اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

فصل : وأمّا (المائة) وما تكرّر منها فتضاف ؛ لأنها عدد مفرد فأضيف إلى ممّيزه كالعشرة وما دونها ، وإنّما كان المميّز مفردا ؛ لأن المائة أقرب إلى ما تمّم بالمفرد وهو تسعون فقد جمعت شبه الآحاد والعشرات.

فصل : وكان القياس أن يقال : (ثلاث مئات أو مئين) وكذا إلى تسعمائة كما تقول : (ثلاث نسوة) إلا أنّهم أضافوها إلى الواحد حيث طال الكلام بإلاضافة إلى (المائة) وإضافة المائة للدرهم ونحوه ولأنّ المميّز مفرد ، فلو جمعوا : (مائة) وهي عدد لأضافوا جمع العدد إلى المميّز المفرد ، وليس له أصل ؛ لأن مرتبة الآحاد تضاف إلى الجمع.

فصل : فأمّا : (الألف) فكالمائة ؛ لأنها تليها ، وإنّما قالوا ثلاثة آلاف درهم فأضافوا إلى الجمع ؛ لأن مرتبة الآلاف كمرتبة الآحاد إذ لم تكن مرتبة رابعة ؛ ولذلك يبقى لفظ العشرة والمائة فيها بخلاف المراتب الأول فإنّ كلا منها إذا جاوز التسعة تجدّد له اسم لم يكن.

فصل : إذا أردت تعريف العدد المضاف أدخلت أداة التعريف على الاسم الثاني : فتعرّف به الأوّل نحو : ثلاثة الرجال ومائة الدرهم كقولك : غلام الرجل ، ولا يجوز : (الخمسة دراهم) ؛ لأن الإضافة للتخصيص وتخصيص الأوّل باللام يغيه عن ذلك.

فأمّا ما لم يضف منه فأداة التعريف في الأوّل نحو : الخمسة عشر درهما. إذ لا تخصيص هنا بغير اللام ، وقد جاء شيء على خلاف ما ذكرناه وهو شاذّ عن القياس والاستعمال فلا يقاس عليه.

٢٢١

باب النداء

يجوز كسر نون النداء وضمّها مثل : (الهتاف) و (الهتاف) ولام النداء (واو) لقولهم ندوت القوم إذ جلست معهم في النادي ، وهو مجلسهم الذي ينادي فيه بعضهم بعضا ومصدره الندوة.

فصل : وحروفه : (ياء) و (أي) و (أيا) و (هيا) و (الهمزة) ، وفي الندبة حرف آخر وهو : (وا) والغرض منها تنبيه المدعوّ ليسمع حديثك فأمّا نداء الديار وغيرها فعلى طريقة التذكّر والتذكير.

فصل : والنداء تصويت لا يحتمل التصديق والتكذيب ، وقيل : أن كان يصفه نحو ياء فسق ويا فاضل كان خبرا لاحتماله ذلك وهذا يوجب أن يكون خبرا في الأعلام لأنّك إذا أقبلت على إنسان فقلت : يا زيد أمكن أن يقول كذبت لست زيدا.

فصل : والمنادى منصوب اللفظ والموضع واختلف في ناصبه فقال بعضهم : الناصب له فعل محذوف لم يستعمل إظهاره وهو : (أنادي وأدعو وأنّبه) ونحو ذلك وذلك ؛ لأن (يا) حرف والأصل في الحروف ألا تعمل ، ولأنّها لو عملت لكان لشبهها بالفعل وشبهها بالفعل ضعيف لقلّة حروفها لا سيّما الهمزة التي هي على حرف واحد فتعيّن أن يكون العامل فعلا لكنّه استغني عن إظهاره لدلالة : (يا) عليه (١).

وقال آخرون : العامل فيه حرف النداء ؛ لأنه أشبه الفعل من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) وحكم المنادى أنه منصوب ، إمّا لفظا ، وإمّا محلا.

وعامل النّصب فيه ، إمّا فعل محذوف وجوبا ، تقديره «أدعو» ، ناب حرف النداء منابه ، وإمّا حرف النداء نفسه لتضمنه معنى «أدعو» ، وعلى الأول فهو مفعول به للفعل المحذوف ، وعلى الثاني فهو منصوب ب «يا» نفسها.

فينصب لفظا (بمعنى أنه يكون معربا منصوبا كما تنصب الأسماء المعربة) إذا كان نكرة غير مقصودة ، أو مضافا ، أو شبيها به ، فالأول نحو «يا غافلا تنبّه» ، والثاني نحو «يا عبد الله» ، والثالث نحو «يا حسنا خلقه».

وينصب محلا (بمعنى أنه يكون مبنيا في محلّ نصب) إذا كان مفردا معرفة أو نكرة مقصودة ، فالأول نحو «يا زهير» ، والثاني نحو «يا رجل». وبناؤه على ما يرفع به من ضمّة أو ألف أو واو ، نحو «يا علي. يا موسى. يا رجل. يا فتى. يا رجلان. يا مجتهدون.

٢٢٢

أحدها : أنّ معناه معنى الفعل بل أقوى من حيث أنّ لفظ الفعل عبارة عن الفعل الحقيقيّ كقولك : (ضرب) و (يا) هي العمل نفسه وتعبّر عنه ب (نادى).

والثاني : أنّها أميلت ، وليس ذاك إلا لشبهها بالفعل.

والثالث : أنّه يعلّق بها حرف الجرّ في قولك : يا لزيد وحرف الجرّ لا يتعلّق إلا بالفعل أو ما عمل عمله.

وأمّا عملها في الخبر ففيه اختلاف سنذكره على أنّ عملها فيه لا يوجب بناءه ؛ لأن علّة البناء وجدت في الاسم دون الخبر ويدلّ عليه أنّ البناء لأجل التركيب ، ونحن نجعل الاسمين المركّبين بمنزلة اسم واحد وهو مع هذا مخالف للقياس فكيف نجعل ثلاثة أشياء بمنزلة شيء واحد.

وأمّا البناء ففير حادث ب (لا) من حيث هي عاملة بل حادث بالتركيب وتضّمنه معنى الحرف كما أنّ (يا) في النداء تعمل النصب في المعرب ؛ فإذا دخلت على المفرد بني لا بها بل بشيء آخر ، وأمّا جعل حركة المبنيّ هنا الفتح ففيه أوجه :

أحدها : أنّ الفتح اختير لطول الاسم بالتركيب كما اختير في خمسة عشر.

والثاني : أنّ النفي هنا لمّا خرج عن نظائره خرج البناء عن نظائره.

والثالث : أنّهم لو بنوه على الكسر لكانت مثل الحركة التي يستحقّها هذا الاسم في الأصل إذ أصله لا من رجل ، ولو بني على الضمّ لكانت حركته في حال عمومه كالحركة في حال خصوصه ففرّقوا بينهما وعدلوا إلى الفتح.

ويدلّ على فساد مذهب من قال هو معرب : أنّه لو كان كذلك لنون كما ينوّن اسم إنّ.

فإن قيل : إنّما لم ينّون ؛ لأن (لا) ضعفت إذ كانت فرع فرع فرع ، وذلك أنّ (كان) فرع في العمل على الأفعال الحقيقّة و (إنّ) فرع على (كان) ، و (لا) فرع على (إنّ) ، فلمّا ضعف خولف باسمها بقيّة المعربات.

فصل : وإنّما بني المفرد العلم في النداء والنكرة المقصودة لوجهين :

٢٢٣

أحدهما : أنّه صار مع حرف النداء كالأصوات نحو : (حوب) و (هيد) و (هلا) زجر الإبل و (عدس) في زجر البغال ؛ لأن الغرض من الجميع التنبيه ، وليس بمخبر عنه ولا متصل بمخبر عنه ؛ ولذلك بنيت حروف التهجّي.

والثاني : أنّه أشبه المضمر في أنّه مخاطب غير مضاف والأصل في كلّ مخاطب أنّ يذكر بضمير الخطاب كقولك : أنت يا أنت ، وقد جاء ذلك في النداء قال (١) : [الرجز]

يا أبحر بن أبحر يا أنتا

أنت الّذي طلّقت عام جعتا

والواقع موقع المبنيّ يبنى (٢).

__________________

(١) البيت من شعر الأحوص الأنصاري : (١٠٥ ه‍ / ٧٢٣ م) وهو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم الأنصاري. من بني ضبيعة ، لقب بالأحوص لضيق في عينه.

شاعر إسلامي أموي هجّاء ، صافي الديباجة ، من طبقة جميل بن معمر ونصيب ، وكان معاصرا لجرير والفرزدق. وهو من سكان المدينة. وفد على الوليد بن عبد الملك في الشام فأكرمه ثم بلغه عنه ما ساءه من سيرته فردّه إلى المدينة وأمر بجلده فجلد ونفي إلى دهلك (وهي جزيرة بين اليمن والحبشة) كان بنو أمية ينفون إليها من يسخطون عليه.

فبقي بها إلى ما بعد وفاة عمر بن عبد العزيز وأطلقه يزيد بن عبد الملك ، فقدم دمشق ومات بها ، وكان حماد الراوية يقدمه في النسيب على شعراء زمنه.

(٢) بعض أحكام للمنادى المبني المستحق البناء.

١ ـ إذا كان المنادى ، المستحقّ للبناء ، مبنيّا قبل النداء ، فإنه يبقى على حركة بنائه. ويقال فيه إنه مبنيّ على ضمّة مقدّرة ، منع من ظهورها حركة البناء الأصليّة ، نحو «يا سيبويه. يا حذام. يا خباث. يا هذا. يا هؤلاء».

ويظهر أثر ضمّ البناء المقدّر في تابعه ، نحو «يا سيبويه الفاضل. يا حذام الفاضلة. يا هذا المتجهد. يا هؤلاء المجتهدون».

٢ ـ إذا كان المنادى مفردا علما موصوفا بابن ، ولا فاصل بينهما ، والابن مضاف إلى علم ، جاز في المنادى وجهان ضمّه للبناء ونصبه ، نحو «يا خليل بن أحمد. ويا خليل بن أحمد». والفتح أولى. أمّا ضمّه فعلى القاعدة ، لأنه مفرد معرفة. وأما نصبه فعلى اعتبار كلمة «ابن» زائدة ، فيكون «خليل» مضافا و «أحمد» مضافا إليه. وابن الشخص يضاف إليه ، لمكان المناسبة بينهما. والوصف بابنة كالوصف بابن ، نحو «يا هند ابنة خالد. ويا هند ابنة خالد».

أمّا الوصف بالبنت فلا يغيّر بناء المفرد العلم ، فلا يجوز معها إلا البناء على الضمّ ، نحو «يا هند بنت خالد».

ويتعيّن ضمّ المنادى في نحو «يا رجل ابن خالد. ويا خالد ابن أخينا» لانتفاء علميّة المنادى ، في الأول ، وعلميّة المضاف إلى ابن في الثاني ، لأنك ، إن حذفت ابنا ، فقلت «يا رجل خالد ، ويا خالد أخينا» ، لم يبق ـ

٢٢٤

فصل : وإنّما بني على حركة ؛ لأن بناءه عارض فحرّك لينفصل عمّا بناؤه لازم وحرّك بالضمّ لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه قوي بذلك زيادة في التنبيه على تمكّنه.

والثاني : أنّ المنادى يكسر إذا أضيف إلى الياء ويفتح إذا أضيف إلى غيرها فضمّ في الإفراد لتكمل له الحركات كما فعلوا ذلك في قبل وبعد.

والثالث : أنّهم لو فتحوه أو كسروه لالتبس بالمضاف فصاروا إلى ما لا لبس فيه.

فصل : وإنّما أعرب المضاف والمشابه له والنكرة غير المقصودة على الأصل ولم يوجد المانع من ذلك ، فإنّ المانع في المفرد شبهه بالمضمر والمضاف لا يشبه المضمر لأمرين :

أحدهما : أنّ المضمر لا يضاف.

والثاني : أنّ تعريف المضاف بالإضافة وتعريف المضمر هنا بالخطاب ، وكذلك المشابه للمضاف طال طولا فارق به المضمر أو عمل فيما بعده والمضمر لا يعمل وكذا النكرة الشائعة لا تقع موقع المضمر فهذا لبيان عدم الموجب للبناء.

ويمكن أن يقال : علّة البناء موجودة وهي ما تقدّم ولكن تعذّر البناء في المضاف إلى ياء المتكلم بتلك العلّة ؛ لأنه بني لعلّة أخرى والمضاف إلى غيره صار كالمنوّن ؛ لأنه المضاف إليه

__________________

للاضافة معنى. وكذا يتعيّن ضمّه في نحو «يا عليّ الفاضل ابن سعيد» ، لوجود الفصل ، لأنه لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه.

٣ ـ إذا كرّر المنادى مضافا ، فلك نصب الاسمين معا ، نحو «يا سعد سعد الأوس» ، ولك بناء الأول على الضم ، نحو «يا سعد سعد الأوس». أما الثاني فهو منصوب أبدا.

(أما نصب الأول ، فعلى أنه مضاف إلى ما بعد الثاني ، والثاني زائد للتوكيد ، لا أثر له في حفض ما بعده. أو على أنه مضاف لمحذوف مماثل لما أضيف اليه الثاني. وأما بناؤه (أي بناء الأول) على الضم ، فعلى اعتباره مفردا غير مضاف. وأما نصب الثاني ، فلأنه على الوجه الأول توكيد لما قبله ، وعلى الوجه الثاني بدل من محل أو عطف بيان).

٤ ـ المنادى المستحقّ البناء على الضمّ ، إذا اضطرّ الشاعر إلى تنوينه جاز تنوينه مضمونا أو منصوبا. ويكون في الحالة الأولى مبنيّا ، وفي الثانية معربا منصوبا كالعلم المضاف ، فمن الأول قول الشاعر :

سلام الله يا مطر عليها

وليس عليك يا مطر السّلام

٢٢٥

يحلّ محلّ التنوين والتنوين لا يكون بعد حركة البناء ولأنّه لو بني الأوّل لم يكن عاملا في الثاني ، ولو بنيا لفسد الأمرين.

أحدهما : أنّ النداء دخل على الأوّل دون الثاني.

والثاني : أنّهما كانا يكونان كالمركّب.

فصل : وإنّما جاز في صفة المبني المفرد هنا النصب على الموضع ؛ لأن موضع الموصوف نصب ويجوز رفعها حملا على لفظ الموصوف وجاز ذلك في المنادى دون غيره من المبنيّات ؛ لأن حركة البناء فيه تشبه حركة المعرب ؛ لأنه مطرد مع (يا) لا يكون مع غيرها كما لا تحذف حركة الإعراب إلا بعامل ؛ ولذلك جاز حمل وصف (لا) على الموضع تارة وعلى اللفظ أخرى بخلاف : (أمس) و (هؤلاء) فإنّهما مبنيّان على كلّ حال لا عند شيء يشبه العامل.

فصل : فأمّا الصفة المضافة فليس فيها غير النصب ؛ لأن الصفة لا تزيد على الموصوف والموصوف المضاف ينصب البتّة فالصفة أولى.

فصل : والمعطوف الذي فيه الألف واللام وهو جنس كالصفة في الوجهين كقوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] ؛ لأن : (يا) لا تليه فصار كالصفة.

فأمّا الألف واللام في القياس ونحوه فكذلك ، وقال المبرّد : الرفع فيه أحسن ؛ لأنه علم والألف واللام فيه زائد أو في حكم الزائد.

فصل : فإن كان المعطوف ليس فيه لام التعريف فله حكم نفسه فتقدّر معه (يا) كقولك : يا زيد وعمرو ، ويا زيد وعبد الله ، لأنّك تقدر أن تقول : ويا عمرو ، وأجاز قوم النصب فيه بكلّ حال حملا على الموضع.

فصل : والتوكيد كالوصف فيجوز في المفرد الرفع والنصب كقولك : يا تميم أجمعون وأجمعين ، فإن كان مضافا نصبت البتة كالصفه كقولك : يا تميم كلّكم فتنصب ويجوز ب (الكاف) ؛ لأنه مخاطب وب (الهاء) ؛ لأن الاسم الظاهر غائب فيعود الضمير إليه بلفظ الغيبة.

فصل : ولا تدخل (ياء) على الألف واللام لأمرين (١) :

__________________

(١) إذا أريد نداء ما فيه «أل» ، يؤتى قبله بكلمة «أيّها» للمذكر ، و «أيّتها» للمؤنث. وتبقيان مع التثنية والجمع بلفظ واحد ، مراعى فيهما التذكير والتأنيث ، أو يؤتى باسم الإشارة. فالأول كقوله تعالى (يا أَيُّهَا

٢٢٦

[أحدهما] : أنّ (الألف واللام) للتعريف و (يا) مع القصد إلى المنادى تخصّصه وتعنيّه ولا يجتمع أداتا تعريف.

والوجه الثاني : أنّ (اللام) لتعريف المعهود والمنادى مخاطب فهما مختلفان في المعنى ، وقد جاء ذلك في ضرورة الشعر قال : [الرجز]

فيا الغلامان اللذان فرّا

أيّاكما أن تكسبانا شرّا

وأمّا قول الآخر :

أحبّك يا التّي تيّمت قلبي

وأنت بخيلة بالودّ عنّي

فقيل هو من هذا الباب ، وقيل : الألف واللام فيه زائدتان وتعريف الموصول بالصلة.

وأمّا اسم الله تعالى فتدخل عليه لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الألف واللام فيه لغير التعريف ؛ لأنه سبحانه واحد لا يتعدّد فيحتاج إلى التعيين ودخول (يا) عليه للخطاب.

والثاني : أن الألف واللام عوض من همزة (إله) ، وذلك أنّ الأصل فيه (الإله) فحذفت الهمزة حذفا عند قوم ، وعند آخرين ألقيت حركتها على (اللام) ثمّ أدغمت إحداهما في الأخرى فنابت اللام عن الهمزة فأجتمعت مع (يا) من هذا.

الوجه والثالث : أنّه كثر استعمالهم هذه الكلمة فخفّ عليهم إدخال (يا) عليها.

__________________

الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وقوله (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) والثاني نحو «يا هذا الرجل. يا هذه المرأة» إلا إذا كان المنادى لفظ الجلالة. لكن تبقى «أل» وتقطع همزتها وجوبا ، نحو «يا الله». والأكثر معه حذف حرف النداء والتعويض منه بميم مشدّدة مفتوحة ، للدلالة على التعظيم نحو «اللهمّ ارحمنا». ولا يجوز أن توصف «اللهمّ» ، على على اللفظ ولا على المحلّ ، على الصحيح ، لأنه لم يسمع. وأما قوله تعالى (قُلِ اللهُمَّ ، فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فهو على أنه نداء آخر ، قل اللهمّ ، يا فاطر السموات.

وإذا ناديت علما مقترنا بأل وضعا حذفتها وجوبا فتقول في نداء العبّاس والفضل والسّموأل «يا عبّاس. يا فضل. يا سموأل».

٢٢٧

وقد اختص هذا الاسم بأشياء لا تجوز في غيره منها (يا) ومنها تفخيم (لامه) إلا إذا انكسر ما قبلها ومنها قطع همزته في النداء ، وفي القسم إذا قلت : (أفألله) ومنها اختصاصه ب (تاء القسم) ومنها لحوق (الميم) في آخره.

فصل : وأمّا قولهم : يا أيّها الرجل ف (أيّ) مفرد منادى مبنيّ ، وفي (ها) وجهان :

أحدهما : أنّهم أتوا بها عوضا من المضاف إليه ؛ لأن حقّ (أي) أن تضاف.

والثاني : أنها دخلت للتنبيه لتكون ملاصقة للرجل حيث امتناع دخول (يا) عليه.

وأمّا الرجل فصفة لأيّ على اللفظ ؛ لأنه المنادى في المعنى ؛ ولذلك لا يسوغ الاقتصار على (أيّها).

وإنّما أتي ب (أيّ) هنا توصّلا إلى نداء ما فيه الألف واللام ومن هنا لم يجز نصبه عند الجمهور وأجازه المازنيّ كسائر الصفات ، وإنّما اختاروا (أيّا) هنا ؛ لأنها اسم معرب فيه إبهام يصلح لكل شيء.

فصل : فإن وصفت الرجل هنا رفعت الصفة وإن كانت مضافة ؛ لأن الموصوف معرب ، وإذا حملت تلك الصفة على موضع (أيّ) جاز النصب والرفع في المفرد ولم يكن في المضاف إلى النصب.

فصل : والميم الزائدة في قولك : (اللهم) (١) عوض من (يا) وقال الكوفيّون : أصله : (يا الله أمّنا بخير) وهو غلط لوجهين :

أحدهما : أنّه لو كان كذلك لكثر الجمع بينهما ولمّا لم يأت ذلك إلا في الضرورة علم أنّه عوض فلم يجمع بينه وبين المعوض.

__________________

(١) تستعمل «اللهمّ» على ثلاثة أنحاء :

(الأول) أن تكون للنداء المحض ، نحو «اللهمّ اغفر لي».

(الثاني) أن يذكرها المجيب تمكينا للجواب في نفس السامع ، كأن يقال لك «أخالد فعل هذا؟» ، فتقول «اللهم نعم».

(الثالث) أن تستعمل للدلالة على الندرة وقلة وقوع المذكور معها ، كقولك للبخيل «إن الأمة تعظمك ، اللهم ان بذلت شطرا من مالك في سبيلها».

٢٢٨

والثاني : أنّه يصحّ أن يقع بعد هذا الاسم : (أمّنا بخير) وما أشبهه كقولك : اللهم أغفر لي وأن يقع بعده ضدّ هذا المعنى كقولك : اللهم العن فلانا ، وما أشبهه.

فصل : العلم إذا نودي بقي على تعريفه ومنهم من قال ينكّر ثّم يتعرّف بالقصد والإشارة وحجّة الأوّل من وجهين :

أحدهما : أنّك تنادي من لا يشاركه غيره في اسمه كقولك : (يا الله) و (يا فرزدق) ، ولو تنكّر لصار له نظائر فيتعيّن بالقصد.

والثاني : أنّ (يا) تدخل على النكرة غير المقصودة نحو : (يا رجلا) ، ولو كانت (يا) تحدث التعريف لحدث بها هنا ، وكذلك المضاف نحو يا عبد الله وتعريفه بالإضافة لا بالقصد.

واحتجّ الآخرون بأنّ (يا) تحدث التعريف في النكرة المقصودة فكذلك في العلم تحدثه بالخطاب ولن يصحّ ذلك إلا بنزع التعريف الأوّل ؛ ولذلك لم تدخل على الألف واللام.

فصل : إذا كان المنادى علما أو كنية ووصف ب (ابن) مضاف إلى علم أو نكرة جاز فيه الضمّ على الأصل والفتح اتباعا لفتحة نون ابن ولا يكون ذلك في غير هذا الموضع ؛ لأن العلم والكنية يكثر استعمالهما مع الوصف ب (ابن) للحاجة إلى التعريف بالنسب فيصير الموصوف والصفة كشيء واحد فيفتحان كالمركّب.

فصل : وتدخل (لام الاستغاثة) على المنادى إعلاما بالاستغاثة إذ ليس كلّ منادى مستغاثا به وتتعلّق بحرف النداء وتفتح كما تفتح مع ضمير المخاطب.

فأمّا : (لام المستغاث له) فتكسر ؛ لأنه غير واقع موقع الضمير.

وأمّا المعطوف على المستغاث به فتكسر لامه ؛ لأن واو العطف تغني عن الفرق بفتح اللام فتكسر كما تكسر مع كلّ ظاهر.

فصل : ويحذف حرف النداء من كلّ منادى إلا النكرة والمبهم أمّا النكرة فإنّها لا تتعرّف هنا إلا ب (يا) الدالّة على القصد والإشارة ؛ فإذا لم تكن بقي على تنكيره ؛ ولذلك إذا أرادوا تعريفه باللام جاؤوا ب (يا أيّها) ، فلو حذفوا للحق الإجحاف.

وأمّا المبهم فلشدّة إبهامه يحتاج إلى مخصص ، فلو حذف المخصّص لبقي على إبهامه ؛ ولذلك جاز أن يكون المبهم وصفا ل (أيّ) في النداء كما كان اسم الجنس.

٢٢٩

فصل : إذا ناديت المضاف إلى نفسك وكان الأوّل صحيحا فلك فيه أوجه :

أحدها : حذف الياء نحو : يا غلام ؛ لأن الكسرة تدلّ عليها في الإثبات.

والثاني : إثباتها ساكنة على الأصل.

والثالث : فتحها ؛ لأن حقّ ياء الضمير الفتح كالكاف.

والرابع : إبدال الفتحة كسرة والياء الفا ليمتدّ الصوت زيادة مدّ.

والخامس : حذفها وضمّ الميم وتريد في هذا الوجه ما أردت في الإضافة (١).

__________________

(١) المنادى المضاف إلى ياء المتكلم على ثلاثة أنواع اسم صحيح الآخر ، واسم معتلّ الآخر ، وصفة.

والمراد هنا اسم الفاعل واسم المفعول ومبالغة اسم الفاعل.

فإن كان المضاف إلى الياء اسما صحيح الآخر ، غير أب ولا أم ، فالأكثر حذف ياء المتكلم والاكتفاء بالكسرة التي قبلها ، كقوله تعالى (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ.) ويجوز إثباتها ساكنة أو مفتوحة ، كقوله عزوجل (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ) وقوله (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ). ويجوز قلب الكسرة فتحة والياء ألفا ، كقوله تعالى (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ.)

وإن كان المضاف إلى (الياء) معتلّ الآخر ، وجب إثبات الياء مفتوحة لا غير ، نحو «يا فتاي. يا حاميّ».

وإن كان المضاف إليها صفة صحيحة الآخر ، وجب إثباتها ساكنة أو مفتوحة ، نحو «يا مكرمي. يا مكرمي».

وإن كان المضاف إليها أبا أو أمّا ، جاز فيه ما جاز في المنادى الصحيح الآخر ، فتقول «يا أب ويا أمّ. يا أبي ويا أمي. يا أبي ويا أمي. يا أبا ويا أمّا «ويجوز فيه أيضا حذف ياء المتكلم والتّعويض عنها بتاء التأنيث مكسورة أو مفتوحة ، نحو «يا أبت ويا أمّت. يا أبت يا أمّت». ويجوز إبدال هذه التاء هاء في الوقف ، نحو «يا أبه ويا أمّه».

وإن كان المنادى مضافا إلى مضاف إلى ياء المتكلم ، فالياء ثابتة لا غير ، نحو «يا ابن أخي. يا ابن خالي» إلّا إذا كان «ابن أمّ» أو «ابن عمّ» فيجوز إثباتها ، والأكثر حذفها والاجتزاء عنها بفتحة أو كسرة. وقد قريء قوله تعالى (قالَ ابْنَ أُمَّ ، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ،) وقوله (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ،) بالفتح والكسر. فالكسر على نيّة الياء المحذوفة ، والفتح على نيّة الألف المحذوفة التي أسلها ياء المتكلم. ومثل ذلك يقال في «يا ابن عمّ» قال الراجز :

كن لي لا عليّ ، يا ابن عمّا

نعش عزيزين ، ونكفى الهمّا

ويجري هذا أيضا مع «ابنة أمّ» و «ابنة عم».

واعلم أنهم لا يكادون يثبتون ياء المتكلم ، ولا الألف المنقلبة عنها ، إلا في الضرورة ، فإثبات الياء كقوله

يا ابن أمّي ، ويا شقيّق نفسي أنت خلّقتني لدهر شديد

وإثبات الألف المنقلبة عنها ، كقول الآخر :

يا ابنة عمّا ، لا تلومي واهجعي

لا يخرق اللّوم حجاب مسمعي

٢٣٠

فإن كان بين الياء والاسم المنادى اسم آخر لم تحذف نحو : يا غلام أخي ويا ابن صاحبي ؛ لأن الوسط ليس بمنادى ، وقد جاء الحذف في : يا ابن عمي ، ويا ابن أمّي ، ويا ابن صاحبي ، وفيه أيضا الوجوه التي ذكرت في غلام إلا أنّ منهم من يحذف الياء ويفتح الميم فيقول : (يا ابن أمّ) وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه ركّب الاسمين كخمسة عشر.

والثاني : أنّه أراد (ابن أمّا) فحذف الألف لطول الكلام اجتزاء بالفتحة ، وإنّما أختصّ هذان الاسمان بهذا الحكم في النداء لكثرة استعمالهما.

٢٣١

باب الندبة

هي : (فعلة) من (ندبته) أي : حثثته فكأنّ النادب يحثّه حزنه على الندبة أو يحثّ السامع على الحزن على المندوب وحروفها : (وا) و (يا). وقيل : (آ) أيضا وأكثر من يتكلّم بها النساء لضعف قلوبهنّ (١).

فصل : وتزاد في آخر المندوب إذا وقف عليه (الألف) ليزداد مدّ الصوت ليشيع حال المندوب ويدل عليتفجّع النادب ، وتزاد عليها (هاء) لتبيين الألف فإن حذفت الهاء لم تأت بالألف لئلّا يظن أنّها بدل من ياء المتكلّم.

فصل : ولا يندب إلا العلم أو المضاف إذا كان المندوب مشهورا به ليكون عذرا للنادب كقولك : وا زيداه وا عبد الملكاه وا من حفر بئر زمزماه وا انقطاع ظهرياه.

فصل : وإذا خفت من إثبات الألف لّبسا قلبتها من جنس الحركة التي قبلها كقولك : في غلامه : (وا غلامهه) ولا تقول : (اغلامهاه) لئلّا يلتبس بغلامها للمؤنّث وتقول إذا ندبت غلامك : (وا غلامكيه) ولا تقول : (وا غلامكاه) لئلّا يلتبس بالمذكر وعلى هذا فقس.

مسألة : لا يجوز أن تلحق علامة الندبة الصفة نحو : (وا زيد الظريفاه) وأجازه الكوفيّون ويونس.

__________________

(١) النّدبة هي نداء المتفجّع عليه أو المتوجّع منه ، نحو «وا سيّداه!. وا كبداه!».

ولا تستعمل لنداء المندوب من الأدوات إلا «وا». وقد تستعمل «يا» ، إذا لم يحصل التباس بالنداء الحقيقي. ولا يجوز في النّدبة حذف المنادى ولا حذف أداته.

وللمنادى المندوب ثلاثة أوجه

١ ـ أن يختم بألف زائدة لتأكيد التّفجّع أو التوجّع ، نحو «واكبدا!».

٢ ـ أن يختم بالألف الزائدة وهاء السّكت ، نحو «وا حسيناه».

(وأكثر ما تزاد الهاء في الوقف فان وصلت حذفتها ، إلا في الضرورة ، كقول المتنبي «وا حرّ قلباه ممن قلبه شبم». ولك حينئذ ان تضمها ، تشبيها لها بهاء الضمير. وان تكسرها على أصل التقاء الساكنين. وأجاز الفرّاء إثباتها في الوصل مضمومة أو مكسورة من غير ما ضرورة).

٣ ـ أن يبقى على حاله ، نحو «وا حسين!».

ولا يكون المنادى المندوب إلا معرفة غير مبهمة. فلا يندب الاسم النكرة ، فلا يقال «وا رجل!» ، ولا المعرفة المبهمة ـ كالأسماء الموصولة وأسماء الإشارة ـ فلا يقال «وامن ذهب شهيد الوفاء!» ، إلا إذا كان المبهم اسم موصول مشتهرا بالصّلة ، فيجوز ، نحو «وامن حفر بئر زمزم».

٢٣٢

ووجه المذهب الأوّل من وجهين :

أحدهما : أنّ الصفة غير مندوبة ولا لازمة للمندوب فلم تلحقها علامة الندبة بخلاف المضاف إليه ؛ لأنه من تتمّة المضاف.

والثاني : أنّ الصفة اسم معرب مفرد فلا تلحقها علامة الندبة كالنكرة وعلّة ذلك إلا يصير مبنيّا.

واحتجّ الآخرون من وجهين :

أحدهما : ما سمع من عربيّ فصيح ضاع منه قدحان من خشب فندبهما وا جمجمتيّ الشاميّتيناه.

والثاني : أنّ الصفة في بعض المواضع تلزم كصفة (أيّ) في باب النداء وصفة : (من) و (ما) النكرتين فجرى مجرى المضاف إليه ولأنّها توضحّ كما يوضحّ.

٢٣٣

باب الترخيم (١)

وهو في اللغة لين الصوت وانقطاعه قال ذو الرّمة : [الطويل]

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشي لا هرآء ولا نزر

وبهذا المعنى سمّي الترخيم والنداء لأنّك تحذف من آخر الاسم فينقص الصوت ويضعف.

فصل : والترخيم حذف آخر الاسم المنادى المبنيّ الزائد على ثلاثة أحرف غير المؤنّث ، أمّا اختصاصه بالآخر فلأنّ ما بقي من الاسم يدلّ على ما يحذف من آخره إذا كان مشهورا ولا يدلّ آخره على أوّله ، وأمّا اختصاصه بالمنادى فلأنّ النداء قد كثر فيه التغيير ؛ لأنه موضع تخفيف وتنبيه بالأسماء المشهورة.

وأمّا اختصاصه بالمبنيّ فلأمرين :

__________________

(١) التّرخيم هو حذف آخر المنادى تخفيفا ، نحو «يا فاطم». والأصل «يا فاطمة». والمنادى الذي يحذف آخره يسمّى «مرخمّا». ولا يرخّم من الأسماء إلا اثنان :

١ ـ ما كان مختوما بتاء التأنيث ، سواء أكان علما أو غير علم ، نحو «يا عائش. يا ثق. يا عالم» ، في «عائشة وثقة وعالمة».

٢ ـ العلم لمذكّر أو مؤنث على شرط أن يكون غير مركّب ، وأن يكون زائدا على ثلاثة أحرف ، نحو «يا جعف. يا سعا» ، في «جعفر وسعاد».

(فلا ترخم النكرة ، ولا ما كان على ثلاثة أحرف ولم يكن مختوما بالتاء ، ولا المركب. فلا يقال «يا انسا» ، في «انسان» ، لأنه غير علم ، ولا «يا حس» ، في «يا حسن» ، لأنه على ثلاثة أحرف ، ولا مثل «يا عبد الرحمن».

لأنه مركب. وأما ترخيم «صاحب» في قولهم «يا صاح» ، مع كونه غير علم ، فهو شاذّ لا يقاس عليه)

ويحذف للتّرخيم إمّا حرف واحد ، وهو الأكثر ، كما تقدّم ، وإمّا حرفان ، وهو قليل. فتقول «يا عثم. يا منص» ، في «عثمان ومنصور».

ولك في المنادى المرخّم لغتان.

١ ـ أن تبقي آخره بعد الحذف على ما كان عليه قبل الحذف ـ من ضمّة أو فتحة أو كسرة ـ نحو «يا منص. يا جعف. يا جار». وهذه اللغة هي الأولى والأشهر.

٢ ـ أن تحرّكه بحركة الحرف المحذوف ، نحو «يا جعف. يا جار».

(وتسمى اللغة الأولى «لغة من ينتظر» ، أي من ينتظر الحرف المحذوف ويعتبره كأنه موجود. ويقال في المنادى حينئذ أنه مبني على ضم الحرف المحذوف للترخيم. وتسمى اللغة الأخرى «لغة من لا ينتظر» ، أي من لا ينتظر الحرف المحذوف ، بل يعتبر ما في آخر الكلمة هو الآخر فيبنيه على الضم).

٢٣٤

أحدهما : أنّه معروف بنفسه لا بالإضافة ، وذلك بني كما بني ضمير الخطاب.

والثاني : أنّه لو حذف من المعرب لسقط منه الإعراب وحرفه ، وذلك إجحاف والمبنيّ لا يسقط منه إلا حرف لا إعراب فيه.

مسألة : لا يجوز ترخيم المضاف إليه ، وقال الكوفّيون : يجوز. وحجّة الأوّلين : أنّ المضاف معرب غير منادى فلم يرخمّ في الاختيار كما لو لم يكن قبله منادى.

واحتجّ الآخرون بما جاء في الشعر من ذلك نحو : [الطويل]

... (١) يا آل عكرم

[وقول الآخر : من الطويل]

أبا عرو (٢) ...

يريد : يا عكرمة ، ويا عروة ، ولأنّ المضاف إليه تتمّة للمنادى فصار كأنّه آخره.

والجواب : أمّا الشعر فلا حجّة فيه ؛ لأنه ممّار رخّم في غير النداء للضرورة ، وأمّا المضاف إليه فهو معرب غير منادى كما سبق.

فصل : ولا يجوز ترخيم الثلاثي غير المؤنثّ ، وقال الكوفّيون : يجوز إذا كان الأوسط متحرّكا نحو : (عمر).

__________________

(١) البيت كاملا :

خذوا حظّكم يا آل عكرم واذكروا

أواصرنا والرحم بالغيب تذكر

والبيت من شعر زهير بن أبي سلمى : (١٣ ق. ه / ٦٠٩ م) وهو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني ، من مضر. حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافة.

قال ابن الأعرابي : كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره : كان أبوه شاعرا ، وخاله شاعرا ، وأخته سلمى شاعرة ، وابناه كعب وبجير شاعرين ، وأخته الخنساء شاعرة.

ولد في بلاد مزينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر (من ديار نجد) ، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام.

قيل : كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة فكانت قصائده تسمّى (الحوليات) ، أشهر شعره معلقته التي مطلعها :

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

ويقال : إن أبياته في آخرها تشبه كلام الأنبياء.

(٢) البيت كاملا :

أبا عرو لا تبعد ، فكل ابن حرة

سيدعوه داعي موته فيجيب

٢٣٥

حجّة الأوّلين : أنّ الثلاثيّ أقلّ الأصول فحذفه إجحاف ولم يرد به سماع يسوغّ الأخذ به واحتجّ الآخرون بأنّ في الأسماء المعربة ما هو على حرفين نحو : (يد) و (دم) و (غد).

والجواب : أنّ تلك الأسماء محذوفة اللامات اعتباطا فلا يقاس عليها ؛ ولذلك قلّت جدا.

فإن قيل : رخّموا (ثبة)؟

قيل : إنّ تاء التأنيث كاسم ركّب مع اسم بدليل أنّ ما قبلها لا يكون إلا مفتوحا فتحذف كما يحذف الثاني من المركّب ، فكأنّ الترخيم لم يحذف من الاسم شيئا.

مسألة : إذا رخّمت الرباعيّ لم تحذف منه سوى حرف واحد. وقال الفرّاء : إن كان الثالث ساكنا حذفته مع الأخير نحو : (سبطر) تقول : (يا سب) واحتجّ لذلك بأنّه إذا بقي الساكن أشبه الأدوات ، وهذا فاسد لوجهين :

أحدهما : أنّ بناء المتحرّك يلحقه بالأدوات ولم يمتنع.

والثاني : أنّ الاسم بعد ترخيمه قد بقي على زنة لا نظير لها في الأسماء كحذف الثاء من : (حارث) فإنّه جاء على : (فاع) ولا نظير له ، فعلم أنّ الحذف هنا والبناء عارضان لا يعتدّ بما يخرج عن النظائر لأجلهما ويؤكّد ذلك أنّ ما قبل آخره مكسور يحذف وتبقى الكسرة وهي تشبه ما يكسر لالتقاء الساكنين وهو مع ذلك جائز.

فصل : ولا ترخمّ النكرة ؛ لأنها في الأصل وصف ل (أيّ) فلم يجتمع عليها حذف الموصوف وحذف آخرها وما جاء في الشعر نحو : (يا صاح) شاذّ لا يقاس عليه.

فصل : ولا يرخّم المبهم وإن زاد على ثلاثة أحرف لأوجه :

أحدها : أنّه ضعف بالإبهام فلا يضعف بالحذف.

والثاني : أنّ إبهامه يقرّبه من النكرة ، والنكرة لا ترخّم.

والثالث : أنّه في الأصل وصف ل (أيّ) فلم يجمع بين حذفين.

والرابع : أنّه وصف ل (أيّ) والأوصاف لا ترّخم مع الموصوفات فكذلك ما هو في تقديرها.

فصل : ولا يحذف من الاسم الّذي فيه تاء التأنيث شيء غيرها وإنّ كان ما قبلها زائدا ؛ لأنها بمنزلة اسم ضمّ إلى اسم على ما ذكرنا من قبل.

٢٣٦

فصل : إذا ناديت الصفة التي فيها تاء التأنيث لم تحذفها نحو : (يا فاسقة) لئلّا يلتبس بالمذكّر فإن كانت علما جاز.

فصل : إذا رخّمت (طيلسانا) حذفت الألف والنون ؛ لأنّهما زائدتان وضممت السين وإن شئت فتحتها هذا إذا فتحت اللام فإن كسرتها لم يجز ترخيمه عند المبرّد ، قال : لأنه على وزن لا نظير له وهو : (فيعل). وأجازه السيرافي وغيره وقالوا : لأنه قد يبقى بعد الترخيم بناء لا نظير له في غيره نحو : يا حار ، وقد بيّنا ذلك قبل.

فصل : فإن سمّيت ب (حبلوي) أو (حبليان) لم يجز أن ترخّمه على قول من قال : يا حار بالضمّ ؛ لأن الواو والياء هنا ينقلبان ألفين فيصير (فعلى) وألف فعلى لا تكون منقلبة أبدا لكنّها للتأنيث ، وأجازه السيرافيّ وعلّل بنحو ما تقدّم.

فصل : وللعرب في الباقي بعد الترخيم مذهبان :

أحدهما : تركه على ما كان عليه وهو الأجود ؛ لأن بقاءه على ذلك ينبّه على الأصل.

والثاني : أن يضم على كلّ حال ويجعل كأنّه اسم قائم برأسه.

وفائدة اختلاف المذهبين أنّك إذا رخّمت على المذهب الأوّل تركت الحرف الباقي على حاله ولم تغيّره على ما يوجب قياس التصريف ، وإذا رخّمته على المذهب الثاني غيّرته على ما يوجبه قياس التصريف وإذّ عرفت هذا الأصل استغنيت عن الإطالة بالمسائل.

٢٣٧

باب حروف الجرّ

إنّما سمّيت كسرة الإعراب جرّا لتسفّلها في الفم وانسحاب الياء التي من جنسها على ظهر اللسان كجرّ الشيء على الأرض ، ومنه قيل لأصل الجبل : (جرّ) لتسفله (١).

والكوفّيون يسمّونه : (خفضا) وهو صحيح المعنى ؛ لأن الانخفاض الانهباط وهو تسفّل.

فصل : وإنّما عملت هذه الحروف لاختصاصها بأحد القبيلين ، وقد ذكرنا علّة ذلك في باب (أنّ) ، وإنّما عملت الجرّ دون غيره لأمرين :

أحدهما : أنّ الفعل عمل الرفع والنصب فلم يبقى للحرف ما ينفرد به إلا الجرّ.

والثاني : أنّ الحرف واسطة بين الفعل وبين ما يقتضيه فجعل عمله وسطا والجرّ من (الياء) وهي من حروف وسط الفم بخلاف الرفع ؛ فإنّه من الضمّ ، والضم من الواو ، والواو من الشفتين وبخلاف النصب ؛ فإنّه من الألف ، والألف من أقصى الحلق.

فصل : والأصل في الجرّ للحروف لأمرين :

أحدهما : أن أصل العمل للأفعال والحروف دخلت موصولة لها إلى الأسماء فلمّا اختصّت عملت فكانت تلو الأفعال في العمل أما الأسماء فمعمول فيها فلم تكن عاملة.

والثاني : أن الإضافة تقدّر بالحرف فدلّ ذلك على أنّه الأصل وإنّما عملت في الأسماء لما يذكر في مواضعه.

فصل : و (من) (٢) على أوجه :

__________________

(١) سمّيت حروف الجرّ ، لأنها تجرّ معنى الفعل قبلها إلى الاسم بعدها ، أو لأنها تجرّ ما بعدها من الأسماء ، أي تخفضه. وتسمّى «حروف الخفض» أيضا ، لذلك. وتسمّى أيضا «حروف الإضافة» ، لأنها تضيف معاني الأفعال قبلها إلى الأسماء بعدها. وذلك أنّ من الأفعال ما لا يقوى على الوصول إلى المفعول به ، فقوّوه بهذه الحروف ، نحو «عجبت من خالد ، ومررت بسعيد». ولو قلت «عجبت خالدا. ومررت سعيدا» ، لم يجز ، لضعف الفعل اللازم وقصوره عن الوصول إلى المفعول به ، إلا أن يستعين بحروف الإضافة.

(٢) من لها ثمانية معان :

١ ـ الابتداء ، أي ابتداء الغاية المكانيّة أو الزمانيّة. فالأول كقوله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.) والثاني كقوله (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ)

٢٣٨

أحدها : ابتداء غاية المكان كقولك : سرت من البصرة ، فالبصرة مبتدأ السير ، وقال ابن السرّاج : تكون (من) لابتداء غايه الفعل من الفاعل كما ذكرناه ولابتداء غاية الفعل من المفعول كقولك : نظرت من الدار إلى الهلال من خلل السحاب ف (من الدار) مكان الفاعل و (من خلل السحاب) مكان المفعول وقال غيره.

(من خلل السحاب) حال من الهلال ويمكن أن يكون : (من الدار) حالا من الناظر.

والثاني : التبعيض وعلامته أن يصلح مكانها : (بعض) كقولك : أخذت من المال ، وقال المبرّد : هي لابتداء المكان أيضا والتبعيض مستفاد بقرينة ، فإنّ قلت : أخذت من زيد مالا جاز أنّ تعلّق (من) بأخذت وأنّ تجعلها حالا من المال ، أي : مالا من زيد ، فلما قدّمت صفة النكرة صارت حالا.

__________________

فِيهِ.) وترد أيضا لابتداء الغاية في الأحداث والأشخاص. فالأول كقولك «عجبت من إقدامك على هذا العمل» ، والثاني كقولك «رأيت من زهير ما أحبّ».

٢ ـ التّبعيض ، أي معنى «بعض» ، كقوله تعالى (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي بعضه ، وقوله «منهم من كلّم الله» ، أب بعضهم. وعلامتها أن يخلفها لفظ «بعض».

٣ ـ البيان ، أي بيان الجنس ، كقوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.) قوله (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) وعلامتها أن يصحّ الإخبار بما بعدها عمّا قبلها ، فتقول الرجس هي الأوثان ، والأساور هي ذهب.

واعلم أن «من» البيانيّة ومجرورها في موضع الحال مما قبلها ، إن كان معرفة ، كالآية الأولى ، وفي موضع النّعت له إن كان نكرة ، كالآية الثانية. وكثيرا ما تقع «من البيانيّة» هذه بعد «ما ومهما» ، كقوله تعالى (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) وقوله (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) وقوله (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ.)

٤ ـ التأكيد ، وهي الزائدة لفظا ، أي في الإعراب ، كقوله تعالى (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ ،) وقوله (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي «بدلكم» ، وقوله (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي بدل الله ، والمعنى بدل طاعته أو رحمته. وقد تقدّم معنى البدل في الكلام على الباء.

٦ ـ الظّرفيّة ، أي معنى (في) ، كقوله سبحانه (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي فيها ، وقوله (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ،) أي في يومها.

٧ ـ السّببيّة والتّعليل ، كقوله تعالى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) قال الشاعر

يغضي حياء ، وبغضى من مهابته

فما يكلّم إلّا حين يبتسم

٨ ـ معنى «عن» ، كقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) وقوله (يا وَيْلَنا! قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا.)

٢٣٩

والثالث : أنّ تكون بمعنى البدل كقوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] أي : بدلا من الآخرة وموضعها حال ، ومنه قوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) أي : بدلا منكم.

والرابع : أن تكون لبيان الجنس كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] وهذه أشبه بالتي هي للابتداء ، فأمّا قولك : زيد أفضل من عمرو ف (من) فيه لابتداء الغاية والمعنى ابتداء معرفة فضل زيد من معرفة فضل عمرو ، أي : لمّا قيس فضله بفضل عمرو بانت زيادته عليه.

والخامس : أن تكون زائدة ، وذلك في غير الواجب نحو : ما جاءني من أحد و (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مريم : ٩٨] ، وإنّما زيدت هنا للتوكيد فقط ؛ لأن أحدا من أسماء العموم.

فأمّا قولك : ما جاءني من رجل ف (من) زائدة من وجه لأنّك لو حذفتها لاستقام الكلام وغير زائدة من وجه ؛ لأنها تفيد استغراق الجنس ، ألا ترى أنّك لو حذفتها لنفيت رجلا واحدا كقولك : ما جاءني رجل بل رجلان ، وإذا أثبتّها دللت بذلك على أنّه لم يأتك رجل ولا أكثر.

مسألة : لا تجوز زيادة : (من) في الواجب وأجازها الأخفش ، ودليلنا أنّ (من) حرف والأصل في الحروف أنّها وضعت للمعاني اختصارا من التصريح بالاسم أو الفعل الدالّ على ذلك المعنى كالهمزة ؛ فإنّها تدلّ على استفهام ؛ فإذا قلت : أزيد عندك؟ أغنت الهمزة عن : (أستفهم) وأخذت من المال أي بعضه وما قصد به الاختصار لا ينبغي أن يجيء زائدا ؛ لأن ذلك عكس الغرض ، وإنّما جاز في مواضع لمعنى من تأكيد ونحوه ولا يصحّ ذلك المعنى هنا ألا ترى أنّك لو قلت : (ضربت من رجل) لم تكن مفيدا ب (من) شيئا بخلاف قولك : ما ضربت من رجل.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) [البقرة : ٢٧١] و (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٤] والمراد الجميع.

والجواب : أنّ (من) هنا للتبعيض ، أي : بعض سيئاتكم ؛ لأن إخفاء الصدقّة لا يمحّص كل السيئات ، وأمّا (من ذنوبكم) فالتبعيض أيضا ؛ لأن الكافر إذا أسلم قد يبقى عليه ذنب وهو مظالم العباد الدنيويّة أو تكون : (من) هنا لبيان الجنس.

٢٤٠