اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

وإذا اتّصل ب (ظننت) ضمير منصوب فإن كانت مقدمة جاز أن تكون الهاء ضمير الشأن ويكون ما بعدها جملة ، وأن يكون ضمير المصدر أو ضمير زمان أو مكان مفعولا به على السعة فينتصب المفعولان بعدها.

وإن كانت متوسّطة جاز ذلك أيضا إلا ضمير الشأن ؛ لأنه لا يفسّر إلا بجملة بعده ، فإن قلت : زيد ظننته قائما ، فإن رفعت الاسمين على أن الهاء ضمير زيد لم يجز ؛ لأنّك قد أعملت الفعل في مفعول فلا بدّ من آخر ، وإن جعلتها ضمير المصدر كان الوجه نصبهما لأنّك قد أكّدت الظنّ ، فإن أتيت بلفظ المصدر كان التأكيد أشدّ وإلغائها بعيد مع التوكيد ، فإن قلت : ظننت ذلك ، جاز أن يكون كناية عن المصدر وأن يكون كناية عن الجملة.

فصل : ولا يجوز الاقتصار على أحد المفعولين هنا لما تقدّم ، ويترتب عليه مسألتان :

إحداهما : إذا وقعت (أنّ) وما عملت فيه بعد هذه الأفعال فعند سيبويه قد سدّت الجملة مسدّ المفعولين ، وليس في الكلام حذف ؛ لأن الجملة مشتملة على الجزأين لفظا ومعنى.

وقال الأخفش : المفعول الثاني محذوف ؛ لأن (أنّ) مصدرّية ، فتكون هي وما عملت فيه في تقدير المصدر المفرد كقولك : علمت أنّ زيدا قائم ، أي : علمت قيام زيد كائنا ، وهذا مستغنى عن تقديره لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه لا فائدة فيه.

والثاني : أنّ ما تعلّق به العلم والظنّ مصّرح به وهو القيام.

والثالث : أنّ (أنّ) للتوكيد مع بقاء الجملة على رمّتها فهي ك (لام الابتداء) وكما لا يحتاج هناك إلى تقدير مفعول كذلك ههنا.

المسألة الثانية : قولك : ظنّ زيد قائما أبوه. ف (زيد) فاعل و (قائما) مفعول و (أبوه) فاعل القيام ، وهذا لا يجوز عندنا إذ ليس في الكلام سوى مفعول واحد ، وأجازه الكوفيّون واحتجّوا بقول الشاعر (١) : [الطويل]

أظنّ ابن طرثوث عتيبة ذاهب

بعاديتي تكذابه وجعائله

وهذا شاذّ لا يعرّج عليه.

__________________

(١) البيت من شعر ذي الرمة.

١٨١

باب ما يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين

أقصى ما يتعدّى إليه الفعل من الفاعل ثلاثة (١) ، وذلك أنّ الأصل نسبة الفعل إلى المفاعيل ، ثمّ إنّ فعل الفاعل قد يفتقر إلى محلّ مخصوص يباشره مقصورا عليه مثل ضرب زيد عمرا ، وقد يحدث الفاعل الفعل لغيره بحيث يصير المحدث له الفعل فاعلا به كقولك : أضربت زيدا عمرا ، أي : مكّنته من إيقاع الضرب به فأنت فاعل التمكين من الضرب و (زيد) مفعول هذا التمكين و (الضرب) الممكّن منه حاصل من زيد في عمرو ف (زيد) فاعله و (عمرو) مفعوله.

وقد يكون فعل الفاعل متعلّقا بشيئين لا يتحقق بدونهما ، كقولك : أعطيت زيدا درهما ، فالإعطاء من الفاعل لا يتمّ إلا بالآخذ والمأخوذ ، إلا أنّ أحد الشيئين مفعول الإعطاء وفاعل الأخذ والآخر مفعول لا غير.

وقد يكون الفعل متعلّقا بمفعول واحد ولكن يذكر معه غيره لتوقّف فهمه عليه كقولك : ظننت زيدا قائما ، فالمفعول على التحقيق هو المطنون وهو القيام ، ولكن لا يفيد ذكره ما لم يذكر من نسب إليه.

وقد توجب هذا الفعل لغيرك فتصير فاعلا في المعنى لما تحدثه له ، والمستعمل من ذلك بلا خلاف فعلان : (أعلمت) و (أريت) المتعدّيان إلى مفعولين بغير همزة التعدّي كقولك : أعلمت زيدا عمرا عاقلا ، وهو قبل النقل : علمت زيدا عاقلا ، ثم عدّيته بالهمزة فأوجبت لزيد العلم بعقل عمرو ، وليس بعد هذه العدّة غاية يقصد بها التعدّي إليها إذا لا يتصوّر أن يوجد الإسناد لأكثر من واحد حتّى يصير بذلك فاعلا.

__________________

(١) المتعدّي إلى ثلاثة مفاعيل ، هو «أرى وأعلم وأنبأ ونبّأ وأخبر وخرّ وحدث». ومضارعها «يري ويعلم وينبيء وينبّىء ويخبر ويخبّر ويحدّث» ، تقول «أريت سعيدا الأمر واضحا ، وأعلمته إياه صحيحا ، وأنبأت خليلا الخبر واقعا ، ونبّأته إيّاه ، أو أخبرته إياه ، أو أخبرته إياه أو حدّثته إياه حقا».

والغالب في «أنبأ» وما بعدها أن تبنى للمجهول ، فيكون نائب الفاعل مفعولها الأول ، مثل «أنبئت سليما مجتهدا» ، قال الشاعر

نبّئت زرعة ، والسفاهة كاسمها

يهدي إليّ غرائب الأشعار

وقال الآخر

نبّئت أنّ أبا قابوس أو عدني

ولا قرار على زأر من الأسد

١٨٢

فصل : فأمّا : (نبّأت) و (أنبأت) ففعلان متعدّيان إلى شيء واحد وإلى ثان بحرف الجرّ كقولك : نبّأت زيدا عن حال عمرو أو بحال عمرو ، وقد يحذف حرف الجرّ كقوله تعالى : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) [التحريم : ٣] أي : عن هذا ، وقد ذهب قوم إلى أنّه يتعدّى بنفسه واستدلّ بهذه الآية ، وليس فيه دليل ؛ لأنه قد استعمل في مواضع أخر بحرف الجرّ أكثر من استعماله بغير حرف الجرّ ، فالحكم بزيادة الحروف في تلك المواضع لا يجوز فأمّا حرف الجرّ فأسوغ من الحكم بزيادته ؛ ولهذا كان أكثر كقولك : [البسيط]

أمرتك الخير (١) ...

فأما قوله تعالى : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) [التوبة : ٩٤] ف (من) عند سيبويه غير زائدة على ما أصلّنا ، وقال الأخفش : هي زائدة والمفعول الثالث محذوف تقديره : قد نبّأنا الله أخباركم مشروحة ، وهذا ضعيف لثلاثة أوجه :

أحدها : الحكم بزيادة الحرف من غير ضرورة إلى ذلك.

والثاني : زيادة (من) في الواجب وهو بعيد.

والثالث : حذف المفعول الثالث ، وهو كحذف المفعول الثاني في باب (ظننت) وهو غير جائز.

__________________

(١) البيت كاملا من البردة :

أمرتك الخير لكن ما ائتمرت به

وما استقمت فما قولي لك استقم

وهو من شعر شرف الدين البوصيري : (٦٠٨ ـ ٦٩٦ ه‍ / ١٢١٢ ـ ١٢٩٦ م) وهو محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري شرف الدين أبو عبد الله. شاعر حسن الديباجة ، مليح المعاني ، نسبته إلى بوصير من أعمال بني سويف بمصر ، أمّه منها. وأصله من المغرب من قلعة حماد من قبيل يعرفون ببني حبنون.

ومولده في بهشيم من أعمال البهنساوية ووفاته بالإسكندرية له (ديوان شعر ـ ط) ، وأشهر شعره البردة مطلعها :

أمن تذكّر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

شرحها وعارضها الكثيرون ، والهمزية ومطلعها :

كيف ترقى رقيك الأنبياء

وعارض (بانت سعاد) بقصيدة مطلعها :

إلى متى أنت باللذات مشغول

١٨٣

فصل : والفرق بين : (نبّات وأنبأت) وبين : (أعلمت) أنّ (أعلمت) استعملت بغير همزة التعدّي ثمّ عدّيت و (نّبأت وأنبأت) وضعتا على التعدّي ولم يستعمل منهما : (نبأ الرجل) و (خبرت وأخبرت وحدّثت) مثل : (نبّأت) ، وإنّما ساغ التعدّي إلى ثلاثة لشبهها ب (أعلمت) لأنّك إذا أخبرت إنسانا بأمر فقد أعلمته به.

فصل : واختلفوا في جواز تعدية : (ظننت) وأخواتها غير : (علمت ورأيت) فمذهب سيبويه ، والجمهور : أنّه لا يجوز إلا في : (علمت ورأيت) ؛ لأن تعدّي الفعل بالهمزة من باب وضع اللغة ألا ترى أنّ قولك : كّلمت زيدا لا تجوز تعديته بالهمزة ، فلا تقول : أكلمت زيدا عمرا ، بمعنى مكّنته من تكليمه ولم يرد السماع إلا ب (أعلمت وأريت) وأجاز الأخفش ذلك في جميع باب (ظننت) قياسا على : (أعلمت ورأيت) وهو بعيد لم قدّمنا.

فصل : لا خلاف في جواز الاقتصار على فاعل هذه الأفعال ، واختلفوا في جواز الاقتصار على المفعول الأول فذهب الأكثرون إلى جوازه كقولك : أعلمت زيدا ومنع منه قوم ، والدليل على جوازه أمران :

أحدهما : أنّه فاعل في المعنى والفاعل يجوز الاقتصار عليه في باب (ظننت) فكذلك ههنا.

والثاني : أنّ (زيدا) هنا مفعول الإعلام ، وليس بمبتدأ في الأصل بخلاف المفعول الأوّل في : (ظننت) فإنّه مبتدأ في الأصل غير مفعول به.

فصل : والمفعول الثالث في هذا الباب هو المفعول الثاني في باب (ظننت) فلا يجوز على هذا أن تقول : أعلمت زيدا عمرا بشرا فكلّ منهم غير الآخر إلا على تأويل ، وهو أن يكون المعنى أعلمت زيدا عمرا مثل بشر أو خيّلت له أنّ أحدهما هو الآخر أو يكون عمرو وبشر اسمين لرجل واحد.

فصل : ولا يجوز إلغاء هذه الأفعال بتعليقها عن العمل ولا بتوسّطها وتأخّرها ؛ لأن المفعول الأوّل فيها فاعل في المعنى ، وليس بمبتدأ في الأصل فعلى هذا لا تقول : أعملت لزيد عمرو ذاهب ، لأنّك إن جعلت : (ذاهبا) ل (عمرو) لم يعد على زيد ضمير ، وكذلك إن جعلته لزيد ثمّ إنّ المفعولين الآخرين غير المفعول الأول فلا يصحّ أنّ يجعل كباب (ظننت) ؛ لأن الثاني هو الأوّل.

١٨٤

باب المصدر

المصدر (١) : مشتقّ منك (صدرت الإبل عن الماء) إذا انصرفت ووّلته صدروها ، وسمّي بذلك لأن الفعل صدر عنه هذا مذهب البصريّين.

وقال الكوفيّون : المصدر مشتق من الفعل. والدليل على الأول أمران :

أحدهما : أنّ المصدر يدلّ على الحدث فقط والفعل يدل على الحدث والزمان ، وما يدلّ على معنى واحد كالمفرد وما يدلّ على معنيين كالمركّب ، والمفرد قبل المركّب.

والثاني : أنّ المصدر جنس يقع على القليل والكثير والماضي والمستقبل فهو كالعموم ، والفعل يختصّ بزمان معيّن والعام قبل الخاصّ ، وقد شبّه المصدر بالنقرة من الفّضّة في أنّها فضّة فقط وما يتخذ منها من مرآة أو قاروة ونحو ذلك بمنزلة الفعل من حيث أنّ فيه ما في المصدر وزيادة ، كما أنّ المرآة فيها الفضّة والصورة المخصوصة.

واحتجّ الكوفيّون بأنّ الفعل يعمل في المصدر والعامل قبل المعمول وهذا لا يصلح دليلا على ما ذهبوا إليه من وجهين (٢) :

__________________

(١) المصدر هو اللفظ الدّالّ على الحدث ، مجرّدا عن الزمان ، متضمّنا أحرف فعله لفظا ، مثل «علم علما ، أو تقديرا ، مثل «قاتل قتالا» أو معوّضا مما حذف بغيره ، مثل «وعد عدة ، وسلّم تسليما».

(فالعلم مشتمل على أحرف «علم» لفظا. والقتال مشتمل على ألف «قاتل» تقديرا ، لأن أصله «قيتال» ، بدليل ثبوت هذه الياء في بعض المواضع ، فنقول «قاتل قيتالا ، وضارب ضيرابا» وهذه الياء أصلها الألف في قاتل ، انقلبت ياء لانكسار ما قبلها. والعدّة أصلها «الوعد» حذفت الواو وعوّضت منها تاء التأنيث.

والتسليم أصله «السلام». بكسر السين وتشديد اللام ، حذف أحد حرفي التضعيف ، وعوّض منه تاء التفعيل ، فجاء على «تسلام» كالتكرار. ثم قلبوا الألف ياء ، فصار إلى «التسليم». فالتاء عوض من إحدى اللامين.

فان تضمن الاسم أحرف الفعل ولم يدل على الحدث ، كالكحل والدهن والجرح (بضم الأول في الثلاثة) ، فليس ، بمصدر. بل هو امس للأثر الحاصل بالفعل ، أي الأثر الذي يحدثه في الفعل).

وان دلّ على الحدث ، ولم يتضمن كل أحرف الفعل ، بل نقص عنه لفظا وتقديرا من دون عوض ، فهو اسم مصدر ، كتوضأ وضوءا ، وتكلم كلاما ، وسلم سلاما.

(٢) المصدر أصل الفعل ، وعنه يصدر جميع المشتقّات.

وهو قسمان مصدر للفعل الثلاثيّ المجرّد كسير وهداية ، ومصدر لما فوقه كإكرام وإمتناع وتدحرج.

وهو أيضا ، إما أن يكون مصدرا غير ميميّ «كالحياة والموت». وإما أن يكون مصدرا ميميا «كالمحيا والممات».

١٨٥

أحدهما : أنّ الاشتقاق يوجد من جهة المعاني والتصريف لا من باب العامل والمعمول.

والثاني : أنّ الحرف يعمل في الاسم ، وليس الحرف مشتّقا من الاسم ، وكذلك الفعل يعمل في الأعلام والأجناس التي ليست مصادر ، ولا يقال : هي مشتقّة منه.

فصل : وإنّما سمّي المصدر مفعولا مطلقا لوجهين :

أحدهما : أنّه المفعول على التحقيق ألا ترى أنّ قولك : (ضربت) أي : أوجدت الضرب بخلاف قولك : ضربت زيدا ، فإنك لم توجد زيدا ، وإنّما أوجدت به فعلا.

والثاني : أنّ لفظ المصدر مجرّد عن حرف جرّ فلا يقال : (به) ولا (فيه) ولا (له) ولا (معه) ، وإنّما كان كذلك ؛ لأنه لو قيل لك : ـ وقد ضربت مثلا ـ ما فعلت؟ قلت : الضرب ، وإذا قيل لك : بمن أوقعت الضرب؟ قلت : بزيد. فقيّدته بالباء ، ولو قيل : في أيّ زمان؟ أو في أيّ مكان؟ لقلت : في يوم كذا ، وفي مكان كذا ، ولو قيل : لأيّ غرض؟ لقيل : لكذا وكذا ، فقد رأيت كيف تقيّدت هذه المفاعيل بالحروف ما عدا المصدر.

فصل : والمصدر يذكر لأحد أربعة أشياء :

أحدها : توكيد الفعل كقولك : ضربت ، ف (ضربا) نائب عن قولك : (ضربت) مّرة أخرى ؛ لأن التوكيد يكون بتنكير اللفظ ، وإنّما عدلوا إلى المصدر كراهية إعادة اللفظ بعينه ؛ لأن الفعل الثاني جملة والمصدر ليس بجملة فكان أخصر وأبعد من التنكير.

والثاني : أن يذكر لبيان النوع كقولك : ضربت ضربا شديدا ، ذكرت : (ضربا) لتصفه بالشدّة التي يدلّ عليها الفعل.

والثالث : أن يذكر لتبيين العدد ويحتاج في ذلك إلى زيادة على المصدر وتلك الزيادة : (تاء التأنيث) نحو قولك : ضربت ضربة ، فإنّ التاء تدلّ على المرة ، وهنا يثنّى ويجمع نحو : ضربتين وضربات ؛ لأن لفظ الفعل لا يدلّ على العدد فذكر المصدر لتحصيل هذه الزيادة.

والرابع : أن يذكر المصدر لينوب عن الحال كقولك : قتلته صبرا ، أي : مصبورا أو محبوسا ويذكر في باب الحال بالباء.

فصل : وتقوم الآلة مقام المصدر كقولك : ضربته سوطا ، ف (سوط) هنا اسم للضربة بالسوط ، وإنّما جاز ذلك لم بين الفعل والآلة من الملابسة وحصل من هذا شيئان الاختصار

١٨٦

والتنبيه على أنّ الفعل كان بالآلة المخصوصة ، ولو لا ذلك لقلت : ضربته ضربة بسوط ، وليس السوط ههنا منصوبا على تقدير حذف حرف الجرّ لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ حذف الحرف ليس بقياس.

والثاني : أن في قولك : (سوطا) دلالة على المرّة الواحدة ، ألا ترى أنّك تقول : ضربته أسواطا ، ولو كانت الباء مرادة لم تدلّ على ذلك.

والثالث : أنّك تقول : ضربته مائة سوط ، ولا تريد مائة ضربة بسوط ؛ إذ لو أردت ذلك لكان المعنى : أنّ جميع الضربات بآلة واحدة ، وليس المعنى عليه ، بل يقول : ضربته مائة سوط ، وإن كانت كلّ ضربة بآلة غير الآلة الأخرى.

فصل : والعدد المضاف إلى المصدر ينتصب نصب المصدر كقولك : ضربته ثلاث ضربات ، لما بين العدد والمعدود من الملابسه والاتّصال ، وكذلك صفة المصدر إذا أضيفت إليه كقولك : سرت أشدّ السير ؛ لأن الصفه هي الموصوف في المعنى وإنما قدّمت لتدلّ على المبالغه.

فصل : ولا يثنّى المصدر ولا يجمع ما دام جنسا لدلالته على جميع أنواع الحدث ، وإنّما يثنّى ويجمع ما لا يدلّ واحده إلا على مقدار واحد ، فإن اختلفت أنواعه ثني وجمع ؛ لأن كلّ نوع منها متّميّز عن الآخر بصفه تخصّه فيصير بمنزلة أسماء الأعلام ، وكذلك إن زيد فيه : (تاء التأنيث) كالضربة ؛ فإنه يدلّ على الواحد لا غير ؛ فإذا وجدت فيه أعداد احتيج إلى ما يدلّ عليها (١).

__________________

(١) ينوب عن المصدر ـ فيعطى حكمه في كونه منصوبا على أنه مفعول مطلق ـ اثنا عشر شيئا

١ ـ اسم المصدر ، نحو «أعطيتك عطاء» ، و «اغتسلت غسلا» و «كلّمتك كلاما» و «سلّمت سلاما».

٢ ـ صفته ، نحو «سرت أحسن السير» و (اذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً).

٣ ـ ضميره العائد اليه ، نحو «اجتهدت اجتهادا لم يجتهده غيري». ومنه قوله تعالى (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ.)

٤ ـ مرادفه ـ بأن يكون من غير لفظه ، مع تقارب المعنى ـ نحو «شنئت الكسلان بغضا». و «قمت وقوفا» و «رضته إذلالا» و «أعجبني الشي حبا» ، وقال الشاعر

يعجبه السّخون والبرود

والتّمر ، حبّا ما له مزيد

٥ ـ مصدر يلاقيه في الاشتقاق ، كقوله تعالى (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) وقوله (تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً.)

٦ ـ ما يدلّ على نوعه ، نحو «رجع القهقرى» و «قعد القرفصاء» و «جلس الاحتباء» و «اشتمل الصّمّاء». ـ

١٨٧

فصل : وأمّا قولهم : (قعد القرفصاء) و (اشتمل الصماء) فاختلفوا في الاسم المنصوب هنا على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه منصوب بالفعل الذي قبله ؛ لأن (القرفصاء) نوع من القعود و (الصمّاء) نوع من الاشتمال ؛ فإذا عمل (قعد) في القعود الجامع لأنواعه كان عاملا في نوع منه لدخوله تحت الجنس هذا قول سبيويه.

ومن البصريّين من قال : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : (القعدة القرفصاء) فعلى هذا في الكلام حذف ولكنّ العامل في الصفة العامل في الموصوف غير أنّه بواسطة.

ومن النحويّين من قال : ينتصب بفعل محذوف دلّ عليه (قعد) تقديره تقرفص القرفصاء ، وفي ذلك تعسّف مستغنى عنه ؛ لأن (تقرفص) لو استعمل لكان بمعنى (قعد) ؛ فإذا وجدت لفظة : (قعد) كانت أولى بالعمل إذ هي أصل (تقرفص).

فصل : ومن ذلك : (أبغضه كراهية) و (أعجبني حبّا شديدا) فالاسم هنا يتنصب بالفعل الذي قبله ؛ لأنه يقرب من معناه.

__________________

٧ ـ ما يدلّ على عدده نحو «أنذرتك ثلاثا» ، ومنه قوله تعالى (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.)

٨ ـ ما يدلّ على آلته التي يكون بها ، نحو «ضربت اللصّ سوطا ، أو عصا ، ورشقت العدوّ سهما ، أو رصاصة أو قذيفة. وهو يطّرد في جميع أسماء آلات الفعل. فلو قلت «ضربته خشبة ، أو رميته كرسيّا ، لم يجز لأنهما لم يعهدا للضرب والرمي.

٩ ـ «ما» و «أيّ» الإستفهاميّتان ، نحو «ما أكرمت خالدا؟» و «أيّ عيش تعيش؟» ، ومنه قوله تعالى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.)

١٠ ـ «ما ومهما وأيّ» الشّرطيّات «ما تجلس أجلس» و «مهما تقف أقف» و «أيّ سير تسر أسر».

١١ ـ لفظ كل وبعض وأي الكماليّة ، مضافات إلى المصدر ، نحو (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) و «سعيت بعض السعي» «واجتهتدت أيّ اجتهاد».

وسميت «أيّ» هذه بالكمالية ، لأنها تدل على معنى الكمال. وهي إذا وقت بعد النكرة كانت صفة لها ، نحو «خالد رجل أيّ رجل» أي هو كامل في صفات الرجال. وإذا وقعت بعد المعرفة كانت حالا منها ، نحو «مررت بعبد الله أيّ رجل». ولا تستعمل إلا مضافة وتطابق موصوفها في التذكير والتأنيث ، تشبيها لها بالصفات المشتقات. ولا تطابقه في غيرهما.

١٢ ـ اسم الإشارة مشارا به إلى المصدر ، سواء أأتبع بالمصدر ، نحو «قلت ذلك القول» أم لا ، كأن يقال «هل اجتهدت اجتهادا حسنا؟» ، فتقول «اجتهدت ذلك».

١٨٨

باب المفعول به

قد ذكرنا في باب الفاعل علّة انتصاب المفعول ، والكلام في هذا الباب في أقسام الفعل في اللزوم والتعدّي ، وهو على ضربين : لازم ومتعدّ.

فاللازم : ما لا يفتقر بعد فاعله إلى محلّ مخصوص يحفظه كقولك : قام وجلس وأحمرّ وتدحرج ، فإن اتّصل به جارّ ومجرور كقولك : (جلست إليه) كان الجارّ والمجرور في موضع نصب كأنّك قلت : أتيته وعاشرته ، ونحو ذلك.

وأمّا المتعّدي : فما افتقر بعد فاعله إلى محلّ مخصوص يحفظه ، وذلك على ثلاثة أضرب :

أحدها : لم تستعمله العرب إلا بحرف جرّ كقولك : مررت بزيد ف (مررت) يفتقر إلى ممرور به ولكن لم يستعمل إلا بالباء ، وكذلك عجبت من زيد فإن جاء في الشعر شيء بغير حرف فضرورة.

والضرب الثاني : يستعمل بحرف جرّ تارة وبغير حرف جرّ أخرى ، وكلّ ذلك اختيار كقولك : نصحت لك ونصحتك ، ففي الموضع الذي استعمل بغير حرف لا يقال حذف الحرف منه ؛ لأن حذف حرف الجرّ ليس بقياس ، وفي الموضع الذي ذكر لا يقال هو زايد ؛ لأن زيادة الجارّ ليست بقياس أيضا ، وإذا جاء الأمران في الاختيار دلّ على أنّهما لغتان.

والضرب الثالث : ما يتعدى بنفسه وهو على ثلاثة أضرب ؛ أحدها : يتعدى إلى واحد ك (ضربت زيدا) ونحوه من أفعال العلاج ، وك (أبصرت زيدا) وغيره من أفعال الحواس.

فأمّا : (سمعت) فالقياس أن يتعدّى إلى واحد ممّا يسمع كقولك : سمعت قولك وصوتك. فأمّا قولهم : سمعنا زيدا يقول ذلك ف (زيد) هنا لّما كان هو القائل واتّصل به ما يدل على المسموع جعل مفعولا أوّل و (يقول) في موضع المفعول الثاني ؛ لأن القول والقائل متلازمان فأمّا قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) [الشعراء : ٧٢] ففيه قولان :

أحدهما : أنّ التقدير هل يسمعون دعاءكم كما قال في الأخرى : (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) [فاطر : ١٤] والآخر أنّ المفعول الثاني محذوف أي يسمعونكم إذ تدعون.

والضرب الثاني : متعدّ إلى مفعولين فمنه : (ظننت وأخواتها) ، وقد ذكرت.

١٨٩

ومنه متعدّ إلى مفعولين ثانيهما غير الأوّل نحو : أعطيت زيدا درهما ؛ لأن الإعطاء يقتضي آخذا ومأخوذا ، ويجوز تقديم أحدهما على الآخر إلا أن يؤدّي إلى اللبس كقولك : أعطيت زيدا عمرا فكل واحد منهما يصلح أن يكون آخذا وأن يكون مأخوذا ؛ فإذا لم يبن أحدهما من الآخر إلا بتقديم الآخذ لزم تقديمه كما يلزم في الاسمين المقصورين أن يتقدّم الفاعل.

فصل : وقد يكون الفعل متعدّيا إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بحرف الجرّ ثمّ يحذف الحرف فيتعدى إليه الفعل بنفسه كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف : ١٥٥] والتقدير من قومه.

فإن قيل : لم لا يكون الثاني بدلا من الأوّل؟

قيل : لأن الاختيار يقتضي أن يكون المختار بعضا من كلّ ؛ لأن ما هو واحد في نفسه لا يصحّ اختياره ، وإذا لم يكن بدّ من مختار منه لم يصحّ البدل ومن ذلك قولهم : [البسيط]

أمرتك الخير ...

أي : بالخير ، وأمّا قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] ففيه وجهان :

أحدهما : أنّ (ما) مصدريّة أي بالأمر وهو المأمور به.

والثاني : هي بمعنى : (الذي) فتقديره بالذي تؤمر بالصدع به ، ثم حذفت (الباء) ووصل الضمير ، فصار (بصدعه) ثمّ حذف (الصدع) ، فصار : (تؤمر به) ثم حذفت الباء والهاء دفعة واحدة في قول سيبويه ، وعلى قول الأخفش حذف : (الباء) فصار : (تؤمره) ثمّ حذفت الهاء.

فصل : فيما يعدّي الفعل وهي خمسة الهمزة كقولك : فرح زيد وأفرخته وتشديد العين كقولك : فرّحته ومعناها واحد والباء كقولك : فرحت به ، ومعناه غير معنى الأوليّن والتمثيل المطابق للأوّلين ذهبت بزيد ، أي : أذهبته كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [البقرة : ٢٠] وسين استفعل وزائدها وهما الهمزة والتاء كقوله : خرج الشيء واستخرجته ، وألف المفاعلة نحو : جلس زيد وجالسته ، وقربت من البلد وقاربته.

١٩٠

باب المفعول فيه

وهو الظرف وهو أسماء الزمان والمكان ، وسّميت بذلك لأن الأفعال تقع فيها وتحلّها ولا تؤثّر فيها فهي كالإناء والحالّ فيه غيره ؛ ولذلك سمّاها بعضهم : (أوعيه) وبعضهم : (محالّ).

فصل : والذي يطلق عليه : (الظرف) عند النحويّين ما حسن فيه إظهار (في) وليست في لفظه ؛ لأن الحرف الموضوع لمعنى الظرفيه (في) ؛ فإذا لم تكن ودلّ الاسم عليها صار مسمّى بها.

فصل : ولم يبن الظرف ؛ لأنه لم يتضمّن معنى (في) بدليل صحّة ظهورها معه ، ولو كان متضمّنا معناها لم يصحّ إظهارها معه كما لا يصحّ ظهور الهمزة مع : (أين) و (كيف) ، وإنّما حذفت : (في) للعلم بها.

فصل : وإنّما عمل الفعل في جمبع أسماء الزمان ؛ لأن صيغة الفعل تدلّ عليه كما تدلّ على المصدر إلا أنّ دلالتها على الزمان من جهة حركاته وعلى المصدر من جهة حروفه وكلاهما لفظ.

أحدهما : أنّها تخصّ جزءا من الجهة التي تدلّ عليها ك (الأمام) فإنّه لا يتناول بعض ما قابلك بل يقع على تلك الجهة إلى آخر الدنيا كما أنّ (قام) يدلّ على ما مضى من الزمان من أوّله إلى وقت إخبارك ، كذلك : (يقوم) يصلح للزمان المستقبل من أوّله إلى آخره.

والثاني : أنّ هذه الجهات لا لبث لها إذ هي بحسب ما تضاف إليه وتتبدل بحسب تنقّل الكائن فيها فقولك : (خلف زيد) يصير أماما له عند تحوّله أو يمينا له أو يسارا و (خلف زيد) هو أمام لعمرو ويمين لخالد ويسار لبشر كما أنّ الزمان لا لبث له بخلاف المكان المختصّ ، فإنّه بمنزلة الأشخاص إذ كان بجثّة محددة كالدار والبصرة فمن هنا لا تقول : جلست الدار ، كما تقول : جلست خلفك.

فأمّا قولهم : (هو منّي مناظ الثريا ومزجر الكلب) إذا أرادوا البعد ومقعد القابلة ومقعد الإزار ففيه وجهان :

أحدهما : أنّ الأصل فيها تستعمل ب (في) لكنّهم حذفوها تخفيفا كما قالوا : [البسيط]

أمرتك الخير ...

١٩١

والثاني : أنّ هذه الأمكنة لّما أريد بها المبالغة ولم يقصد بها أمكنة معيّنة محدودة صارت كالأمكنة المبهمة.

مسألة : تقول : (دخلت البيت بغير في) واختلف النحويّون فيه فقال سيبويه : هو لازم ، وإنّما حذفت (في) تخفيفا لكثرة الاستعمال. وقال الجرميّ : هو متعدّ مثل : (بنيت) و (عمرت) ونحو ذلك.

أحدها : أنّه لو كان متعدّيا هنا لكان متعديا في كلّ موضع صحّ معناه فيه ، وليس الأمر على ذلك ألا ترى أنّك تقول : دخلت في هذا الأمر ، ولو قلت : دخلت الأمر ، لم يستقم مع أنّ معناه لابست الأمر ووليته.

والوجه الثاني : أنّك تقول دخلنا في شهر كذا و (في) هنا غير زائدة لأنّهم لم يستعملوه بغير : (في) ولأنّ الأصل إلا يزاد حرف الجرّ.

والثالث : أنّ مصدر دخلت : (الدخول) وكلّ مصدر كان على : (فعول) ففعله لازم كالجلوس والقعود.

والرابع : أنّ نظيره : (غرت وغصت وغبت) وكلّها لازم ونقيضه : (خرجت) وهو لازم أيضا ، وذلك يؤنس بكون : (دخلت) لازما.

فصل : يجوز أن يجعل ظرف الزمان والمكان مفعولا به على السّعة وتظهر فائدته في موضعين :

أحدهما : أن تضيف إليه كقولهم : [الرجز]

يا سارق الليلة أهل الدار

كما تقول : (يا سارق ثوب زيد) ولا يجوز أن يكون هنا ظرفا ؛ لأن (في) مع الظرف مقدّرة وتقدير (في) يمنع الإضافة.

والثاني : أنّك إذا أخبرت عنه ـ وهو مفعول به ـ لم تأت بحرف الجرّ مع ضميره كقولك : يوم الجمعة سرته ، فإن جعلته ظرفا قلت : سرت فيه.

١٩٢

وإنّما جاز حذف (في) مع الظرف دون ضميره ؛ لأن لفظ الظرف يدلّ على الحرف إذ كان صريحا في الظرف ، والضمير لا يختصّ بالظرف بل يصلح له ولغيره ، وأمّا قول الشاعر : [الكامل]

فلأبغينّكم قنا وعوارضا

ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد

ف (قنا) و (عوارض) و (لابة ضرغد) أمكنة معيّنة وعدّى الفعل إليها بنفسه كما عدّى (دخلت) بنفسه ، وقيل : جعلها مفعولا بها على السعة.

١٩٣

باب المفعول له

من شرط المفعول له أن يكون مصدرا يصحّ تقديره باللام التي يعلّل بها الفعل ، والمفعول له هو الغرض الحامل على الفعل ، ولّما كان كّل حكيم وعاقل لا يفعل الفعل إلا لغرض جعل ذلك الغرض : (مفعولا من أجله) وهو منصوب بالفعل الذي قبله لازما أو متعديّا ؛ لأن الفعل يحتاج إليه كاحتياجه إلى الظرف وكما حذف حرف الجرّ في الظرف جاز هنا ، ويجوز أن يكون المفعول له نكرة بلا خلاف كقولك : (زرتك طمعا) فأمّا المعرفة فذهب الجمهور إلى جواز جعلها مفعولا له ومنعه الجرميّ ، والدليل على جوازه قول العجّاج : [الرجز]

يركب كلّ عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

والهول من تهوّل الهبور

و (الهول) هنا معطوف على (مخافة) ولأنّ الغرض قد يكون معروفا عند المخاطب ؛ فإذا ذكر علم أنّه المعهود عنده ؛ ولذلك تجوز المعرفة مع ظهور اللام كقولك : (أتيتك للطمع) ولا فرق بين ظهور اللام وحذفه في المعنى ، ويجوز تقديم المفعول على الفعل لتصرّف العامل وأنّ المفعول له كالظرف في تقدير الحرف.

١٩٤

باب المفعول معه

كلّ اسم وقع بعد الواو التي بمعنى : (مع) وقبلها فعل وفاعل فذلك الاسم منصوب واختلفوا في ناصبه.

فمذهب سيبويه والمحقّقين أنّه الفعل المذكور كقولك : (قمت وزيدا) فالناصب : (قمت) ؛ لأن الاسم منصوب والنصب عمل ولا بدّ للعمل من عامل و (الواو) غير عاملة للنصب ولا شيء هنا يصلح للعمل إلا الفعل.

فإن قيل : الفعل هنا لازم والواو غير معدّية له إلى المنصوب؟

قيل : المتعدّي إلى الاسم ما تعلّق معناه به والواو علقّت الفعل بالاسم فكان الناصب هو الفعل بواسطة الواو كما كان الفعل عاملا في المستثنى بواسطة : (إلا) ؛ لأنها علّقت الفعل بما بعدها ولم تصلح هي للعمل.

وقال الزجاج : الناصب له فعل محذوف تقديره : (قمت) أو (لابست) أو (صاحبت) زيدا ولا يعمل الفعل المذكور لحيلولة الواو بينهما وهذا ضعيف ؛ لأن الفعل المذكور إذا صحّ أن يعمل لم يجعل العمل لمحذوف ، وقد صحّ بما تقدّم ، وأمّا الواو فغير مانعة لوجهين :

أحدهما : أنّ بها ارتبط الفعل بالاسم فأثّر فيه في المعنى فلا يمنع من تأثيره فيه لفظا.

والثاني : أنّها في العطف لا تمنع كقولك : ضربت زيدا وعمرا. فالناصب ل (عمرو) الفعل المذكور لا الواو ولا فعل محذوف.

وقال الكوفيّون : ينتصب على الخلاف ، وقد أفسدناه في باب (ما). ومعنى كلامهم : أنّ الاسم الثاني غير مشارك للأوّل في الفعل المذكور فلم يرفع لذلك بل نصب كما ينصب المفعول للخلاف.

وقال أبو الحسن الأخفش : ينتصب الاسم انتصاب الظروف ؛ لأنه ناب عن (مع) كما أنّ (غيرا) في الاستثناء تعرب إعراب الاسم الواقع بعد (إلّا) ، وهذا ضعيف لبعد ما بين هذه الأسماء وبين الظروف و (مع) ظرف و (الواو) قائمة مقامها في المعنى ، فإذن ليس في اللفظ ما يصلح أن يكون ظرفا ولا فرق بين تقوية الفعل بحرف الجرّ والواو حتّى يتّصل معناه بالاسم

١٩٥

إلا أنّ حرف الجرّ عمل والواو لا تعمل فكان وصول الفعل إلى الاسم بعد الواو كعمل الفعل في موضع الجارّ والمجرور.

فصل : وإنّما حذفت (مع) اختصارا وتوسّعا ، وإنّما أقيمت مقامها دون غيرها لتقارب معناهما ؛ لأن (مع) للمصاحبة و (الواو) للجمع والاجتماع مصاحبة.

فصل : والفرق بين الرفع والنصب هنا أنّك إذا رفعت كان الاسم الثاني كالأوّل في نسبة الفعل إليه ، وإذا نصبت كان الفعل للأوّل ولكن تبعا للثاني مثاله : (اذهب أنت وزيدا) إذا رفعت كنت آمرا لهما بالذهاب ، وإن نصبت كنت آمرا للمخاطب دون زيد حتّى لو لم يذهب زيد لم يلزم المخاطب الذهاب ، وإنّما يلزمه متابعة زيد في الذهاب.

وتقول : كنت أنا وزيد أخوين إذا رفعت ثنّيت الخبر ، وإذا نصبت لم تجز المسألة لأنّك لو صرّحت ب (مع) لم تجز التثنية كقولك : كنت مع زيد أخوين.

فصل : ولا يجوز تقديم المفعول معه على العامل فيه ولا على الفاعل كقولك : والخشبة استوى الماء واستوى والخشبة الماء ، وإنّ الواو ولإنّ كانت بمعنى (مع) فمعنى العطف لا يفارقها ، فلو قدّمت لتقدّم المعطوف على المعطوف عليه ، وذلك غير جائز في الاختيار.

فصل : وإذا لم يكن فى الكلام فعل لم يجز النصب فيما بعد الواو بمعنى (مع) ؛ لأن الواو مقويّة للفعل حتّى يصل إلى الاسم فيعمل فيه ؛ فإذا لم يكن فعل لم يكن عامل يقوّي.

وقد أجازوا النصب في موضعين :

أحدهما قولهم : (ما أنت وزيدا).

والثاني : (كنت أنت وزيدا) فالرفع والنصب فيهما جائزان فالرفع على تقدير : (وما زيد) فإنّما تقول ذلك في المنع من التّعرض به والنصب على تقدير : ما تكون أنت وزيدا؟ وكيف تكون أنت وزيدا؟ فأضمروا (كان) لكثرة دورها في الكلام ؛ ولذلك أضمروها في مواضع منها إن خيرا فخير.

فصل : وأكثر البصريين يذهب إلى أنّ هذا الباب مقيس لصحّة المعنى فيه وتصوّر عامل النصب وامتنع قوم منهم من القياس على المسموع منه ؛ لأن إقامة الحرف مقام الاسم مع اختلاف معناهما وعملهما غير مقيس فيقتصر فيه على السماع.

١٩٦

باب الحال

الحال : مؤنثة لقولك في تصغيرها : (حويلة) ، وحقيقتها أنّها هيئة الفاعل أو المفعول وقت وقوع الفعل المنسوب إليهما.

وأصلها : أن تكون اسما مفردا ؛ لأنها تستحقّ الإعراب ، وكلّ معرب مفرد ، والأفعال ليست مفردة ، وإنّما لزم أن تكون نكرة لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها في المعنى خبر ثان ، ألا ترى أنّ قولك : جاء زيد راكبا قد تضمّن الإخبار بمجيء زيد وبركوبه حال مجيئه ، والأصل في الخبر التنكير.

والثاني : أنّ الحال جواب من قال : كيف جاء؟ و (كيف) سؤال عن نكرة.

والثالث : أنّ الحال صفة للفعل في المعنى ؛ لأن قولك : (جاء زيد راكبا) يفيد أنّ مجئيه على هيئة مخصوصة والفعل نكرة فصفته نكرة.

وإنّما وجب أن تكون مشتقّة ؛ لأنها صفة وكلّ صفة مشتقة فإنّ وقع الجامد حالا فهو محمول على المعنى كقولك : (هذا زيد أسدا) أي : شجاعا جزئيا ، و (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الأعراف : ٧٣] أي : دالّة معرّفة ، وكذلك نظائره.

وإنّما لزم أن تكون منتقلة ؛ لأنها خبر في المعنى والأخبار تتجدّد فيجهل المتجدّد منها فتمسّ الحاجة إلى الأعلام به.

وإنّما قدرت ب (في) ؛ لأنها مصاحبة للفعل على ما ذكرنا والمصاحبة مقارنة الزمان وعلامة الزمان : (في) ، وإنّما لزم أن يكون صاحبها معرفة أو كالمعرفة بالصفة ؛ لأنها كالخبر والخبر عن النكرة غير جائز ؛ لأنه إذا كان نكرة أمكن أن تجري مجرى الحال صفة فلا حاجة إلى مخالفتها إيّاه في الإعراب.

وقد جاءت أشياء تخالف مأصّلنا ردّت بالتأويل إلى هذه الأصول فمن ذلك وقوع الحال معرفة كقولهم : [البسيط]

أرسلها العراك ...

١٩٧

والتحقيق : أنّ هذا نائب عن الحال ، وليس بها ، بل التقدير أرسلها معتركة ثم جعل الفعل موضع اسم الفاعل لمشابهته إياه فصار : (تعترك) ثمّ جعل المصدر موضع الفعل لدلالته عليه ويدلّ على ذلك أنّ الحال وصف وصيغ الأوصاف غير صيغ المصادر.

ومن ذلك رجع عوده على بدئه ففي هذه المسألة الرفع والنصب ، ففي الرفع وجهان :

أحدهما : هو فاعل (رجع).

والثاني : هو مبتدأ و (على بدئه) الخبر.

وأمّا النصب ففيه قولان :

أحدهما : هو مفعول به ، أي : ردّ عوده وأعاده كقوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) [التوبة : ٨٣].

والثاني : هو حال ، والتقدير : رجع عائدا ثمّ يعود ، ثمّ عوده كما تقدّم ومثل ذلك : (افعله جهدك) أي : مجتهدا ، ثمّ يجتهد قثّم ثمّ جهدك.

ومن ذلك : (كلّمته فاه إلى فيّ) تقديره : مكافحا أو مشافها ثمّ حذف هذا وجعل : (فاه إلى فيّ) نائبا عنه ويجوز : (فوه إلى فيّ) والجمله على هذا حال.

ومن ذلك مجيء صاحب الحال نكرة كما جاء في الحديث : «فجاء رسول الله على فرس سابقا» في قول من جعله حالا من الفرس ، فإن كانت الرواية هكذا أمكن أن يكون (سابقا) حالا من الفاعل ، وإن كانت الرواية لا يمكن فيها ذلك حمل على مجيء الحال من النكرة ، والفرق بينها وبين الصفة أنّك لو قلت : على فرس سابق ، فجررت جاز أن يكون معروفا بالسبق ، ولا يكون سابقا في تلك الحال وإن نصبت لزم أن يكون سبق في تلك الحال.

ومن ذلك وقوع الجامد حالا كقولك : بيّنت له حسابه بابا بابا ، والتقدير : بيّنته مفصلا.

ومن ذلك الحال المؤكدة كقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) [البقرة : ٩١] وقول الشاعر (١) : [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

فهل بدارة يا للنّاس من عار

__________________

(١) البيت للشاعر سالم بن دارة.

١٩٨

وإنّما كانت هذه الحال مؤكّدة ؛ لأن الحق لا يكون إلا مصدّقا للحق ، وإنّما جيء بها لشدّة توكيد الحقّ بالتصريح المغني عن الاستنباط والعامل في هذه الحال ما في الجملة من معنى الفعل ، تقديره وهو الثابت مصدّقا وصاحب الحال الضمير في ثابت.

فصل : والعامل في الحال ضربان : فعل ومعنى فعل ، فالفعل مثل : أقبل وجاء ونحوهما ، فهذا يجوز فيه تقديم الحال على صاحبها وعلى العامل فيه ؛ لأن العامل قويّ متصرّف والحال كالمفعول.

وقال الفرّاء : لا يجوز تقديمها لما يلزم من تقديم الضمير على ما يرجع إليه وهذا ليس بشيء ؛ لأن النيّة به التأخير فيصير كقولهم : في أكفانه لفّ الميت ، ومنه قوله تعالى : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧].

وأمّا العامل المعنويّ فكأسماء الإشارة كقولك : هذا زيد قائما ، وإنّما عمل لأن معناه أنبّه ، وأشير إليه في حال قيامه ولا يتقدم الحال على هذا العامل ؛ لأنه غير متصرف والتقديم تصرّف فلا يستفاد بغير متصرّف (١).

وأما تقديمها على صاحب الحال فجائز كقولك : هذا قائما زيد ؛ لأنها بعد العامل.

فإن قيل : هلّا عملت أسماء الإشارة في المفعول به؟

قيل : المفعول به غير الفاعل ، فلو عملت فيه أسماء الإشارة بمعناها لعملت فيه جميع الحروف نحو : (ما) و (همزة الاستفهام) ومعلوم أنّها لا تعمل فيه.

والعلّة في ذلك : أنّ معنى الحرف في الاسم ، فلو عمل فيه بمعناه لصار العامل في الاسم المعنى القائم به ولأنّ الحروف نابت عن الجمل ، فلو عملت كانت كالجمل.

فأمّا عمل المعنى في الحال فلأنّها تشبه الظرف إذ كانت تقدّر ب (في) إلا أنّ الظرف قد يتقدم على العامل المعنويّ بخلاف الحال والفرق بينهما من وجهين :

أحدهما : أنّ الحال تشبه المفعول به إذ كانت ظرفا على الحقيقة.

__________________

(١) يعمل في المفعول المطلق أحد ثلاثة عوامل الفعل التام المتصرّف ، نحو «أتقن عملك إتقانا» ، والصفة المشتقّة منه ، نحو «رأيته مسرعا إسراعا عظيما» ، ومصدره ، نحو «فرحت باجتهادك اجتهادا حسنا» ، ومنه قوله تعالى (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً).

١٩٩

والثاني : أنّها تشبه الصفة والعامل في الصفة هو العامل في الموصوف والموصوف إمّا فاعل وإمّا مفعول به.

فصل : فأمّا تقديم الحال على العامل (١) إذا كان ظرفا فقد أجازه أبو الحسن بشرط تقدّم المبتدأ عليها كقولك : زيد قائما في الدار. وتقدم الظرف عليهما كقولك : في الدار قائما زيد. ولا يجوز عند الجميع : قائما زيد في الدار ، ولا قائما في الدار زيد ، واحتجّ بشيئين :

أحدهما : أنّ تقديم أحد الجزئين كتقديمهما لتوقّف المعنى عليهما.

والثاني : أنّ الظرف متعلّق بالفعل فكأنّ الفعل ملفوظ به.

والجواب : أنّ الظرف على كلّ حال غير عامل بلفظه فصار كأسماء الإشارة ، وتقدّم أحد الجزئين لا يخرجه عن أن يكون معنويّا ، وأن التقديم تصرّف والظروف لا تصرّف لها ثم هو باطل بقولك : زيد قائما. هذا إذا جعلت (زيدا) مبتدأ و (هذا) خبره ، وأمّا تعلّقه بالفعل فلا يوجب جواز التقديم ؛ لأن العمل للظرف لا لذلك الفعل ، وربما قيل : إنّ عمل الظرف أضعف من عمل معنى الإشارة ؛ لأن الفعل يصحّ إظهاره مع الظرف فتبيّن أنّ العمل للفعل ، وأمّا معنى الإشارة فلا يجتمع مع اسم الإشارة ، فصار اسم الإشارة بمنزلة نفس العامل.

__________________

(١) الأصل في الحال أن تتأخر عن عاملها. وقد تتقدّم عليه جوازا ، بشرط أن يكون فعلا متصرفا ، نحو «راكبا جاء علي» أو صفة تشبه الفعل المتصرف ـ كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة ـ نحو «مسرعا خالد منطلق». ومن الفعل المتصرف قوله تعالى (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ ،) وقولهم «شتّى تؤوب الحلبة» ، أي متفرّقين يرجعون.

(فان كان العامل في الحال فعلا جامدا ، أو صفة تشبهه ـ وهي اسم التفضيل ـ أو معنى الفعل دون أحرفه ، فلا يجوز تقديم الحال عليه ، فالأول نحو «ما أجمل البدر طالعا!». والثاني «عليّ افصح الناس خطيبا». والثالث نحو «كأنّ عليا مقدما أسد» ، فلا يقال «طالعا ما أجمل البدر. ولا علي خطيبا أفصح الناس. ولا مقدما كأن عليا أسد» ويستثنى من ذلك اسم التفضيل في نحو ، قولك «سعيد خطيبا أفصح منه كاتبا. وابراهيم كاتبا أفصح من خليل شاعرا» ففي هذه الصورة يجب تقديم الحال ، كما ستعلم.

واعلم أن اسم التفضيل صفة تشبه الفعل الجامد ، من حيث أنه لا يتصرف بالتثنية والجمع والتأنيث ، كما تنصرف الصفات المشتقة ، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة. فهو لا يتصرف تصرّفها إلا في بعض الأحوال ، وذلك إن اقترن بأل أو أضيف الى معرفة ، فيصرف حينئذ افرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا.

٢٠٠