اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

يصل إلى الفاعل بغير واسطة فلم يشبهه الظرف ، ولأنّ المفعول به يصحّ أسناد الفعل إليه ، وإذا قدّر مع الظرف : (في) لم يصحّ إسناد الفعل إليه.

فإن قلت : فكيف يصحّ إقامة (الباء) مقام الفاعل؟

قيل : إن (الباء) لم يؤت بها إلّا لتقوّي الفعل ، و (في) هي الدالّة على الظرفيّة وإقامتها مقام الفاعل تسلبها هذا المعنى ولا يقام المصدر مقام الفاعل إلا إذا وصف أو دلّ على المرة أو المرّات ؛ لأنه حينئذ يفيد ما لا يدلّ الفعل عليه.

فصل : ولا يجوز إقامة الحال مقام الفاعل لأربعة أوجه :

أحدها : أنّ الفاعل يكون مظهرا ومضمرا ومعرفة ونكرة والحال لا تكون إلا نكرة.

والثاني : أنّ الحال تقدّر ب (في) ولا يصحّ تقدير إسقاطها.

والثالث : أنّ الحال كالخبر على ما نبيّنه في بابه وخبر المبتدأ لا يصحّ قيامه مقام الفاعل ؛ لأنه مسند إلى غيره.

والرابع : أنّ الحال كالصفة في المعنى ؛ لأنها هي صاحب الحال ، وإنّما يقام مقام الفاعل غيره.

فصل : وإنّما لم يقم المميز مقام الفاعل لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه لا يكون إلا نكرة.

والثاني : أنّ حرف الجرّ معه مراد.

والثالث : أنّه لو أسقط المميّز لم يبق عليه دليل ؛ ولهذا الوجه لن يجعل المستثنى مقام الفاعل.

فصل : وأمّا المفعول له فلا يقام مقام الفاعل لوجهين :

أحدهما : أنّ اللام مرادة.

والثاني : أنّه غرض الفاعل ، فلو أقيم مقامه لبطل هذا المعنى.

فصل : وإنّما لم يقم خبر كان مقام اسمها لوجهين :

أحدهما : أنّه هو الاسم في المعنى.

والثاني : أنّ الخبر مسند إلى غيره فلا يسند إليه.

١٢١

باب كان وأخواتها

ذهب الجمهور إلى أنّها أفعال لتصّرفها واتّصال الضمائر وتاء التأنيث بها ودلالتها على معنى في نفسها وهو الزمان (١).

فصل : وإنّما لم تدلّ على حدث ولا أكّدت بالمصدر لأنّهم اشتقوها من المصادر ثّم خلعوا عنها دلالتها على الحدث ؛ لتدلّ على زمن خبر المبتدأ حتّى صارت مع الخبر بمنزلة الفعل الدالّ على الحدث والزمان.

ومن عبّر من البصريّين عنها بالحروف فقد تجوّز ؛ لأنه وجدها تشبه الحروف في أنّها لا تدلّ على الحدث ، وإنّما هي أفعال لفظيّة أو يكون عنى بالحروف الطريقة ؛ إذ كان لهذه الأفعال في النحو طريقة تخالف فيها بقيّة الأفعال ، ولهذه العلّة خصّوها من بين الأفعال بالدخول على المبتدأ والخبر.

وأمّا : (ليس) (٢) فمن البصريّين من قال : هي حرف وإنّ الضمير اتّصل بها لشبهها بالأفعال كما اتّصل الضمير ب (ها) على لغة من قال في التثنية : (هاءا) ، وفي الجمع : (هاؤوا)

__________________

(١) كان وأخواتها وهي أمسى وأصبح وأضحى وظلّ وبات وصار وليس مطلقا وتالية لنفي أو شبهه زال ماضي يزال وبرح وفتيء وانفكّ وصلة لما الوقتية دام نحو (ما دمت حيّا) وأقول الخامس من المرفوعات اسم كان وأخواتها الاثنتي عشرة المذكورة فإنهن يدخلن على المبتدأ والخبر فيرفعن المبتدأ ويسمى اسمهن حقيقة وفاعلهن مجازا وينصبن الخبر ويسمى خبرهن حقيقة ومفعولهن مجازا.

(٢) ليس : تفيد مع معموليها نفى اتصاف اسمها بمعنى خبرها فى الزمن الحالىّ نحو : ليس القطار مقبلا.

فالمراد نفى القدوم عن القطار الآن. ولا تكون للنفى فى الزمن الحالى إلا عند الإطلاق ، أى : عند عدم وجود قرينة تدل على أن النفى واقع فى الزمن الماضى ، أو فى المستقبل : فإن وجدت قرينة تدل على أنه واقع فى أحدهما وجب الأخذ بها ؛ نحو : ليس الغريب مسافرا أمس ، أو : ليس سافر الغريب ، أو : وجود الفعل الماضي بعدها ، أو قبلها ـ دليل على أنه النفى للماضى ... أما فى نحو : ليس الغريب مسافرا غدا ، أو قوله تعالى في عذاب الكافرين يوم القيامة : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ،) فيكون النفى متجهما للمستقبل ؛ لوجود قرينة لفظية فى المثال ؛ وهى كلمة : «غد» الدالة عليه ولوجود قرينة عقلية فى الآية تدل عليه أيضا ، هى : أن يوم القيامة لم يأت حتى الآن.

وقد يكون المراد منها نفى الحكم نفيا مجردا من الزمن ؛ كقول العرب : ليس لكذوب مروءة ، ولا لحسود راحة ، ولا لسيء الخلق سؤدد. ـ

١٢٢

وأبو عليّ يشير إليه في كتبه كثيرا ، ويقوّي ذلك أنّها لا تدلّ على زمان وأنّها تنفي كما تنفي (ما) ، وأنّهم شبّهوها ب (ما) في إبطال عملها بدخول (إلا) على الخبر في قولهم : ليس إلا الطيب المسك بالرفع فيهما.

ومن قال : هي فعل لفظيّ ، فقد احتجّ بما ذكرنا وسلبت التصرّف لشبهها بها ، ويدلّ على أنّها فعل جواز تقديم خبرها على اسمها عند الجميع وتقديمه عليها عند كثير منهم بخلاف (ما).

فصل : وإنّما كانت (كان) أمّ هذه الأفعال لخمسة أوجه :

أحدها : سعة أقسامها.

والثاني : أنّ (كان) التامّة دالة على الكون وكلّ شيء داخل تحت الكون.

والثالث : أنّ (كان) دالّة على مطلق الزمان الماضي ، و (يكون) دالّة على مطلق الزمان المستقبل بخلاف غيرها ، فإنّها تدل على زمان مخصوص كالصباح والمساء.

والرابع : أنّها أكثر في كلامهم ؛ ولهذا حذفوا منها النون إذا كانت ناقصة في قولهم : لم يك.

والخامس : أنّ بقيّة أخواتها تصلح أن تقع أخبارا لها كقولك : كان زيد أصبح منطلقا ولا يحسن أصبح زيد كان منطلقا.

__________________

شروط عملها ؛ وأحكامها :

١ ـ هى الشروط العامة.

٢ ـ لا تستعمل تامة.

٣ ـ لا يجوز تقدم خبرها عليها فى الرأى الأرجح.

٤ ـ يجوز حذف خبرها ، إذا كان نكرة عامة ؛ نحو : ليس أحد. أى : ليس أحد موجودا ، أو نحو ذلك ...

ويجوز جره بالباء الزائدة ، بشرط ألا تكون أداة استثناء ؛ وبشرط ألا ينتقض النفى بإلا ؛ نحو : ليس الغضب بمحمود العاقبة. وقول الشاعر :

وليس بمغن فى المودة شافع

إذا لم يكن بين الضلوع شفيع

فإن نقض النفى بإلا لم يصح جر الخبر بالباء الزائدة ؛ فلا يجوز ليس الغثى إلا بغنى النفس ...

٥ ـ لا يصح وقوع «إن» الزائدة بعدها.

١٢٣

فصل : وإنّما اقتضت الناقصة اسمين ؛ لأنها دخلت على المبتدأ والخبر للدلالة على زمن الخبر وإنّما عملت ؛ لأنها أفعال متصرّفة مؤثرة في معنى الجملة فأشبهت (ظننت) ، وإنّما رفعت ونصبت ؛ لأنها تفتقر إلى اسم تسند إليه كسائر الأفعال فما تسند إليه مشبّه بالفاعل الحقيقي.

وأمّا الخبر فمنصوب ب (كان) عند البصريّين ، وقال الكوفيّون : ينتصب على القطع يعنون الحال ، والدليل على انتصابه ب (كان) أنّه اسم بعد الفعل والفاعل ، وليس بتابع له فأشبه المفعول به ولا يصحّ جعله حالا ؛ لأن الحال لا يكون معرفة ولا مضمرا وليصحّ حذفه ، وليس كذلك خبر كان ؛ لأنه مقصود الجملة ألا ترى أنّه لو قال : كان زيد قائما ، فقال قائل : لا. كان النفي عائدا إلى القيام لا إلى كان.

فصل : وإنّما لم يكن منصوبها مفعولا به على التحقيق ؛ لأن المفعول به يسوغ حذفه ولا يلزم أن تكون عدّته على عدّة الفاعل ولا أن يكون المفعول به هو الفاعل وخبر كان يلزم فيه ذلك.

فصل : وإنّما جاز تقديم أخبارها على أسمائها لتصرّفها ، فأمّا تقديم خبر (ما زال وأخواتها) عليها فمنعه البصريّون والفرّاء ؛ لأن (ما) أمّ حروف النفي وما في صلة النفي لا يتقدّم عليه ؛ لأن النفي له صدر الكلام إذ كان يحدث فيما بعده معنى لا يفهم بالتقديم فيشبه حروف الجزاء والاستفهام والنداء.

فأمّا : (لا يزال) و (لن يزال) و (لم يزل) (١) فيجوز تقديم الخبر عليها ؛ لأنها فروع على (ما) إذ كانت تردّ إليها وتستعمل في مواضع لا يصحّ فيها (ما) ؛ ولهذا عملت في الأفعال للزومها

__________________

(١) زال : تدل بذاتها على النفى ، وعدم وجوج الشئ ؛ من غير أن تحتاج فى هذه الدلالة للفظ آخر ؛ ؛ فإذا وجد قبلها نفى أو شبهه (وهو النهى والدعاء) انقلبت معناها للإثبات ؛ مثل : ما زال العدو ناقما. أى : بقى واستمر ناقما. وفى هذه الحالة تفيد مع معموليها اتصاف اسمها بمعنى الخبر اتصافا مستمرّا لا ينقطع ، أو مستمرّا إلى وقت الكلام ، ثم ينقطع بعده بوقت طويل أو قصير ؛ كل ذلك على حسب المعنى. فمثال المستمر الدائم : ما زال الله رحيما بعباده ـ ما زال الفير كبير الأذنين. ومثال الثانى : لا يزال الحارس واقفا. لا يزال الخطيب متكلما.

ومثالها مع النهى : لا تزل بعيدا عن الطغيان. ومع الدعاء (وأدواته هنا : «لا» ، أو : «لن») لا زال الخير منهمرا عليك فى قابل أيامك ـ لا يزال التوفيق رائدك فى كل ما تقدم عليه ـ لن تزال عناية الله تحرسك فيما ـ

١٢٤

إياها فمفعول فعلها يتقدّم عليها كما يتقدّم على نفس الفعل العرّي عن حرف النفي بخلاف (ما).

وقال ابن كيسان وبقيّة الكوفيّين : يجوز تقديم الخبر عليها ؛ لأن (ما والفعل) صارا في معنى الإثبات وهذا ضعيف ؛ لأن لفظ النفي باق والاعتبار به لا بالمعنى ألا ترى أنّ قولك :

(لا تفعل) يسمّى : (نهيا) ، ولو جعلت مكانه : (اترك الفعل) كان المعنى واحدا ويسمى الثاني :

(أمرا).

وأمّا خبر (ما دام) (١) فلا يتقدّم عليها عند الجميع ؛ لأنها مصدريّة ومعمول المصدر لا يتقدّم عليه ، وكذلك (ما كان) ؛ لأن الكلام نفي لفظا ومعنى.

__________________

يصادفك التوفيق رائدك فى كل ما تقدم عليه ـ لن تزال عناية الله تحرسك فيما يصادفك من مكايد ... ، بشرط أن يكون القصد من كل ذلك الدعاء للمخاطب ...

ولا تستعمل زال تامة ... ويشبهها فى الدلالة على النفى بذاتها ، وصيغتها ، وفى اشتراط أداة نفى قبلها ، أو شبهه للعمل ـ أخوات لها فى هذا ، هى : (فتئ ـ برح ـ انفك وسيأتى الكلام على الثلاثة).

شروط إعمالها :

١ ـ يشترط فيها الشروط العامة.

٢ ـ أن يسبقها نفى أو نهى أو دعاء ؛ كالأمثلة التى سبقت. ولى فرق فى النفى بين أن يكون ظاهرا ؛ مثل : لا زال الغنى ثمرة الجدّ ، وأن يكون مقدرا لا يظهر فى الكلام ، ولكن المعنى يكشف عنه ، والسياق يرشد إليه ؛ مثل : تالله يزال الشحيح محروما متعة الحياة حتى يموت. أى : تالله لا يزال. وحذف النفى قياسى بشرط أن يكون بالحرف : «لا» وأن يكون الفعل مضارعا فى جواب قسم.

(١) دام : تفيد مع معموليها استمرار المعنى الذى قبلها مدة محددة ؛ هى مدة ثبوت معنى خبرها لاسمها ؛ نحو : يفيد الأكل ما دام المرء جائعا : ويضر ما دام المرء ممتلئا. ففائدة الأكل تدوم بدوام وقت معين ، محدد ، هو :

وقت جوع المرء. والضرر يدوم كذلك بدوام وقت معين ، محدود ، هو : وقت الامتلاء ، ولا بد فى دوام ذلك الوقت المحدد من أن يستمر ويمتد إلى زمن الكلام.

شروط إعمالها :

١ ـ يشترط فيها الشروط العامة.

٢ ـ أن تكون بلفظ الماضى ـ فى الرأى الأرجح ـ وقبلها ما المصدرية الظرفية. وإذا أسندت لضمير رفع متحرك وجب ضم الدال ، وحذف الألف.

٣ ـ أن يسبقهما معا كلام تتصل به اتصالا معنويّا ، بشرط أن يكون جملة فعلية مضارعية. ـ

١٢٥

فأمّا : (ليس) فاتّفقوا على جواز تقديم خبرها على اسمها ، وأمّا تقديمه عليها فيجوز عند الكوفيّين وبعض البصريّين.

وحجّة من منع : أنّ (ليس) فعل لفظي جامد قويّ الشبه بالحرف فلم يقو قوّة أخواته وجاز تقديم الخبر فيه على الاسم إذ كان فعلا في الجملة فحاله متوسّطة بين (كان) وبين (ما).

واحتجّ من أجاز تقديم خبر (ليس) بقوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) [هود : ٨] فنصب (يوم) بالخبر ولا يقع المعمول إلا حيث يقع العامل ، ولأنّ (ليس) فعل يتقدّم خبره على اسمه فكذلك يتقدّم عليه ك (كان) ، وقد أجيب عن الآية من وجهين :

أحدهما : أنّه منصوب بفعل آخر يفسّره الخبر.

والثاني : أنّ الظروف تعمل فيها روائح الفعل.

فصل : وإنّما لم يجز الفصل بين (كان) وغيرها من العوامل بما لم تعمل فيه ؛ لأنه أجنبيّ غير مسند للكلام والعامل يطلب معموله فالفصل بينهما يقطعه عنه ، فإن جعلت في (كان) ضمير الشأن جاز تقديم معمول الخبر لاتّصال (كان) بأحد معموليها وكون الفاصل كالجزء من جنسهما.

فصل : وإنّما كان الأحسن في خبر (كان) إذا وقع ضميرا أن يكون منفصلا ؛ لأنه في الأصل خبر المبتدأ والخبر لا يكون متّصّلا ، وإنّما ساغ في (كان) أن يكون متّصّلا ؛ لأنه مشبّه بالمفعول فعلى هذا : (كنت إيّاه) أحسن من : (كنته).

فصل : وإنّما لم يجز دخول (إلّا) في خبر (ما زال) وأخواتها ؛ لأن معناها الإثبات فيصير ك (كان) فأمّا قول ذي الرّمة (١) : [الطويل]

__________________

٤ ـ ألا يكون خبرها جملة فعلية ماضوية ؛ لأن دام مع معموليها تفيد استمرار المعنى إلى وقت الكلام ، والجملة الماضوية تفيد انقطاعه فيقع التنافى.

٥ ـ ألا يتقدم خبرها عليها وعلى «ما» ؛ لأن «ما» المصدرية الظرفية لا يسبقها شئ من صلتها التى تسبك معها بمصدر. أما توسطه بينها وبين «ما» فجائز.

(١) ذو الرمة : (٧٧ ـ ١١٧ ه‍ / ٦٩٦ ـ ٧٣٥ م) وهو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي ، من مضر. من فحول الطبقة الثانية في عصره ، قال أبو عمرو بن العلاء : فتح الشعر بامرئ القيس وختم بذي

١٢٦

حراجيج ما تنفكّ إلّا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

فيروى بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف وموضع الجملة حال وبالنصب على الحال وتكون : (تنفكّ) تامّة و (على الخسف) حال أخرى ويجوز أن تكون الناقصة وتكون : (على الخسف) الخبر أي ما تنفكّ على الخسف إلا إذا أنيخت وعليه المعنى.

فصل : لا يجوز أن تبنى (كان) لما لم يسمّ فاعله لما ذكر في الباب الذي قبله ، وقال الفرّاء : يجوز وهو فاسد لما تقدّم.

فصل : ولا تؤكّد (كان) بالمصدر ؛ لأن المصدر دالّ على الحدث والناقصة لا تدلّ عليه ، وأجازه قوم على أن يكون المصدر لفظيّا كالفعل المؤكّد ، وقولهم : يعجبني كون زيد قائما فهو مصدر التامّة و (قائما) منصوب على الحال.

فصل : وحرف الجرّ الداخل على الخبر لا يعلّق بهذه الأفعال ؛ لأنه زائد وإنّما يتعلّق الحرف بالفعل الذي يعدّيه.

فصل : ولا تدخل (لام كي) على خبر كان ؛ لأنها تدلّ على المفعول له وهذا يجوز والخبر لا يجوز حذفه ولأنّ خبر كان يعلّل بغيره لا بنفسه ، وأمّا قوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٩] فالخبر فيه محذوف تقديره : ما كان الله مريدا ، ونحوه ، وقال الكوفيّون : هو الخبر ، وسنشبع القول فيه إن شاء الله تعالى في باب الأفعال.

فصل : وإنّما ساغ أن تزاد (كان) ؛ لأنها أشبهت الحروف في أنّ معناها في غيرها ، ول (كان) الزائدة فاعل مضمر فيها تقديره كان الكون على قول أبي سعيد السيرافي ، ولا فاعل لها عند أبي عليّ ، ومعنى زيادتها عند السيرافي في إلغاء عملها لا أنّها تخلو من فاعل ، وإنّما لم يظهر ضمير

__________________

ـ الرمة. كان شديد القصر دميما ، يضرب لونه إلى السواد ، أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال ، يذهب في ذلك مذهب الجاهليين وكان مقيما بالبادية ، يختلف إلى اليمامة والبصرة كثيرا ، امتاز بإجادة التشبيه.

قال جرير : لو خرس ذو الرمة بعد قصيدته (ما بال عينيك منها الماء ينسكب) لكان أشعر الناس.

عشق (ميّة) المنقرية واشتهر بها. توفي بأصبهان ، وقيل : بالبادية.

١٢٧

فاعلها ؛ لأن الضمير يرجع إلى مذكور فيلزم أن يكون لها اسم ، وإذا كان لها اسم كان لها خبر ؛ ولهذا تبيّن فساد قول من قال في قول الفرزدق (١) : [الوافر]

وجيران لنا كانوا كرام

إنّ (كان) زائدة والصحيح أنّ خبرها (لنا) و (كرام) صفة لجيران ، وإنّما لم تقع الزائدة في أوّل الكلام ؛ لأن الزائدة فرع ومؤكّد وتقدّمه يخلّ بهذا المعنى.

فصل : وإنّما أكّد خبر : (ليس) بالباء لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الكلام إذا زيد فيه قوي ؛ ولهذا زيدت (من) في قولك : ما جاءني من أحد.

والثاني : أنّها بإزاء (اللام) في خبر (إنّ).

والثالث : أنّ دخول حرف الجرّ يؤذن بتعلّق الكلمة بما قبلها من فعل أو ما قام مقامه ، ولو حذفه لكان مرفوعا أو منصوبا وكلاهما قد يحذف عامله ويبقى هو بخلاف حرف الجرّ.

فصل : وإنّما اختيرت (الباء) دون غيرها لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ أصلها الإلصاق ، والإلصاق يوجب شدّة اتصال أحد الشيئين بالآخر.

والثاني : أنّها من حروف الشفتين فهي أقوى من اللام وغيرها من حروف الجرّ.

والثالث : أنّ حروف الجرّ كلّها توجب مع تعديتها الفعل معنى كالتبعيض والملك والتشبيه وغير ذلك والباء لا توجب أكثر من تعدية الفعل ؛ ولذلك استعملت في القسم وهو باب التوكيد.

__________________

(١) البيت كاملا :

فكيف إذا رأيت ديار قومي

وجيرانن لنا كانوا كرام

من قصيدة مطلعها :

ألستم عائجين بنا لعنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام

١٢٨

باب (ما)

القياس ألا تعمل (ما) ؛ لأنها غير مختّصة فهي كحرف الاستفهام والعطف وغيرهما ؛ ولهذا لم يعملها بنو تميم ، وإنّما أعملها أهل الحجاز لشبهها ب (ليس) وهي تشبهها في أربعة أشياء : النفي ، ونفي ما في الحال ، ودخولها على المبتدأ والخبر ، ودخول الباء في خبرها ، وقد تقرّر أنّ الشيء إذا أشبه غيره من وجهين فصاعدا حمل عليه ما لم يفسد المعنى ، ومنه باب ما لا ينصرف ولمّا أشبهتها عملت في المبتدأ والخبر ك (ليس) ، وقال الكوفيّون : خبرها منصوب بحذف حرف الجرّ ، وهذا فاسد لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ هذا يقتضي أنّ حرف الجرّ فيه أصل ، وليس كذلك.

والثاني : أنّ هذا هذا إيجاب العمل بالعدم.

والثالث : أنّ حرف الجرّ تحذف في مواضع ولا يجب النصب كقولك : بحسبك قول السوء ، وكفى بالله شهيدا ، وما جاءني من أحد.

فصل : وإنّما بطل عملها بدخول (إلا) لزوال شبهها ب (ليس) إذا كان الكلام يعود إلى الإثبات ، ولم يبطل عمل (ليس) بإلا ؛ لأنها أصل فأمّا قول الشاعر : [الطويل]

وما الدهر إلا منجنونا (١) بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذّبا

ففيه وجهان :

أحدهما : أنّ المنصوب مفعول به والخبر محذوف تقديره : إلا يشبه منجنونا وهو الدولاب في دورانه وإلا يشبه معذّبا.

والثاني : أنّ (منجنونا) و (معذّبا) منصوبان نصب المصادر ونائبان عن فعل تقديره : إلا يدور دورانا وإلا يعذب تعذيبا.

__________________

(١) قال أبو الحسن اللحياني : المنجنون هي التي تدور ، جعلها مؤنثة.

وأما قول عمرو بن أحمر :

ثمل رمته المنجنون بسهمها

فإنّ أبا الفضل أخبرني عن شيخ من أهل الأدب ، سمع أبا سعيد المكفوف يقول : هو الدهر في بيت أحمر.

قال أبو الفضل : المنجنون الدّولاب ، وأنشد :

ومنجنون كالأتان الفارق

١٢٩

فصل : وإنّما بطل عملها بتقديم الخبر ؛ لأن التقديم تصرّف ولا تصرّف ل (ما) ولأنّ التقديم فرع عمل و (ما) فرع فلا يجمع بين فرعين ، فأمّا قول الفرزدق (١) : [البسيط]

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم

إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

بنصب مثل ، ففيه أربعة أوجه :

أحدها : أنّه غلط من الفرزدق ؛ لأن لغته تميميّة وهم لا ينصوبه بحال لكّنه ظنّ أنّ أهل الحجاز ينصبون خبرها مؤخرّا ومقدّما.

والثاني : أنّها لغة ضعيفة.

والثالث : أنّه حال تقديره : (إذ ما في الدنيا بشر مثلهم) فلمّا قدّم صفة النكرة نصبها وهذا ضعيف ؛ لأن العامل في الحال إذا كان معنى لا يحذف ويبقى عمله إلا أنّه سوّغه شبه : (مثل) بالظرف.

والرابع : أنّه ظرف تقديره : (وإذ ما مكانهم بشر) أي : في مثل حالهم إلّا أنّه سوّغه شبه مثل بالظرف.

فصل : ويبطل عملها بتقديم معمول الخبر (٢) كقولك : ما طعامك زيد آكل ؛ لأن معمول الخبر لا يقع إلا حيث يقع العامل فتقديمه كتقديم العامل ، ولو تقدّم العامل لكان مرفوعا

__________________

(١) من قصيدة مطلعها :

زارت سكينة أطلاحا أناخ بهم

شفاعة النوم للعينين والسهر

(٢) قال الأشموني في شرح الألفية : قال في شرح الكافية : من النحويين من يرى عمل ما إذا تقدم خبرها وكان ظرفا أو مجرورا وهو اختيار أبي الحسن بن عصفور (وسبق حرف جر) مع مجروره (أو ظرف) مدخولي ما مع بقاء العمل (كما بي أنت معنيّا) وما عندك زيد قائما (أجاز العلما) سبق مصدر نصب بالمفعولية لأجاز مضاف إلى فاعله ، والمراد أنه يجوز تقديم معمول خبر ما على اسمها إذا كان ظرفا أو مجرورا كما مثل. ومنه قوله :

بأهبة حزم لذ وإن كنت آمنا

فما كلّ حين من توالي مواليا

فإن كان غير ظرف أو مجرور بطل العمل نحو ما طعامك زيد آكل. ومنه قوله :

وقالوا تعرّفها المنازل من منى

وما كلّ من وافى منّى أنا عارف

وأجاز ابن كيسان بقاء العمل والحالة هذه (ورفع معطوف بلكن أو ببل من بعد) خبر (منصوب بما) الحجازية (الزم حيث حل) رفع مصدر نصب بالمفعولية لا لزم مضاف إلى مفعوله ، والفاعل محذوف ،

١٣٠

فكذلك إذا تقدّم معموله وكلّ موضع لا ينتصب فيه خبر (ما) لا تدخل عليه الباء كما لا يدخل على خبر المبتدأ ، فإن قلت : (طعامك ما زيد آكلا) لم يجز نصبت الخبر أو رفعته ؛ لأن (ما) لها صدر الكلام وأجاز ذلك الكوفيّون وقاسوه على : (لا) و (لم) و (لن) ، وقد بيّنا فيما تقدّم أنّ (ما) أصل حروف النفي فلا يسوّى بينهما.

فصل : فإن قلت : (ما إن زيد قائم) بطل عملها لوجهين :

أحدهما : أنّ (ما) كفّت (إنّ) عن العمل فتكفّها عن عملها اقتصاصا.

والثاني : أنّ (ما) للنفي و (إن) تكون للنفي ، والنفي إذا دخل على النفي صار إثباتا فكذلك لفظ النفي وإن لم ترد به النفي.

فصل : ومن العرب من يعمل (لا) عمل (ما) لاشتراكهما في المعنى ، ومنه قول الشاعر (١) : [مجزوء الكامل]

من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

أي : لا لي براح كقولك : مالي ، وقال العجّاج (٢) : [من الرجز]

__________________

ـ والتقدير الزم رفعك معطوفا بلكن أو ببل إلى آخره. ، وإنما وجب الرفع لكونه خبر مبتدأ مقدر. ولا يجوز نصبه عطفا على خبر ما لأنه موجب وهي لا تعمل في الموجب ، تقول ما زيد قائما بل قاعد ، وما عمرو شجاعا لكن كريم ، أي بل هو قاعد ولكن هو كريم. فإن كان العطف بحرف لا يوجب كالواو والفاء جاز الرفع والنصب نحو ما زيد قائما ولا قاعد ولا قاعدا. والأرجح النصب.

(١) البيت من شعر ابن نباتة المصري : (٦٨٦ ـ ٧٦٨ ه‍ / ١٢٨٧ ـ ١٣٦٦ م) وهو محمد بن محمد بن محمد بن الحسن الجذامي الفارقي المصري أبو بكر جمال الدين. شاعر عصره ، وأحد الكتاب المترسلين العلماء بالأدب ، أصله من ميافارقين ، ومولده ووفاته في القاهرة.

وهو من ذرية الخطيب عبد الرحيم بن محمد بن نباتة. سكن الشام سنة ٧١٥ ه‍ وولي نظارة القمامة بالقدس أيام زيارة النصارى لها فكان يتوجه فيباشر ذلك ويعود. ورجع إلى القاهرة سنة ٧٦١ ه‍ فكان بها صاحب سر السلطان الناصر حسن.

وأورد الصلاح الصفدي في ألحان السواجع ، مراسلاته معه في نحو ٥٠ صفحة. له (ديوان شعر ـ ط) و (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون ـ ط). (سجع المطوق ـ خ) تراجم وغيرها.

(٢) العجاج : (ت ٩٠ ه‍ / ٧٠٨ م) وهو عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي أبو الشعثاء

١٣١

تالله لو لا أن تحشّ الطبّح

بي الجحيم حين لا مستصرخ

ومنهم من يعملها مع الحين خاصّة كقوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) [ص : ٣] تقديره ، وليس الحين حين مستضرح.

وقال الأخفش : هو منصوب بفعل محذوف ، أي : ولات أرى حين مناص. وقال قوم : هو مبنيّ مع (لا). ومن العرب من يرفع الحين هنا ويحذف الخبر.

فأمّا : (التاء) فقال قوم هي متصلة ب (لا) دخلت لتأنيث الكلمة كما دخلت في (ربّ) و (ثمّ) وعلى هذا يوقف عليها بالتاء ؛ لأنها أشبهت التاء اللاحقة بالفعل في دلالتها على التأنيث في غير لفظها وفتحت ليفرقّ بين الحرف والفعل ، ولو قيل : حرّكت لالتقاء الساكنين كان وجها ، وقال الكسائيّ : يوقف عليها بالهاء لتحرّكها ، ومنهم من قال : هي متصّلة بحين كما قالوا : (تلان).

__________________

. ـ راجز مجيد ، من الشعراء ، ولد في الجاهلية وقال الشعر فيها ، ثم أدرك الإسلام وأسلم وعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك ففلج وأقعد ، وهو أول من رفع الرجز ، وشبهه بالقصيد ، وكان بعيدا عن الهجاء ، وهو والد رؤبة الراجز المشهور.

١٣٢

باب نعم وبئس

وهما فعلان (١) عند البصريّين والكسائي واسمان عند الباقين ، والدليل على أنّهما فعلان ثلاثة أشياء :

أحدهما : اتّصال تاء التأنيث الساكنة الدّالة على تأنيث الفاعل بها ، وليس كذلك تاء : (ربّت) و (ثّمت) ؛ لأنها متحرّكة غير دالة على تأنيث الفاعل ، وقد وقف عليها قوم بالهاء.

والثاني : أنّه يستتر فيها الضمير وليست اسم فاعل ولا مفعول ولا ما أشبههما ، وقد حكى الكسائيّ : نعموا رجالا الزيدون.

والثالث : أنّها ليست حرفا بالاتفاق ولا سيما وهي تفيد مع اسم واحد ، ولا يجوز أن تكون اسما إذ لو كانت اسما لكانت إمّا أن تكون مرفوعة ولا سبيل إلى ذلك إذ ليست فاعلا ولا مبتدأ ولا ما شبّه بهما ، وإمّا منصوبة ولا سبيل إليه أيضا إذ ليست مفعولا ولا ما شبّه به وإمّا مجرورة ولا سبيل إليه ، فأمّا دخول (الباء) عليها في بعض الحكايات فلا يدلّ على أنّها اسم كما قال الراجز : [مشطور الرجز]

والله ما ليلي بنام صاحبه ... (٢)

والتقدير في ذلك كلّه بمقول فيه وحذف القول كثير.

__________________

(١) نعم وبئس : هي أفعال لإنشاء المدح والذّمّ على سبيل المبالغة. وفاعلهما نوعان :

(أحدهما) اسم ظاهر معرّف ب «أل» الجنسيّة نحو : (نِعْمَ الْعَبْدُ) (الآية «٤٤» من سورة ص) و (بِئْسَ الشَّرابُ) (الآية «٢٩» من سورة الكهف) أو معرّف بالإضافة إلى ما قارنها نحو : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) (الآية «٣٠» من سورة النحل) (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (الآية «٢٩» من سورة النحل) أو بالإضافة إلى المضاف لما قارنها كقول أبي طالب :

فنعم ابن أخت القوم غير مكذّب

زهير حسام مفرد من حمائل

(الثاني) ضمير مستتر وجوبا مميّز إمّا بلفظ «ما» بمعنى شيء «ما» الواقعة بعد «نعم» على ثلاثة أقسام : «أ» مفردة أي غير متلوّة بشىء ، نحو دققته دقّا نعمّا ، وهي معرفة تامة فاعل ، والمخصوص محذوف ، أي نعم الشيء الدّقّ. «ب» متلوّة بمفرد نحو «فنعمّا هي» و «بئسما تزويج ولا مهر» وهي معرفة تامّة فاعل ، وما بعدها هو المخصوص ، أي نعم الشيء هو ، وبئس هذا الشيء تزويج ولا مهر.

(٢) البيت كاملا :

والله ما ليلي بنام صاحبه

ولا مخالط اللّيان جانبه

١٣٣

وأمّا ما حكي أنّهم قالوا : (نعيم) فشادّ والياء فيها ناشئة عن إشباع الكسرة ، وأمّا دخول اللام عليها في نحو قوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) [النحل : ٣٠] فهو جواب قسم كما قال : [البسيط]

إذن لقام بنصري (١) ...

وكقول الآخر : [الطويل]

... (٢) لناموا فما إن من حديث ولا صال

وأمّا دخول : (يا) عليها في نحو قولهم : (يا نعم المولى) فالمنادى محذوف ، أي : يا الله أنت نعم المولى كما قالوا : (يالعنه الله) وكقراءة من قرأ : ألا يا اسجدوا وكقوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) [يس : ٢٦] ، وأمّا عدم تصرّفها فلم نذكره بعد.

فصل : والأصل في : (نعم) نعم الرجل إذا أصاب نعمة ، و (بئس) إذا أصاب بؤسا مكسور العين وفيها أربع لغات هذه أحداها ، وقد جاءت في شعر طرفة : [الرمل]

__________________

(١) البيت كاملا :

ومسّني في حمى أبنائهم حزن

إذن لقام بنصري معشر خشن

والقصيدة من شعر صفيّ الدين الحلّي : (٦٧٥ ـ ٧٥٠ ه‍ / ١٢٧٦ ـ ١٣٤٩ م) وهو عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم ، السنبسي الطائي. شاعر عصره ، ولد ونشأ في الحلة ، بين الكوفة وبغداد ، واشتغل بالتجارة فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في تجارته ويعود إلى العراق.

انقطع مدة إلى أصحاب ماردين فتقّرب من ملوك الدولة الأرتقية ومدحهم وأجزلوا له عطاياهم. ورحل إلى القاهرة ، فمدح السلطان الملك الناصر وتوفي ببغداد.

له (ديوان شعر) ، و (العاطل الحالي) : رسالة في الزجل والموالي ، و (الأغلاطي) ، معجم للأغلاط اللغوية و (درر النحور) ، وهي قصائده المعروفة بالأرتقيات ، و (صفوة الشعراء وخلاصة البلغاء) ، و (الخدمة الجليلة) ، رسالة في وصف الصيد بالبندق.

ومطلع هذه القصيدة :

يا للحماسة ضاقت بينكم حيلي

وضاع حقّي بين العذر والعذل

(٢) البيت كاملا :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صال

وهو من شعر امرئ القيس.

١٣٤

... (١) نعم الساعون في الأمر المبرّ

وثانيهما : كسر النون وإسكان العين والوجه فيه أنّهم نقلوا كسرة العين إلى الفاء.

وثالثها : كسرها على الاتباع.

ورابعها : فتح النون على الأصل وإسكان العين على التخفيف وهذا مستمرّ في كلّ فعل أو اسم مكسور العين إذا كانت عينه حرفا حلقيا.

فصل : وإنّما كان هذا الفعل ماضيا غير متصرّف لوجهين :

أحدهما : أنّه لمّا أخرج إلى معنى أشبه الحرف في دلالته على المعنى فجمد كما جمد الحرف.

والثاني : أنّه موضوع للمبالغة في المدح والذمّ ، وإنّما يصدر ذلك ممّن علم أن ثمّ صفات توجب ذلك فهو ممدحة أو مذّمة بما فيه لا بما ينتظره.

فصل : وإنّما كان فاعل : (نعم) و (بئس) جنسا معرّفا باللام لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ (نعم) لّما كانت للمدح العامّ جعل فاعلها مطابقا لمعناها.

والثاني : أنّ الجنس يذكر تنبيها على أن المخصوص بالمدح أفضل جنسه.

والثالث : أنّ الجنس ذكر للإعلام بأنّ كلّ فضيلة وكلّ رذيلة افترقت في جميع الجنس مجتمعة في المخصوص بالمدح والذمّ.

فإن قيل : لو كان جنسا لما ثنّي ولا جمع؟

قيل : إنّما ثنّي وجمع على معنى : إنّ زيدا يفضل هذا الجنس إذا ميّزوا رجلين رجلين أو رجالا رجالا.

وقيل : إنّما ثنّي وجمع ليكون على وفاق المخصوص بالمدح والذمّ في التثنية ، وإنّما كان المضاف إلى الجنس كالجنس ؛ لأن المضاف يكتسي تعريف المضاف إليه ، وإنّما جاز إضماره لما فيه

__________________

(١) والبيت كاملا في الديوان :

خالتي والنفس قدما أنّهم

نعم الساعون في القوم الشطر

وهو من قصيدة مطلعها :

أصحوت اليوم أم شاقتك هر

ومن الحبّ جنون مستعر

١٣٥

من الاختصار مع فهم المعنى ولم يظهر فيه ضمير التثنية والجمع استغناء بصيغة الاسم الممّيز للضمير ؛ إذ هو في المعنى وجاز الإضمار قبل الذكر لوجهين :

أحدهما : أنّه إضمار على شريطة التفسير.

والثاني : أنّ المظهر ليس يراد به واحد بعينه ففيه نوع إبهام والمضمر قبل الذكر كذلك وهذا مثل قولهم : (ربّه رجلا) والاختيار أن يجمع بين الفاعل والتمييز ؛ لأنّ التمييز ههنا مفسّر للمضمر ولا مضمر وإن جاء منه شيء في الشعر فشاذّ يذكر على وجه التوكيد ، وجعله أبو العبّاس قياسا.

فصل : وأمّا المخصوص بالمدح والذمّ ففي رفعه وجهان :

أحدهما : هو خبر مبتدؤه محذوف.

والثاني : هو مبتدأ والجملة قبله خبره ولم يحتج لى ضمير ؛ لأن الجنس مشتمل عليه فيجرى مجرى الضمير كما قالوا : [الطويل]

وأمّا القتال لا قتال لديكم (١) ...

[البيت الآخر : الطويل]

وأمّا الصدور لا صدور لجعفر (٢) ...

__________________

(١) البيت كاملا :

فأمّا القتال لا قتال لديكم

ولكنّ سيرا في عراض المواكب

وهو من شعر الحارث المخزومي : (٨٠ ه‍ / ٦٩٩ م) وهو الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي ، من قريش.

شاعر غزل ، من أهل مكة نشأ في أواخر أيام عمر بن أبي ربيعة وكان يذهب مذهبه ، لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء.

وكان يهوى عائشة بنت طلحة ويشبب بها ، وله معها أخبار كثيرة.

ولاه يزيد بن معاوية إمارة مكة ، فظهرت دعوة عبد الله بن الزبير ، فاستتر الحارث خوفا ، ثم رحل إلى دمشق وافدا على عبد الملك بن مروان فلم ير عنده ما يحب ، فعاد إلى مكة وتوفي بها.

(٢) والبت كاملا :

فأما الصدور لا صدور لجعفر

ولكن أعجازا شديدا ضريرها

١٣٦

فصل : وقد حذف فاعل : (نعم) من اللفظ تارة والمخصوص أخرى ، وقد حذفا جميعا في نحو قوله تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف : ٥٠] والتقدير : بئس البدل إبليس وذريّته وجاز ذلك لتقدّم ذكره ومن حذف المخصوص قوله تعالى : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الجمعة : ٥].

فـ (الذين) صفة للقوم ، والتقدير : بئس مثل القوم هذا المثل ، ويجوز أن يكون الذين فى موضع رفع ، أي : بئس مثل القوم ، أي : مثل الذين فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وأمّا قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) [الأعراف : ١٧٧] ف (ساء) بمنزلة (بئس). والتقدير : ساء المثل مثلا مثل القوم فعمل فيه ما ذكرناه ، وساء بمنزلة بئس فى جميع الأحكام.

فصل : إذا كان الفاعل مؤنّثا هنا كان ثبوت التاء كغيره من الأفعال ويجوز حذفها ؛ لأنّ الفاعل جنس ، والجنس مذكّر ، فغلّب المعنى كما قالوا : ما قام إلا هند ، أي : ما قام أحد إلّا هند.

١٣٧

باب حبّذا

(حبّ) (١) فعل ماض وأصله : (حبب) مثل ظرف ؛ لأن اسم الفاعل منه : حبيب ، وهو لازم ، فأمّا : (حببت الرجل) فهو فعلت مثل : ضرب ، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه غير مركّب وفاعله : (ذا) والاسم المرتفع بعده كالمرتفع بعد فاعل (نعم) فى الوجهين ، إلا أنّه لا يجوز تقديمه هنا على حبّذا ؛ لأن حبّذا صارت كالحرف المثبت لمعنى فيغيره فيكون له صدر الكلام وهذا هو الأصل.

والقول الثاني : أنّ (حبّ) ركّبت مع (ذا) وصارا فى تقدير اسم مرفوع بالابتداء ، و (زيد) خبره ، وتقدير المقرّب إلى القلب زيد ، واحتجّ على ذلك بحسن ندائه كقولهم : [البسيط]

يا حبّذا جبل الريّان من جبل (٢) ...

__________________

(١) حبّذا : فعل لإنشاء المدح ، ولا حبّذا فعل لإنشاء الذّمّ ، وهما مثل «نعم وبئس» (انظر هما في : نعم وبئس وما في معناهما) فيقال في المدح «حبّذا» وفي الذّمّ «لا حبّذا» قال الشاعر :

ألا حبّذا عاذري في الهوى

ولا حبّذا الجاهل العاذل

ف «حبّ» فعل ماض ، والفاعل «ذا» وهي اسم إشارة ولا يغيّر عن صورته مطلقا لجريانه مجرى الأمثال ، وجملة «حبّذا» من الفعل والفاعل خبر مقدّم ، ومخصوصه وهو «عاذري» مبتدأ مؤخرا أو خبر لمبتدأ محذوف.

والحاء من حبّ مع «ذا» مفتوحة وجوبا ، وبدونها تفتح أو تضم ، ومثل حبّذا إعراب «لا حبّذا إعراب» لا حبّذا الجاهل «إلا» أنّ فيه زيادة «لا» وهي النافية ، وتفترق «حبّذا» عن نعم وبئس من وجوه :

(أ) أنّ مخصوص «حبّذا» لا يتقدّم بخلاف مخصوص «نعم».

(ب) مخصوصها لا تعمل فيه النّواسخ بخلاف مخصوص «نعم» نحو : «نعم رجلا كان عليّا».

(ج) أنّه قد يتوسّط بين حبّذا ومخصوصها حال أو تمييز يطابقانه نحو «حبّذا قارئا خالد» و «حبّذا مسافرين خالدان» و «حبّذا رجلا محمّد» بخلاف «نعم».

(٢) البيت كاملا :

يا حبّذا جبل الريّان من جبل

وحبّذا ساكن الريان من كانا

وهو من شعر ابن الرومي : (٢٢١ ـ ٢٨٣ ه‍ / ٨٣٦ ـ ٨٩٦ م) وهو علي بن العباس بن جريج أو جورجيس ، الرومي.

شاعر كبير ، من طبقة بشار والمتنبي ، رومي الأصل ، كان جده من موالي بني العباس. ولد ونشأ ببغداد ، ومات فيها مسموما قيل : دس له السمّ القاسم بن عبيد الله ـ وزير المعتضد ـ وكان ابن الرومي قد هجاه.

قال المرزباني : لا أعلم أنه مدح أحدا من رئيس أو مرؤوس إلا وعاد إليه فهجاه ، ولذلك قلّت فائدته من قول الشعر وتحاماه الرؤساء وكان سببا لوفاته. ـ

١٣٨

يا حبّذا القمراء (١) ...

وكقولهم : (ما أحيبذه) فصغروه تصغير المفرد ، وبأنّه لم يثنّ ولم يجمع ولم يؤنّث وبأنّه لا يحذف ويضمر فى الفعل كما فعل فى (نعم) ، وهذه الأوجه لا يعتمد عليها ؛ لأن المنادى محذوف تقديره : (يا قوم) كما قالوا : (ألا يا اسلمي ...) فأدخلوها على الفعل ، وأمّا المنع من تنثيته وجمعه فلما يذكر من بعد ، وأمّا قولهم : ما أحبيذه! فمن الشذوذ الذي لا يستدلّ به على أصل.

الثالث : أنّ جعل التركيب كالفعل وارتفع زيد به.

فصل : وإنّما لم يثنّ ولم يجمع كما فعل فى فاعل (نعم) لتركيبه عند من يرى التركيب ومن لم يره ففيه وجهان :

أحدهما : أنّ (ذا) لمّا كان عبارة عن المذكور أو المقرّب من القلب كان جنسا ولفظ الجنس مفرد لم يغيّره عن ذلك.

والثاني : أنّ المفرد هو الأصل ويبقى هنا على لفظه ؛ لأنه صار كالمثل والأمثال لا تغيّر عن أوّليتها ، ولم يضمر فاعل (حبّ) لئلّا يبطل معنى الإشارة.

فصل : والنكرة تنصب بعده على التمييز وجاز الجمع بينهما ؛ لأنها ليست من لفظ الفاعل بخلاف باب (نعم) والاسم المخصوص بالتقريب مرفوع وفيه أربعة أوجه :

الأوّل : هو خبر ابتداء بمحذوف.

والثاني : هو مبتدأ و (حبذا) خبره ولمّا كانت (ذا) تشبه الضمير كانت كالعائد على المبتدأ ، ولا يجوز على هذا الوجه زيد حبّذا كما جاز في (نعم) لجريان (حبّذا) مجرى المثل وحروف المعاني.

والثالث : أنّه تبيين للفاعل.

والرابع : أنّه بدل لازم ومن جعل (حبّذا) مركّبا كان (زيد) خبره أو فاعله.

__________________

وقال أيضا : وأخطأ محمد بن داود فيما رواه لمثقال (الوسطي) من أشعار ابن الرومي التي ليس في طاقة مثقال ولا أحد من شعراء زمانه أن يقول مثلها إلا ابن الرومي.

(١) البيت كاملا في القمراء :

يا حبّذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النساج

١٣٩

باب عسى

وهي فعل بدليل اتّصال الضمائر بها وتاء التأنيث الساكنة نحو : عسيت وعسوا وعسين وعست ، ومعناها : الإشفاق والطمع في قرب الشيء كقولك : عسى زيد أن يقوم ، أي : أطمع في قرب قيامه وهي فعل ماض لأنّك تخبر بها عن طمع واقع في أمر مستقبل ، ولا يكون منها مستقبل ولا اسم فاعل بل هي فعل جامد ، وإنّما كانت كذلك لوجهين (١) :

__________________

(١) تختصّ «عسى واخلولق وأوشك» بجواز إسنادهنّ إلى «أن يفعل» ولا تحتاج إلى خبر منصوب ، فتكون تامّة ، نحو (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (الآية «٢١٦» من سورة البقرة) وينبني على هذا فرعان :

(أحدهما) أنّه إذا تقدّم على إحداهنّ اسم وهو الفاعل في المعنى ، وتأخر عنها «أن والفعل» نحو «عمرو عسى أن ينتصر» جاز تقدير عسى خالية من ضمير ذلك الاسم المتقدم عليها ، فتكون رافعة للمصدر المقدّر من أن والفعل مستغنى به عن الخبر وهي حينئذ تامّة ، وهي لغة الحجاز. وجاز تقديرها رافعة للضمير العائد إلى الاسم المتقدّم ، فيكون الضّمير اسمها ، وتكون «أن والفعل» في موضع نصب على الخبر ، فتكون ناقصة ، وهي لغة بني تميم.

ويظهر أثر التّقديرين في حال التّأنيث والتثنية والجمع ، المذكر والمؤنث ، فتقول على تقدير الإضمار في عسى ـ وهو أنها ناقصة عاملة ـ «هند عست أن تفلح». «العمران عسيا أن ينجحا».

و «الزّيدون عسوا أن يفلحوا» و «الفاطمات عسين أن يفلحن» وتقول على تقدير الخلو من الضمير ـ وهو استغناؤها بالفاعل عن الخبر في الأمثة ـ جميعها من غير أن تتصل بعسى أداة تأنيث أو تثنية أو جمع وهو الأفصح ، تقول : «هند عسى أن تفلح» و «الخالدان عسى أن يأتيا» وهكذا في الباقي وبه جاء التنزيل قال تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) (الآية «١١» من سورة الحجرات).

(الفرع الثاني) أنه إذا ولي أحد هذه الأفعال الثّلاثة «أن والفعل» وتأخّر «عنها اسم هو الفاعل في المعنى ، نحو «عسى أن يجاهد عليّ» جاز الوجهان السّابقانن : أن يكون الاسم وهو «عليّ» في ذلك الفعل المقرون بأن خاليا من الضّمير العائد إلى الاسم المتأخر ، فيكون الفعل مسندا إلى ذلك الاسم المتأخّر ، وهو يجاهد وتكون عسى مسندة إلى أن والفعل مستغنى بهما عن الخبر فتكون تامّة.

والثاني : أنّه يجوز أن يقدّر ذلك الفعل متحمّلا لضمير ذلك الاسم المتأخّر (وعندئذ يعود الضمير على متأخر لفظا لا رتبة وهذا جائز) ، فيكون الاسم المتأخّر مرفوعا بعسى وتكون أن والفعل في موضع نصب على الخبريّة لعسى مقدما على الاسم ، فتكون ناقصة.

ويظهر أثر الاحتمالين أيضا في التأنيث والتّثنية والجمع المذكّر والمؤنّث ، فنقول على الثاني ـ وهو أن يكون الاسم المتأخّر اسما ل «عسى» ـ «عسى أن يقوما أخواك» و «عسى أن يقوموا إخوتك» و «عسى أن تقمن نسوتك» و «عسى أن تطلع الشّمس» لا غير.

١٤٠