبالغة ، والتقدير : ما أرسلناك إلّا كافّة للناس كفرهم ، وأمّا (فرغا) فحال من الفاعل ، أي : فلن يذهبوا ذوي فرغ.

فصل : العامل الواحد يعمل في أكثر من حال كقولك : جاء زيد راكبا ضاحكا ؛ لأن الحال كالظرف والعامل قد يعمل في ظرفين من المكان والزمان والمعنى لا يتناقض ، وقال البصرييّن : لا يعمل إلا في واحدة ؛ لأنها مشبّهه بالمفعول والفعل لا يعمل في مفعولين فصاعدا على هذا الحدّ ، فإن وقع ذلك جعلت الحال الثانية بدلا من الأولى أو حالا من المضمر فيها.

__________________

(١) تتقدم الحال على عاملها وجوبا في ثلاث صور :

١ ـ أن يكون لها صدر الكلام ، نحو «كيف رجع سليم؟» ، فإن أسماء الاستفهام لها صدر جملتها.

٢ ـ أن يكون العامل فيها اسم تفضيل ، عاملا في حالين ، فضّل صاحب إحداهما على صاحب الأخرى ، نحو «خالد فقيرا ، أكرم من خليل غنيّا» ، أو كان صاحبها واحدا في المعنى ، مفضّلا على نفسه في حالة دون أخرى ، نحو «سعيد ، ساكتا ، خير منه متكلما». فيجب والحالة هذه ، تقديم الحال التي للمفضّل ، بحيث يتوسط اسم التفضيل بينهما ، كما رأيت.

٣ ـ أن يكون العامل فيها معنى التّشبيه ، دون أحرفه ، عاملا في حالين يراد بهما تشبيه صاحب الأولى بصاحب الأخرى ، نحو «أنا ، فقيرا ، كخليل غنيّا ، ومنه قول الشاعر :

تعيّرنا أنّنا عالة ونحن

صعاليك ، أنتم ملوكا

أو تشبيه صاحبهما الواحد في حالة ، بنفسه في حالة أخرى ، نحو «خالد ، سعيدا ، مثله بائسا». فيجب ، إذ ذاك ، تقديم الحال التي للمشبّه على الحال التي للمشبّه به ، كما رأيت. إلا إن كانت أداة التّشبيه «كأنّ» ، فلا يجوز تقديم الحال عليها مطلقا ، نحو «كأنّ خالدا ، مهر ولا ، سعيد بطيئا».

٢٠١

فصل : الفعل الماضي لا يكون حالا إلا ب (قد) مظهرة أو مضمرة كقولك : جاء زيد ركب ؛ لأن الحال إمّا مقارنة أو منتظرة والماضي منقطع عن زمن العامل ، وليس بهيئة في ذلك الزمان و (قد) تقربه من الحال ، وقال الكوفيّون : يجوز ذلك ؛ لأن أكثر ما فيه أنّها غير موجودة في زمان الفعل ، وذلك لا يمنع لا تمنع الحال المقدّرة.

والجواب : أنّ الفرق بينهما أنّ الحال والاستقبال متقاربان ؛ لأن المنتظر يصير إلى الحال ؛ ولذلك احتملها الفعل المضارع والماضي منقطع بالكلّية ، فأمّا قوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] فقيل : التقدير : (قوما حصرت) فالفعل صفة لا حال ، وقيل : هو دعاء مستأنف ، وقيل : لفظه ماض والمعنى على المضارعة ، أي : جاؤوكم تحصر صدورهم ؛ لأن الحصر كان موجودا وقت مجيئهم فحقه أنّ يعبّر عنه بفعل الحال ، وقيل : التقدير : (قد حصرت) (١).

__________________

(١) تتأخر الحال عن عاملها وجوبا في أحد عشر موضعا :

١ ـ أن يكون العامل فيها فعلا جامدا ، نحو «نعم المهذار ساكتا. ما أحسن الحكيم متكلّما. بئس المرء منافقا. أحسن بالرّجل صادقا»

٢ ـ أن يكون اسم فعل ، نحو «نزال مسرعا».

٣ ـ أن يكون مصدرا يصحّ تقديره بالفعل والحرف المصدري ، نحو «سرّني أو يسرّني ، اغترابك طالبا للعلم».

(اذ يصح أن تقول «يسرني أن تغترب طالبا للعلم». فان كان يصح تقديره بالفعل والحرف المصدري. نحو «سمعا كلام الله متلوّا» ، جاز تقديمه عليه نحو «متلوّا سمعا كلام الله».

٤ ـ أن يكون صلة لأل ، نحو «خالد هو العامل مجتهدا».

٥ ـ أن يكون صلة لحرف مصدريّ ، نحو «يسّرني أن تعمل مجتهدا. سرّني أن عملت مخلصا ، يسرّني ما تجتهد دائبا. سرّني ما سعيت صابرا».

٦ ـ أن يكون مقرونا بلام الابتداء ، نحو «لأصبر معتملا».

٧ ـ أن يكون مقرونا بلام القسم ، نحو «لأثابرنّ مجتهدا».

٨ ـ أن يكون كلمة فيها معنى الفعل دون أحرفه ، نحو «هذا عليّ مقبلا. ليت سعيدا ، غنيّا ، كريم. كأنّ خالدا ، فقيرا ، غنيّ.

٩ ـ أن يكون اسم تفضيل ، نحو «عليّ أفصح القوم خطيبا» ، إلا إذا كان عاملا في حالين ، نحو «العصفور ، مغردا خير منه ساكتا» ، فيجب تقديم حال المفضّل على عامله ، كما تقدّم.

١٠ ـ أن تكون الحال مؤكدة لعاملها ، نحو «ولى العدوّ مدبرا ، فتبسّم الصديق ضاحكا».

١١ ـ أن تكون جملة مقترنة بالواو ، على الأصحّ ، نحو «جئت والشمس طالعة».

٢٠٢

فصل : والأحوال أربعة منتقلة مقارنة كقولك : جاء زيد راكبا ؛ لأن الركوب قارن المجيء ، وليس بلازم لمجيئه إذ من الجائز أن يجيء ماشيا ومقارنة غير منتقلة وهي المؤكدة كقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١] فالتصديق للحق مقارن للحقّ وغير منتقل عنه ، والعامل في هذه الحال معنى الجملة كأنه قال وهو الثابت مصدّقا وحال منتقلة غير مقارنة بل منتظرة كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا فالصيد غير مقارن لمرورك بل مقدّر ؛ لأنه كان متهيئا لذلك فعبر عن المال بالحال ، ومنه قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] وحال موطّئة للحال الحقيقية كقولك : مررت بزيد صالحا ف (رجلا) موّطئ للحال ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) ثّم قال : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزمر : ٢٧ ـ ٢٨].

٢٠٣

باب التمييز

وهو (١) تخليص الأجناس بعضها من بعض ، ويسمى البيان والتبيين والتفسير.

والممّيز : هو الاسم المحصل لهذا المعنى ، وهو على ضربين : جمع ومفرد ، فالجمع ضربان : مجرور ومنصوب ، فالمجرور : ما يضاف إليه العدد من ثلاثة إلى العشرة ويكون نكرة ومعرفة نحو : ثلاثة أثواب ، وثلاثة الأثواب ، ونبين علّة كونه جمعا في باب العدد إن شاء الله تعالى.

وأمّا المنصوب المجموع فالواقع بعد اسم الفاعل المجموع كقوله : (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف : ١٠٣] ، وأمّا المفرد فعلى ضربين ؛ أحدهما : منصوب وهو الواقع بعد : (أحد عشر) إلى : (تسعة وتسعين) ، والأصل في ذلك أن يأتي ب (من) والجمع المعرّف باللام كقولك : عشرون من الدراهم. ف (من) تجمع هنا التبعيض وبيان الجنس والألف واللام مع الجمع للاستغراق ، وكذلك المعنى ؛ لأن قولك : عندي عشرون مبهم في كلّ معدود وهي بعض ذلك المعدود ، ؛ فإذا أردت بيان جنسها قلت : (من الدراهم) و (من الغلمان) إلا أنهم حذفوا من والألف واللام واقتصروا على واحد منكر من الجنس لحصول الغرض به مع الاختصار.

فصل : والعامل في هذا الاسم : (عشرون) ونحوها ؛ لأنه أشبه اسم الفاعل المتعدّي ؛ لأنه مجموع بالواو والنون ، ونونه تسقط في الإضافة وهو مفتقر إلى الاسم الذي بعده فصار : (عشرون درهما) مثل : (ضاربون رجلا) فهو مشبه بالمفعول به (٢).

__________________

(١) التّمييز اسم نكرة يذكر تفسيرا للمبهم من ذات أو نسبة. فالأوّل نحو «اشتريت عشرين كتابا» ، والثاني نحو «طاب المجتهد نفسا».

والمفسّر للمبهم يسمّى تمييزا ومميّزا ، وتفسيرا ومفسّرا ، وتبيينا ومبيّنا ، والمفسّر يسمّى مميّزا ومفسّرا ومبيّنا.

والتّمييز يكون على معنى «من» ، كما أنّ الحال تكون على معنى «في». ؛ فإذا قلت «اشتريت عشرين كتابا» ، فالمعنى أنك اشتريت عشرين من الكتب ، وإذا قلت «طاب المجتهد نفسا» ، فالمعنى أنه طاب من جهة نفسه.

والتّمييز قسمان تمييز ذات (ويسمّى تمييز مفرد أيضا) ، وتمييز نسبة (ويسمّى أيضا تمييز جملة).

(٢) تمييز العدد الصّريح مجموع مجرور بالإضافة وجوبا ، من الثلاثة إلى العشرة ، نحو «جاء ثلاثة رجال ، وعشر نسوة» ، ما لم يكن التمييز لفظ مئة ، فيكون مفردا غالبا ، نحو «ثلاث مئة». وقد يجمع نحو «ثلاث مئين ، أو مئات». أما الألف فمجموع البتة ، نحو «ثلاثة آلاف».

واعلم أنّ مميّز الثلاثة إلى العشرة ، إنما يجرّ بالإضافة إن كان جمعا كعشرة رجال. فإن كان اسم جمع أو اسم جنس ، جرّ بمن. فالأول كثلاثة من القوم ، وأربعة من الإبل ، والثاني كستّة من الطّير ، وسبع من النّخل. قال ـ

٢٠٤

فصل : وأمّا (أحد عشر) إلى : (تسعة عشر) فإنّه يشبه (عشرين) في أنّه عدد مبهم وأنّ إضافته ممتنعة ؛ لأن الاسم الثاني صار ك (النون) في (عشرون) إذ كان تماما له ، ولأنّ المركب أصله التنوين كقولك : خمسة وعشرة ، وبعد التركيب لم يبطل (١) معنى التنوين مع وجود التنوين أو النون يلزم نصب المميز فكذلك مع ما يقوم مقامه.

فصل : وكذلك كلّ منّون يفتقر إلى ممّيز كقولك : (هذا راقود خلا) ؛ لأن التنوين يمنع الإضافة فإن أضفت فقلت : (رطل ذهب) احتمل أن يكون بمعنى (اللام) وبمعنى (من) ، وإذا نصبت لم تكن إلا بمعنى (من) ؛ لأنها الموضوعة للتبيين ، وكذلك النون في : (منوان وقفيزان).

فصل : فأمّا المضاف كقولك : لله درّه شجاعا ، وعلى التمرة مثلها زبدا ، وما في السماء قدر راحة سحابا ، فكل هذا ينتصب فيه المميّز بما قبله لشبهه بالمنوّن المبهم ؛ لأن مثل التمرة قد يكون زبدا أو غيره ، والمضاف إليه يمنع إضافة مثل إلى الزبد وهو مقدار كما أنّ (عشرين) مقدار ، وقيل : التقدير على التمرة زبد مثلها ، فلما أخرته انتصب لأنّك جعلته فضلة كما في قولك : طبت به نفسا.

فصل : ومن ذلك : هو أحسن الناس وجها ، فأمّا : هو أحسن منك وجها ، ف (منك) جرى مجرى المضاف إليه ؛ لأنه مبين له وتتّمة ومعمول له.

__________________

تعالى (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ.) وقد يجرّ بالإضافة كقوله تعالى (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ.) وفي الحديث «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» ، وقال الشاعر :

ثلاثة أنفس ، وثلاث ذود

لقد جار الزّمان على عيالي

(١) وأما مع أحد عشر إلى تسعة وتسعين ، فالتمييز مفرد منصوب ، نحو «جاء أحد عشر تلميذا ، وتسع وتسعون تلميذة». وأما قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً ،) فأسباطا ليس تمييزا لاثنتي عشرة ، بل بدل منه والتمييز مقدّر ، أي قطعناهم اثنتي عشرة فرقة ، لأنّ التمييز هنا لا يكون إلا مفردا. ولو جاز أن يكون مجموعا ـ كما هو مذهب بعض العلماء ـ لما جاز هنا جعل «أسباطا تمييزا ، لأن الأسباط جمع سبط ، وهو مذكّر ، فكان ينبغي أن يقال وقطّعناهم اثنتي عشر أسباطا ، لأنّ الإثنين توافق المعدود ، والعشرة ، وهي مركبة ، كذلك ، كما مرّ بك في بحث المركبات.

٢٠٥

فصل : وإذا قلت : (زيد أفره عبد) فجررت كان زيد عبدا ؛ لأن أفعل لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه ، والأصل : (زيد أفره العبيد) فاختصر وأن نصبت فقلت : (أفره عبدا لم يكن زيد عبدا بل كان العبيد له) والوصف في المعنى لعبيده ، أي : عبيده أفره العبيد ، كما تقول : هو أكثر مالا وأقل شرّا.

فصل : ومن التمييز : (طبت به نفسا) ، ف (نفسا) منصوب بالفعل ، وأصله : طابت نفسي به ، ثمّ أردت المبالغة فنسبت الطيب إليك فجعلت ما كان مضافا إليه فاعلا (١).

فحدث من أجل ذلك إبهام فأمكن أن يكون طبت به نسبا وعرضا وثوبا وذكرا ؛ فإذا قلت : (نفسا) بيّنت الطيب إلى أيّ شيء هو منسوب في الحقيقة ، وانتصاب (نفس) على تشبيه اللازم بالمتعدي ؛ لأن (طبت) لا تتعدّى.

فصل : ولا يجوز تقديم المنصوب هنا على الفعل ، وقال المازنيّ والمبرّد والكوفّيون : هو جائز ، كقولك : نفسا طبت به.

وحجّة الأوّلين : أنّ المنصوب هنا فاعل في المعنى ، وإنما حول عن ذلك ونسب الفعل إلى المضاف إليه مبالغة ، ثّم ميّز بذكر ما هو فاعل في الأصل ، فلو قدم لصار كتقديم الفاعل على

__________________

(١) من تمييز النسبة الاسم الواقع بعد ما يفيد التّعجّب ، نحو «ما أشجعه رجلا. أكرم به تلميذا. يا له رجلا. لله درّه بطلا. ويحه رجلا. حسبك بخالد شجاعا. كفى بالشّيب واعظا. عظم عليّ مقاما ، وارتفع ربتة».

وهو على قسمين محوّل وغير محوّل.

فالمحوّل ما كان أصله فاعلا ؛ كقوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ،) ونحو «ما أحسن خالدا أدبا!» ، أو مفعولا ، كقوله سبحانه (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ،) ونحو «زرعت الحديقة شجرا» ، أو مبتدأ ، كقوله عزوجل (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) ، ونحو «خليل أوفر علما وأكبر عقلا».

وحكمه أنه منصوب دائما. ولا يجوز جرّه بمن أو بالإضافة ، كما رأيت. وغير المحول ما كان غير محوّل عن شيء ، نحو «أكرم بسليم رجلا. سموت أديبا. عظمت شجاعا ، لله درّه فارسا ، ملأت خزائني كتبا. ما أكرمك رجلا».

وحكمه أنه يجوز نصبه ، كما رأيت ، ويجوز جره بمن ، نحو «لله درّه من فارس. أكرم به من رجل. سموت من أديب».

٢٠٦

الفعل ، وذلك باطل كذلك ههنا ويدلّ عليه أنّه مميز فلم يتقدم على العامل فيه كالمميز في : (نعم) وفي : (الأعداد) واحتجّ الآخرون بقول الشاعر (١) : [الطويل]

أتهجر ليلى للفراق حبيبها

وما كان نفسا بالفراق تطيب

وقالوا : لأن العامل في هذا المنصوب فعل متصرف فجاز تقديمه عليه كالحال.

والجواب عن البيت من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الرواية : (وما كان نفسي) فهو اسم كان.

والثاني : أنّ نصبه على أنّه خبر كان أي ما كان حبيبها نفسا ، أي : إنسانا يطيب بالفراق.

والثالث : أنّه من ضرورة الشعر فلا يحتج به على الإعراب في الاختيار ، وأمّا القياس على الحال ففاسد ؛ لأن الحال فضلة مخصة والمميز هنا في حكم اللازم وهو الفاعل فافترقا ، فأمّا تقديم المميّز على الفاعل نحو : (ما طاب نفسا زيد) فجائز لتقدم الفعل عليه.

__________________

(١) البيت من شعر المخبّل السعدي : (١٢ ه‍ / ٦٣٣ م) وهو ربيع بن مالك بن ربيعة بن عوف السعدي ، أبو يزيد ، من بني أنف الناقة من تميم. شاعر فحل ، من مخضرمي الجاهلية والإسلام هاجر إلى البصرة وعمّر طويلا ومات في خلافة عمر أو عثمان رضي‌الله‌عنهما.

قال الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء : له شعر كثير جيّد هجا به الزبرقان وغيره ، وكان يمدح بني قريع ويذكر أيام بني سعد قبيلته. وقال الفيروزآبادي : المخبّل ثلاثة : ثمالي ، وقريعي ، وسعدي.

٢٠٧

باب الاستثناء

وهو استفعال من : (ثنيت عليه) أي : عطفت والتفت ؛ لأن المخرج لبعض الجملة منها عاطف عليها باقتطاع بعضها عن الحكم المذكور وحده أنّه إخراج بعض من كل ب (إلا) أو ما قام مقامها ، وقيل : هو إخراج ما لو لا إخراجه لتناوله الحكم المذكور.

فصل : وأصل أدوات الاستثناء (إلا) لوجهين :

أحدهما : أنّها حرف ، والموضوع لأفادة المعاني الحروف كالنفي والاستفهام والنداء.

والثاني : أنّها تقع في جميع أبواب الاستثناء للاستثناء فقط وغيرها يقع في أمكنة مخصوصة منها ويستعمل في أبواب أخر.

فصل : والمستثنى من موجب ب (إلا) منصوب بالفعل المقدم وما في معناه بواسطة (إلا) ، وروي عن الزّجاج أنّ نصبه ب (إلا) ؛ لأنها في معنى أستثني.

وقال الكوفيون : (إلا) مركّبة من : (إنّ) و (لا) ؛ فإذا نصبت كان ب (إنّ) ، وإذا رفعت كان ب (لا).

وحجة الأوّلين : أنّ الفعل هو الأصل في العمل إلا أنّ الفعل هنا لا يصل إلى المستثنى بنفسه وب (إلا) وصل إليه فصار كواو (مع) وكحروف الجر ، ويدلّ عليه أنّ (غيرا) في الاستثناء منصوبة بالفعل من غير واسطة لّما كانت مبهمة كالظرف واتّصل الفعل بها بنفسه ، وليس ثمّ ما يصح عمله فيها إلا الفعل ، وأمّا الزّجاج فيبطل مذهبه من أوجه :

أحدها : ما ذكرناه من (غير) ولا يصح معها تقدير : (أسنتني) ؛ لأنه يصير (زيد) داخلا في حكم الأول وغيره مخرجا منه ، وهذا معنى فاسد.

والثاني : أن إعمال الحروف بمعانيها غير مطرد ألا ترى أن (ما) النافية وهمزة الاستفهام وغيرهما لا تعمل بمعانيها ، وكذلك إلا.

والثالث : أنه ليس تقدير : (إلا) ب (أستثني) أولى من تقديرها ب (تخلّف) أو (امتنع) ونحوهما مما يرفع.

والرابع : أن المستثنى يرفع في مواضع مع وجود (إلا) في الجميع ، فلو قدرت ب (استثني) لما جاز إلا النصب.

٢٠٨

والخامس : أنا إذا قدرنا : (أستثني) صار الكلام جملتين ، وتقديره بالجملة الواحدة أولى.

وأما مذهب الفراء فيبطل من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ دعوى التركيب فيها خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا بدليل ظاهر ولا دليل بحال.

والثاني : أنّه لو سلم ذلك لم يلزم بقاء حكم واحد من المفردين كما في : (لو لا) وكأنّ وغيرهما ؛ لأن التركيب يحدث معنى لم يكن وبحدوثه يبطل العمل.

والثالث : أنّ النصب ب (إنّ) فاسد ؛ لأنها إذا نصبت افتقرت إلى خبر ولا خبر و (لا) لا تعمل الرفع ، ولو عملت لافتقرت إلى خبر أيضا.

فصل : والبدل في النفي بعد تمام الكلام أولى لأمرين :

أحدهما : أن العمل فيهما واحد وهو أولى من اختلاف العمل.

والثاني : أنّك إذا جعلته بدلا كان لازما في الجملة كما أن المستثنى منه كذلك ، وهو أولى من جعله فضلة إذ كان الاستثناء لازما في المعنى المطلوب فيكون اللفظ كذلك.

فصل : وإنما لم يجز البدل في الموجب لفساد معناه ، وذلك أنّ (إلّا) يخالف ما بعدها ما قبلها ، وإذا قلت : (قام القوم إلا زيد) كان كقولك : (قام إلّا زيد) ف (زيد) إن جعلته في المعنى قائما لم يكن ل (إلا) معنى وإن نفيت عنه القيام احتجت إلى تقدير فاعل ولا يصح ؛ لأنه يصير قام كلّ واحد وهذا محال.

فصل : ولا يجوز عند جمهور النحويين أن يكون المستثنى أكثر الجملة مثله عليّ عشرة إلا ستة أوجه :

أحدها : أنّ الاستثناء في الأصل دخل الكلام للاختصار أو للجهل بالعدد كقولك : (قام القوم إلا) فاستثناء : (زيد) كان للجهل بعدد من قام منهم أو للإطالة بتعديدهم ولا شبه أنّ قوله عليّ أربعة أحضر من قوله عشرة إلا ستّة.

فإن قلت : فعشرة إلا أربعة جائز معنى مع أنّ (ستّة) أخضر؟

قيل : جاز للمعنى الآخر وهو الجهل ؛ فإنّه قد يعرف العدد القليل ولا يعرف الكثير ، وإذا الكثير عرف القليل هذا هو الأصل.

٢٠٩

والوجه الثاني : أنّ التعبير عن الأكثر جائز فدخل الاستثناء ليرفع الاحتمال وتعيينه للأكثر وهو عكس التوكيد ؛ لأنه يعينه للكل ويمنع من حمله على الأكثر كقولهم : قام القوم كلهم.

فصل : وإنما يختار النصب دون البدل في غير الجنس ؛ لأن البدل في حكم المبدل منه فيما ينسب إليه ، وفي أنه يسقط الأول ويقوم الثاني مقامه ، فعند ذلك يصير أصلا في الجملة وكونه من غير الجنس لا يلزم ذكره ؛ لأن اللفظ الأول لا يشتمل عليه حتى يخرج بالاستثناء فيتمحض فضلة في المعنى فيجعل صفة في اللفظ وهو كقولك : (ما بالدار أحد إلا وتدا) ومن اختار البدل راعى اللفظ ، وفائدة استثناء غير الجنس ثلاثة أشياء : الإعلام بعموم الأول ، وأن الثاني من آثار الأول ، وإثبات ما كان يحتمل نفيه.

فصل : ومما قام مقام إلا من الأفعال : (ليس) و (لا يكون) و (عدا) وما بعدهن منصوب ، وإنما دخلت هذه الأفعال في الاستثناء لما فيها من معنى النفي ، وما بعد : (ليس) و (لا يكون) خبر لهما كقولك : (قام القوم ليس زيدا) أي : ليس بعضهم زيدا ، والضمير ههنا يوجد على كل حال ؛ لأنه ضمير : (بعض) و (لا يكون) اسمها مظهرا هنا للاختصار و (لا يكون) ك (إلا) في أنه ليس بعدها سوى المنصوب ؛ ولذلك لا يجوز العطف على المنصوب بها فلا تقول : جاء القوم ليس زيدا ولا عمرا.

وأمّا : (ما عدا) و (ما خلا) فأفعال كلها ؛ لأنها صلات ل (ما) ولا تكون الحروف صلة ، والفاعل فيها مضمر ، وموضع ما وصلتها حال كقولك : (قام القوم ما عدا زيدا) أي : عدوّ زيد ، والمصدر هنا حال ، أي : متجاوزين زيدا.

فصل : وإنّما تعين النصب في المستثنى إذا تقدّم ولم يجز البدل ؛ لأن البدل تابع للمبدل منه كالصفة والتوكيد ، وكما لا يجوز تقديمهما لئلّا يصيرا في موضع المتبوع كذلك هنا فيجب أن يخرج مخرج الفضلات ليكون في لفظه دلالة على أنّه ليس بأصل.

فصل : وإنّما أعربت (غير) إعراب الاسم الواقع بعد (إلا) ؛ لأنها اسم تلزمه الإضافة فمن حيث كانت اسما يجب أن تعرب ومن حيث أضيفت يحب أن يكون إعرابها إعراب الاسم المستثنى ؛ لأنها اسم في حيّز المستثنى ولم يحتّج إلى حرف مقّو لإبهامها وشبهها بالظرف فيصل الفعل إليها بنفسه.

٢١٠

فصل : وأمّا : (سوى) فهي ظرف في الأصل ، ولا تستعمل في الاستثناء إلا منصوبة إذا وقعت بعد تمام الكلام ليتوفّر عليها حكم الظروف ، وقد جاءت غير ظرف قليلا.

فصل : وأمّا (حاشا) فمذهب أكثر البصريين أنّها حرف جرّ ، وقد جاء ذلك في الشعر.

وقال المبّرد والكوفيّون هي فعل لأشياء أحدها : تصرّفها نحو : (أحاشي ومحاشى) وأصلها من حاشية الشيء ، أي : طرفه ، فقولك : (قام القوم حاشا زيدا) أي : صار في حاشية وناحية عنهم والحروف لا تتّصرف.

والثاني : أنّ الحذف يدخلها ، قالوا : حاش لله ، وحش لله.

والثالث : أنّ حرف الجرّ يتعلّق بها كقولك : (حاشا لله) ، وذلك من خصائص الأفعال.

والجواب : أمّا التصّرف فليس على ما ذكر ، فأمّا : (حاشا) فمشتق من لفظ الحرف كما قالوا : (سألته حاجة فلو لا) أي قال : لو لا كذا لفعلت كذا ، وقالوا : (هلّل) أي قال : لا اله الا الله. و (بسمل) أي قال : بسم الله ، وهو كثير.

فأمّا الحذف فقد دخل الحروف قالوا في ربّ : (ربّ) ، وفي سوف : (سو) ، وفي لعلّ : (علّ) في أحد المذهبين ، وأمّا اللام في : (لله) فزائدة ولا تعلق بشيء ، ويدلك عليه قولك : جاء القوم حاشا زيد ، بغير لام ولم يقل : إن اللام محذوفة.

فصل : وأمّا (خلا) فقد جرّ بها قوم ونصب بها آخرون وجعلوها فعلا من : (خلا يخلو) ، وأمّا (عدا) فمثل خلا ، وأمّا (ما خلا) و (ما عدا) ففعلان لما تقدّم في موضعه ، وأجاز أبو عليّ في كتاب الشعر أن تكون (ما) في (ما عدا) زائدة فتجرّ ما بعدها ، وتابعه الربعي على ذلك.

فصل : ولا يجوز تقديم المستثنى على جميع الجملة كقولك : إلا زيدا ضرب القوم ؛ لأن إلا بمنزلة : (واو مع) لما ذكرناه هناك وهي تشبه (لا) العاطفة كقولك : قام القوم لا زيد ، وهذان لا يتقدّمان على العامل ، فكذا قولك : (إلا) فإن وقعت بين أجزاء الجملة جاز كقولك : [الطويل]

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (١)

__________________

(١) البيت كاملا :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل

٢١١

وكقولك : أين إلا زيدا قومك ، وعلى هذا تقول : ما ضرب إلا زيدا قومك. قال أصحابنا : إن استثنيته من (قومك) جاز. ومن أصحابنا من لم يجزه ، والفرق أنّ الفاعل أصل في الجملة.

فصل : ولا يعمل ما بعد (إلا) فيما قبلها كقولك : قومك زيدا إلا ضاربون ؛ لأن تقديم الاسم الواقع بعد (إلا) عليها غير جائز فكذلك معموله لما تقرّر أنّ المعمول لا يقع إلا حيث يقع العامل إذ كان تابعا له وفرعا عليه ، فإن جاء في الشعر أضمر له فعل من جنس المذكور.

فصل : ويجوز أن تقع (إلا) صفة بمعنى (غير) فيجري ما بعدها على ما قبلها كقولك : له عندي مائة إلا درهم ، فترفع كما ترفع (غيرا) هنا إذا جعلتها وصفا فيلزمك المائة بكمالها ، وإن نصبت : (درهما) لزمك تسعة وتسعون على أصل الباب ، وكذا إذا قلت : (غير درهم) فنصبت (غيرا).

فصل : إذا وقع استثناء بعد استثناء كان الاخير مستثنى من الذي قبله فما يبقى منه هو المستثنى من الذي قبل قبله فعلى هذا إذا قال له : (عليّ عشرة إلا تسعة) ثّم على ذلك نقص واحدا إلى أنّ قال : (إلا واحدا) لزمه خمسة دراهم ولك في تحقيق ذلك طريقان :

أحدهما : أن تأتي إلى آخر العدد فتسقطه من الذي قبله على ما بيّنا فيسقط ههنا من اثنين فيبقى واحد فتسقطه من ثلاثه فيبقى اثنان فتسقطهما من الأربعة فيبقى اثنان فتسقطهما من الخمسة ، فيبقى ثمّ على ذلك إلى العشرة فيبقى خمسة.

__________________

ـ والبيت من شعر لبيد بن ربيعة العامري : (٤١ ه‍ / ٦٦١ م) وهو لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري.

أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية. من أهل عالية نجد. أدرك الإسلام ، ووفد على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

يعد من الصحابة ، ومن المؤلفة قلوبهم. وترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا. وسكن الكوفة وعاش عمرا طويلا. وهو أحد أصحاب المعلقات.

وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، قال : قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها الشّاعر : كلمة لبيد ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل وكاد أميّة بن أبي الصّلت أن يسلم».

٢١٢

والطريق الثاني : أن تجمع العشرة والثمانية والستة والأربعة والاثنين وتسقط ما بين كلّ استثنائين ثمّ تجمع ذلك فيكون ثلاثين وتجمع ما أسقطت فيكون خمسة وعشرين فتسقطها من الثلاثين فيبقى خمسة وهذا يخرج على قول من أجاز استثناء الأكثر ومن لم يجزه ففيه وجهان :

أحدهما : أنّ جمع الاستثناء باطل ؛ لأن الأوّل بطل ؛ لأنه أكثر فيبطل ما يتفرع عليه.

والثاني : أنّه يبطل الأكثر إلى أن يصل إلى النصف فيصّح ثّم ينظر في الباقي على هذا السياق.

٢١٣

باب (كم)

وهي اسم لوجود حدّ الاسم وعلاماته فيها ، وإنّما بنيت في الاستفهام (١) لتضمنّها معنى همزة الاستفهام وبنيت في الخبر لمشابهتها (ربّ) من أوجه :

أحدها : أنّها تختصّ بالنكرة كما تختص (ربّ) بها.

والثاني : أنّها لغاية التكثير كما أن (ربّ) لغاية التقليل والجامع بينهما الغاية في طرفي العدد.

والثالث : أنّ (كم) لها صدر الكلام كما أنّ (رب) كذلك ، والمراد بذلك أنّه لا يعمل فيها ما قبلها.

فإن قلت : قد يدخل على ما هذا سبيله حرف الجرّ فيعمل فيه؟

قيل : حرف الجرّ الداخل عليها مما يتعلّق بما بعدها ، كقولك : بكم رجل مررت فيؤخّر العامل الأصلي ، وإنّما قدّمت الباء ؛ لأنها وصلة بين العامل والمعمول ، فلو أخرتهما جميعا لم تتحقّق الوصلة.

__________________

(١) كم على قسمين استفهاميّة وخبريّة.

فكم الاستفهامية ما يستفهم بها عن عدد مبهم يراد تعيينه ، نحو «كم رجلا سافر؟». ولا تقع إلّا في صدر الكلام ، كجميع أدوات الاستفهام.

ومميّزها مفرد منصوب ، كما رأيت. وإن سبقها حرف جرّ جاز جره ـ على ضعف ـ بمن مقدّرة ، نحو «بكم درهم اشتريت هذا الكتاب؟» أي بكم من درهم اشتريته؟ ونصبه أولى على كلّ حال. وجرّه ضعيف. وأضعف منه إظهار «من».

ويجوز الفصل بينها وبين مميّزها. ويكثر وقوع الفصل بالظّرف والجارّ والمجرور ، ونحو «كم عندك كتابا؟ كم في الدار رجلا؟». ويقلّ الفصل بينهما بخبرها ، نحو «كم جاءني رجلا؟» ، أو بالعامل فيها نحو «كمن اشتريت كتابا؟».

ويجوز حذف تمييزها ، مثل «كم مالك؟» أي كم درهما ، أو دينارا ، هو؟.

وحكمها ، في الإعراب ، أن تكون في محلّ جرّ ، إن سبقها حرف جرّ ، أو مضاف ، نحو «في كم ساعة بلغت دمشق؟» ، ونحو «رأي كم رجلا أّخذت؟» ، وأن تكون في محل نصب إن كانت استفهاما عن المصدر ، لأنها تكون مفعولا مطلقا ، نحو «كم إحسانا أحسنت؟» ، أو عن الظّرف ، لأنها تكون مفعولا فيه ، نحو كم يوما غبت؟ وكم ميلا سرت؟» ، أو عن المفعول به ، نحو «كم جائزة نلت؟» أو عن خبر الفعل الناقص ، نحو «كم إخوتك؟».

فإن لم تكن استفهاما عن واحد مما ذكر ، كانت في محل رفع على أنها مبتدأ أو خبر. فالأول نحو «كم كتابا عندك؟» ، والثاني نحو «كم كتبك؟». ولك في هذا أيضا أن تجعل «كم» مبتدأ وما بعدها خبرا. والأول أولى.

٢١٤

ومعظم النحويّين يقول : حملت على نقيضتها وهي : (ربّ) والحقّ ما خبرتك به ، وهو معنى كلامهم لأنّهم لا يعنون أنّ حكم الشيئين واحد لعلّة تضادّهما بل بين الضدّين معنى يشتركان فيه.

فصل : وبنيت على السكون ؛ لأنه الأصل ولم يوجد مانع من خروجه على ذلك.

فصل : وإنّما افتقرت (كم) إلى (مبيّن) ؛ لأنها اسم لعدد مبهم فيذكر بعدها ما يدلّ على الجنس المراد بها.

فصل : وإنّما ميّزت الاستفهامية بالمنصوب ؛ لأنها جعلت بمنزلة عدد متوسّط وهو من أحد عشر إلى تسعة وتسعين ؛ لأن المستفهم جاهل بالمقدار فجعلت للوسط بين القليل والكثير.

فصل : والحكمة في وضعها الاختصار والعموم الذي لا يستفاد بصريح العدد ، ألا ترى أنّك إذا قلت : (أعشرون رجلا جاءك؟) لم يلزمه أن يجيبك بكميّة بل يقول : (لا) أو : (نعم) ، وإذا قال : (لا) لم يحصل لك منه غرض السؤال مع الإطالة ، وإذا قلت : (كم رجلا جاءك؟) استغنيت عن لفظ الهمزة والعدد وألزمت الجواب بالكميّة.

فإن قيل : لو كانت : (كم) هنا للوسط من العدد لم جاز أن يبدل منها القليل ولا الكثير ، وقد جاز أن تقول : (كم رجلا جاءك؟ أخمسة أم أكثر؟ أو مائة أو أكثر؟).

قيل : الجيّد في مثل هذا أن يبدل منها العدد الوسط لما ذكرنا ، وإنّما جاز خلافه ؛ لأن (كم) مبهمة في نفسها تحتمل القليل والكثير والوسط ؛ ولهذا يصحّ الجواب بكّل منها ، وإنّما جعلت بمنزلة الوسط في نصب المميّز فقط.

فصل : وأمّا (كم) الخبريّة (١) فتجرّ ما بعدها ؛ لأنها اسم بيّن بعدد مجرور فكان هو الجار ك (مائة رجل) ونحوه.

__________________

(١) كم الخبريّة هي التي تكون بمعنى «كثير» وتكون إخبارا عن عدد كثير مبهم الكميّة ، نحو «كم عالم رأيت!» ، أي رأيت كثيرا من العلماء ولا تقع إلّا في صدر الكلام ، ويجوز حذف مميّزها ، إن دلّ عليه دليل ، نحو «كم عصيت أمري!» ، أي «كم مرّة عصيته!».

٢١٥

وذهب بعضهم إلى أنّه مجرور ب (من) محذوفة لأنّك تظهرها كقولك : كم من جبل ونحوه ، وكم من عبد ولّما عرف موضعها بقي عملها بعد حذفها كما في ربّ مع الواو والمذهب الأوّل أقوى ؛ لأن حرف الجرّ ضعيف فلا يبقى عمله بعد حذفه ؛ ولهذا كّل موضع حذفت فيه حرف الجرّ نصبته إلا في مواضع دعت الضرورة إلى تقدير عمل الحرف المحذوف ولا ضرورة ههنا ؛ لأن : (كم) اسم والإضافة من أحكام الأسماء.

فإن قلت : لو كان مضافا لأعرب ك (قبل) و (بعد)؟

قيل : هذا غير لازم ، فإنّ (لدن) مبنية مع الإضافة.

فصل : ولا تميز الاستفهاميّة إلا بالمفرد ؛ لأنها كالعدد الذي نابت عنه ، وأمّا الخبريّة فالجيّد فيها كذلك ؛ لأنها ك (مائة وألف) ويجوز أن تبيّن بالجمع حملا على العشرة وما دونها.

__________________

ـ ويجوز الفصل بينها وبين مميّزها. فإن فصل بينهما وجب نصبه على التّمييز ، لامتناع الإضافة مع الفصل ، نحو «كم عندك درهما!» ، ونحو «كم لك يا فتى فضلا!» أو جرّه بمن ظاهرة ، نحو «كم عندك من درهم!». ونحو «كم لك يا فتى من فضل!». إلّا إذا كان الفاصل فعلا متعدّيا متسلّطاعلى «كم» ، فيجب جرّه بمن ، نحو «كم قرأت من كتاب» ، كيلا يلتبس بالمفعول به فيما لو قلت «كم قرأت كتابا».

(وذلك لأن الجملة الأولى تدل على كثرة الكتب التي قرأتها ، والجملة الأخرى تدلّ على كثرة المرّات التي قرأت فيها كتابا. فكم في الصورة الأولى في موضع نصب على أنها مفعول به مقدم لقرأت ، وفي الصورة الأخرى في موضع نصب على أنها مفعول مطلق له. لأنها كناية عن المصدر ، والتقدير كم قراءة قرأت كتابا فيكون تمييزها محذوفا).

ويجوز في نحو «كم نالني منك معروف!» ، أن ترفعه على أنه فاعل «نال» ، فيكون تمييز «كم» مقدّرا ، أي «كم مرّة!». ويجوز أن تنصبه على التمييز ، فيكون فاعل «نال» ضميرا مستترا يعود إلى «كم».

وحكم «كم» الخبريّة ، في الإعراب ، كحكم «كم» الاستفهامية تماما ، والأمثلة لا تخفى.

واعلم أنّ «كم» الاستفهامية مو «كم» الخبريّة ، لا يتقدّم عليهما شيء من متعلّقات جملتيهما ، إلا حرف الجرّ والمضاف ، فهما يعملان فيهما الجرّ. فالأولى نحو «بكم درهما اشتريت هذا الكتاب؟» ونحو «ديوان كم شاعرا قرأت؟» ، والثانية نحو «إلى كم بلد سافرت!» ونحو «خطبة كم خطيب سمعت فوعيت!».

وحكم مميّزها أن يكون مفردا ، نكرة ، مجرورا بالإضافة إليها أو بمن ، نحو «كم علم قرأت!» ونحو «كم من كريم أكرمت!». ويجوز أن يكون مجموعا ، نحو «كم علوم أعرف!». وإفراده أولى.

٢١٦

فصل : ومن العرب من ينصب ما بعد الخبرية كما ينصب بعد مائة إذا نوّن كقول الشاعر (١) : [الوافر]

إذا عاش الفتى مائتين عاما

فقد ذهب اللذاذة والفناء

ومنهم من يجرّ بالاستفهاميّة حملا على الخبريّة.

__________________

(١) البيت من شعر الربيع بن ضبع الفزاري : (٧ ق. ه / ٦١٥ م) وهو الربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة. كان من الخطباء الجاهليين ، ومن فرسان فزارة المعدودين وشعرائهم ، شهد يوم الهباءة وهو ابن مائة عام ، وقاتل في حرب داحس والغبراء.

قيل : أنه أدرك الإسلام وقد كبر وخرف ، وقيل أنه أسلم ، وقيل منعه قومه أن يسلم.

٢١٧

باب العدد

أنّما لم يضف : (واحد واثنان) إلى مميّز لما فيه من إضافة الشيء إلى نفسه كقولك : (أثنا رجلين) ولأنّ قولك : (رجل ورجلان) يدلّ على الكّميّة والجنس ، وليس كذلك : (رجال) ؛ لأنه يقع على القليل والكثير فيضاف العدد إليه فتعلم الكمّيّة بالمضاف والجنس بالمضاف إليه (١).

فصل : وإنّما ثبتت (الهاء) في العدد من الثلاثة إلى العشرة في المذكّر دون المؤنث للفرق بين المذكّر والمؤنّث المميّزين ، وكان المذكّر بالتاء أولى لوجهين :

أحدهما : أنّ العدد جماعة ، والجماعة مؤنثة ، والمذكّر هو الأصل ، فأقّرت العلامة على التأنيث في المذكّر الذي هو الأصل وحذفت في المؤنّث لأنه فرع.

والثاني : أنّ الفرق لا يحصل إلا بزيادة ، والزيادة يحتملها المذكّر لخفّته ؛ ولذلك منع التأنيث من الصرف لثقله.

وقيل : المعدود ملتبس بالعدد وإضافته كاللازم ، فأغنى تأنيث المضاف إليه عن تأنيث العدد وخرج في المذكّر على ألاصل.

فصل : وإنّما أضيف هذا العدد إلى جموع القلّة لاشتراكهما في العلّة وجموع القلّة جمع التصحيح وأربعة من التكسير وهي : (أفعل وأفعال وأفعلة وفعلة) وما جاء فيه من جموع الكثرة فعلى خلاف الأصل.

فصل : وإنّما سكّنت الشين من (عشر) إذا أضيفت إلى المؤنّث وهي مفتوحة في المذكّر لثقل التأنيث ؛ إذ كانت الحركة كالحرف في بعض المواضع.

فصل : وإنّما بني من : (أحد عشر) إلى : (تسعة عشر) غير : (أثني عشر) لتضمّنه معنى واو العطف ، والأصل ثلاثة وعشرة فركّب اختصارا ومعنى العطف باق في الاسم يبنى لتضّمنه

__________________

(١) الواحد والأثنان وما وازن فاعلا كثالث والعشرة مركبة يذكّرن مع المذكّر ويؤنّثن مع المؤنّث والثّلاثة والتّسعة وما بينهما مطلقا والعشرة مفردة بالعكس وتمييز المائة وما فوقها مفرد مخفوض والعشرة مفردة وما دونها مجموع مخفوض إلا المائة فمفردة وكم الخبرية كالعشرة والمائة والإستفهاميّة المجرورة كالأحد عشر والمائة ولا يميز الواحد والاثنان وثنتا حنظل ضرورة.

٢١٨

معنى الحرف. وإنّما حرّك الاسمان ؛ لأن لهما أصلا في الإعراب والبناء حادث وكانت الفتحة أولى لوجهين :

أحدهما : أنّ الاسم طال.

والثاني : أنّ الاسم الثاني بمنزلة : (تاء التأنيث) إذ كان مزيدا على الأوّل لمعنى ويفارقه في بعض المواضع وتاء التأنيث تفتح ما قبلها فكذلك هذا.

فصل : فأمّا : (اثنا عشر) فالاسم الأوّل معرب لأوجه :

أحدها : أنّهم أرادوا الدلالة على أنّ الأصل في هذه الأعداد الإعراب كما صححّوا الواو في : (قود) و (استحوذ).

والثاني : أنّ علامة الإعراب هي حرف التثنية ، فلو أبطلت لبطل دليل التثنيه.

والثالث : أنّ ما عداه من المركّب جرى مجرى الاسم الواحد وإعراب الاسم الواحد لا يكون في وسطه.

وأمّا : (اثنان) فبغير تاء في المذكّر وبتاء في المؤنّث كما كان قبل التركيب ويجوز في المؤنّث حذف الهمزه وإثباتها.

فصل : وأما : (عشر) ههنا فبنيت لوقوعها موقع النون المحذوفه من : (اثني) لا على جهة الإضافه فبنيت كما أنّ النون مبنيّه ويدلّ على أنّه غير مضاف أنّ الحكم المنسوب إلى المضاف غير منسوب إلى المضاف إليه كقولك : (قبضت درهم زيد) والحكم هنا منسوب إلى الاثنين والعشرة كقولك : قبضت اثني عشر درهما.

فصل : وإنّما ثبتت (التاء) من : (ثلاثة عشر) إلى : (تسعة عشر) ؛ لأنها كذلك في مرتبة الآحاد وحذفت من (عشر) لئلّا تجتمع علامتا تأنيث وعكس ذلك في المؤنّث حملا على (ثلاث نسوة) وثبتت التاء في (عشرة) لئلّا يخلو الاسم من علامة التأنيث ، وقيل : ثبتت فيه التاء ليوافق الاسم المميّز بعده إذ كان للمجاورة أثر في الموافقة.

٢١٩

فصل : أمّا : (أحد عشر) (١) في المذكّر فلا علامة للتأنيث فيه ؛ لأن (أحدا) قبل التركيب لا علامة فيه فبقي على ذلك ، وأمّا (عشر) فبغير تاء كما ذكرنا في (ثلاثة عشر) ، وأمّا في المؤنّث فثبتت العلامتان ؛ لأن (إحدى) قبل التركيب تلحقها علامة التأنيث كقولك : (واحدة) و (إحداهما) فبقيت عليها في التركيب ، وأمّا (عشرة) فالتاء لما ذكرنا في (ثلاث عشرة) ولهذه العلّة قلت في المؤنّث (اثنتا عشرة) بالعلامتين.

فصل : وأمّا (عشرون) فاسم موضوع لعشرتين ، وليس بجمع تصحيح على التحقيق ؛ لأن أقلّ هذا الجمع ثلاثة ، فلو كان (عشرون) جمع تصحيح لكان أقلّ ما يقع عليه ثلاث عشرات.

وحكي عن الخليل أنّه جمع (عشر) من أظماء الإبل ، وذلك أن العشر منها ثمانية ؛ لأنها ترد الماء يوما وتتركه ثمانية وترده اليوم العاشر فلا يحتسب بيومي الورود فتكون العشرون عشرين ونصفا فجمع على التكميل ، وفي هذا القول بعد.

وأمّا كسر العين من (عشرين) فقيل : كان الأصل أن يقال : (عشرتان) وهم اثنتان من هذه المرتبة فكسر كما كسر أوّل اثنين.

وقيل : العشرة تؤنّث وجمعها لا يؤنّث فكسر أوّله في الجمع عوضا من التأنيث إذ كان يؤنّث بالياء نحو تضربين والكسرة من جنس الياء.

وأمّا على قول الخليل فالكسرة فيه كسرة الواحد.

فصل : وأمّا (ثلاثون) إلى : (تسعين) فأسماء مشتقّة من ألفاظ مرتبة الآحاد وليس (ثلاثون) جمع (ثلاث) إذ لو كان كذلك لكان أقلّ ما يقع عليه ثلاثون (تسعة) ؛ لأنها ثلاث ثلاثات.

__________________

(١) هذا النوع ما يحتاج الى تمييز مفرد منصوب وهو الأحد عشر والتّسعة والتّسعون وما بينهما نحو : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) وأما قوله تعالى (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) فليس (أسباطا) تمييزا بل بدل من (اثنتي عشرة) والتمييز محذوف أي اثنتي عشرة فرقة.

وما يحتاج الى تمييز مفرد مخفوض وهو المائة والألف تقول عندي مائة رجل وألف رجل. ويلتحق بالعدد المنتصب تمييزه تمييزكم الاستفهامية وهي بمعنى أيّ عدد ولا يكون تمييزها الا مفردا تقول كم غلاما عندك ولا يجوزكم غلمانا خلافا للكوفيين.

٢٢٠