اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

أحدهما : أنّها أشبهت الحروف إذ كان لها معنى فى غيرها وهو الدلالة على قرب الفعل الواقع بعدها ، وحكم الفعل أن يدلّ على معنى فينفسه وشبهها بالحرف يوجب جمودها كما أنّ الحرف جامد.

والثاني : أنّها تشبه (لعلّ) فى الطمع والإشفاق فتلزم صيغة واحدة ك (لعلّ).

فصل : إذا وقع الفعل الذي دلّت عليه (عسى) بعد الاسم كان موضعه نصبا كقولك : عسى زيد أن يقوم. وقال الكوفيّون : موضعه رفع على أنّه بدل ممّا قبله.

والدليل على القول الأوّل من وجهين :

أحدهما : أن (زيدا) هنا فاعل (عسى) ومعناها قارب زيد فيقتضي مفعولا وهو قولك : (أن يقوم).

والثاني : أنّ (عسى) دلّت على معنى في قولك : (أن يقوم) كما دلّت (كان) على معنى في الخبر فوجب أن يكون منصوبا كخبر (كان) يشهد له قول الشاعر (١) : [الرجز]

أكثرت في العذل ملحّا دائما

لا تلحني إنّي عسيت صائما

ومنه المثل : (عسى الغوير أبؤسا) ولا يصحّ أن يقدّر ب (أن يكون أبوسا) لما فيه من حذف الموصول وإبقاء صلته ولا يصحّ جعله بدلا لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ البدل لا يلزم ذكره وهذا يلزم ذكره.

والثاني : أنّه في معنى المفعول والخبر الذي دلّت عليه (عسى) ، وليس هذا حكم البدل.

والثالث : أنّه قد جاء الفعل الذي دلّت عليه (عسى) وإبدال الفعل من الاسم لا يصحّ.

فصل : وإنّما كان خبر عسى فعلا مستقبلا ؛ لأنها تدل على المقاربة ، والمقاربة في الماضي محال ؛ لأنه قد وجد ولم يكن اسما إذ لا دلالة للاسم على الاستقبال ، وإنّما لزمت فيه (أن)

__________________

(١) البيت من شعر رؤبة بن العجاج : (١٤٥ ه‍ / ٧٦٢ م) وهو رؤبة بن عبد الله العجاج بن رؤبة التميمي السعدي أبو الجحّاف أو أبو محمد. راجز ، من الفصحاء المشهورين ، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية. كان أكثر مقامه في البصرة ، وأخذ عنه أعيان أهل اللغة وكانوا يحتجون بشعره ويقولون بإمامته ف اللغة ، مات في البادية ، وقد أسنّ.

وفي الوفيات : لما مات رؤبة قال الخليل : دفنا الشعر واللغة والفصاحة.

١٤١

لتمحّضه على الاستقبال ، ولم يكن : (السين) و (سوف) ؛ لأنّهما يدلّان على نفس زمان الفعل والغرض هنا تقريبه فإن جاء شيء من ذلك فهو شاذّ.

فصل : وإذا وقع : (أن والفعل) قبل الاسم فموضعه رفع على أنّه فاعل (عسى) ويكون معناها : (قرب) ولا تقتضي مفعولا أو يكون هذا الفاعل لم تضمنّه من الحدث مغنيا عن الخبر.

فصل : وأمّا (كاد) ففعل متصرّف يدلّ على شدّة مقاربة الفعل ومن ههنا لم يدخل خبرها :

(أن) ليكون لفظه كلفظ فعل الحال ، فإن جاءت فيه (أن) فهو شاذّ محمول على (عسى) كما حملت عسى على (كاد) فإن تقدّم الفعل كقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [التوبة : ١١٧] كان فيها أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون فيها ضمير الشأن والجملة بعدها مفسّرة.

والثاني : أن تكون : (تزيغ) حالا مغنية عن الخبر.

والثالث : أن تكون : (تزيغ) في نيّة التأخير.

والرابع : أن يكون فاعل : (كاد) ضميرا القبيل ، أي : كاد القبيل وأضمر ليقوم ما يدلّ عليه وهذا قول أبى الحسن.

فصل : إذا كانت : (كاد) مثبتة في اللفظ فالفعل غير واقع فى الحقيقة كقولك : كاد زيد يقوم ، أي : قارب ذاك ولم يقم ، وإن كانت منفية فهو واقع في الحقيقة كقولك : لم يكد يقوم ؛ لأن المعنى قارب ترك القيام.

فأمّا قوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] فقد اضطربت فيه الأقوال ، فقال بعضهم : التقدير لم يرها ولم يكد وهذا خطأ ؛ لأن قوله : (لَمْ يَكَدْ) إن كانت على بابها نقض الثاني الأوّل ؛ لأنه نفى الرؤية ثمّ أثبتها ، وإن لم تكن على بابها فلا حاجة إلى تقدير الفعل الأوّل. وقال الآخرون : إنّه رآها بعد اليأس من ذلك وهذا أشبه بالمعنى واللفظ.

١٤٢

باب التّعجّب

التّعجّب : هو الدهش من الشيء الخارج عن نظائره المجهول سببه ، وقد قيل : إذا ظهر السبب بطل العجب ، واللفظ الموضوع له بحقّ الأصل : (ما أفعله!) فأمّا : (أفعل به!) فمعدول به عن أصله على ما سنبيّنه.

فصل : و (ما) فى التّعجّب نكرة غير موصولة مبتدأ. و (أحسن) خبرها ، وقال أبو الحسن : هي بمعنى الذى و (أحسن) صلتها والخبر محذوف (١).

والدليل على الأوّل من وجهين :

أحدهما : أنّ التعجّب من مواضع الإبهام ف (الذي) فيها إيضاح بصلتها.

__________________

(١) هو انفعال في النّفس عند شعورها بما يخفى سببه ؛ فإذا ظهر السّبب بطل العجب. وصيغ التّعجّب : للتّعجّب صيغ كثيرة ، منها قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (الآية «٢٨» من سورة البقرة) وفي الحديث : (سبحان الله إنّ المؤمن لا ينجس). ومن كلام العرب «لله درّه فارسا» والمبوّب له في كتب العربيّة صيغتان لا غير ولا تتصرّفان : «ما أفعله ، وأفعل به». لا طّرادهما فيه نحو «ما أجمل الصّدق» و «أكرم بصاحبه». وبناؤه أبدا ـ كما يقول سيبويه ـ من «فعل» و «فعل» و «فعل» و «أفعل».

الصّيغة الأولى «ما أفعله» : هذه الصّيغة مركبة من «ما» و «أفعله» فأمّا «ما» فهي اسم إجماعا ، لأنّ في «أفعل» ضميرا يعود عليها ، كما أجمعوا على أنها مبتدأ ، لأنها مجرّدة للإسناد إليها.

ثم اختلفوا : فعند سيبويه أنّ «ما» نكرة تامّة بمعنى شيء ، وجاز الابتداء بها لتضمّنها معنى التّعجّب وما بعدها خبر ، فموضعه رفع. وعند الأخفش : هي معرفة ناقصة. بمعنى الذي ، وما بعدها صلة فلا موضع له ، أو نكرة ناقصة وما بعدها صفة ، وعلى هذين فالخبر محذوف وجوبا (وليس هذا القول بالمرضي كما في الرّضي ، لأنه حذف الخبر وجوبا مع عدم ما يسدّ مسدّه ، وأيضا ليس في هذا التقدير معنى الإبهام اللائق في التعجب كما كان في تقدير سيبويه) تقديره : شيء عظيم.

وأمّا «أفعل» فالصحيح (وهو قول سيبويه والكسائي) : أنها فعل للزومه مع ياء المتكلّم نون الوقاية نحو «ما أفقرني إلى رحمة الله». ففتحته فتحة بناء ، وما بعده مفعول به (وقال بقية الكوفيين : اسم لمجيئه مصغرا في قوله : «يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا» ففتحته فتحة إعراب) :

الصيغة الثانية «أفعل به» : أجمعوا على فعليّة «أفعل» وأكثرهم على أن لفظضه لفظ الأمر ومعناه الخبر ، وهو في الأصل ماض على صيغة «أفعل» بمعنى صار ذا كذا ، ثمّ غيّرت الصّيغة فقبح إسناد صيغة الأمر إلى الاسم الظاهر ، فزيدت الباء في الفاعل ليصير على صورة المفعول به ولذلك التزمت (وقال الفرّاء والزّجّاج والزّمخشري وغيرهم : لفظه الأمر ، وفيه ضمير للمخاطب ، والباء للتعدية ، فمعنى : «أجمل بالصّدق» اجعل يا مخاطب الصدق جميلا أي صفه بالجمال كيف شئت).

١٤٣

والثاني : أنّ تقدير الخبر هنا لا فائدة فيه ؛ إذ تقديره الذي أحسن زيدا شيء وهذا لا يستفيد منه السامع فائدة ، وإنّما جاز الابتداء بهذه النكرة ؛ لأن الغرض منه التعجّب لا الإخبار المحض ، وإنّما عدل عن (شيء) إلى (ما) ؛ لأن (ما) أشدّ إبهاما إذ كانت لا تثنّى ولا تجمع ولا تقع للتحقير ، ولأنّها يؤكّد بها إبهام (شيء) فيقال : ما أخذت منه شيئا ما ، فإنّها تثنّى وتجمع وتذكر للتحقير كقولك : عندي شييء أي حقير.

ولم يستعملوا في التعجب : (من) بمن يعقل ولا : (أيّا) ؛ لأنها كشي فيما ذكرنا.

فصل : فأمّا صيغة : (أفعل) في التعجّب ففعل لثلاثة أوجه :

أحدها : إلحاق نون الوقاية بها في قولك : ما أحسنني! فهو كقولك : أكرمنى ، وليس الأسماء كذلك ولا عبرة بما جاز في الشعر من ذلك قوله : [البسيط]

... وليس حاملني إلا ابن حمّال

لشذوذه والاضطرار إليه.

والثاني : أنّ (أفعل) هذه تنصب المتعّجب منه على أنّه مفعول به ، ولا تجوز إضافته إليه على الفتح أبدا ، ولو كان اسما لأعرب.

وقال بعض الكوفييّن : هو اسم ؛ لأنه يصغر ولا تلحقه الضمائر ولا تاء التأنيث وتصحّ فيه الواو والياء كقولك : ما أخوفني وما أسيرني! ، وليس كذلك الفعل.

والجواب : أنّ التصغير جاز في هذا الفعل لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه نائب عن تصغير المصدر كما أنّ الإضافة إلى الفعل في اللفظ وهي في التقدير إلى مصدره.

والثاني : أنّ هذا الفعل أشبه الاسم في جموده.

والثالث : أنّ لفظة : (أفعل) هنا مثل لفظة : (هو أفعل منك) وللشبه اللفظي أثّركما في باب مالا ينصرف.

وأمّا خلوّة عن الضمير فإنّما كان كذلك ؛ لأن فيه ضمير : (ما) وهي مفردة بكلّ حال ، وكذلك امتناع تاء التأنيث ؛ لأن : (ما) مذكّر ، وأمّا الواو والياء فلا حجّة فيها فإنّ من الأفعال

١٤٤

ما هو كذلك كقوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) [المجادلة : ١٩] ولأنّ هذا الفعل أشبه الاسم وأشبه لفظه : (أفعل منك) فأجري عليه في الصحّة حكمها.

فصل : ولا يكون التعجّب إلا من وصف موجود في حال التعجّب منه ؛ ولذلك كانت الصيغة الدالّة عليه صيغة الماضي ؛ لأن فعل الحال لا يتكامل حتّى ينتهي والمستقبل معدوم فأمّا قولهم : ما أطول ما يخرج هذا الغلام!! فجاز ؛ لأن أمارات طوله في المستقبل موجودة في الحال.

فصل : الأصل في فعل التعجّب أن يكون من أفعال الغرائز ؛ لأنها هي التي تخفى ؛ فإذا زادت تعّجب منها لخفاء سببها ، وأمّا قولهم : ما أضرب زيدا لعمرو فإنّما تعجّب منه لتكرّره وخفاء سبب ذلك حتّى صار كالغريزيّ.

فصل : ولا يبنى فعل التعجب إلّا من الثلاثيّ (١) ؛ لأن الغرض منه أن يصير ما كان فاعلا مفعولا كقولك : حسن زيد وتبني منه أحسن زيدا كقولك : فرح زيد وأفرحت زيدا ؛ ولهذا ينتقل عن اللزوم إلى التعدّي ، ولا يعدّى بالهمزة إلا الثلاثي ، فأمّا الرباعيّ يعدّى بها فلا

__________________

(١) لا يصاغ فعلا التّعجّب إلّا ممّا استكمل ثمانية شروط :

(الأوّل) أن يكون فعلا فلا يقال : ما أحمره : من الحمار ، لأنّه ليس بفعل.

(الثاني) أن يكون ثلاثيا فلا يبنيان من دحرج وضارب واستخرج إلا «أفعل» فيجوز مطلقا (عند سيبويه).

وقيل يمتنع مطلقا ، وقال يجوز إن كانت الهمزة لغير نقل (المراد بالنقل : نقل الفعل من اللزوم إلى التعدي ، أو من التعدي لواحد إلى التعدي لاثنين ، أو من التعدي لاثنين إلى التعدي لثلاثة وذلك بأن وضع الفعل على همزة). نحو «ما أظلم هذا الليل» و «ما أقفر هذا المكان».

(الثّالث) أن يكون متصرّفا ، فلا يبنيان من «نعم» و «بئس» وغيرهما ممّا لا يتصرّف.

(الرابع) أن يكون معناه قابلا للتّفاضل ، فلا يبنيان من فني ومات.

(الخامس) أن يكون تامّا ، فلا يبنيان من ناقص من نحو «كان وظلّ وبات وصار».

(السادس) أن يكونض مثبتا ، فلا يبنيان من منفيّ ، سواء أكان ملازما للنّفي ، نحو «ما عاج بالدّواء» أي ما انتفع به ، أم غير ملازم ك «ما قام».

(السابع) أن لا يكون اسم فاعله على «أفعل فعلاء» فلا يبنيان من : «عرج وشهل وخضر الزّرع». لأنّ اسم الفاعل من عرج «أعرج» ومؤنثه «عرجاء» وهكذا باقي الأمثلة.

(الثامن) أن لا يكون مبنيّا للمفعول فلا ينيان من نحو «ضرب» وبعضهم ويستثني ما كان ملازما لصيغة «فعل» نحو «عنيت بحاجتك» و «زهي علينا» فيجيز «ما اعناه بحاجتك» و «ما أزهاه علينا».

١٤٥

تقول في : (دحرج) : (أدحرجته) والعلّة في ذلك : أنّ الهمزة لمّا أحدثت معنى التعدّي صارت كحرف من الفعل أصليّ ، وليس فى الأفعال ما هو على خمسة أحرف أصول لما في ذلك من الثقل وكثرة أمثلة الفعل ؛ ولهذا لم يكن في الرباعي حرف إلحاق وكان في الثلاثيّ مثل : (جلبب) فأمّا قولهم : ما أعطاه للمال وأولاه للخير وأفقره إلى كذا!! وما أشبه فإنّه على أربعة أحرف غير همزة التعديّ إلا أنّ حرفا منها زائد كالهمزة في : (أعطى وأولى) فحذفوها فبقي : (عطى) و (ولى) ولهما معنى ، فلمّا أرادوا التعجّبّ حذفوا الهمزة التى كانت قبل ذلك وجعلوا همزة التعجّب عوضا عنها ، وأمّا (أفقر) فلا يستعمل منه : (فقر) ولكن : (افتقر) إلا أنّ الأصل يستعمل ؛ لأنه قد جاء الفاعل منه : (فقير) فهو مثل : (ظرف) وظريف) فلّمّا تعجبوا منه أخرجوه على الأصل.

وإنّما لم يتعجّب من الألوان ؛ لأن الأصل فيها أن تكون على أكثر من ثلاثة أحرف نحو : (أبيضّ) و (أحمرّ) ومثل ذلك لا يعدّى بالهمزة.

وقال الكوفيّون : يجوز فى البياض والسواد لأنهما أصلا الألوان ، وقد جاء فى الشعر : (أبيضهم) و (أبيض من كذا) و (أسود من كذا) وهذا مذهب ضعيف لما تقدّم ، وجعل البياض والسواد أصلين دعوى لا دليل عليها ، ولو صحتّ لم يستقم قولهم فيها وما جاء في الشعر فهو إمّا شاذّ أو يكون : (منه) التي بعده صفة له أو يكون : (أفعل) لا يراد به المبالغة.

فصل : ولا يبنى فعل التعجبّ من العيوب الظاهرة كالحول والعور لوجهين :

أحدهما : أن فعل هذه العيوب في الأصل زائد على ثلاثة أحرف نحو : (أحولّ) و (أعورّ) فلا يصحّ زيادة همزة التعجّبّ عليه ، وما جاء منه على ثلاثة أحرف فمعدول به عن أصله ؛ ولهذا يصحّ فيه الواو نحو : (حول) تنبيها على أنّه في حكم : (أحولّ) وما جاء منه ثلاثيا لا غير نحو : (عمي) فمحمول على الباقي.

والوجه الثاني : أنّ العيوب الظاهرة كالخلق الثابتة كاليد والرجل وكما لا يبنى من هذه الأعضاء فعل التعجّب كذلك العيوب الظاهرة.

أمّا العيوب الباطنة كعمى القلب والحماقة فيبنى منها فعل التعجّب نحو : ما أعمى قلبه! وما أحمره! تريد البلادة ، وكذلك : ما أسوده! تريد السيادة.

١٤٦

فصل : ولا يجوز العطف على فاعل فعل التعجبّ لاستحالة المعنى ولا البدل منه ؛ لأن ذلك يوضحّه ومبناه على الإبهام ، ولا يجوز أن يكون المفعول هنا نكرة غير موصوفة كقولك : ما أحسن زيدا! لأنه غير مفيد ولا يجوز الفصل بين فعل التعجّب ومفعوله إلا بالطرف ؛ لأنه بجموده أشبه : (إنّ).

فصل : وأمّا (أفعل به) فى التعجّب فلفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر كقوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] معناه : فليمدّنّ له الرحمن.

وحكي عن الزّجاج أنّه أمر حقيقة ، والتقدير : أحسن يا حسن بزيد ، أي : دم أيذم به وهذا ضعيف لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ الأمر طلب إيقاع الفعل والتعجّب لا يكون إلا من أمر قد وجد.

والثاني : أنّه يصحّ أن يقال في جواب هذا الكلام : صدقت أو كذبت ، وليس كذلك حقيقة الأمر.

والثالث : أنّ لفظه واحد يكون فى التثنية والجمع والمذكّر والمونّث كقولك : يا زيدان أحسن بعمرو! وكذلك بقية الأمثلة.

وعلى هذا الخلاف تترتّب مسألة ، وهي أنّ موضع الجار والمجرور رفع بأنه فاعل والتقدير : أحسن زيد ، أي : صار ذا حسنّ ، ومثله : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) [الرعد : ٤٣] إلا أن الباء لا يجوز حذفها فى التعجّب لئلّا يبطل معنى التعجّب ويجوز حذفها في : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) وعلى قول الزّجاج : (بزيد) فى موضع نصب.

فصل : وتزاد (كان) في التعجّب نحو : ما كان أحسن زيدا! ولا فاعل لها عند أبي عليّ ، وإنّما دخلت تدلّ على المضيّ. وقال السيرافي : فاعلها مصدرها. وقال الزجّاجي : فاعلها ضمير (ما) ، وهذا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنها لو كانت كذلك لكانت هي خبر (ما) لا يكون هنا إلا (أفعل).

والثاني : أنّها إن كانت التامّة لم تستقم لفساد المعنى ، وإن كانت الناقصة لم تستقم أيضا ؛ لأن خبرها إذا كان فعلا ماضيا قدّرت معه (قد) ، وتقدير (قد) هنا فاسد ؛ لأنه يصير محض خبر.

١٤٧

باب إنّ وأخواتها

إنّما دخلت : (إنّ) على الكلام للتوكيد عوضا عن تكرير الجملة ، وفي ذلك اختصار تامّ مع حصول الغرض من التوكيد ، فإن دخلت (اللام) في خبرها آكد وصارت : (إنّ واللام) عوضا من تكرير الجملة ثلاث مرّات ، وهكذا (أنّ) المفتوحة إذ لو لا إرادة التوكيد لكنت تقول مكان قولك : بلغني أنّ زيدا منطلق بلغني انطلاق زيد (١).

__________________

(١) الغالب في : «إنّ» و «أنّ» : التوكيد ، وفى «لكنّ» الاستدراك ولا بد أن يسبقها كلام له صلة معنوية بمعموليها. وفى : «كأن» : التشبيه ؛ وفى : «ليت» التمنى. وفى : «لعل» الترجى والتوقع. وقد تكون للإشفاق.

شروط إعمالها :

١ ـ يشترط لعملها ألا تتصل بها : «ما» الزائدة. فإن اتصلت بها «ما» الزائدة ـ وتسمّة : «ما» الكافّة ـ منعتها من العمل ، وأباحت دخولها على الجمل الفعلية بعد أن كانت مختصة بالاسمية. إلا : «ليت» فيجوز إهمالها وإعمالها عند اتصالها بكلمة «ما» السالفة ؛ فيجب الإهمال فى مثل : إنما الأمين صديق ، ولكنما الخائن عدوّ ، وفى مثل قول الشاعر يصف حصانا ببياض وجهه ، وسواد ظهره :

وكأنما انفجر الصباح بوجهه

حسنا ، أو احتبس الظلام بمتنه

ويجوز الأمران مع : «ليت» مثل : ليتما علىّ حاضر ، أو : ليّما عليا حاضر ، وهى فى الحالتين مختصة بالجمل الاسمية.

ب ـ يشترط فى اسمها شروط ، أهمها : ألا يكون من الكلمات التى تلازم استعمالا واحدا ، وضبطا واحدا لا يتغير ؛ كالكلمات التى تلازم الرفع على الابتداء ، فلا تخرج عنه إلى غيره ؛ ككلمة : «طوبى» وأشباهها ـ فى مثل : طوبى للمجاهد فى سبيل الله. ـ فإنها لا تكون إلا مبتدأ.

وألا يكون من الكلمات الملازمة للصدارة في جملتها ، إما بنفسها مباشرة ؛ كأسماء الشرط ، و : «كم» ... ، وإما بسبب غيرها ؛ كالمضاف إلى ما يجب تصديره ؛ مثل : صاحب من أنت؟ فكلاهما لا يصلح أسما.

والسبب : هو أن هذه الحروف الناسخة ملازمة للصدارة فى جملتها (ما عدا «أنّ» ؛ فإذا كان اسم واحد منها ملازما للصدارة وقع بينهما التعارض. ولهذا كان من شروط إعمالها ـ أيضا ـ أن يتأخر اسمها وخبرها عنها.

وألا يكون اسمها فى الأصل مبتدأ واجب الحذف ؛ كالمبتدأ الذى خبره فى الأصل نعت ، ثم انقطع عن النعت إلى الخبر ؛ نحو : عرفت محمودا العالم.

ح ـ ويشترط فى خبرها ألا يكون إنشائيّا ، (إلا الإنشاء المشتمل على : «نعم» و «بئس» وأخواتهما من أفعال المدح والذم) فلا يصح : إن المريض ساعده. وليت البائس لا تهنه ... ويصح : إن الأمين نعم الرجل ، وإن الخائن بئس الإنسان.

وكذلك يشترط فى خبرها إذا كان مفردا أو جملة ـ أن يتأخر عن اسمها ، فيجب مراعاة الترتيب بينهما ؛ بتقديم الاسم وتأخير الخبر ، نحو : إن الحقّ غلّاب ـ إن العظائم كفؤها العظماء ـ إن كبار النفوس ينفرون من صغائر الأمور ، وقول الشاعر :

١٤٨

فصل : والأصل في : (كأنّ زيدا الأسد) أنّ زيدا كالأسد ثمّ قدّموا (الكاف) فأدخلوها على (أنّ) ليبتدئوا بالمشبه ، وهو أولى من أن يبتدئوا بما لفظه لفظ التحقيق ثم يعود التشبيه إليه بعد ذلك ، ولمّا كانت كاف الجرّ تفتح لها (أنّ) كما تفتح بعد غيرها من حروف الجرّ فتحت ههنا وإن كانت قد ركّبت معها وجعلتا كحرف واحد تنبيها على الأصل الذي ذكرت ، إلا أنّها تفارق الكاف الجارّة في شيئين :

أحدهما : أنّها غير معلّقة بفعل فلا موضع لها ولما بعدها إذن.

والثاني : أنّ ما بعد الكاف ليس بمجرور الموضع كما يكون بعد اللام في قولك ؛ لأن زيدا منطلق ولأنّها لمّا ركّبت وصار المهّم معنى التشبيه في الخبر صارت قائمة بنفسها.

فصل : و (لكنّ) مفردة. وقال الكوفيّون : هي مركّبة من : (لا) و (إن) و (الكاف) زائدة و (الهمزة) محذوفة وهذا ضعيف جدّا ؛ لأن التركيب خلاف الأصل ثمّ هو في الحروف أبعد ثمّ إنّ فيه أمرين آخرين يزيدانه بعدا وهما زيادة الكاف في وسط الكلمة ، وحذف الهمزة في مثل هذا يحتاج إلى دليل قطعيّ (١).

فإن قالوا : معنى النفي والتأكيد باق لأنّك إذا قلت : قام زيد لكنّ جعفرا منطلق حصل معنى التأكيد والنفي؟

__________________

إن الأمين ـ إذا استعان بخائن

كان الأمين شريكه فى المأثم

فلو تقدم هذا الخبر لم تعمل ، بل لم يكن الأسلوب صحيحا. وهذا الشرط يقتضى عدم تقدمه على الناسخ من باب أولى.

أما إذا كان الخبر غير مفرد وغير جملة ، بأن كان شبه جملة : (ظرفا أو جارا مع مجروره). فيجوز أن يتقدم على الاسم فقط ، فيتوسطه بينه وبين الناسخ عند عدم وجود مانع ، نحو ؛ إن فى السماء عبرة ، وإن فى دراستها عجائب.

(١) «لكنّ» فيجوز تخفيف نونها المشددة (فتحذف الثانية المفتوحة ، وتبقى الأولى ساكنة).

ويترتب على التخفيف وجوب إهمالها ، وزوال اختصاصها بالجملة الاسمية ؛ فتدخل على الاسمية ، وعلى الفعلية ، وعلى المفرد ، ويبقى لها معناها بعد التخفيف وهو : الاستدراك. ومن الأمثلة قول الشاعر :

ولست أجازى المعتدى باعتدائه

ولكن بصفح القادر المتحلم

١٤٩

قيل : هذا خطأ ؛ لأن (لا) النافية لا يبطل نفيها بدخول (إنّ) على ما بعدها كقولك : قام زيد لا إن جعفرا قائم فهو كقولك : لا جعفر قائم في المعنى ، و (لكنّ) تثبت ما بعدها لا تنفيه فلم يصحّ ما قالوا.

فصل : واللام الأولى في (لعلّ) أصل في أقوى القولين ؛ لأن الزيادة تصرّف والحروف بعيدة منه ولأنّ الحرف وضع اختصارا والزيادة عليه تنافي ذلك.

وأمّا مجيئها بغير لام فلغة فيها أو حذف حرف أصليّ ، والحذف من جنس الاختصار فهو أولى من الزيادة.

وفي : (لعلّ) لغات وهي : لعلّ وعلّ وعنّ ولعنّ ورعنّ ولغنّ ، والمشهور الأوليان وأكثر العرب تنصب بها ومنهم من جرّ بها وهو قليل.

فصل : وإنّما عملت هذه الحروف لاختصاصها بضرب من الكلام واختصاص الشيء بالشيء دليل على قوّة تأثيره فيه ؛ فإذا أثرّ في المعنى أثر في اللفظ ليكون اللفظ على حسب المعنى.

فأما : (لام التعريف) فلا تعمل مع اختصاصها ؛ لأنها صارت كجزء من الاسم ؛ لأنها تعيّن المسّمى كما تعينه الأوصاف ؛ ولهذا يجوز أن يتوالى بيتان آخر أحدهما معرفة وآخر الآخر اسم مثل الأوّل نكرة ولا يعدّ إيطاء.

وأمّا : (السين) و (سوف) فلم يعملا ؛ لأنّهما كجزء من الفعل إذ كان الفعل دالّا على الزمان وهما تخصّصانه حتّى يدلّ على ما وضع له ، وهما مع الفعل بمنزلة فعل موضوع دالّ على الزمان المستقبل من غير اشتراك.

وأمّا : (قد) فتدخل على الماضي والمستقبل ثمّ إنّها تقرّب الماضي من الحال ، وهذا تأثير في زمان الفعل فصارت كالسين والأفعال إنّما عملت لاختصاصها وهذه الحروف مشّبة بها.

فصل : وإنّما عملت الرفع والنصب ؛ لأنها شابهت الأفعال في اختصاصها بالأسماء في دخولها على الضمائر نحو : (إنّك) و (إنّه) ، وفي أنّ معاينها معاني الأفعال من التوكيد والتشبيه وغير ذلك ، وفي أنّها على ثلاثة أحرف مفتوحة الآخر ومن حيث رفع الفعل ونصب فيما يقتضيه فكذلك هذه الحروف.

١٥٠

فصل : وقدّم منصوبها على مرفوعها لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ هذه الأحرف فروع في العمل على الفعل ، والفروع تضعف عن الأصول فيجب أن تشبه بالأصول في أضعف أحوالها وأضعف أحوال الفعل أن يتقدّم منصوبه على مرفوعه تقدّما كقولك : صرف زيدا غلامه.

والثاني : أنّ عمل الفعل في منصوبه أضعف من عمله في مرفوعه ؛ لأنه فى الرتبة متراخ عنه فلمّا كان المنصوب أضعف والمرفوع أقوى جعل الأضعف يلي : (إنّ) ليقوى بتقدمّه فيعمل فيه العامل الضعيف وأخّر لأنه المرفوع ؛ لأن بقوتّه يستغني عن قوة ملاصقة العامل.

والثالث : أنّ المرفوع لو تقدّم لجاز إضماره ، والحرف لا يتصّل به ضمير المرفوع كالتاء والواو) في : (قمت) و (قاموا) بخلاف ما إذا تأخر.

فصل : ولا يجوز تقديم المرفوع هنا لثلاثة أوجه (١) :

أحدها : ما تقدّم من تعذّر الإضمار.

والثاني : أنّ تقديم المرفوع لو جاز لكان أولى كما في الفعل ، وقد بينّا أنّ تقديم المنصوب هو الوجه.

والثالث : أنّ التقديم والتأخير تصرّف ولا تصرّف لهذه الحروف.

فصل : وإنّما جاز تقديم الظرف وحرف الجرّ إذا كان خبرا لثلاثة أوجه :

__________________

(١) للخبر ـ فى هذا الباب ـ ثلاثة أحوال من ناحية تقديمه ، أو تأخيره على الاسم.

الأولى : وجوب تأخيره إذا لم يكن شبه جملة ، وكذلك إن كان شبه جملة جارا مع مجروره ، ولا يعود على المجرور ضمير من الاسم.

الثانية : وجوب تقديمه إذا كان شبه جملة ، جارا مع مجروره ، وكان الاسم مشتملا على ضمير يعود على المجرور (أى : على بعض الخبر الجار مع مجروره).

الثالثة : جواز الأمرين إذا كان شبه جملة ، ـ غير ما سلف ـ ولم يمنع من التقدم مانع.

أما معمول الخبر (مثل : إن المتعلم قارئ كتابك ، وإنه منتفع بعلمك ،) فلا يجوز تقديمه على الحرف الناسخ ، لكن يجوز تقديمه على الخبر مطلقا (أى : سواء أكان المعمول شبه جملة ، أم غير شبهها ، فتقول : إن المتعلم ـ كتابك ـ «قارئ ، وإنه ـ بعلمك ـ منتفع. ففى الجملة الأولى تقدم المعمول : «كتابك» وليس بشبه جملة ؛ وفى الثانية تقدم المعمول شبه الجملة ، وهو الجار والمجرور :» بعلم.

١٥١

أحدها : أنّ (إنّ) غير عاملة فيه ؛ إذ ليس هو خبرا لها فى الحقيقة ، وإنّما الخبر ما تعلّق به الظرف من معنى الاستقرار ، وإنّما يمنتع تقديم خبرها الذي يعمل فيه.

والثاني : أنّ الظرف لا يصحّ إضماره وهو أحد ما يمنع التقديم ، وقد أمن.

والثالث : أنّ الظرف متعلّق بالخبر لاشتماله عليه فهو كاللازم للجملة فساغ تقديمه لذلك ؛ ولهذا ساغ الفصل بالظرف بين : (إنّ) واسمها به أيضا في قولك : إنّ خلفه زيدا قائم وجاز الفصل به بين المضاف والمضاف إليه فى الشعر.

فصل : وخبر : (إنّ) وأخواتها مرفوع بها ، وقال الكوفيّون : هو مرفوع بما كان يرتفع به قبل دخولها والدليل على أنّه مرفوع بها من وجهين :

أحدهما : أنّ هذه الحروف تعمل في الاسم الأوّل لاقتضائها إيّاه فتعمل فى الخبر كذلك أيضا ، ألا ترى أنّ الفعل يعمل فى الفاعل والمفعول لاقتضائه إيّاهما و (ظننت) وأخواتها تعمل في المفعولين ، وقد كانا قبل ذلك مرفوعين لاقتضائه إياهما.

والثاني : أنّ خبر : (إنّ) مرفوع ولا بدّ له من رافع ولا يجوز أن يرتفع بغير (إنّ) إذ لا عامل سواها ، والذي كان قبل دخول (إنّ) هو المبتدأ ، وقد بطل ابتداؤه ؛ ولهذا لا يعمل الخبر هنا في الاسم لعمل (إنّ) فيه فلذلك لا يعمل المبتدأ هنا في الخبر.

واحتجّ الآخرون بقول الشاعر : [الرجز]

لا تتركني فيهم شطيرا

إنّي إذن أهلك أو أطيرا

فنصب : (أهلك) ب (إذن) ولم يجعله خبر (إنّ).

واحتجّوا أيضا بقول العرب : إنّ بك تكفّل زيد فجعل الفعل في اسمها ، ولو كانت هي الفاعلة في الخبر لم تكن كذلك ، والعلّة فيه : أنّ هذه الحروف فروع في العمل فلم تقو على العمل في الاسمين.

والجواب : أمّا البيت فمن الشذوذ وتأويله أنّه حذف الخبر لدلالة الباقي عليه ، تقديره : إني أذلّ فأمّا المسألة المذكورة فلا حجّة فيها ؛ لأن اسم (إنّ) محذوف وهو ضمير الشأن فتقديره إنّه بك تكفّل زيد. وأمّا ضعف هذه الحروف فقد ظهر في عدم تصرّفها ، وذلك كاف.

فصل : وإنّما بطل ذلك ؛ لأنها هيّأتها لدخولها على الأفعال كقولك : إنّما قام زيد.

١٥٢

فصل : وإذا عطفت على اسم (إنّ) قبل الخبر لم يجز فيه إلا النصب ، وبه قال الفرّاء فيما يظهر فيه الإعراب ، وأجاز الرفع فيما لم يظهر فيه الإعراب ، ويجوز إنّ زيدا وأنت قائمان واختار الكسائيّ الرفع فيهما والرفع فاسد ؛ لأن الخبر إذا ثنّي كان خبرا عن الاسمين وكان العمل فيه عملا واحدا ، وقد وتقدّم عاملان أحدهما : (إنّ) والآخر المبتدأ المعطوف والعمل الواحد لا يوجبه عاملان.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى) [المائدة : ٦٩] فرفع قبل الخبر ، ويقول العرب : إنّ زيدا وعمرو ذاهبان حكاه سيبويه ، وبأنّ المعطوف على اسم : (لا) يجوز فيه الرفع فكذلك اسم : (إنّ).

والجواب عن الآية من وجهين :

أحدهما : أنّه معطوف على الضمير في : (آمَنُوا) وقام الفصل بينهما مقام التوكيد.

والثاني : أنّ خبر الصابئين محذوف والنيّة به التأخير تقديره إن الذين آمنوا إلى قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) والصابئون كذلك لا ويجوز أن يكون : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) خبر الصابئين وخبر إنّ محذوف لدلالة هذا الخبر عليه كما قال الشاعر (١) : [المنسرح]

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

أي : نحن بما عندنا راضون ؛ ولذلك تجيز في الكلام إنّ زيدا وعمرو قائم على الوجهين ، وأمّا قول البرجمي (٢) : [الطويل]

__________________

(١) البيت من شعر أحيحة بن الجلّاح : (١٢٩ ق. ه / ٤٩٧ م) وهو أحيحة بن الجلاح بن الحريش الأوسي أبو عمرو. شاعر جاهلي ، من دهاة العرب وشجعانهم.

قال الميداني : كان سيد يثرب ، وكان له حصن فيها سماه المستظلّ ، وحصن في ظاهرها سماه الضحيان ، ومزارع وبساتين ومال وفير.

وقال البغدادي : كان سيد الأوس في الجاهلية وكان مرابيا كثير المال. أما شعره فالباقي منه قليل جدا.

وفي الأغاني أن سلمى بنت عمرو العدوية كانت زوجة لأحيحة وأخذها بعده هاشم بن عبد مناف فولدت له عبد المطلب وبهذا تكون وفاة أحيحة قبل وفاة هاشم المتوفى نحو عام ١٠٢ قبل الهجرة.

(٢) ضابئ البرجمي : (٣٠ ه‍ / ٦٥٠ م) وهو ضابئ بن الحارث بن أرطأة بن غالب بن حنظلة البرجمي. شاعر ، أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قد استعار كلبا من بني جرول فطال مكثه عنده فطالبوه به

١٥٣

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

فـ (غريب) خبر (إنّ) لا غير ؛ لأن اللام تكون في خبر : (إنّ) لا في خبر المبتدأ ، وأمّا (قيّار) فيجوز أن يكون مبتدأ و (بها) خبره والجملة حال ويجوز أن يكون خبره محذوفا دلّ عليه المذكور.

وأمّا الحكاية عن العرب فقد قال سبيويه ذلك من قائله على جهة الغلط كما فعلوا في خبر : (ليس) فجّروا لأنهم توهّموا الباء في قول الشاعر (١) : [الطويل]

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا ببين غرابها

وإنّما غلطوا في ذلك ؛ لأنه موضع تكثر فيه الباء كذلك في الحكاية.

وأمّا العطف على اسم : (لا) فالرفع لا يجوز ومن أجازه قال : (لا) وإسمها ركّبا وجعلا كاسم واحد موضعه رفع ، ومنهم من قال : (لا) لا تعمل في الخبر ؛ لأنها فرع فلم يلزم فيها ما لزم في : (إنّ).

فصل : واتّفقوا على جواز نصب المعطوف على اسم إنّ بعد الخبر على اللفظ ورفعه من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون على معنى الابتداء ومعنى ذلك أنّك لو لم تأت ب (إنّ) لكان الاسم مرفوعا بالابتداء فجاء المعطوف على ذلك التقدير ولم ينقص رفعه معنى ، ومن قال : هو معطوف على موضع (إنّ) أو على موضع اسم (إنّ) فهذا المعنى يريد لا (إنّ).

الثاني : أن يكون مبتدأ والخبر على الوجهين محذوف دلّ عليه المذكور.

والثالث : أن يكون معطوفا على الضمير في الخبر فيكون على هذا فاعلا والأجود على هذا توكيده هذا كلّه في : (إنّ).

وأمّا : (لكنّ) فلا يجوز العطف فيها على معنى الابتداء عند أكثر المحقّقين ، وأمّا (أنّ) المفتوحة وما عملت فيه فلا تقع مبتدأ بل معمولة لعامل لفظيّ قبلها ويجوز الرفع على

__________________

ـ فامتنع. ثم عرضوا له فأخذوه ، فغضب ورماهم بهجاء شنيع ، فحبسه عثمان بن عفان ، فلم يزل به إلى أن مات ، له شعر في الأصمعيات.

(١) من شعر أبي الأحوص الرياحي.

١٥٤

الوجهين الآخرين وكذلك : (كأنّ وليت ولعلّ ولكنّ) ؛ لأن هذه الحروف غيّرت معنى الابتداء.

فصل : وإنّما أكّد خبر (إنّ) باللام ؛ لأنها موضوعة لتأكيد المبتدأ فلمّا أريد زيادة التوكيد جمع بينها وبين (إنّ).

فصل : وموضعها الأصليّ قبل (إنّ) لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه وجب لها الصدر قبل (إنّ) فكذلك بعد دخول (إنّ) ؛ ولهذا السبب سمّيت : (لام الابتداء).

والثاني : أن اللام تعلّق : (علمت) عن العمل ، فلو كانت (إنّ) قبلها لمنعتها عن العمل.

والثالث : أنّ (إن) عاملة وهي عامل ضعيف فكان وقوع معمولها يليها أولى.

فصل : وإنّما أخّرت (اللام) إلى الخبر لئلّا يتوالى حرفا معنى كما لا يتوالى حرفا نفي أو استفهام ، وكانت (اللام) أولى بالتأخير من (إنّ) لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ (اللام) غير عاملة و (إنّ) عاملة وتأخير غير العامل أولى.

والثاني : أنّ (اللام) تؤثّر في المعنى فقط و (إنّ) تؤثّر في اللفظ والمعنى فكان إقرارها ملاصقة اللفظ ملاصقة للفظ الذي تعمل فيه أولى.

والثالث : أنّ (إنّ) لو أخّرت إلى الخبر فنصبته وارتفع ما قبلها تغيّر حكمها وإن بقي ما قبلها منصوبا وما بعدها مرفوعا لزم منه تقديم معمولها عليها.

فصل : وإنّما لم تدخل اللام في خبر : (كأنّ وليت ولعلّ) لزوال معنى الابتداء والتحقيق والتوكيد إنّما يراد به تحقيق المحقّق الثابت.

فصل : وأجاز الكوفيّون دخول (اللام) في خبر (لكنّ) ؛ لأنها مركّبة من : (لا) و (إنّ) زيدت عليهما الكاف ، وقد جاء ذلك في الشعر : [الطويل](١)

... ولكننّي من حبّها لعميد

__________________

(١) اللّام الزّائدة : وهي للتوكيد نحو قول رؤبة :

أمّ الحليس لعجوز شهربه

ترضى من اللّحم بعظم الرّقبة

(الشّهربه : العجوز الكبيرة) وفي خبر «لكنّ» كقول الشاعر :

يلومونني في حبّ ليلى عواذلي

ولكنّني من حبّها لعميد.

١٥٥

ولأنّ (لكنّ) لا تغيّر معنى الابتداء وهذا عندنا لا يجوز لوجهين :

أحدها : أنّه لم يأت منه شيء في القرآن ، وفي اختيار كلامهم وإن جاء في شعر فهو شاذّ سوّغته الضرورة.

والثاني : أنّ (اللام) لو جازت مع (لكنّ) لتقدّمت عليها ؛ لأن موضعها صدر الجملة ، وإنّما أخّرت في (إنّ) لئلّا يتوالى حرفا تأكيد و (لكنّ) ليست للتوكيد بل للاستدراك ، وبهذا تبيّن أنّ معنى الابتداء لا يبقى معها بالكلّيّة ؛ لأن الابتداء لا استدراك فيه.

فصل : والأصل في (إنّي) : (إنّني) وفي (كأنّي) : (كأنّني) فيؤتى بنون الوقاية (١) لئلّا ينكسر آخر الحرف ، وإنّما جاز حذفها تخفيفا لكثرة الاستعمال وكثرة النونات والمحذوف النون الثانية لوجهين :

أحدهما : أنّها حذفت قبل دخولها على الضمير فقالوا (إن) وهي المخّففة فكذلك بعد دخولها على الضمير.

والثاني : أنّ النون الأولى لا يجوز حذفها لأنّك تحتاج إلى تسكين الثانية ؛ ليصحّ إدغامها فيصير معك حذف وتسكين وإدغام ولأنّ الثقل لا يقع إلا بالمكرّر لا بالأوّل.

فصل : فإن فصلت بين الخبريّة ومميّزها نصبت لئلّا يقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه ومنهم مّن يجرّه ولا يعتدّ بالفصل.

فصل : وقد ترفع النكرة بعد : (كم) في الاستفهام ويكون المميز محذوفا ويقدّر ما يحتمله الكلام كقولك : كم رجل جاءك ، أي : كم مرّة أو يوما ورجل مبتدأ وما بعده الخبر ، وإذا رفعت لم يتعدّد الرجل بل تتعدّد فعلاته.

فصل : ويجوز أن يرجع الضمير إلى لفظ : (كم) فيكون مفردا وإلى معناها فيكون جمعا ، ومنه قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ) [النجم : ٢٦].

__________________

(١) قال الأشموني في شرح الألفية : مذهب الجمهور أنها إنما سميت نون الوقاية لأنها تقي الفعل الكسر.

وقال الناظم بل لأنها تقي الفعل اللبس في أكرمني في الأمر فلو لا النون لالتبست ياء المتكلم بياء المخاطبة ، وأمر المذكر بأمر المؤنثة ، ففعل الأمر أحق بها من غيره ، ثم حمل الماضي والمضارع على الأمر (وليتني) بثبوت نون الوقاية (فشا) حملا على الفعل لمشابهتها له مع عدم المعارض (وليتي) بحذفها (ندرا).

١٥٦

وحذف الثالثة ضعيف ؛ لأنها دخلت لمعنى يختلّ بالحذف ، وقد ذهب قوم إلى أنّ المحذوفة هي الأولى وذهب آخرون إلى أنّ المحذوفة في الثالثة والصحيح ما ذكرنا فأمّا قولك : (إنّا) فالمحذوفة هي الثانية عند الجميع.

فصل : وأكثر ما جاء : (لعلّي) (١) بغير نون ؛ لأن اللام تشبه النون فلمّا ثقل اجتماع النونات ثقل دخول النون على اللام المشدّدة ، وقد جاء : (لعلّني) في الشعر ، وأمّا (ليتي) فضعيف في القياس قليل في الاستعمال ؛ لأن النون إذا لم تثبت توالت أشياء مستثقلة وهي الياء وكسرة التاء والياء بعدها.

فصل : ويكون ضمير الشأن والقصّة اسم (إنّ) كما كان اسم (كان) إلا أنّ (كان) يستتر فيها الضمير إذ كانت فعلا و (إنّ) لا يستتر فيها ؛ لأنها حرف وإن جاءت الجملة بعدها كقولك : إنّ زيد قائم كان ضمير القصّة محذوفا للعلم به.

وقال الكسائيّ : تكون ملغاة عن العمل وهذا ضعيف لقوّة شبه (إنّ) بالفعل فإنّ جعلت بمعنى (نعم) جاز ذلك ، فأمّا قول الشاعر (٢) : [الطويل]

فليت كفافا كان خيرك كلّه

وشرّك عنّي ما ارتوى الماء مرتوي

__________________

(١) رجحان ترك نون الوقاية : في «لعلّ» إذا نصبت ياء المتكلّم ، فحذف نون الوقاية أكثر نحو : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (الآية «٣٦» من سورة غافر) وشاهد إثباتها قول عديّ بن حاتم يخاطب إمرأته وقد عذلته على إنفاق ماله :

أريني جوادا مات هزلا لعلّني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا

(٢) البيت من شعر يزيد بن الحكم الثقفي : (١٠٥ ه‍ / ٧٢٣ م) وهو يزيد بن الحكم بن أبي العاص بن بشر بن عبد بن دهمان الثقفي.

شاعر عالي الطبقة ، من أعيان العصر الأموي. من أهل الطائف ، سكن البصرة ، وولاه الحجاج كورة فارس ، ثم عزله قبل أن يذهب إليها. فانصرف إلى سليمان بن عبد الملك فأجرى له ما يعدل عمالة فارس.

وقطع عنه ذلك بعد سليمان فلما صار الأمر إلى يزيد بن عبد الملك وثار يزيد بن المهلب خالعا ابن عبد الملك كتب إليه ابن الحكم شعرا قال فيه :

أبا خالد قد هجت حربا مريرة

وقد شمرت حرب عوان فشمر

وقد كان أبي النفس ، شريفا ، من حكماء الشعراء. وقد أورد له أبو تمام في الحماسة شعرا.

١٥٧

فصل : وممّا ألحق بكم : (كأيّن) في الكثير وفيها لغات وكلام لا يحتمله هذا المختصر إلا أنّها لا تضاف ولا بدّ من : (من) بعدها.

وممّا ألحق بكم : (كذا) كقولك : له عندي كذا درهما وكذا كذا درهما وكذا وكذا درهما ، وقد فرّع الفقهاء على هذا مسائل في الإقرار تحتاج إلى نظر.

ففيه أوجه :

أحدها : أنّ ضمير الشأن محذوف وهو اسم : (ليت) وخبرها الجملة التى بعدها و (كفافا) خبر (كان) ، (خيرك) اسمها ولم يثن الخبر ؛ لأنه كالمصدر.

والثاني : أنّ (كفافا) اسم : (ليت) وكان وما عملت فيه خبرها وخبر (كان) محذوف.

والثالث : أنّ (كان) زائدة ويروى : (شرّك) بالنصب على أنّه معطوف على اسم : (ليت) ، وأمّا قوله : (ما ارتوى الماء) فالصحيح في الماء النصب و (مرتوي) فاعل وتروى بالرفع على معنى ما أروى الماء مرتويا وسكن الياء في موضع النصب ثمّ حذف التنوين ، وقيل : جعل الماء مرتويا على المبالغة وكلّ ذلك ضعيف وقيل : (مرتوي) رفع خبر : (شرّك).

فصل : ويجوز أن تعمل : (أن) المخففة من الثقيلة عملها قبل التخفيف ، وقد جاء ذلك في الشعر كما قال الشاعر : [الطويل]

فلو أنّك في يوم الرخاء سألتني

فراقك لم أبخل وأنت صديق (١)

__________________

(١) ورد فى بعض النصوص ـ اسم «أن» المخففة من الثقيلة ضميرا بارزا ، لا ضميرا محذوفا. ومعه الخبر جملة فعلية أو مفرد. من ذلك قول الشاعر يخاطب زوجته :

فلو أنك فى يوم الرّخاء سألتنى

طلاقك ، لم أبخل وأنت صديق

فقد وقعت «الكاف» اسم : «أن» وخبرها جملة : سألتنى. ومثل قول الآخر :

لقد علم الضيف والمرملون

إذا اغبرّ هناك تكون الشّمالا

ففى البيت الثانى تكررت «أن» المخففة مرتين ، واسمها ضمير «بارز» فيهما ، وخبر الأولى مفرد ، وهو كلمة : «ربيع» ، وخبر الثانية جملة فعلية هى : «تكون الثمال». وقد وصفت هذه الأمثلة الشعرية بأنها شاذة ، أو بأنها لضرورة الشعر ، كما وصفت نظائرها النثرية بأنها شاذة. فالواجب أن نقتصر على الكثير الشائع الذى سردنا قواعده وضوابطه ، منعا للاضطراب فى التعبير ، دون محاكاة هذه الشواهد التى تخالفها ، والتى نقلناها ، منعا للاضطراب فى التعبير ، دون محاكاة هذه الشواهد التى تخالفها ، والتى نقلناها ، ليعرفها المتخصصون فيستعينوا بها على فهم ما قد يكون لها من نظائرها قديمة. دون أن يحاكوها.

١٥٨

وقرأ بعض القرّاء : (وإن كلا لما ليوفيّنهم ربّك أعمالهم) بتخفيف النون ونصب : (كلّ) ولا يجوز أن يكون بمعنى : (ما) وأن ينصب : (كلا) بفعل مقدّر لأنّك إن قدّرته من جنس المذكور بعدها فسد المعنى ؛ لأنه يصير : (ما يوفّي كلّا أعمالهم) وإن قدرته من غير جنسه لم يكن لتقدير القسم هنا موضع ؛ لأن أحسن ما يقدّر به : (ما نهمل كلّا) على أنّ (لمّا) لا تكون بمعنى : (إلا) في غير القسم.

وإن كانت المخفّفة من الثقيلة وأضمرت عاملا غير : (ما) لم يصحّ لوجهين :

أحدهما : أنّ (أنّ) قد توهنت بالحذف فلا توهّن بحذف الفعل أيضا.

والثاني : أنّ المخففّة إذا وليها الفعل وحذف اسمها لا يخلو من عوض والعوض هو : (قد والسين وسوف ولم ولا وليس).

ويدلّ على جوازه ايضا أنّ المثقّلة مشتبهّه بالفعل ، وقد عمل الفعل بعد تخفيفه بالحذف كقولك : لم يك ولا أدر ولم أبل وقال الكوفيّون لا يجوز أن تعمل بعد التخفيف لضعفها ، وقد دللنا على الجواز ويكفي في ضعفها جواز إبطال عملها لا وجوبه فأمّا قول الشاعر (١) : [الطويل]

فيوما توافينا بوجه مقسّم

كأنّ ظبية تعطو إلى وارف السلم

فيروى بالرفع مع الإلغاء ، والتقدير : كأنّها ظبية ، وبالنصب على الإعمال والخبر محذوف ، أي : كأن ظبية هذه المرأة وبالجرّ على زيادة (أن) والجرّ بكاف التشبيه.

__________________

(١) البيت من شعر علباء بن أرقم : وهو علباء بن أرقم بن عوف بن سعد بن عجل بن عتيك بن يشكر بن بكر وائل. شاعر جاهلي كان معاصرا للنعمان بن المنذر. له شعر في الأصمعيات.

١٥٩

باب الفرق بين إن المفتوحة والمكسورة

وإنّما فرّقوا بينهما لافتراقهما في المعنى ، والتباس المعنى في بعض المواضع ، ففرّقوا بالحركات ليزول اللبس ، ألا ترى أنّك إذا قلت أوّل ما أقول : إنّي أحمد الله يحتمل معنيين (١) :

أحدهما : أن تجعل الحمد هو أول كلامك.

والثاني : أن تجعل الحمد هو الذي تحكيه بقولك : (أقول) ، وليس هو نفس الأوّل فعند ذلك يحتاج إلى الفرق بينهما ليتّضح المعنى.

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في التلبيه : (لبيك إنّ الحمد لك) إذا فتحت كان المعنى لبّيك ؛ لأن الحمد لك ، وإذا كسرت كان مستأنفا وهو أجود في التلبية.

فصل : والمكسور (٢) هي الأصل لثلاثة أوجه :

__________________

(١) ل «إن» من حيث حركة همزتها ثلاثة أحوال : وجوب الفتح حيث يسدّ المصدر مسدّها ومسدّ معموليها ، ووجوب الكسر حيث لا يجوز أن يسدّ المصدر مسدّها وجواز الوجهين إن صحّ الاعتباران.

(٢) يجب كسر همزة «إن» في اثني عشر موضعا :

١ ـ أن تقق في الابتداء حقيقة نحو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) (الآية «١» من سورة القدر) أو حكما نحو : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الآية «٦٢» من سورة يونس) (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) (الآية «٦» من سورة العلق).

٢ ـ أن تقع تالية ل «حيث» نحو : «جلست حيث إنّ عليّا جالس».

٣ ـ أن تتلو «إذ» ك «زرتك إذ إنّ خالدا أمير».

٤ ـ أن تقع تالية لموصول اسميّ أو حرفيّ نحو قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) (الآية «٧٦» من سورة القصص) ف «ما» : موصول اسميّ ، ووجب كسر همزة «إن» بعدها لوقوعها في صدر الصّلة بخلاف الواقعة في حشو الصّلة نحو : «جاء الّذي عندي أنّه فاضل» ومثله قولهم «لا أفعله ما أنّ حراء مكانه» (حراء : جبل بمكة ، وفيه الغار الذي كان يتعبد فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فتفتح «أنّ» فيهما لوقوعها في حشو الصلة ، إذ التقدير : لا أفعله ما ثبت أنّ حراء مكانه ، فليست «أنّ» في التقّدير تالية للموصول الحرفي ، لأنّها فاعل بفعل محذوف ، والجملة صلة و «ما» الموصول الحرفي.

٥ ـ أن تقع بعد «حتّى» تقول : «قد قاله القوم حتّى إنّ زيدا يقوله». وانطلق القوم حتّى إنّ زيدا لمنطلق «فحتّى ههنا لا تعمل شيئا في» إنّ «كما لا تعمل» «إذا» كما يقول سيبويه : ولو أردت أن تقول : حتّى أنّ ، في ذا الوضع ، أي حتى أن زيدا منطلق كنت محيلا ، لأنّ أنّ وصلتها بمنزلة الانطلاق ولو قلت : انطلق القوم حتّى الانطلاق كان محالا. ـ

.

١٦٠