اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

واحتج الأولون بأنّ الأصل عدم التركيب وإنّما يصار إليه لدليل ظاهر ولا دليل على ذلك بل الدليل يدلّ على فساده وبيانه من وجهين :

أحدهما : جواز تقدّم معمول معمولها عليها كقولك : زيدا لن أضرب وأن لا يتقدم عليها ما في حيّزها وبذلك احتج سيبويه على الخليل ، وقد اعتذر عنه بأنّ التركيب غيّر الحكم كما غيّر المعنى وهذه دعوى ألا ترى أنّ لو لا لما تغيرت في المعنى للتركيب لم يتغيّر الحكم في التقديم والتأخير.

والوجه الثاني : أن لا أن يتقدّمها ما يتعلق بالمعنى ولن لا يلزم فيها ذلك.

فصل : وأما كي فتكون ك (أن) في العمل بنفسها فلا يضمر بعدها شيء ، وذلك إذا أدخلت عليها اللام كقوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد : ٢٣] إلّا أن فيها معنى التعليل فلذلك لا يحسن أن تقول أريد كي تقوم.

والوجه الثاني : أن تكون حرف جرّ بدليل دخولها على الاسم كقولك : كيمه بمعنى لمه وما اسم للاستفهام والهاء لبيان الحركة والألف محذوفة ولو كانت كي بمعنى أن لم تدخل على الاسم فإذا دخلت هذه على الفعل كانت أن بعدها مضمرة ؛ لأن حرف الجرّ لا يعمل في الفعل فتضمر معه أن لتصير داخلة على الاسم في التقدير وهذا هو حكم اللّام فإن دخلت اللام على كي وجب أن تصيّر بمعنى أن ؛ لأن حرف الجرّ لا يدخل على مثله.

فصل : وأمّا إذن فحرف مفرد وقال الخليل أصلها إذ أن فحذفت الهمزة وركّبا كما قال في لن وهذه دعوى مجرّدة.

و (إذن) تعمل بخمس شرائط :

أحدها : أن تكون جوابا.

والثانية : أن لا يكون معها حرف عطف.

والثالث : أن يعتمد الفعل عليها.

والرابعة : أن لا يفصل بينها وبين الفعل بغير اليمين.

والخامسة : أن يكون الفعل مستقبلا.

٣٤١

فإن قيل : لم عملت إذن ثمّ لم عملت عند وجود هذه الشرائط لا غير ثم لم عملت النصب؟

والجواب عن الأول والثاني : أنّها اختصّت بالفعل عند اجتماع هذه الشرائط وكلّ مختصّ يعمل.

وأما الجواب عن الثالث : فلأنّها أشبهت أن في إخلاص الفعل للاستقبال واختصاصها بالجواب واختصاص الجواب في مثل هذا بالفعل فعلى ما ذكرنا تترتّب المسائل.

مسألة : إذن في عوامل الأفعال ك ظننت في عوامل الأسماء ؛ لأن ظننت تعمل إذا وقعت في رتبتها وتلغى إذا أزيلت عنها وكذلك إذن ؛ لأنها إذا اعتمد الفعل عليها وابتدئ بها في الجواب وقعت في رتبتها كقول القائل : أنا أزورك. فتقول مجيبا : إذن أكرمك ، فإذا قلت : أنا إذن أكرمك ، فقد وقعت إذن بين المبتدأ وخبره فيبطل عملها ويعتمد الفعل على أنا ، وكذلك إن قلت : أنا أكرمك ، إذن ، فإن قيل إذن هنا يلزم إلغاؤها وظننت في مثل هذا لا يلزم قيل الفرق بينهما أنّ عوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال خصوصا إذا كانت أفعالا وعامل الفعل لا يكون إلّا حرفا.

مسألة : فإن فصلت بينهما ب (لا) أو باليمين لم يبطل عملها ؛ لأن لا لا تبطل عمل أن واليمين مؤكدّة.

مسألة : فإن كان معها حرف عطف كقولك : فإذن أكرمك وإذن أحسن إليك جاز إعمالها ؛ لأن الواو والفاء قد يبتدأ بهما وجاز إلغاؤها ؛ لأن حرف العطف يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها فيبطل الاعتماد عليها ومنه قوله تعالى : (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣] وفي بعض المصاحف : (وإذا لا يلبثوا خلفك) والجيد الإلغاء.

مسألة : إذا حدّثك إنسان حديثا فقلت إذن أظنّك صادقا رفعت ؛ لأن الظنّ هنا ثابت في الحال ، وقد ذكرنا أنها لا تعمل إلا في المستقبل.

مسألة : إذن إذا وقعت خبرا ووقف عليها جاز أن تبدل نونها ألفا ؛ لأنها أشبهت التنوين إذ كانت ساكنة بعد فتحة.

٣٤٢

فصل : تضمر أن بعد الفاء في جواب الأشياء الثمانية الأمر والنّهي والاستفهام والنّفي والتمنّي والدّعاء والعرض والتحضيض.

وقال الجرمي : تعمل الفاء بنفسها وقال الكوفيون ينتصب الفعل على الخلاف.

وحجّة الأولين : أنّ الفاء لا تنفكّ من معنى العطف والربط ولا تختصّ بل تدخل على الكلمات الثلاث وما هذا سبيله لا يعمل فعند ذلك يحتاج الى إضمار لاستحالة العطف هنا على اللفظ ألا ترى أنّ قولك : زرني لا يصحّ أن تعطف عليه فأزورك ؛ لأن العطف يشرك بين الشيئين ومعلوم أنّ الأمر لا يشارك الخبر وأنّ الأول سبب للثاني والسبب والمسبّب مختلفان فعند ذلك يعدل إلى العطف على المعنى ولا يتحقق ذلك إلا بإضمار أن وأن يقدّر الأوّل بمصدر فالتقدير لتكن منك زيارة فزيارة منّي وبذلك يتبين ضعف قول الجرمي ، وأمّا مذهب الكوفيّين فقد أبطلناه في غير موضع.

فصل : وتضمر أن بعد اللّام وقال الكوفيون هي العاملة بنفسها.

حجّة الأوّلين : أنّ اللام حرف جرّ داخلة للتّعليل وهي الّتي تدخل على المفعول له وحرف الجرّ لا يعمل في الفعل فتضمر أن ليصير الفعل معها في تقدير الاسم فتدخل اللام عليه ؛ ولذلك يجوز أن تظهر أن معها كقولك : جئت ؛ لأن تكرمني.

واحتجّ الآخرون من وجهين :

أحدهما : أنّها بمعنى كي وكي تعمل بنفسها فكذلك ما هو في معناها.

والثاني : أنّ جعلها جارّة يفسد من جهة دخولها على الفعل وتقدير أن لا يصحح ذلك ، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول أمرتك تكرم زيدا تريد بأن تكرم زيدا فيتعيّن أن تكون هي الناصبة.

والجواب عن الأول من وجهين :

أحدهما : أنّ كي حرف جرّ أيضا وأن بعدها مضمرة فلا فرق بينهما.

والثاني : يسلم إلى أنّ كي تنصب بنفسها ولكن لم تكون اللام كذلك واتفاقهما في المعنى يوجب اتحادهما في العمل ألا ترى أنّ أنّ الناصبة للاسم مثل أن الناصبة للفعل المستقبل في المعنى إذ كلّ واحدة منهما مصدريّة يعمل فيها ما قبلها ولم يلزم من ذلك اتحادهما فإنّ تلك

٣٤٣

تختصّ بالأسماء حتى لو وقع الفعل بعدها مخففة لم تعمل بخلاف أن الخفيفة ؛ ولذلك استعملت اللام مع صريح المصدر ولم تستعمل كي معه وإن كانا سواء في المعنى.

وأمّا الفرق بينها وبين الباء فلأنّ اللّام تدلّ على غرض الفاعل وما من فاعل إلّا وله غرض في الفعل وليس كلّ فعل يكون له سبب تستعمل الباء معه فلمّا كثر استعمال اللام جاز أن تحذف أن لظهور معناها كما كثر حذف ربّ مع الواو والباء في القسم وحذف لا في جوابه.

فصل : وتضمر أن بعد الواو في قولك : لا تأكل السّمك وتشرب اللبن إذا نهيته عن الجمع ونصبه عند الكوفيين على الصّرف وهو معنى الخلاف.

حجّة الأوّلين : أنّ الواو هنا ليست عاطفة في اللفظ ؛ لأن ذلك يوجب كون النّهي عن كلّ واحد منهما وعن الجمع بينهما ، وذلك يوجب جزم الثاني : فإذا لم ترد هذا المعنى عدلت إلى تقدير يصحّ معه هذا المعنى ، وذلك بإضمار أن ليصير المعنى لا تأكل السّمك مع أن تشرب اللّبن لأنّك تريد لا يجمع بينهما والواو ومع تفيدان الجمع ولكن لا يصحّ ذلك إلّا مع أن ؛ لأن الواو لا تعمل بنفسها كما أنّ مع لا تضاف إلى الفعل ومذهب الكوفيين مبنيّ على النصب على الخلاف ، وقد بيّنا فساده.

مسألة : لو رفعت وتشرب اللبن على أن تكون في موضع الحال استقام المعنى والإعراب فأمّا قول الشاعر (١) : [الكامل]

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

__________________

(١) البيت من شعر أبي الأسود الدؤلي : (١ ق. ه ـ ٦٩ ه‍ / ٦٠٥ ـ ٦٨٨ م) وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني.

تابعي ، واضع علم النحو ، كان معدودا من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان والحاضري الجواب.

قيل أن علي بن أبي طالب (رضي‌الله‌عنه) رسم له شيئا من أصول النحو ، فكتب فيه أبو الأسود ، وفي صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير ، سكن البصرة في خلافة عمر (رضي‌الله‌عنه) وولي إمارتها في أيام علي (رضي‌الله‌عنه).

ولم يزل في الإمارة إلا أن قتل علي (رضي‌الله‌عنه) ، وكان قد شهد معه (صفين) ولما تم الأمر لمعاوية قصده فبالغ معاوية في إكرامه ، وهو في أكثر الأقوال أول من نقط المصحف ، مات بالبصرة.

٣٤٤

فالنّصب فيه هو الوجه والجزم خطأ ؛ لأن المعنى يصير لا تنه عن قبيح ولا تفعل قبيحا وترك النّهي عن القبيح قبيح وإنّما أراد الشاعر أنّ من ينهي غيره عن شيء وهو يرتكبه فقد غشّ نفسه ونصح غيره والرفع في البيت جائز في المعنى واللفظ.

مسألة : تقول لا يسعني شيء ويعجز عنك فتنصب ما بعد الواو ب (أن مضمرة).

والمعنى لا يجتمع في شيء واحد أن يسعني وأن يضيق عنك أي أنا وأنت مشتركان فيما يحسن ويقبح ويضيق ويتسع فكيف نفترق في ذلك ولو رفعت لصار المعنى نفيا وآل المعنى إلى أنّه لا يسعني شيء ولا يضيق عنك وهذا عكس المعنى.

مسألة : إذا عطفت الفعل على مصدر أضمرت معه أن ونصبته ليصير عطف اسم على اسم وبقّيت النصب ليدلّ على العامل المراد ومنه (١) : [الوافر]

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

مسألة : والواو الّتي تضمر بعدها أن بمعنى الجمع يقال هي بمعنى الجواب ؛ لأن المعنى إذا أكلت السّمك فلا تشرب اللّبن وإن شربت اللّبن فلا تأكل السمك وإن وسعني وسعك.

__________________

(١) البيت من شعر ميسون بنت بحدل : وهي ميسون بنت بحدل بن أنيف بن قتافة بن عدي بن حارثة بن جناب.

شاعرة إسلامية تزوجها معاوية بن أبي سفيان ومن قبله تزوجت من زامل بن عبد الأعلى فقتله أخ له كان قد خطبها ثم تزوجها معاوية فولدت له يزيد ، وطلقها وهي حامل به.

ومطلع قصيدة هذا البيت :

لبيت تخفق الأرواح فيه

أحبّ إليّ من قصر منيف

ومنها أيضا :

وأصوات الرياح بكل فجّ

أحبّ إلي من نقر الدّفوف

وكلب ينبج الطرّاق عنّي

أحبّ إليّ من قطّ ألوف

وبكر يتبع الأظعان صعب

أحبّ إلى من بغل زفوف

وأكل كسيرة في كسر بيتي

أحبّ إليّ من أكل الرّغيف

وخرق من بني عمي نحيف

أحبّ إليّ من علج عليف

خشونة عيشتي في البدو أشهى

إلى نفسي من العيش الظّريف

٣٤٥

فصل : وتضمر (أن) بعد (أو) إذا كانت بمعنى حتّى وإلّا كقولك : سأزورك أو تمنعني لأنّك أردت إلّا فلا بدّ من إضمار أن ليصير التقدير على وفق المعنى أي سأزورك إلّا مع منعك أو إلا عند منعك ولو رفعت لصارت لأحد الشيئين ، أي : سأزورك أو ستمنعني.

مسألة : تقول ما تأتينا فتحدّثنا فيجوز الرفع على معنيين :

أحدهما : نفي الأمرين جميعا ، أي : ما تأتينا وما تحدّثنا.

والثاني : أن تكون نفيت الإتيان وأثبتّ الحديث أي أنت تحدّثنا وما تأتينا.

والنّصب جائز على معنيين أيضا :

أحدهما : أن تريد نفيهما على سبيل الإنكار على مدّعي الإنكار أي أنت ما تأتينا فكيف تحدّثنا.

والثاني : أنّ تنفي الحديث وثثبت الإتيان أي ما تأتينا إلا لم تحدّثنا وإنّما أضمرت أن هاهنا ليصير المصدر معطوفا على المعنى إذ كان معنى الثاني مخالفا لمعنى الأوّل.

فصل : وتضمر أن بعد حتّى إذا كانت غاية أو كان ما قبلها سببا لما بعدها.

فالأوّل كقولك : لأنتظرنّه حتّى يقدم فالانتظار يتّصل بالقدوم ؛ لأن المعنى إلى أن فحتّى هاهنا جارّة فلذلك أضمرت بعدها (أن).

وأمّا الثاني : فكقولك أطع الله حتّى يدخلك الجنّة أي كي يدخلك فالطّاعة سبب للدّخول ولا يلزم امتداد السبب إلى وجود المسبّب وكما أنّ كي واللام تضمر بعدها أن كذلك حتّى.

وقال الكوفيون : حتّى هي النّاصبة ؛ لأن أن لا تظهر معها في غالب الاستعمال فصارت بدلا منها.

وقال الكسائيّ : النصب ب (إلى وكي) بعد حتى ؛ لأن المعنى عليهما وحتّى غير عاملة ؛ ولذلك تدخل على الجملة فلا تعمل فيها.

والمذهب الأوّل فاسد ؛ لأن حتّى حرف جرّ بمعنى إلى وبمعنى اللام وليست بدلا من أن أمّا عندنا فلأنّها جارّة بنفسها.

مسألة : ينتصب الفعل بعد حتّى على المعنيين المذكورين ويرتفع على معنيين :

٣٤٦

أحدهما : أن يكون الفعل الذي بعدها وسببه ماضيين كقولك : سرت حتّى أدخلها إذا كنت قد سرت ودخلت فكأنّك قلت : سرت فدخلتها ماضيا.

والثاني : أن يكون السبب ماضيا وما بعدها حالا كقولك : سرت حتّى أدخلها إذا قلت ذلك وأنت في حال الدخول وإنّما رفعت فيهما ؛ لأن النصب يكون بإضمار أن وأن تخلّص الفعل للاستقبال فلذلك إذا كان ماضيا أو حالا لم ينتصب ؛ لأن أن لا تصلح فيه وكذلك لا يرتفع بعد النفي والاستفهام ؛ لأنّهما سببين في الحال كقولك : ما سرت حتّى أدخلها وأسرت حتّى تدخلها وكلّ ما في معنى النفي نفي.

فإن قلت : من سار حتّى يدخلها جاز الرفع ؛ لأن الاستفهام عن السائر لا عن السير.

فإن قلت : كان سيري حتّى أدخلها لم يجز الرفع ؛ لأنه خبر كان والرفع على معنى العطف فيصير داخلا في المعطوف عليه ولا يبقى لكان خبر.

فإن قلت : كان سيري أمس حتى أدخلها جاز الأمران.

مسألة : لا يجوز إظهار أن بعد حتّى ؛ لأن ذلك لم ينقل إلا في شاذّ لا يعتدّ به ووجهه من القياس أنّ حتّى لمّا كانت عاملة في موضع وغير عاملة في آخر كان معناها الغاية في كلّ موضع أشبهت بذلك واو القسم فلم يظهر الفعل معه وهو العامل الذي يتعلّق به الجار وكذلك عامل الظّرف وخبر المبتدأ في لو لا وفي لعمرك.

مسألة : لا يجوز إظهار أن مع لام كي في النفي كقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٩] وأكثرهم يخصّ التمثيل بكان وأجاز الكوفيّون إظهارها.

وحجّة الأوّلين من وجهين :

أحدهما : أنّ النفي هنا جواب إثبات فعل لا يظهر معه والجواب على وفق المجاب عنه فكأنّ قائلا قال سيذر المؤمنين فقال : ما كان ليذر المؤمنين.

والثاني : أنّ الكلام طال بالنفي فلم يزد عليه شيء آخر مع ظهور المراد كما في خبر لو لا وخبر لعمرك ومن العجب إجازة الكوفيين إظهار أن بعدها في قولهم : اللام هي العاملة.

٣٤٧

باب الجوازم (١)

الجزم في اللغة القطع فلذلك كان في الكلام حذف الحركة أو ما قام مقامها.

فصل : إنّما أعملت لم ؛ لأنها اختصّت وإنما جزمت لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الفعل في نفسه ثقيل ولم تنقله إلى زمن غير زمن لفظه فيزداد ثقلا فناسب أن يكون عملها الحذف.

والثاني : أنّها تشبه إن الشرطية من حيث أنّها تنقل الفعل من زمان إلى زمان فجزمت كما تجزم إن.

__________________

(١) الجوازم. وهي قسمان. قسم يجزم فعلا واحدا ، نحو «لا تيأس من رحمة الله» ، وقسم يجزم فعلين ، نحو «مهما تفعل تسأل عنه».

وجزمه إما لفظيّ ، إن كان معربا ، كما مثّل ، وإما محلي ، إن كان مبنيّا ، نحو «لا تشتغلنّ بغير النافع».

الجازم فعلا واحدا : أربعة أحرف وهي «لم ولما ولام الأمر ولا الناهية» وإليك شرحها :

لم ولما تسمّيان حرفي نفي وجزمّ وقلب ، لأنهما تنفيان المضارع ، وتجزمانه ، وتقلبان زمانه من الحال أو الاستقبال الى المضيّ ، فإن قلت «لم أكتب» أو «لمّا أكتب» ، كان المعنى أنك ما كتبت فيما مضى.

والفرق بين «لم ولمّا» من أربعة أوجه :

١ ـ أنّ «لم» للنفي المطلق ، فلا يجب استمرار نفي مصحوبها إلى الحال ، بل يجوز الاستمرار ، كقوله تعالى (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ويجوز عدمه ، ولذلك يصحّ أن تقول «لم أفعل ثمّ فعلت».

وأما «لمّا» فهي للنفي المستغرق جميع أجزاء الزمان الماضي ، حتى يتصل بالحال ، ولذلك لا يصحّ أن تقول «لمّا أفعل ثم فعلت» ، لأنّ معنى قولك «لمّا أفعل» أنك لم تفعل حتى الآن ، وقولك «ثم فعلت» يناقض ذلك.

لهذا تسمّى «حرف استغراق» أيضا لأن النفي بها يستغرق الزمان الماضي كله.

٢ ـ أن المنفي لم لا يتوقّع حصوله ، والمنفيّ بلمّا متوقّع الحصول ، فإذا قلت «لمّا أسافر» فسفرك منتظر.

٣ ـ يجوز وقوع «لم» بعد أداة شرط ، نحو «إن لم تجتهد تندم». ولا يجوز وقوع «لمّا» بعدها.

٤ ـ يجوز حذف مجزوم «لمّا» ، نحو «قاربت المدينة ولمّا» ، أي «لو ما أدخلها». ولا يجوز ذلك في مجزوم «لم» ، إلا في الضرورة ، كقول الشاعر :

احفظ وديعتك التي استودعتها

يوم الأعازب ، ان وصلت وان لم

أي «وإن لم تصل» ويروى «إن وصلت» بالمجهول ، فيكون التقدير (وإن لم توصل) ، قال العينيّ وهو الصواب.

ولام الأمر يطلب بها إحداث فعل ، نحو (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.)

ولا الناهية يطلب بها تركه ، نحو (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً.)

٣٤٨

والثالث : أنّ لم تردّ المضارع إلى معنى المضيّ فالفعل باعتبار لفظه يستحقّ الحركة الإعرابية وباعتبار معناه يستحقّ البناء فجعل له حكم متوسط وهو السكون الذي هو في المبنيّ بناء وفي المعرب حاصل عن عامل.

فصل : فإن دخل حرف الشّرط على لم أقرّ معنى الاستقبال فيه ؛ لأن الشرط لا يكون إلّا بالمستقبل فلذلك قدّم عليها وبقيت لم للنفي فقط فب إن بطل أحد معنييها ولو بقي المضيّ لم يبق ل (إن) معنى وكلّ أمر يحافظ فيه على معنى اللفظين ولو من وجه أولى من أمر يلزم منه حذف أحد المعنيين بالكلّيّة.

فصل : وأمّا لمّا فهي لم زيدت عليها ما وصار لها معنى آخر فإذا وقع المستقبل بعدها جزمته وجاز أن تقف عليها كقولك : تكلمت ثمّ قطعت ولمّا أي ولما تنه ولا يجوز ذلك في لم وإن وقع بعدها الماضي صارت ظرفا واقتضت جوابا كقوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٢] ولو لا ما لم يجز ذلك.

فصل : وأمّا لام الأمر فعملت لاختصاصها وإنّما جزمت لأمرين :

أحدهما : ما تقدم من أنّها أحدثت في الفعل معنى زاد ثقله به.

والثاني : أنّ الأمر طلب وهو غرض للآمر فأشبهت لامه لام المفعول له وتلك جارّة فيجب أن تكون هذه جازمة ؛ لأن الجزم في الأفعال نظير الجرّ في الأسماء ولشبهها بها كسرت.

فصل : فإن دخلت عليها الواو والفاء سكّنت في اللغة الجيّدة لئلا تتوالى الحركات فإن دخلت عليها ثمّ فالجيّد كسرها ؛ لأن ثمّ منفصلة ، وقد سكّنها قوم لشبهها بالواو.

فصل : وأمّا لا في النهي فعملت لاختصاصها وجزمت لما جزمت له الّلام ، وقيل : النّهي كالأمر من طريق المعنى فصح حمله عليه في الجزم.

فصل : وأما (إن) الشرطية فهي أمّ أدوات الشرط لوجهين :

أحدهما : أنها حرف وغيرها من أدواته اسم والأصل في إفادة المعاني الحروف.

والثاني : أنها تستعمل في جميع صور الشّرط وغيرها يخصّ بعض المواضع ف (من) لمن يعقل و (ما) لما لا يعقل وكذلك باقيها كلّ منها ينفرد بمعنى وإن مفردة تصلح للجميع.

مسألة : فعل الشّرط والجزاء معربان وحكي عن المازني أنّهما مبنيّان.

٣٤٩

وحجّة الأوّلين : أنّ المعنى الذي أعرب له الفعل موجود ودخول معنى التعليق فيه لا يبطل ذلك كما لا تبطله أن ولم ولن.

واحتجّ الآخرون بأنّ الفعل هنا لا يقع موقع الاسم فكان مبنيّا كالأمر.

وهذا لا يصحّ لوجهين :

أحدهما : أنّه لم يعرب لوقوعه موقع الاسم حتى يبنى لزوال ذلك وإنما رفع لهذا الموقع.

والثاني : هو باطل ب (لن) يفعل ؛ فإنه لا يقع موقع الاسم وهو معرب.

مسألة : واختلف الأولون في الجازم لفعل الشرط وجوابه فقال محققو البصريين إن هي الجازمة لهما وقال بعضهم إن تجزم الأوّل ثم تجزمان الجواب وقال بعضهم إن تجزم الأوّل ثمّ يجزم الأوّل الجواب.

وقال الكوفيون : (إن) تجزم الأوّل وينجزم الجواب على الجوار.

وحجة الأوّلين : أنّ إن تقتضي الفعلين فعملت فيهما كالابتداء وك (كان وإنّ وظننت).

واحتج القائل الثاني : بأنّ إن ضعيفة فلا تعمل في شيئين فتقوّى بالثاني : كما ذكرنا في عامل الخبر.

واحتج الثالث : بأنّ الفعل الأول يقتضي الثاني : فعمل فيه.

واحتجّ الرابع : بأنّ الحرف ليس في قوّته العمل في الفعلين والفعل لا يعمل في الفعل فتعيّن أن يكون على الجوار لما فيه من مشاكلة للأوّل ، وقد جاء الإعراب على الجوار كثيرا.

والجواب : إنّ عمل الفعل في الفعل غير سائغ ؛ لأن الفعل لا يقتضي الفعل ولا عمل بدون اقتضاء العامل للمعمول وهذا يمنع أن يعمل وحده أو مع غيره ، وأمّا الإعراب على الجوار فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة ولا ضرورة.

مسألة : إذا دخلت إن على لم كان الجزم ب (لم) لا بها وإن دخلت على لا كان بها لا ب (لا) والفرق بينهما أنّ لم عامل يلزمه معموله ولا يفرّق بينهما بشيء ، وأن يجوز أن يفرّق بينها وبين معمولها بمعمول معمولها نحو : إن زيدا تضرب أضربه ، وتدخل أيضا على الماضي فلا تعمل في لفظه ولم لا تفارق العمل وأمّ لا فليست عاملة في النفي فأضيف العمل إلى أن فالأوّل كقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا) [المائدة : ٧٣]. والثاني : كقوله تعالى : (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) [هود : ٧٤].

٣٥٠

مسألة : لا تكون إن بمعنى إذ وأجازه الكوفيّون.

حجّة الأوّلين من وجهين :

أحدهما : أنّ إذ اسم وإن حرف ووقوع الحرف بمعنى الاسم بعيد في السماع والقياس.

والثاني : أنّ معنى إن مخالف معنى إذ.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) [البقرة : ٢٣] والمعنى إذ كنتم ؛ لأن إن للمتردّد ولم يكن في ريب اليهود تردّد.

والجواب : أنّ العرب تذكر مثل ذلك على جهة الاحتجاج والإلزام للخصم حتّى يعترف وكذلك يقول الرجل لابنه : إن كنت ابني فأطعني. ويدلّ على أنّها للشرط مجيء الفاء في جوابها ، وأنّه لا يعمل فيها ما قبلها.

فصل : ولما كانت من للعموم وفي العموم إبهام وقعت شرطا لشبهها بإن في هذا المعنى وكذلك بقيّة أدوات الشرط إلا أنّ في من وأخواتها ما ليس في إن إذ كانت اسما يقع مبتدأ ومفعولا ومجرورا.

فصل : وأمّا مهما ففيها قولان :

أحدهما : هي اسم مفرد للعموم ؛ لأن الأصل عدم التركيب.

والثاني : هي مركبة ، وفي أصلها قولان :

أحدهما : أصلها ـ ما ما فالأولى شرطية والثانية للتوكيد مثلها في إن ما ـ إمّا واينما إلا أن الألف الأولى قلبت هاء لئلا يستنكر تكرير اللفظ وهو قول الخليل.

والثاني : أن اصلها مه التي بمعنى اكفف وما شرطية والمعنى اكفف عن كل شيء ما تفعل افعل.

ويدلّ على أنّ مهما اسم أو فيها اسم عود الضمير إليها في مثل قوله تعالى : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) [الأعراف : ١٣٢].

فصل : وأمّا حيث فلا تجزم إلّا إذا كانت معها ما لوجهين :

أحدهما : أنّ حيث تلزم إضافتها إلى الجمل والمضاف يعمل الجر وهو من خصائص الأسماء فلا يعمل الجزم المختصّ بالأفعال.

٣٥١

والثاني : أنّ حيث تقع بعدها الأسماء والأفعال فلم تختصّ فأدخلت عليها ما لتقطعها عن الإضافة فتهيء لها العمل في الفعل بخلاف أين ومتى فإنهما يجزمان من غير ما لأنهما لا يضافان.

فصل : أصل إذما عند سيبويه إذ الزمانية ركّبت معها ما فنقلتها عن الاسميّة فهما حرف ولمّا نقلت عن ذلك جعلت شرطيّة ؛ لأنها في الأصل ظرف زمان ماض فلمّا نقلت استعملت فيما مقتضاه الزمان وقال غيره ليست مركبة.

فصل : ولا يجازى ب (إذا) في الاختيار ؛ لأنها تستعمل فيما لا بدّ من وقوعه كقولك : إذا احمرّ البسر تأتينا ، فاحمراره كائن لا محالة ووقتها معين فيما تضاف إليه وباب الشرط مختصّ بما هو محتمل للكون ، وقد جاء الجزم بها في الشعر.

مسألة : لا يجوز أن يعمل في أدوات الشرط شيء قبلها إلّا حرف الجرّ ؛ لأن أداة الشرط تثبت فيما بعدها معنى فكان لها صدر الكلام كأداة الاستفهام والنفي فأمّا قول الشاعر (١) : [الخفيف]

إنّ من لام في بني بنت حسّان

ألمه وأعصه في الخطوب

ففي إنّ ضمير الشأن ومن مبتدأ كقوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً)[طه : ٧٤].

فصل : وإذا وقع بعد أداة الشّرط اسم كان العامل فيه فعلا إمّا الذي يليه كقولك : إن زيدا تضرب أضربه أو فعل محذوف يفسره المذكور كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] ف (أحد) فاعل أي إن استجار أحد ، وقال الكوفيون : يرتفع بالعائد ، وقال بعضهم : هو مبتدأ.

ولدليل الأوّل أنّه لا معنى ل (إن) إلّا في الأفعال ؛ ولذلك لا تقع بعدها جملة من اسمين فإذا لم يكن مذكورا قدّر لتصحيح المعنى ؛ ولذلك يبقى الجزم في الفعل بعد الاسم كقول الشاعر : [الرمل]

صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميّلها تمل

__________________

(١) البيت من شعر الأعشى.

٣٥٢

وقال عديّ : [الخفيف]

ومتى واغل ينبهم يحيّوه

وتعطف عليه كأس السّاقي

فصل : والجزاء يكون بالفعل المجزوم ولا يحتاج إلى الفاء ؛ لأن حكم الفعل المعلّق بفعل الشرط أن يعقبه فاستغنى عن حرف يدلّ على التعقيب ؛ فإذا لم تجزم أو جئت باسم جئت بالفاء في الجواب لتدلّ على التعقيب الذي هو حكم الجزاء وربّما حذفت وهو قليل وأكثر ما يأتي حذفها إذا كان فعل الشرط ماضيا كقوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] ، وقد جاء مع المستقبل كقول الشاعر (١) : [البسيط]

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشرّ بالشرّ عند الله مثلان

ولا يقاس عليه.

فصل : وتقام إذا التي للمفاجأة مقام الفاء كقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم : ٣٦] ؛ لأن المفاجأة تعقيب.

فصل : فأما قول الشاعر : [الرجز]

يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع

فمذهب سيبويه أنّ تصرع خبر إنّ والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف أغنى عنه ما قبله ومذهب المبرّد هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فأنت تصرع.

__________________

(١) البيت من شعر حسان بن ثابت : (٥٤ ه‍ / ٦٧٣ م) وهو حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري ، أبو الوليد.

شاعر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام ، عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام. وكان من سكان المدينة.

واشتهرت مدائحه في الغسانيين وملوك الحيرة قبل الإسلام ، وعمي قبل وفاته. لم يشهد مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مشهدا لعلة أصابته. توفي في المدينة.

قال أبو عبيدة : فضل حسان الشعراء بثلاثة : كان شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي في النبوة وشاعر اليمانيين في الإسلام.

وقال المبرد في الكامل : أعرق قوم في الشعراء آل حسان فإنهم يعدون ستة في نسق كلهم شاعر وهم : سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام.

٣٥٣

فصل : ويجوز أن يحذف جواب الشرط تارة وفعل الشرط أخرى فمثال الأوّل (١) : [الطويل]

أقيموا بني النّعمان عنّا صدوركم

وإلّا تقيموا صاغرين الرؤوسا

أي : إن لا تقيموها مختارين تقيموا الرؤوس صاغرين.

ومن الثاني قول الآخر : [الوافر]

فطلّقها فلست لها بكفء

وإلّا يعل مفرقك الحسام

أي : إلّا تطلّق ويجوز في البيت الأول مثل هذا.

فصل : ومن وما وما أشبههما إذا وقعت مبتدأ في الشرط فالخبر فعل الشرط وحدّه وقال بعضهم الخبر الشرط والجزاء.

وحجّة الأوّلين أن من اسم تام وفعل الشرط فيه ضمير يعود عليه لا محالة ولا يلزم في الجواب أن يكون فيه ضميره وهذا حكم الخبر كقولك : من يقم يقم زيد.

وحجّة الآخرين أنّ الكلام لا يتمّ إلا بالجواب فكان داخلا في الخبر ويصير كقولك : زيد إن يقم أقم معه فالشرط والجواب جميعا الخبر.

وقد أجيب عن هذا بأنّ الجواب هنا أجنبيّ عن المبتدأ ومن يعمل الفعل فيها بعدها النصب كقولك : من تضرب أضرب فيكون هو الخبر عنها كقولك : زيد ضربته ؛ لأنه لو تجرّد عن ضمير المفعول كان ناصبا لزيد ، وأمّا افتقار الكلام إلى الجواب فشيء أوجبه التعليق ألا ترى أنّ قولك : لو لا زيد لأكرمتك لا يتمّ فيه.

الكلام إلّا بالجواب وليس الجواب داخلا في الخبر ؛ ولذلك جعلت الخبر في الاستفهام هو الفعل كقولك : من قام لمّا لم يحتج إلى التمام بالجواب.

__________________

(١) البيت من شعر يزيد الشنّي : وهو يزيد بن الخذّاق الشنّي العيدي بن عبد العتيق. شاعر جاهلي كان معاصرا لعمرو بن هند. من شعره :

هل للفتى من بنات الدهر من واق

أم هل له من حمام الموت من راق

وفي القرآن (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ)

قال أبو عمرو بن العلاء : هي أول شعر قيل في ذم الدنيا.

٣٥٤

مسألة : لا يجازى ب (كيف) وقال الكوفيون : يجازى بها.

حجّة الأولين : أن كيف لو جوزي بها إما أن يعرف ذلك بالسماع أو بالقياس على المسموع لا وجه إلى الأول فإنّه لا يثبت فيه سماع ولا وجه إلى الثاني لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ معنى أدوات الشرط تعليق فعل بفعل وكيف لو علّقت لعلّقت حال الفاعل أو المفعول بحال أخرى والفعل يمكن الوقوف عليه لظهوره والحال لا يمكن ذلك فيها لخفائها.

والثاني : أنّ من الأحوال ما لا يدخل تحت الاختيار فلا يصحّ أن يعلّق عليها حال ألا ترى أنّه لو قال كيف تذهب أذهب فذهب مكرها أو مغموما لم يصحّ تكلّف ذلك في جواب الشرط ومثل ذلك لو كان فعلا لم يصحّ المجازاة به كقولك : إن متّ متّ.

والثالث : أنّ تلك الأدوات التي هي أسماء يرجع إليها ضمير لا محالة وكيف اسم لا يصحّ أن يرجع إليها ضمير فلم يصحّ قياسها عليها ولا يصحّ قياسها على الحرف في عدم عود الضمير كما تقاس بقية الأسماء على أن في عدم الضمير إليها.

واحتج الآخرون بأنه يصحّ أن يقال كيف تصنع أصنع بالرفع فكذلك في الجزم والجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنّ استعمال مثل هذا بعيد ولو ورد عن ثقة فوجهه أنّه قصد حالا معلومة بقرينة تميّزها عنده وهذا يصحّ مع الرفع لا مع الجزم ؛ لأن أسماء الجزم حكمها العموم إذا جزمت.

فصل : فإذا حذفت الفاء جزمت في جميعها إلّا في النفي ؛ لأن النفي عدم والعدم لا يجازى به أو لا يصحّ التعليق به ولا يكون سببا لغيره والفاء تدلّ على أنّ الأول سبب للثاني.

مسألة : تقول لا تدن من الأسد تسلم منه فتجزم والتقدير إن لا تدن تسلم فالتباعد منه سبب السّلامة.

فإن قلت : لا تدن من الأسد يأكلك لم يجز ؛ لأن تقديره : إلّا تدن منه يأكلك ، والتباعد منه ليس بسبب في أكله.

٣٥٥

فإن قيل : لم لم يقدّر إن تدن؟ قيل : يجب أن يكون المقدّر من جنس الملفوظ به فكما لا تقدّر في الأمر النهي كذلك لا تقدّر في النهي الإيجاب ألا تراك لا تقول ابعد من الاسد يأكلك تريد إلّا تبعد يأكلك.

مسألة : الأمر والنهي ونحوهما لا يجزم بأنفسهما بل بشرط مقدّر ؛ لأن الكلام تمّ عليهما بدون الجواب كقولك : زرني ولا تهنّي جملة تامة بخلاف إن ومن.

٣٥٦

باب النّونين

مسألة : لا تدخل هاتان النونان (١) على غير الأفعال ؛ لأن المراد منهما توكيد ما لم يقع ليكون حاملا على الإيقاع ولذلك اختصّا بالقسم والأمر والنهي والاستفهام وهذا لا يتحقق في غير الفعل.

مسألة : الفعل المضارع يبنى مع نون التوكيد ؛ لأنها تؤكّد فعليته فيعود إلى أصله من البناء ، وقد ذكرنا ذلك قبل بأشبع من هذا.

مسألة : إنّما فتح ما قبل هذه النون في الواحد لأمرين :

أحدهما : أنّ الضمة تدلّ على الجمع والكسرة تدلّ على التأنيث والسكون على جمع المؤنث فبقيت الفتحة للواحد.

والثاني : أنّ وقوع هذه النون في الواحد أكثر فاختير له الفتح تخفيفا.

مسألة : الحركة قبل النون بناء وقال قوم هي لالتقاء الساكنين وحجّة الأولين أنّها لو كانت لالتقاء السّاكنين لم يردّ المحذوف قبلها نحو بيعنّ وقولنّ ؛ لأن حركة التقاء الساكنين غير لازمة فيصير كقوله : (قم اللّيل ، وبع المتاع) ولمّا قلت : قومنّ وبيعنّ صحّ ما ذكرنا.

مسألة : النون الخفيفة أصل كما أن الثقيلة أصل وقال الكوفيون هي مخففة من الثقيلة.

وحجّة القول الأوّل : أنّ الثقيلة أشدّ توكيدا من الخفيفة واصل التوكيد سابق على زيادته والسابق أصل للمسبوق وتخفيفها من الأخرى يدلّ على أنّ الثقيلة أصل فهي بأن تكون فرعا على الخفيفة أولى من العكس ولأنّ التخفيف تصرّف والحروف تبعد عنه.

مسألة : لا تدخل النون الخفيفة على فعل الاثنين وجماعة النسوة وقال يونس والكوفيون يجوز.

__________________

(١) إذا كان المضارع مبنيا لاتصاله بإحدى النونين وسبقه ناصب أو جازم وجب أن يكون مبنيّا فى محل نصب أو جزم ، أى أنه يكون مبنيا فى اللفظ ، معربا فى المحل. ولهذا أثر إعرابىّ يجب مراعاته. ففى التوابع ـ مثلا ـ كالعطف ، إذا عطف مضارع على المضارع المبنى المسبوق بناصب أو جازم وجب فى المضارع المعطوف أن يتبع محل المعطوف عليه فى النصب أو الجزم. وكذلك المضارع المبنى إن كان معطوفا عليه ؛ فإنه يكون مبنيّا فى محل رفع ـ فى الرأى المشهور.

٣٥٧

وحجّة الأوّلين من وجهين :

أحدهما : أنّ السماع لا يشهد به والقياس على الثقيلة متعذّر ؛ لأن كلّا منهما أصل يفيد ما يفيده الآخر ولا بدّ في الأصل المقيس عليه من اتّحاد العلّة وتماثل الحكمين.

والثاني : أنه يلزم من ذلك جمع بين ساكنين ، والثاني غير مدغم ، وذلك لا يجوز ولا يجوز تحريك الثّاني ؛ لأنه يخرج النون عن حكمها وهو السكون فلذلك لم تحرك هذه النون لساكن بعدها.

واحتجّ الآخرون بأنها نون توكيد فلحقت ما تلحقه الثقيلة واعترضوا على ما ذكرنا من وجهين :

أحدهما : أن الألف فيها مدّ يشبه الحركة فيجوز وقوع الساكن بعدها.

والثاني : أن الجمع بين ساكنين قد ورد كقولك : التقت حلقتا البطان وغير ذلك.

والجواب : أنّا قد بيّنا الفرق بين الخفيفة والثقيلة ، وأمّا مدة الألف فلا تجري مجرى الحركة لاستحالة تحرك الألف ولأنها لو كانت كالحركة لجاز أن يليها كلّ ساكن وليس كذلك ، وأمّا وقوع المدغم بعدها نحو دابّة وأصيّم وتمودّ الثوب فسبب ذلك أن المدغم حرف واحد متحرك في اللفظ ، وإن كان في التقدير حرفين ؛ ولذلك حسن فيه ولم يحسن في غير المدغم ، وقد دعا توهّم الجمع بين ساكنين هنا بعضهم إلى قلب الألف همزة مفتوحة فقال دأبّة وشأبّة ، وأمّا حلقتا البطان فشاذّ لا يقاس عليه.

مسألة : النون الثقيلة تفتح إلّا أن تقع قبلها ألف نحو تضربانّ واضربنانّ وإنّما حرّكت لئلا يجتمع ساكنان وفتحت طلبا للتخفيف خصوصا مع المثلين وإنما كسرت بعد الألف تشبيها بنون تضربان وهو الأصل في التحريك لالتقاء الساكنين.

مسألة : إنّما زيدت الألف قبل نون التوكيد في فعل جماعة النسوة لئلّا تتوالى ثلاث نونات زوائد على الفعل ففصل بالألف بينهما فإن قيل : فقد قالوا في المضارع تحننّ من حنّ يحنّ وفي الماضي حنّنّ وهي ثلاث نونات قيل ثنتان منها من نفس الفعل وواحدة ضمير بخلاف التوكيد.

٣٥٨

فإن قيل : كيف تؤكّد جمع المؤنث من هذا الفعل هل تقول احننّانّ فمعك الآن خمس نونات ثنتان من نفس الفعل وواحدة ضمير وثنتان للتوكيد.

فإن قيل : فإن كان هذا الأمر من أنّ يئنّ كيف يلفظ به ، قيل : يقال ايننان فتقلب الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فإن أردت ذلك من ودّ قلت : ايددنان فتقلب الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فإن أردت ذلك من سنّ يسنّ قلت : اسنننانّ وإن أردته من وضؤ يوضؤ قلت : اوضؤنانّ ، وإن أردته من أزّ يئزّ قلت : أوززنانّ ، فإن أردت ذلك من وقع قلت : قعنانّ وإن أردته من رأى قلت : رينانّ ووزنه فينانّ فالمحذوف عين الكلمة ولامها ، فإن أردته من خاف وقام قلت : خافنّ يا زيد وخافنّ وخافنّ وخفنانّ ، وإذا تفطّنت لهذه المسائل وقفت على حقيقة الباب إن شاء الله تعالى.

مسألة : إذا وقفت على النون الخفيفة المفتوح ما قبلها أبدلت منها ألفا كقوله تعالى : (لَنَسْفَعاً) [العلق : ١٥] (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) [يوسف : ٣٢] ؛ لأن هذه النون أشبهت التنوين في نصب الأسماء فإن وقفت على المضموم ما قبلها والمكسور لم تبدل منها شيئا بل تحذفها وتردّ الكلمة إلى أصلها فتقول اضربوا واضربي وهل تضربون ؛ لأن التنوين لا يبدل منه مع غير الفتحة فالنون في الأفعال أولى.

مسألة : إذا وقفت على بدل النون ثم أجريت الوصل مجرى الوقف حذفت الألف من اللفظ لالتقاء الساكنين ولا تثبت النون التي هي أصل لأنّك لو أثبتّها لحرّكتها ، وذلك لا يجوز بخلاف التنوين فإنّه يحرّك لالتقاء الساكنين والفرق بينهما أنّ التنوين أكثر تصرّفا من النون وهو واقع في الأسماء التي هي الأصل وللأموال من التصرف ما ليس للفروع.

فصل : إذا وقعت نون التوكيد بعد الواو حركتها بالضمّ وبعد الياء حركتها بالكسر نحو اخشونّ ولا ترضين فالواو هاهنا ضمير الجماعة ولام الكلمة محذوفة والفتحة تدلّ على الألف المنقلبة عن اللام ولم يجز حذف الضمير لأنّك قد حذفت اللام فلو حذفت الضمير لضممت ما قبل النون أو كسرته فلا يبقى على الألف دليل وليس كذلك قولك : ارمنّ وارمنّ ؛ لأن ضمة الميم تدلّ على الواو والكسرة تدلّ على الياء المحذوفة.

٣٥٩

مسألة : إذا أمرت جماعة النساء وأكّدته من قولك : وأي ، قلت : اينانّ ، أمّا الواو التي هي فاء الفعل فحذفت لوقوعها بين ياء وكسرة في قولك : ءئي وبقيت الهمزة والياء والنون بعد الياء ضمير والأخيرة للتوكيد ، فإن كان ذلك من أوى قلت : ايتونيانّ فالأولى همزة وصل والياء بدل من الهمزة الأصليّة فإن أكّدت فعل الواحدة قلت : من وأى إنّ يا هند ففاء الكلمة محذوف فبقي اي فحذفت الياء لسكونها وسكون النون بعدها وتقول من أوى ايونّ.

٣٦٠