اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

٤١

٤٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

عونك اللهم

[مقدمة المصنف]

الحمد لله أهل الحمد ومستحقه ، وأشهد أن لا إله لا الله وحده لا شريك له في إبداع خلقه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وعلى آله وأصحابه والشاهدين بصدقه ما سح سحاب بوابله وودقه.

أما بعد ؛ فإن علم العربية من أجل العلوم فائدة ، وأفضلها عائدة ، وحكمة وافرة جمة ، ومعرفته تفضي إلى معرفة العلوم المهمة ، والكتب المؤلفة فيه تفوت الإحصاء عدا ، وتخرج عن الضبط جدا ، وأنفعها أوسطها حجما وأكثرها علما.

وهذا مختصر أذكر فيه من أصول النحو ما تمس الحاجة إليه ، ومن علل كل باب ما يعرفك أكثر فروعه المرتبة عليه ، وقد بذلت الوسع في إيجاز ألفاظه وإيضاح معانيه ، وصحة أقسامه وإحكام مبانيه ، ومن الله سبحانه أستمد الإعانة على تحقيق ما ضمنت ، وإياه أسأل الإصابة فيما أبنت.

٤٣

باب بيان النحو وأصل وضعه

اعلم أن النحو (١) في الأصل مصدر : (نحا ينحو) إذا قصد ، ويقال : نحا له ، وأنحى له ، وإنما سمي العلم بكيفية كلام العرب في إعرابه وبنائه : (نحوا) ؛ لأن الغرض به أن يتحرى الإنسان في كلامه إعرابا وبناء طريقة العرب في ذلك.

فصل : وحده عندهم أنه علم مستنبط بالقياس والاستقراء من كلام العرب ، والقياس ألا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر ، ولكنه ثني وجمع لما تقل ، وسمي به ، ويجمع على : (أنحاء ونحو).

باب القول في الكلام

الكلام (٢) : عبارة عن الجملة المفيدة فائدة يسوغ السكوت عليها عند المحققين لثلاثة أوجه :

__________________

(١) النحو في الاصطلاح هو العلم لمستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها. قاله صاحب المقرب فعلم أن المراد هنا بالنحو ما يرادف قولنا علم العربية لا قسيم الصرف ، وهو مصدر أريد به اسم المفعول أي المنحو كالخلق بمعنى المخلوق ، وخصته غلبة الاستعمال بهذا العلم وإن كان كل علم منحوا أي مقصودا كما خصت الفقه بعلم الأحكام الشرعية الفرعية وإن كان كل علم فقها أي مفقوها أي مفهوما. وجاء في اللغة لمعان خمسة : القصد يقال نحوت نحوك أي قصدت قصدك والمثل نحو مررت برجل نحوك أي مثلك ، والجهة نحو توجهت نحو البيت أي جهة البيت ، والمقدار نحو له عندي نحو ألف أي مقدار ألف ، والقسم نحو هذا على أربعة أنحاء أي أقسام. وسبب تسمية هذا العلم بذلك ما روي أن عليا رضي الله تعالى عنه لما أشار على أبي الأسود الديلي أن يضعه وعلمه الاسم والفعل والحرف وشيئا من الإعراب قال : انح هذا النحو يا أبا الأسود.

(٢) الكلام المصطلح عليه عند النحاه عبارة عن اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها فاللفظ جنس يشمل الكلام والكلمة والكلم ويشمل المهمل كديز والمستعمل كعمرو ومفيد أخرج المهمل وفائدة يحسن السكوت عليها أخرج الكلمة وبعض الكلم وهو ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر ولم يحسن السكوت عليه نحو إن قام زيد.

ولا يتركب الكلام إلا من اسمين نحو زيد قائم أو من فعل واسم كقام زيد وكقول المصنف استقم فإنه كلام مركب من فعل أمر وفاعل مستتر والتقدير استقم أنت فاستغنى بالمثال عن أن يقول فائدة يحسن السكوت عليها فكأنه قال الكلام هو اللفظ المفيد فائدة كفائدة استقم ، وإنما قال المصنف كلامنا ليعلم أن التعريف إنما هو للكلام في اصطلاح النحويين لا في اصطلاح اللغويين وهو في اللغة اسم لكل ما يتكلم به مفيدا كان أو غير مفيد. ـ

٤٤

أحدها : أنه مشتق من (الكلم) وهو الجرح ، والجرح مؤثر في نفس المجروح فيلزم أن يكون الكلام مؤثرا في نفس السامع.

والثاني : أن الكلام يؤكد به (تكلمت) كقولك : تكلمت كلاما ، والمصدر المؤكد نائب عن الفعل والفاعل ، وكما أن الفعل والفاعل جملة مفيدة كذلك ما ينوب عنه الكلام.

الثالث : أن الكلام ينوب عن التكليم والتكلم ، وكلاهما مشدد العين ، والتشديد للتكثير ، وأدنى درجاته أن يدل على جملة تامة.

فصل : وإنما قال المحققون : إن الكلام اسم للمصدر وليس بمصدر حقيقة ؛ لأن المصادر تبنى على الأفعال المأخوذة منها ، والأفعال المأخوذة من هذا الأصل (كلمت) ومصدره (التكليم) ، و (تكلمت) ومصدره (التكلم) ، و (كالمت) ومصدره (المكالمة) و (الكلام) ، والكلام ليس بواحد منها إلا أنه يعمل عمل المصدر ، كما عمل (العطاء) عمل (الإعطاء).

فصل : وأما القول فيقع على المفيد ؛ لأن معناه التحرك والتقلقل ، فكل ما يمذل به اللسان ويتحرك يسمى : (قولا) ، وهذا ما يتركب من : (ق ول) في جميع تصاريفها وتقلب حروفها نحو : القول والقلو والتوقل ، وغير ذلك.

__________________

والكلم اسم جنس واحده كلمة وهي إما اسم وإما فعل وإما حرف لأنها إن دلت على معنى في نفسها غير مقترنة بزمان فهي الاسم وإن اقترنت بزمان فهي الفعل وإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف ، والكلم ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر كقولك إن قام زيد ، والكلمة هي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد فقولنا الموضوع لمعنى أخرج المهمل كديز وقولنا مفرد أخرج الكلام فإنه موضوع لمعنى غير مفرد والقول يعم الجميع والمراد أنه يقع على الكلام أنه قول ويقع أيضا على الكلم والكلمة أنه قول وزعم بعضهم أن الأصل استعماله في المفرد. والكلمة قد يقصد بها الكلام كقولهم في لا إله إلا الله كلمة الإخلاص ، وقد يجتمع الكلام والكلم في الصدق وقد ينفرد أحدهما ، فمثال اجتماعهما قد قام زيد فإنه كلام لإفادته معنى يحسن السكوت عليه وكلم لأنه مركب من ثلاث كلمات ، ومثال انفراد الكلم إن قام زيد ، ومثال انفراد الكلام زيد قائم.

٤٥

باب أقسام الكلم

إنما علم كون الكلم (١) ثلاثا فقط من وجهين :

أحدهما : أن الكلام وضع للتعبير عن المعاني ، والمعاني ثلاثة : معنى يخبر به ، ومعنى يخبر عنه ، ومعنى يربط أحدهما بالآخر ، فكانت العبارات عنها كذلك.

الثاني : أنهم وجدوا هذه الأقسام تعبر عن كل معنى يخطر في النفس ، ولو كان هناك قسم آخر لم يوقف عليه لكان له معنى لا يمكن التعبير عنه.

فصل : وإنما فرق بين هذه العبارات في التسمية لاختلاف المعبر عنه.

فصل : وإنما خص كل واحد منهما بالاسم الذي وضعوه له لوجهين :

١ ـ أحدهما : أن المراد الفرق بين الأسماء ليحصل العلم بالمسميات ، وأي لفظ حصل بهذا المعنى جاز.

٢ ـ والثاني : أنهم خصوا المخبر عنه وبه بالاسم ؛ لأنه أي علا القسمين الآخرين إذ كان أحدهما يخبر به فقط والآخر لا يخبر به ولا عنه ، وسموا ما يخبر به فعلا ؛ لأنه مشتق من المصدر الذي هو فعل حقيقة ، ولم يسموه زمانا وإن دل على الزمان لوجهين :

أ ـ أحدهما : أن دلالته على المصدر أقوى إذ دلالته على الزمان تختلف ويصح أن تبطل دلالته عليه بالكلية وأما دللاته على المصدر فلا يصح ذلك فيها.

ب ـ والثاني : أنه لو سمي زمانا لم يدل على الحدث بحال ، وإنما سمي فعلا (٢) ؛ لأنه دل على الحدث لفظا ، وعلى الزمان من طريق الملازمة ؛ إذ يستحيل فعل المخلوق إلا في زمان ، ولم

__________________

(١) الكلم اسم جنس واحده كلمة وهي إما اسم وإما فعل وإما حرف لأنها إن دلت على معنى في نفسها غير مقترنة بزمان فهي الاسم وإن اقترنت بزمان فهي الفعل وإن لم تدل على معنى في نفسها بل في غيرها فهي الحرف.

(٢) قال ابن عقيل في شرحه على الألفية : الفعل يمتاز عن الاسم والحرف بتاء فعلت والمراد بها تاء الفاعل وهي المضمومة للمتكلم نحو فعلت والمفتوحة للمخاطب نحو تباركت والمكسورة للمخاطبة نحو فعلت ، ويمتاز أيضا بتاء أتت والمراد بها تاء التأنيث الساكنة نحو نعمت وبئست فاحترزنا بالساكنة عن اللاحقة للأسماء فإنها تكون متحركة بحركة الإعراب نحو هذه مسلمة ورأيت مسلمة ومررت بمسلمة ومن اللاحقة

٤٦

يسم عملا ؛ لأن الفعل من العمل وكان يقع على كل حركة وعزم ؛ ولهذا يقول من بنى حائطا : قد عملت ، وقد فعلت ، وإذا تكلم قال : قد فعلت ، ولا يقال : عملت.

وسمي القسم الثالث : (حرفا) (١) ؛ لأن حرف كل شيء طرفه ، والأدوات بهذه المنزلة ؛ لأن معانيها في غيرها فهي طرف لما معناها فيه.

فصل : وللاسم (٢) حد عند المحققين ؛ لأنه لفظ يقع فيه اشتراك والقصد من الحد تمييز المحدود عما يشاركه.

فصل : ومن أقرب حد حد به : أنه كل لفظ دل على معنى مفرد في نفسه ، وقال قوم : هو كل لفظ دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان محصل دلالة الوضع.

فصل : واشتقاقه عند البصريين من : (سما يسمو) إذا علا ، فالمحذوف منه (لامه) ؛ لأن المحذوف يرجع إلى موضع اللام في جميع تصاريفه نحو : سميت وأسميت ، وسمّى وسميّ ،

__________________

ـ للحرف نحو لات وربت وثمت وأما تسكينها مع رب وثم فقليل نحو ربت وثمت ويمتاز أيضا بياء أفعلي والمراد بها ياء الفاعلة وتلحق فعل الأمر نحو اضربي والفعل المضارع نحو تضربين ولا تلحق الماضي.

وإنما قال المصنف يا افعلى ولم يقل ياء الضمير لأن هذه تدخل فيها ياء المتكلم وهي لا تختص بالفعل بل تكون فيه نحو أكرمني وفى الاسم نحو غلامي وفى الحرف نحو إني بخلاف ياء افعلي فإن المراد بها ياء الفاعلة على ما تقدم وهي لا تكون إلا في الفعل ، ومما يميز الفعل نون أقبلن والمراد بها نون التوكيد خفيفة كانت أو ثقيلة فالخفيفة نحو قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) والثقيلة نحو قوله تعالى : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ.)

(١) قال ابن عقيل في شرحه على الألفية : الحرف يمتاز عن الاسم والفعل بخلوه عن علامات الأسماء وعلامات الأفعال ثم مثل بهل وفي ولم منبها على أن الحرف ينقسم إلى قسمين مختص وغير مختص فأشار بهل إلى غير المختص وهو الذي يدخل على الأسماء والأفعال نحو هل زيد قائم وهل قام زيد وأشار بفي ولم إلى المختص وهو قسمان مختص بالأسماء كفي نحو زيد في الدار ومختص بالأفعال كلم نحو لم يقم زيد.

(٢) اختلف عبارات النحويين في حد الاسم وسيبويه لم يصرح له بحد فقال بعضهم : الاسم ما استحق الاعراب في اول وضعه وقال آخرون : ما استحق التنوين في اول وضعه وقال آخرون : حد الاسم ما سما بمسماه فأوضحه وكشف معناه. وقال آخرون : الاسم كل لفظ دل على معنى مفرد في نفسه. ولم يدل على زمان ذلك المعنى وقال ابن السراج : هو كل لفظ دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان محصل وزاد بعضهم في هذا دلالة الوضع.

٤٧

وأسماء وأسام ، ولأن الهمزة فيه عوض من المحذوف ، وقد ألف من عاداتهم أن يعوضوا في غير موضع الحذف.

وقال الكوفيون : هو من السمة فالمحذوف (فاؤه) وهو خطأ في الاشتقاق ، وفيه الخلاف وهو صحيح في المعنى.

فصل : وإنما سمي هذا اللفظ : (اسما) من معنى العلو لوجهين :

أحدهما : أنه سما على صاحبيه في الإخبار كما تقدم.

والثاني : أنه ينوه بالمسمى ؛ لأن الشيء قبل التسمية خفي عن الذهن فهو كالشيء المنخفض ؛ فإذا سمي ارتفع للأذهان كارتفاع المبصر للعين.

فصل : والألف واللام (١) من خصائص الأسماء ؛ لأنهما وضعا للتعريف والتخصيص بعد الشياع ولا يصح هذا المعنى في الفعل والحرف ، ألا ترى أن قولك : (ضرب يضرب) يقعان على كل نوع من أنواع الضرب ولا يصح تخصيصهما بضربة واحدة ، كما يكون ذلك قولك : (الرجل) ؛ فإنه يصير بهما واحدا بعينه.

فصل : وحروف الجر (٢) تختص بالأسماء ؛ لأن الغرض منها إيصال الفعل القاصر عن الوصول إلى ما يقتضيه ، والفعل لا يقتضى إلا الاسم فصار الحرف وصلة بين الفعل وما يتعدى إليه.

فصل : وتنوين (٣) الصرف ، والتنوين : الفارق بين المعرفة والنكرة نحو : (صه) من خصائص الأسماء ؛ لأن ما دخلا له يختص بالأسماء وهو الصرف وتمييز المعرفة من النكرة.

__________________

(١) قال ابن مالك في الألفية :

بالجر والتنوين والندا وأل

ومسند للاسم تمييز حصل

(٢) الجر : وهو يشمل الجر بالحرف والإضافة والتبعية نحو مررت بغلام زيد الفاضل فالغلام مجرور بالحرف وزيد مجرور بالإضافة والفاضل مجرور بالتبعية وهو أشمل من قول غيره بحرف الجر لأن هذا لا يتناول الجر بالإضافة ولا الجر بالتبعية.

(٣) قال ابن عقيل في شرحه على الألفية : التنوين وهو على أربعة أقسام تنوين التمكين وهو اللاحق للأسماء المعربة كزيد ورجل إلا جمع المؤنث السالم نحو مسلمات وإلا نحو جوار وغواش ، وسيأتي حكمهما وتنوين التنكير وهو اللاحق للأسماء المبنية فرقا بين معرفتها ونكرتها ، نحو : مررت بسيبويه وبسيبويه آخر ،

٤٨

فصل : ومن خصائص الاسم كونه فاعلا أو مفعولا أو مضافا أو مثنى أو مجموعا أو مصغرا أو منادى ، وسنذكر علة تخصيص الاسم بكل واحد من ذلك في بابه إن شاء الله.

فصل : وحد (١) الفعل ما أسند إلى غيره ولم يسند غيره إليه ، وذكر الإسناد ههنا أولى من الإخبار ؛ لأن الإسناد أعم إذ كان يقع على الاستفهام والأمر غيرهما ، وليس الإخبار كذلك بل

__________________

وتنوين المقابلة : وهو اللاحق لجمع المؤنث السالم نحو مسلمات فإنه في مقابلة النون في جمع المذكر السالم كمسلمين وتنوين العوض وهو على ثلاثة أقسام عوض عن جملة وهو الذي يلحق إذ عوضا عن جملة تكون بعدها كقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) أي حين إذ بلغت الروح الحلقوم فحذف بلغت الروح الحلقوم وأتى بالتنوين عوضا عنه وقسم يكون عوضا عن اسم وهو اللاحق لكل عوضا عما تضاف إليه نحو كل قائم أي كل إنسان قائم فحذف إنسان وأتى بالتنوين عوضا عنه وقسم يكون عوضا عن حرف وهو اللاحق لجوار وغواش ونحوهما رفعا وجرا نحو هؤلاء جوار ومررت بجوار فحذفت الياء وأتي بالتنوين عوضا عنها ، وتنوين الترنم ، وهو الذي يلحق القوافي المطلقة بحرف علة كقوله :

أقلى اللوم عاذل والعتابن

وقولي إن أصبت لقد أصابن

فجيء بالتنوين بدلا من الألف لأجل الترنم وكقوله

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قدن

والتنوين الغالي وأثبته الأخفش وهو الذي يلحق القوافي المقيدة كقوله :

وقاتم الأعماق خاوي المخترقن

وظاهر كلام المصنف : أن التنوين كله من خواص الاسم وليس كذلك ، بل الذى يختص به الاسم إنما هو تنوين التمكين والتنكير والمقابلة والعوض وأما تنوين الترنم والغالي فيكونان في الاسم والفعل والحرف.

(١) اختلفت عبارات النحويين في حد الفعل فقال ابن السراج وغيره : (حده : كل لفظ دل على معنى في نفسه مقترن بزمان محصل) ، وهذا هو حد الاسم الا انهم أضافوا إليه : لفظ (غير) ليدخل فيه المصدر وإذا حذفت (غير) لم يدخل فيه المصدر لأن الفعل يدل على زمان محصل ولان المصدر لا يدل على تعيين الزمان وإن شئت اضفت إلى ذلك دلالة الوضع كما قيدت حد الاسم بذلك وانما زادوا هذه الزيادة لئلا ينتقض ب (ليس وكان) الناقصة.

وقال أبو علي : (الفعل ما اسند إلى غيره ولم يسند غيره إليه) وهذا يقرب من قولهم في حد الاسم : ما جاز الاخبار عنه لأن الاسناد والاخبار متقاربان في هذا المعنى.

وهذا الحد رسمي إذ هو علامة وليس بحقيقي لأنه غير كاشف عن مدلول الفعل لفظا وانما هو تمييز له بحكم من احكامه ـ

٤٩

هو مخصوص بما صح أن يقابل بالتصديق والتكذيب ؛ فكل إخبار إسناد ، وليس كل إسناد إخبارا.

ولا ينتقض هذا الحد بقولهم : (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) ؛ لأن : (خيرا) هنا ليس بخبر عن (تسمع) بل عن المصدر الذي هو : (سماعك) وتقديره : (أن تسمع) وحذف (أن) وهي مراد جائز كما قال : [الطويل]

ألا أيّهذا الزاجرى أحضر الوغى (١)

أي : عن أن أحضر ، ودل على حذفه قوله : (وأن أشهد اللذّات) ، وقيل : حده ما دل على معنى في نفسه مقترن بزمان محصل دلالة الوضع.

فصل : وإنما اختصت (قد) بالفعل ؛ لأنها وضعت لمعنى لا يصح إلا فيه وهو تقريب الماضي من الحال وتقليل المستقبل كقولك : قد قام زيد ، أي : عن قريب. وزيد قد يعطي ، أي :

يقل ذلك منه ، فأما قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) [الأنعام : ٣٣] فمعناه : قد علمنا.

__________________

والذي قال سيبويه في الباب الأول : (وأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ احداث الاسماء وبنيت لما مضى ولما يكون (ولم يقع) ولما هو كائن لم ينقطع). وقد أتى في هذا بالغاية لانه جمع فيه قوله (أمثلة) والامثلة بالأفعال احق منها بالأسماء والحروف وبين انها مشتقة من المصادر وقوله : (من لفظ احداث الأسماء).

ربما أخذ عليه انه أضاف الاحداث إلى الأسماء ، والأحداث للمسميات لا للأسماء. وهذا الأخذ غير وارد عليه لوجهين : أحدهما ان المراد بأحداث الاسماء ما كان فيها عبارة عن الحدث وهو المصدر لانه من بين الاسماء عبارة عن الحدث وهو من باب اضافة النوع إلى الجنس.

والثاني : انه أراد بالاسماء المسميات كما قال تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) والاسماء ليست معبودة وانما المعبود مسمياتها.

(١) البيت كاملا :

ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى

وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي

والبيت من شعر : طرفة بن العبد : (٨٦ ـ ٦٠ ق. ه / ٥٣٩ ـ ٥٦٤ م) ، وهو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد ، أبو عمرو ، البكري الوائلي ،. شاعر جاهلي من الطبقة الأولى ، كان هجاءا غير فاحش القول ، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره ، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد.

اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه ، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعمان يأمره فيه بقتله ، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها ، فقتله المكعبر شابا.

٥٠

فصل : وإنما اختصت (السين) بالفعل ؛ لأن معناها جواب (لن يفعل) ، وكذلك : (سوف) إلا أن (سوف) تدل على بعد المستقبل من الحال ، و (السين) أقرب إلى ذلك منها ، ولما كانت (لن) لا معنى إلا في المستقبل كان جوابها كذلك.

فصل : إنما دلت تاء التأنيث الساكنة على الفعل ؛ لأن الغرض منها الدلالة على تأنيث الفاعل فقط ، لا الدلالة على تأنيث الفعل ؛ إذ الفعل لا يؤنث ولا تجد تاء تأنيث متحركة متصلة بآخر الفعل ، وإنما ذلك في الأسماء مثل : (قائمة) والحروف مثل : (ربت) و (ثمت).

فصل : وإنما دل اتصال الضمير المرفوع الموضع بالكلمة على أنها فعل ؛ لأن الضمير المتصل المرفوع لا يكون إلا فاعلا ، والفاعل لا يتصل بغير الفعل.

فصل : وحد الحرف (١) ما دل على معنى في غيره فقط ، ولفظ : (دل) أولى من قولك : (جاء) ؛ لأن الحدود الحقيقية دالة على ذات المحدود بها ، وقولنا : (ما جاء لمعنى) بيان العلة التى لأجلها جاء وعلة الشيء غيره ولا ينتقض ب (أين) و (كيف) لوجهين :

__________________

(١) قال الأشموني في شرحه على الألفية : (الحرف) لما علم من انحصار أنواع الكلمة في الثلاثة ، أي علامة الحرفية أن لا تقبل الكلمة شيئا من علامات الأسماء ولا شيئا من علامات الأفعال ، ثم الحرف على ثلاثة أنواع : مشترك (كهل) فإنك تقول هل زيد قائم وهل يقعد (و) مختص بالأسماء نحو (في و) مختص بالأفعال نحو (لم).

تنبيهان : الأول إنما عدت هل من المشترك نظرا إلى ما عرض لها في الاستعمال من دخولها على الجملتين نحو : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) (الأنبياء : ٨٠) و : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) (المائدة : ١١٢) لا نظرا إلى أصلها من الاختصاص بالفعل ، ألا ترى كيف وجب النصب وامتنع الرفع بالابتداء في نحو هل زيدا أكرمته كما سيجيء في بابه ، ووجب كون زيد فاعلا لا مبتدأ في هل زيد قام التقدير هل قام زيد قام وذلك لأنها إذا لم تر الفعل في حيزها تسلت عنها ذاهلة ، وإن رأته في حيزها حنت إليه لسابق الألفة فلم ترض حينئذ إلا بمعانقته. الثاني حق الحرف المشترك الإهمال ، وحق المختص يقبل أن يعملا لعمل الخاص بذلك القبيل ، وإنما عملت ما ولا وإن النافيات مع عدم الاختصاص لعارض الحمل على ليس ، على أن من العرب من يهملهن على الأصل كما سيأتي. ، وإنما لم تعمل ها التنبيه وأل المعرفة مع اختصاصهما بالأسماء ، ولا قد والسين وسوف وأحرف المضارعة مع اختصاصهن بالأفعال لتنزيلهن منزلة الجزء من مدخولهن ، وجزء الشيء لا يعمل فيه. ، وإنما لم تعمل إن وأخواتها وأحرف النداء الجر لما يذكر في موضعه. ، وإنما عملت لن النصب دون الجزم حملا على لا النافية للجنس لأنها بمعناها ، على أن بعضهم جزم بها كما سيأتي.

٥١

أحدهما : أنهما ـ مع دلالتهما على معنى في غيرهما ـ دالان على معنى في أنفسهما وهو المكان والحال ، وقد حصل الاحتراز عن ذلك بقولنا فقط.

والثاني : أن دلالتهما على معنى في غيرهما من جهة تضمنها معنى الحرف ، وذلك عارض فيهما.

فصل : ومن علامات الحرف : امتناعه من دخول علامات صاحبيه ؛ لأن معانيها لا تصح فيه.

فصل : ومن علاماته : أنه لا ينعقد منه ومن الاسم وحده ولا من الفعل وحده فائدة ، وهو معنى قولهم : (الحرف ما لم يكن أحد جزئي الجملة) فأما حصول الفائدة به وبالاسم في النداء فلنيابته عن الفعل ؛ ولذلك دلائل تذكر في باب النداء إن شاء الله.

٥٢

باب الإعراب والبناء

الإعراب (١) عند النحويين : هو اختلاف آخر الكلمة لاختلاف العامل فيها لفظا أو تقديرا ، ويدخل في هذا إعراب الاسم الصحيح والمعتل ، فالمقصور يقدر على ألفه الإعراب كاللفظ ، وليس كذلك آخر المبني فإن آخره إذا كان ألفا لا تقدر عليه حركة إلا أن يكون مما يستحق البناء على الحركة.

فصل : وفي أصله الذي نقل منه أربعة أوجه :

أحدها : أنه من قولهم : (أعرب الرجل) إذا أبان عما في نفسه والحركات في الكلام كذلك ؛ لأنها تبين الفاعل من المفعول وتفرق بين المعاني كما في قولهم : (ما أحسن زيدا!) فإنه إذا عري عن الحركات احتمل النفي والاستفهام والتعجب ، وكذلك قولك : (ضرب زيد عمرا) لو عريته من الإعراب لم تعرف الفاعل من المفعول.

والثاني : أنه من قولك : (أعرب الرجل) إذا تكلم بالعربية كقولهم : (أعرب الرجل) إذا كان له خيل عراب ، فالمتكلم بالرفع والنصب والجر متكلّم كلام العرب وليس البناء كذلك ؛ لأنه لا يخصّ العرب دون غيرهم.

والثالث : أنّه من قولهم : (أعربت معدة الفصيل) إذا عربت ، أي : فسدت من شرب اللبن ، فأصلحتها وأزلت فسادها ، فالهمزة فيه همزة السلب كقولك : (عتب عليّ فأعتبته وشكا فأشكيته).

__________________

(١) الإعراب أثر ظاهر أو مقدّر يجلبه العامل في آخر الاسم المتمكّن والفعل المضارع ، وللإعراب معنيان لغوي وصناعي ، فمعناه اللغوي الإبانة يقال أعرب الرجل عمّا في نفسه إذا أبان عنه وفي الحديث البكر تستأمر وإذنها صماتها والأيّم ، تعرب عن نفسها أي تبيّن رضاها بصريح النطق.

ومعناه الاصطلاحي ما ذكرت مثال الآثار الظاهرة الضمة والفتحة والكسرة في قولك جاء زيد ورأيت زيدا ومررت بزيد ألا ترى أنها آثار ظاهرة في آخر زيد جلبتها العوامل الداخلة عليه وهي جاء ورأى والباء ومثال الآثار المقدرة ما تعتقده منويّا في آخر نحو الفتى من قولك جاء الفتى ورأيت الفتى ومررت بالفتى فإنك تقدر في آخره في المثال الأول ضمة وفي الثاني فتحة وفي الثالث كسرة وتلك الحركات المقدرة إعراب كما أن الحركات الظاهرة في آخر زيد إعراب.

٥٣

والرابع : أنّه مأخوذ من قولهم : (امرأة عروب) ، أي : متحبّبة إلى زوجها بتحسّنها ، فالإعراب يجبّب الكلام إلى المستمع.

فصل : والإعراب معنى لا لفظ لأربعة أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب هو الاختلاف على ما سبق في حدّه ، والاختلاف معنى لا لفظ.

والثانى : أنّه فاصل بين المعاني والفصل ، والتمييز معنى لا لفظ.

والثالث : أنّ الحركات تضاف إلى الإعراب فيقال : حركات الإعراب وضمّه إعراب والشيء لا يضاف إلى نفسه.

والرابع : أنّ الحركة والحرف يكونان في المبنيّ ، وقد تزول حركة المعرب بالوقف مع الحكم بإعرابه ، وقد يكون السكون إعرابا ، وهذا كلّه دليل على أنّ الإعراب معنى.

فصل : والأصل (١) في علامات الإعراب الحركات دون الحروف لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب دالّ على معنى عارض في الكلمة ، فكانت علامته حركة عارضة في الكلمة لما بينهما من التناسب.

والثانى : أنّ الحركة أيسر من الحرف وهي كافية في الدلالة على الإعراب ، وإذا حصل الغرض بالأخصر لم يصر إلى غيره.

والثالث : أنّ الحرف من جملة الصيغة الدالّة على معنى الكلمة اللازم لها ، فلو جعل الحرف دليلا على الإعراب لأدّى ذلك إلى أن يدلّ الشيء الواحد على معنيين ، وفي ذلك اشتراك ، والأصل أن يخصّ كلّ معنى بدليل.

فصل : فأمّا الإعراب بالحروف فلتعذّر الإعراب بالحركة ، وسترى ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) وأنواع الإعراب : رفع ونصب في اسم وفعل ك (زيد يقوم) وإنّ زيدا لن يقوم وجرّ في اسم ك (بزيد) وجزم في فعل ك (لم يقم).

والأصل : كون الرّفع بالضّمّة والنّصب بالفتحة والجرّ بالكسرة والجزم بالسّكون.

وأقول أنواع الإعراب أربعة : رفع ونصب وجر وجزم ، وعن بعضهم : أن الجزم ليس بإعراب وليس بشيء.

٥٤

فصل : وإنّما كانت ألقاب الإعراب أربعة ضرورة إذ لا خامس لها ، وذلك أنّ الأعراض إمّا حركة وإمّا سكون ، والسكون نوع واحد والحركات ثلاث ، فمن هنا انقسمت إلى هذه العدّة.

فصل : والإعراب دخل الأسماء لمسيس الحاجة إلى الفصل بين المعاني على ما سبق.

وقال قطرب : دخل الكلام استحسانا ؛ لأن المتكلّم يصل بعض كلامه ببعض ، وفي تسكين أواخر الكلم في الوصل كلفة فحرّك تسهيلا على المتكلم ولو كان الإعراب لحاجة الفصل وللفرق لاستغني عنه بتقديم الفاعل على المفعول ، ولكان الاتفاق في الإعراب يوجب الاتفاق في المعاني ، وليس كذلك ألا ترى أنّ قولك : (زيد قائم) مثل قولك : (هل زيد قائم) ، وقولك : (إنّ زيدا قائم) مثل قولك : (زيد قائم) في المعنى ، والجواب عمّا قاله من وجهين :

أحدهما : أن السكون أسهل على المتكلّم من الحركة.

والثانى : أنّ الغرض لو كان ما ذكر لكان المتكلّم بالخيار إن شاء حرّك بأي حركة شاء ، وإنّ شاء سكّن ، وأما التقديم فجوابه من وجهين :

أحدهما : أنّه لا يمكن في كلّ مكان ألا ترى أنّ التقديم في قولك : ما أحسن زيدا! غير ممكن.

والثانى : أنّ في لزوم التقديم تضييقا على المتكلّم مع حاجته إلى التسجيع وإقامة القافية.

وأمّا اختلاف الإعراب مع اتّفاق المعنى وعكسه فشيء عارض جاز لضرب من التشبيه بالأصول فلا يناقض به.

فصل : واختلفوا هل الإعراب (١) سابق على البناء أم العكس؟ فالمحقّقون على أنّ الإعراب سابق ؛ لأن واضع اللغة حكيم ، يعلم أنّ الكلام عند التركيب لا بدّ أن يعرض فيه لبس ، فحكمته تقتضي أن يضع الإعراب مقارنا للكلام.

__________________

(١) المعرب بحق الأصل هو الاسم والفعل المضارع محمول عليه ، وقال بعض الكوفيين : المضارع أصل في الإعراب أيضا.

وحجة الأولين : أن الإعراب أتي به لمعنى لا يصح إلا في الاسم فاختص بالاسم كالتصغير وغيره من خواص الاسم ، والدليل على ذلك : أن الأصل عدم الإعراب لأن الأصل دلالة الكلمة على المعنى اللازم لها والزيادة على ذلك خارجة عن هذه الدلالة. وإنما يؤتى بها لتدل على معنى عارض يكون تارة. والمعنى الذي

٥٥

وقال الآخرون : تكلّمت العرب بالكلام عاريا من الإعراب ، فلمّا عرض لهم اللبس أزالوه بالإعراب وهذا لا يليق بحكمتهم.

فصل : واختلفوا في حركات الإعراب : هل هي أصل لحركات البناء ، أم بالعكس ، أم كلّ واحد منهما في موضعه أصل؟

فذهب قوم إلى الأوّل ، وعلته : أن حركات الإعراب دوالّ على معان حادثة بعلّة بخلاف حركات البناء وما ثبت بعلّة أصل لغيره.

وذهب قوم إلى الثاني ، وعلّته : أن حركة البناء لازمة وحركة الإعراب منتقلة ، واللازم أصل للمتزلزل إذ كان أقوى منه وهذا ضعيف ؛ لأن نقل حركات الإعراب كان لمعنى ولزوم حركة البناء لغيره معنى.

وذهب قوم إلى الثالث ؛ لأن العرب تكلّمت بالإعراب والبناء في أول وضع الكلام ، وكلّ واحد منهما له علّة غير علّة الآخر ، فلا معنى لبناء أحدهما على الآخر.

فصل : وإنّما كان موضع حركة الإعراب آخر الكلمة لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب جيء به لمعنى طارئ على الكلمة بعد تمام معناها وهو الفاعلية والمفعوليّة ، فكان موضع الدالّ عليه بعد استيفاء الصيغة الدالّة على المعنى اللازم لها وليس

__________________

ـ يدل عليه الإعراب كون الاسم فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه لأنه يفرق بين هذه المعاني وهذه المعاني تصح في الأسماء ولا تصح في الأفعال فعلم أنها ليست أصلا بل هي فرع محمول على الاسماء في ذلك.

واحتج الآخرون بأن الإعراب في الفعل يفرق بين المعاني فكان أصلا كاعراب الأسماء وبيانه قولك : اريد أن ازورك فيمنعني البواب. إذا رفعت كان له معنى وإذا نصبت كان له معنى وكذلك قولك : لا يسعني شيء ويعجز عنك إذا نصبت كان له معنى وإذا رفعت كان له معنى آخر وكذلك باب الجواب بالفاء والواو نحو :

لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وهو في ذلك كالاسم إذا رفعت كان له معنى وإذا نصبت أو جررت كان له معنى آخر.

والجواب : أما إعراب الفعل فلا يتوقف عليه فهم المعنى بل المعنى يدرك بالقرائن المحققة به والإشكال يحصل فيه بالحركة التي لا يقتضيها المعنى لا بعدم الحركة ألا ترى أن قوله : أريد أن أزورك فيمنعني البواب لو سكنت العين لفهم المعنى ، وإنما يشكل إذا نصبتها وإنما جاء الإشكال من جهة العطف لا بالنظر إلى نفس الفعل إذ لا فرق بين قولك : يضرب زيد في الضم والفتح والكسر والسكون فانه في كل حال يدل على الحدث والزمان.

٥٦

كذلك لام التعريف وألف التكسير وياء التصغير ؛ لأن التعريف والتكسير والتصغير كالأوصاف اللازمة للكلمة بخلاف مدلول الإعراب.

والثانى : أنّ حركة الإعراب تثبت وصلا وتحذف وقفا ، وإنّما يمكن هذا في آخر الكلمة إذ هو الموقوف عليه.

والثالث : أنّ أوّل الكلمة لا يمكن إعرابه لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ من الإعراب السكون والابتداء بالساكن ممتنع.

والثانى : أنّ أوّل الكلمة متحرّك ضرورة ، وحركة الإعراب تحدث بعامل والحرف الواحد لا يحتمل حركتين.

والثالث : أنّ تحرّك الأوّل بحركة الإعراب فإمّا يفضي إلى اختلاط الأبنية ، ولا يمكن أن يجعل الإعراب في وسط الكلمة لأربعة أوجه :

أحدها : ما تقدّم من الوجه الأخير في منع تحريك الأول.

والثاني : أنّه يفضي إلى الجمع بين ساكنين في بعض المواضع.

والثالث : أنه يفضي إلى توالي أربع متحركات في كلمة واحدة ك (مدحرج) إذا تحرّكت الحاء إذ ليس معك ما يمكن تحريكه من الحشو غيره.

والرابع : أنّ حشو الكلمة قد يكون حروفا كثيرة وتعيين واحد منها بحركة الإعراب لا دليل عليه.

فصل : وألقاب الإعراب (١) أربعة : رفع ونصب وجرّ وجزم ، وألقاب البناء : ضمّ وفتحّ وكسر ووقف ، وتسمية كلّ واحد منها باسم الآخر تجوز ، وإنّما فرّقوا بينها في التسمية لافتراقها قي المعنى ، وذلك أنّ حركة الإعراب تحدث عن عامل ، وحركة البناء لا تحدث عن عامل ،

__________________

(١) أنواع الإعراب أربعة الرفع والنصب والجر والجزم فأما الرفع والنصب فيشترك فيهما الأسماء والأفعال نحو زيد يقوم وإن زيدا لن يقوم وأما الجر فيختص بالأسماء نحو بزيد وأما الجزم فيختص بالأفعال نحو : لم يضرب.

والرفع يكون بالضمة والنصب يكون بالفتحة والجر يكون بالكسرة والجزم يكون بالسكون وما عدا ذلك يكون نائبا عنه كما نابت الواو عن الضمة في أخو والياء عن الكسرة في بني من قوله جا أخوبني نمر.

٥٧

وإذا اختلفت المعاني اختلفت الأسماء الدالّة عليها ؛ ليكون كلّ اسم دالّا على معنى من غير اشتراك وهو أقرب إلى الأفهام.

فصل : وإنّما خصّوا الإعراب بالرفع (١) ؛ لأن الرفع ضمّة مخصومة والنصب فتحة مخصومة ، وكذلك الجرّ والجزم وحركة البناء حركة مطلقة ، والواحد المخصوص من الجنس لا يسمى باسم الجنس كالواحد من الآدميين إذا أردت تعريفه علّقت عليه علما كزيد وعمرو ، ولا تسمّيه رجلا لا اشتراك الجنس في ذلك ، فضّمة الإعراب كالشخص المخصوص ، وضمة البناء كالواحد المطلق.

فصل : والحركة مع الحرف لا بعده ولا قبله ، وقال قوم منهم ابن جني : هي بعده والدليل على الأوّل من وجهين :

أحدهما : أن الحرف يوصف بالحركة فكانت معه كالمدّ والجهر والشدّة ونحو ذلك ، وإنما كان كذلك لأن صفة الشيء كالعرض ، والصفة العرضية لا تتقدّم الموصوف ولا تتأخر عنه إذ في ذلك قيامها بنفسها.

والثاني : أنّ الحركة لو لم تكن مع الحرف لم تقلب الألف إذا حرّكتها همزة ، ولم تخرج النون من طرف اللسان إذا حركتها بل كنت تخرجها من الخيشوم ، وفي العدول عن ذلك دليل على أن الحركة معها.

واحتجّ من قال هي بعد الحرف بوجهين :

أحدهما : أنّك لمّ لم تدغم الحرف المتحرّك فيما بعده نحو : (طلل) دلّ على أنّ بينهما حاجزا وليس إلا الحركة.

والثاني : أنّك إذا أشبعت الحركة نشأ منها حرف ، والحرف لا ينشأ منه حرف آخر فكذلك ما قاربه.

__________________

(١) علامات الإعراب الأصليّة : الضمة للرفع والفتحة للنصب ، والكسرة للجر ، وحذف الحركة للجزم.

ويشترك في الرفع والنصب الاسم والفعل ، مثل قولك «العاقل يصون شرفه» و «أن العجول لن يتقن عملا». ويختصّ الجرّ بالاسم مثل : «في ساحة العلم الخلود» ويختصّ الجزم بالفعل ، مثل «لم ينل الخير ملول».

٥٨

والجواب عن الأوّل : أنّ الإدغام امتنع لتحصنّ الأوّل بتحرّكه (١) ، لا لحاجز بينهما كما يتحصّن بحركته عن القلب نحو : (عوض).

والجواب عن الثاني : من وجهين :

أحدهما : أنّ حدوث الحرف عن الحركة كان لأنها تجانس الحرف الحادث فهى شرط لحدوثه وليست بعضا له ؛ ولهذا إذا حذف الحرف بقيت الحركة بحالها ، ولو كان الحادث تماما للحركة لم تبق الحركة ، ومن سمّى الحركة بعض الحرف أو حرفا صغيرا فقد تجوّز ؛ ولهذا لا يصحّ النطق بالحركة وحدها.

والثانى : لو قدّرنا أنّ الحركة بعض الحرف الحادث لم يمتنع أن يقارن الحرف الأوّل ، كما أنّه ينطق بالحرف المشدّد حرفا واحدا وإن كانا حرفين في التحقيق ، إلا أنّ الأوّل لمّا ضعف عن الثاني أمكن أن يصاحبه والحركة أضعف من الحرف الساكن فلم يمتنع أن يصاحب الحرف.

فصل : ويتعلّق بهذا الاختلاف مسألة أخرى ، وهي أنّ الحرف غير مجتمع من الحركات عند المحققين لوجهين :

أحدهما : أنّ الحرف أصله السكون ومحال اجتماع ساكن من حركات.

والثاني : أنّ الحرف له مخرج مخصوص والحركة لا تختصّ بمخرج ولا معنى لقول من قال : إنه يجتمع من حركتين ؛ لأن الحركة إذا أشبعت نشأ الحرف المجانس لها لوجهين :

أحدهما : ما سبق من أنّ الحركة ليست بعض الحرف.

والثاني : أنّك إذا أشبعت الحركة نشأ منها حرف تامّ وتبقى الحركة قبله بكمالها ، فلو كان الحرف حركتين لم تبق الحركة قبل الحرف.

فصل : وقد سبق أنّ المعرب بحقّ الأصل الاسم المتمكّن ، فأمّا الفعل المضارع ففيه اختلاف يذكر في باب الأفعال.

__________________

(١) أي : بحركة حرف اللام الواقع بعد الطاء.

٥٩

فصل : فيما يستحقّه الاسم وهو الرفع والنصب والجرّ ؛ لأنه يقع على ثلاثة معان الفاعليّة والمفعوليّة والإضافة فخصّ كل معنى منها بإعراب يدلّ عليه ، فأمّا ما يخصّص كلّ واحد منها بما خصّ به فيذكر في بابه (١).

فصل : ولم يدخل الجزم الأسماء لستّة أوجه :

أحدها : أنّ الإعراب دخل الأسماء لمعنى على ما سبق ، وقد وفت الحركات بذلك المعنى وهو الفرق بين الفاعل والمفعول والمضاف إليه وليس ثمّ معنى رابع يدلّ عليه الجزم.

والثانى : أنّ الجزم ليس بأصل في الإعراب ؛ لأنه سكون في الأصل ، والسكون علامة المبنيّ أصلّ في البناء بشهادة الحسّ والوجدان ، إلا أنّه جعل إعرابا فرعا فخصّ بما إعرابه فرع وهو الفعل.

والثالث : أنّ الجزم دخل عوضا من الجرّ في الأسماء ، فلو دخل الأسماء لجمع لها بين العوض والمعّوض.

__________________

(١) الرفع ؛ ويدخل الاسم ، والفعل المضارع ؛ مثل : سعيد يقوم ، ومثل الخبر والمضارع فى قول الشاعر يمدح خبيرا حكيما :

يزن الأمور ؛ كأنما هو صيرف

يزن النّضار بدقّة وحساب

النصب ؛ ويدخل الاسم ، والفعل المضارع ؛ مثل ؛ إن سعيدا لن يقبل الهوان.

الجر ؛ ويدخل الاسم فقط ، مثل : بالله أستعين.

٦٠