اللباب في علل البناء والإعراب

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]

اللباب في علل البناء والإعراب

المؤلف:

محبّ الدين عبدالله بن الحسين البغدادي [ أبي البقاء العكبري ]


المحقق: محمّد عثمان
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦١

فصل : والتعريف مسبوق بالتنكير إذ هو الأصل يدلّ على ذلك أشياء.

أحدها : أنّ النكرة أعمّ والعامّ قبل الخاصّ ؛ لأن الخاصّ يتميّز عن العامّ بأوصاف زائدة على الحقيقة المشتركة والزيادة فرع.

والثاني : أنّ جميع الحوادث يقع عليها اسم شيء فإذا أردت اسم بعضها خصصته بالوصف أو ما قام مقامه والموصوف سابق على الوصف.

والثالث : أنّ التعريف يفتقر إلى علامة لفظيّة أو وضعيّة والنكرة لا تحتاج إلى علامة.

فصل : وأمّا التأنيث فمسبوق بالتذكير وفرع عليه لوجهين :

أحدهما : أنّ كلّ عين أو معنى فهو شيء ومعلوم ومذكور وهذه الأسماء مذكّرة فإذا علم أنّ مسمّياتها مؤنّثة وضع لها اسم دالّ على التأنيث.

والثاني : أنّ التذكير لا علامة له والتأنيث له علامة ، وذلك يدلّ أنّه فرع على التذكير.

فصل : والعدل هو أن يقام بناء مقام بناء آخر من لفظه فالمعدول عنه أصل للمعدول.

فصل : وأمّا الألف والنون الزائدتان فتشبهان الألف في حمراء من أوجه :

أحدها : أنّهما زيدا معا كما أنّ ألفي التأنيث كذلك.

والثاني : أنّ بناء الألف والنون في التذكير مخالف لبنائه في التأنيث كمخالفة بناء مذكّر حمراء لبناء مؤنّثها فالمؤنّث من فعلان فعلى.

والثالث : أنّ تاء التأنيث لا تدخل على فعلان فعلى كما لا تدخل على حمراء.

والرابع : أنّهما جاءا بعد سلامة البناء كما جاء ألفا التأنيث بعد سلامته.

والخامس : أنّهما اشتركا في ألف المدّ قبل الطرف الزائد.

فصل : فأمّا عثمان وعريان إذا سمّي فيمتنع صرفهما للزيادة والتعريف وينصرفان في النكرة بخلاف عطشان وسكران فإنّه لا ينصرف في النكرة أيضا لوجهين :

أحدهما : أنّ الألف والنون كألفي التأنيث فيما ذكرنا.

والثاني : أنّه وصف قد اجتمع فيه سببان.

فصل : فأمّا الجمع ففرع مسبوق بالواحد فإذا صار إلى أمثال مفاعل ومفاعيل لم ينصرف معرفة ولا نكرة وإنّما كان كذلك ؛ لأن جمعه هذا الجمع قائم مقام جمعين.

٣٢١

أحدهما : مطلق الجمع. والثاني : فيه وجهان :

أحدهما : أنّه لا يمكن جمعه مرّة أخرى فكأنّه جمع مرّتين وصار مطلق الجمع بمنزلة أسطار جمع سطر وأساطير جمع ثان لا يجمع مرّة أخرى فهو نظير مساجد ودنانير في أنّها لا تجمع.

والثاني : أنّه جمع لا نظير له في الآحاد وعدم النظير يؤكّد فيه الجمع حتى يجعله بمنزلة ما جمع مرّتين وليس كذلك رجال وكتب ؛ لأن لهما نظيرا في الآحاد وهو كتاب وطنب ، وقد نقض هذا ب (أكلب) وأجمال فإنّهما لا نظير لهما في الآحاد وهما مصروفان.

وقد أجبت عنه بأنّ الفرق بين أكلب وأجمال وبين الآحاد حركة فقط ، وذلك أنّ أكلبا مضموم اللام وفي الآحاد كثير على أفعل نحو أحمر وأفكل وليس بينهما إلّا اختلاف حركة وكذلك أجمال مثل إجمال إلّا في الفتحة والكسرة ، وذلك اختلاف يسير بخلاف هذا الجمع فإنّه يخالف الواحد في الحروف والحركات.

فإن قيل : فما الحكم في سراويل وشراحيل وحضاجر؟

قيل : أمّا سراويل فقيل هو أعجميّ مفرد فينصرف في النكرة ولا ينقض ما أصّلنا ؛ لأن المراد ما لا نظير له في الآحاد العربيّة ، وقيل : هو جمع سروالة فعلى هذا لا ينصرف معرفة ولا نكرة.

وأمّا شراحيل فجمع يسمى به الواحد.

وأما حضاجر فواحدتها حضجر ، قال الشاعر :

حضجر كأمّ التوأمين توكّأت

على مرفقيها مستهلّة عاشر

وسمّي الواحد بالجمع.

فصل : وأمّا العجمة ففرع على العربية ؛ لأنها طارئة عندهم بأوضاعهم.

فصل : وأمّا التركيب ففرع على الإفراد ؛ لأنه ضمّ مفرد إلى مفرد على قصد جعلهما اسما لشيء واحد ، وإذا تقررت الفرعيّة للاسم من هذه الوجوه ظهرت مشابهته للفعل من جهة الفرعيّة.

ويترتّب على هذه الأصول مسائل.

٣٢٢

باب مسائل المنع من الصرف

مسألة : وزن الفعل المانع من الصرف (١) هو ما يختصّ بالفعل ويغلب عليه نحو أحمد وأعصر ؛ لأن أفعل وأفعل في الأفعال أكثر منه في الأسماء فأمّا فعل فمن المختصّ بالأفعال والدّئل اسم لدويّبة تشبه الهرّة وهو في الأصل فعل نقل فسمّي به على أنّ جماعة لا يثبتونه ، وقيل : هو مغيّر.

وأمّا ما يوجد من الأوزان في الاسم والفعل كثيرا فمصروف ؛ لأن الفرعيّة لم تثبت فيه إذ ليس تغليب حكم الأفعال فيه أولى من العكس بخلاف المختصّ والغالب ، فإن كثرته في الأفعال وعدمه وقلّته في الأسماء توجب جعله كالمستعار في الأسماء فمن ذلك فعّل لم يأت منه في الأسماء إلّا خضّم وبذّر وعثّر مواضع.

وشلّم وهو بيت المقدس ، وبقّم وهو صبغ معروف ، وقيل : ليس بعربيّ ، فإن سمّيت به شيئا لم تصرفه لما ذكرنا.

مسألة : فإن سمّيت بوزن الفعل وفي أوّله همزة وصل قطعت الهمزة وأبقيتها على حركتها ؛ لأن القطع حكم الأسماء ، وإن كانت فيه تاء التأنيث نحو ضربت أبدلت منها في الوقف هاء ؛ لأنها تحرّكت بعد التسمية فصارت كتاء التأنيث الداخلة على الاسم.

مسألة : فإن سمّيت ب (قيل وبيع صرفت) ؛ لأن هذا الوزن يكثر في الأسماء ولم ينقل إلى أصله الذي هو فعل ؛ لأنه رفض وصار كأنّه أصل.

مسألة : فإن سمّيت بالفعل وفيه ضمير الفاعل حكيته ولم تعربه ؛ لأنه جملة.

فلا يكون لها حرف إعراب فمن ذلك تأبّط شرّا وذرّى حبّا وشاب قرناها وبرق نحره كلّ هذه أسماء رجال.

مسألة : إذا كان الاسم على ثلاثة أحرف ساكن الأوسط معرفة نحو هند ودعد فالأجود ترك صرفه وقال الأخفش لا ينصرف.

__________________

(١) يمتنع من الصرف إذا وجد مع العلمية علة أخرى ، مثل «ابتعد من ثعالة». ولا يسبقه حرف التعريف ؛ فلا يقال «الأسامة» ، كما يقال «الأسد». ولا يضاف ، فلا يقال «أسامة الغابة» ؛ كما تقول «أسد الغابة». وكل ذلك من خصائص المعرفة. فهو بهذا الإعتبار معرفة.

٣٢٣

وحجّة الأوّلين السماع والقياس فالسماع قول الشاعر (١) : [المنسرح]

لم تتلفّع بفضل مئزرها

دعد ولم تغذ دعد في العلب

فصرف الأوّل ، وأمّا القياس فهو أنّه أخفّ الأسماء إذ كان أقلّ الأصول عددا وحركة فعادلت خفّته أحد السببين.

واحتجّ الآخرون بوجود السببين ولا عبرة بالخفّة ؛ لأن موانع الصرف أشباه معنويّة فلا معارضة بينها وبين اللفظ.

مسألة : فإن سمّيت مؤنّثا. بمذكّر ساكن الأوسط نحو عمرو لم تصرفه ؛ لأنه نقل الأصل إلى الفرع فازداد الثقل بذلك فعادلت الخفّة أحد الفروع فبقي فرعان.

مسألة : فإن تحرّك الأوسط لم تصرفه معرفة ك سقر ؛ لأن حركة الأوسط كالحرف الرابع لأمرين :

أحدهما : أنّ الحركة زائدة على أقلّ الأصول فصار الاسم بها كالرباعيّ.

والثاني : أنّها في النسب كالحرف الخامس : ألا ترى أنّك لو نسبت إلى جمزى لقلت جمزيّ فحذفت الألف كما تحذفها في الخماسيّ نحو المرتمي ولو كان الأوسط ساكنا لجاز إثبات الألف وحذفها كالنسب إلى حبلى يجوز حبليّ وحبلويّ.

مسألة : فإن سمّيت المذكّر بمؤنّث ثلاثيّ نحو هند وقدم صرفته معرفة ونكرة لأنّك نقلت فرعا إلى أصل أزال معنى الفرع وهو التأنيث فخفّ لذلك.

مسألة : فإن كان المؤنّث أربعة أحرف فصاعدا وسمّيت به مذكّرا أو مؤنّثا لم تصرفه معرفة ؛ لأن الحرف الرابع كتاء التأنيث بدليل أنّه يمنع من زيادة التاء في التصغير كقولك : في

__________________

(١) البيت من شعر عبيد الله بن الرقيّات : (٨٥ ه‍ / ٧٠٤ م) وهو عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك ، من بني عامر بن لؤي ، ابن قيس الرقيات. شاعر قريش في العصر الأموي. كان مقيما في المدينة.

خرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك بن مروان ، ثم انصرف إلى الكوفة بعد مقتل ابني الزبير (مصعب وعبد الله) فأقام سنة وقصد الشام فلجأ إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فسأل عبد الملك في أمره ، فأمّنه ، فأقام إلى أن توفي.

أكثر شعره الغزل والنسيب ، وله مدح وفخر. ولقب بابن قيس الرقيات لأنه كان يتغزل بثلاث نسوة ، اسم كل واحدة منهن رقية.

٣٢٤

عقرب عقيرب وفي زينب زيينب ولو كان ثلاثة أحرف مثل قدر وأذن لأتيت بالتاء فقلت : قديرة وأذينة فدلّ أنّ المانع الحرف الرابع فأشبه تاء التأنيث وإنّما يعرف تأنيث الأسماء بالسماع فإذا كان الاسم لم يوضع إلّا للمؤنّث جرى مجرى علامة التأنيث في لفظه.

مسألة : علامة التأنيث في الأسماء التاء والألف فإذا كان أحدهما فيه ، قلت : هو مؤنّث سواء سمّي به المذكّر أو المؤنّث ف (التاء) أحد وصفي العلّة المانعة فإذا انضمّ إليها التعريف امتنع الصرف ، وأمّا الألف فإذا لم يكن قبلها ألف سكنت نحو : حبلى ، وإن وقعت بعد ألف المدّ نحو : حمراء حرّكت فانقلبت همزة وإنّما حرّكت لئلّا يجتمع ساكنان وحذف إحداهما لا يجوز لأنّك إن حذفت الأولى بطل المدّ ، وإن حذفت الثانية بطلت علامة التأنيث وإن حرّكت الأولى بطل المدّ أيضا فتعيّن تحريك الثانية.

مسألة : ألف التأنيث علّة مستقلّة تمنع الصرف بخلاف التاء وإنّما كان كذلك ؛ لأن مطلق التأنيث فرع ولزومه كتأنيث آخر والألف بهذه المنزلة ؛ لأنها صيغت مع الكلمة من أوّل أمرها وتبقى معها في الجمع نحو : حبلى وحبالى وليست فارقة بين مذكّر ومؤنّث بخلاف التاء فإنّها تدخل على لفظ المذكّر فتنقله إلى المؤنّث ولا تلزم.

مسألة : فأمّا عريان فينصرف في النكرة إذ ليس فيه سوى الوصف والألف والنون لا يشبهان ألفي التأنيث ؛ لأن التاء تدخل عليه فتقول عريانة ، وأمّا سرحان فليس بوصف وتقول في جمعه سراحين فتقلب الألف ياء بخلاف ما قبل ألف التأنيث.

مسألة : إذا سمّيت ب (أحمر) وبابه زال معنى الصفة ؛ ولذلك يسمّى من ليس أحمر أحمر ، وقيل : التسمية لا توقعه إلّا على من له من الحمرة صفة له ويمتنع صرفه بعد التسمية للتعريف ووزن الفعل إجماعا فإن نكّرته لم تصرفه عند سيبويه وتصرفه عند الأخفش.

حجّة الأوّلين : أنّه صفة في الأصل مستعار في التسمية فإذا نكّر أجري عليه حكم أصله في الوصف والتنكير ألا ترى أنّ أربعا منصرف مع اجتماع الوصف والوزن كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] ما كان ذلك إلّا نظرا إلى الصفة وهو العدد وأنّ التاء تدخل عليه نحو أربعة وأنّ نقله لم يخرجه عن حكمه كذلك أحمر.

٣٢٥

واحتجّ الآخرون بأنّ معنى الوصف غير باق بعد التنكير فليس فيه سوى الوزن ، وقد ذكرنا ما يصلح جوابا له.

مسألة : فإن سمّيت مؤنّثا ب (حائض وفاضل) لم تصرفه للتعريف والتأنيث فإن نكّرته صرفته اتّفاقا ؛ لأنه لم يبق فيه سوى التأنيث والوصف بفاعل غير مختصّ بالأوصاف فإنّ فاعلا يوجد في الأسماء نحو كاهل.

مسألة : إذا كان الوصف تاء التأنيث نحو ضاربة انصرف في النكرة مع اجتماع الوصف والتأنيث ؛ لأن تاء التأنيث هنا لا يعتدّ بها ؛ لأنها دخلت لمجرّد الفرق.

مسألة : المعدول عن المعرفة نحو عمر وزفر لا ينصرف معرفة للعدل والتعريف فإن قيل :

ما فائدة عدله قيل شيئان :

أحدهما : توكيد المعنى المشتقّ منه في المسمّى كالعمارة والزّفر.

والثاني : الإعلام بأنّ عامرا لا يراد به الوصف بل التسمية.

فإن قيل : على كم وجها فعل؟ قيل : على أربعة أوجه :

أحدهما : المعرفة وهو لا تدخله الألف واللام نحو جشم وقثم.

والثاني : الجنس نحو جرذ ونغر هذا ينصرف بكلّ حال ؛ لأنه غير معدول.

والثالث : الجمع نحو غرف ورطب.

والرابع : الوصف نحو حطم فأمّا فسق وخبث فيستعمل في النداء للمذكّر خاصّة وهو مبنيّ فإن سمّيت صرفته ؛ لأنه لم يعدل إلّا في النداء.

مسألة : وأمّا ما عدل من الصفات فيجيء على فعال نحو ثلاث ورباع وعلى مفغل نحو مثنى وموحد وهو غير مصروف على كلّ حال لاجتماع الوصف والعدل.

وقال بعضهم : هو معدول في اللفظ والمعنى فاللفظ معدول عن لفظ اثنين وثلاثة ، وأمّا في المعنى فإنّ مثنى يعبّر به عن جماعة جاؤوا اثنين اثنين وثلاث عن ثلاثة ثلاثة بخلاف اثنين فإنّه لا يدلّ على أكثر من أحدين وثلاثة لا يدلّ إلّا على ثلاثة آحاد.

مسألة : فأمّا أخر جمع آخر وأخرى فلا ينصرف للعدل والوصف وفي معنى عدله أوجه :

٣٢٦

أحدها : أنّ أخر هنا للمفاضلة فأصله أن يقال آخر من كذا أي أشدّ تأخّرا منه ثمّ عدل عن من واستعمل استعمال الأسماء والصفات التي لغير المفاضلة نحو أبيض وأسود.

والثاني : أنّ القياس استعماله بالألف واللام ك الفضلى والوسطى والفضل والوسط فعدل عن الألف واللام.

مسألة : لا فرق في الجمع الذي لا نظير له بين أن يكون بعد ألفه حرف مشدّد أو حرفان منفصلان ؛ لأن المشدّد حرفان في الحقيقة فأمّا ما بعد ألفه ثلاثة أحرف فشرطه أن يكون الأوسط ساكنا نحو قناديل فإن كان متحرّكا ك صياقلة انصرف ؛ لأن له نظيرا في الآحاد نحو : طواعية ورفاهية ورجل عباقية ، وكذلك إن كان آخره ياء النسبة نحو مدائنيّ ، لأنها تشبه تاء التأنيث لما نبيّنه في النسب.

مسألة : فإن كان بعد الألف حرفان الثاني : ياء نحو جوار فهو منوّن في الرفع والجرّ غير منوّن في النصب واختلفوا في هذا التنوين فقال بعضهم هو تنوين الصرف ؛ لأن الياء حذفت تخفيفا فبقيت جوار مثل دجاج فانصرف وقال آخرون هو عوض من الياء وليس بمنصرف وقال آخرون هو عوض من حركة الياء المستحقّة فلمّا اجتمع التنوين والياء حذفت لالتقاء الساكنين فأمّا في النصب فلا ينصرف لكمال البناء.

مسألة : فأمّا الترامي والتعامي فينصرف بكلّ حال ؛ لأن وزنه تفاعل كتقاتل وتضارب ولكن كسرت عينه لتسلم الياء.

مسألة : لا تمنع العجمة من الصرف إلا مع التعريف ولو اجتمع في الاسم أكثر من علّتين ، وذلك نحو أذربيجان فإنّ فيها خمسّ علل التعريف والعجمة والتأنيث والتركيب والألف والنون الزائدتان فإن نكّرته صرفته ، وعلّة ذلك أنّ التعريف علّة قويّة كثيرة الدور في الكلام حتى إنّها في الشعر قد أقيمت مقام علّتين وليس ذلك لغيره.

مسألة : وقد يكون اللفظ محتملا للصرف وتركه لاختلاف أصله ، وذلك ك حسّان إن أخذته من الحسّ لم تصرفه للتعريف والزيادة ، وإن أخذته من الحسن صرفته ؛ لأن النون أصل وكذلك يعقوب إن كان أعجميّا لم تصرفه ، وإن أردت اسم ذكر القبج صرفته إذ ليس فيه سوى التعريف وهكذا إسحاق إن جعلته أعجميّا لم تصرفه ، وإن جعلته مصدرا في الأصل

٣٢٧

صرفته فأمّا إبليس فلا ينصرف للعجمة والتعريف وقال قوم : هو من الإبلاس وليس كذلك ؛ لأنه لو كان منه لانصرف إذ ليس فيه سوى التعريف.

مسألة : فأمّا يربوع ونظائره فينصرف إذ ليس في الأفعال يفعول.

مسألة : فأمّا مرّان وهي الرماح فإذا سمّي به انصرف ؛ لأنه من المرانة للينها بالتدريب ، وأمّا رمّان إذا سمّي به فلا ينصرف عند سيبويه ؛ لأنه من الرمّ وهو الجمع والإصلاح وقال الأخفش النون أصل ؛ لأنه كثير في أسماء النبات فعّال نحو قلّام وثفّاء.

فأمّا أباتر فينصرف بكلّ حال ؛ لأنه كثير الأسماء مثاله نحو دلامص وعكامس وعلابط.

مسألة : يجوز في حضرموت ونحوه ثلاثة أوجه :

أحدها : بناء الاسم الأوّل وإعراب الثاني : إلّا أنّه لا ينصرف في المعرفة للتعريف والتركيب وبني الأوّل لشبه الثاني : بتاء التأنيث إذ كان مزيدا على الاسم وفتح للطول كما فتح ما قبل تاء التأنيث.

والوجه الثاني : أن تضيف الأوّل إلى الثاني فتعربهما إلا أن كرب لا ينصرف ؛ لأنه مؤنّث معرفة ، ومنهم من يصرفه فيجعله مذكّرا ، وأمّا ياء معدي فساكنة بكلّ حال ؛ لأن الكلمتين صارتا كالواحدة فلو حرّكت لتوالت الحركات وثقلت خصوصا في الياء بعد الكسرة.

والوجه الثالث : أن تبنيهما لتضمّنهما معنى حرف العطف ك (خمسة عشر).

مسألة : فأمّا سيبويه ونفطويه وعمرويه فمبنيّة ولكن تنوّن في النكرة كما تنوّن الأصوات وأسماء الفعل ويذكر ذلك في المبنيّات إن شاء الله تعالى.

مسألة : أسماء البلدان منها ما ذكّرته العرب فصرفته نحو واسط ودابق ومنها ما أنّثته نحو مصر ودمشق ومنها ما جوّزت فيه الأمرين.

مسألة : فأمّا أسماء القبائل فما كان موضوعا على القبيلة كان مؤنّثا نحو حمير وما كان اسما للحيّ أو أبي القبيلة كان مذكّرا نحو تميم ، وقد جاء الوجهان في ثمود.

مسألة : حكم ما لا ينصرف ألّا يجرّ ولا ينوّن لما ذكرنا في صدر الكتاب من أنّ الصرف هو التنوين فأمّا الجرّ فليس من الصرف على الصحيح وإنّما سقط تبعا لسقوط التنوين إذ كانا جميعا

٣٢٨

لا يدخلان الفعل فما يشبهه كذلك ؛ ولذلك إذا اضطر الشاعر إلى تنوين المجرور كسره ؛ لأن سقوط الكسر كان تبعا لسقوط التنوين فإذا انتفى الأصل انتفى التبع.

فإن قيل : للأفعال أحكام وخصائص فلم لم يثبت للاسم المشبه للفعل غير منع الجرّ والتنوين وهلّا امتنع الألف واللام أو كونه فاعلا أو نحو ذلك؟

قيل : هذه الخصائص لها معنى في الأسماء فلو منعها الاسم لبطل ذلك المعنى بخلاف الجرّ والتنوين فإنّ منع الاسم منهما لا يبطل معنى فيه.

مسألة : إذا أضيف ما لا ينصرف أو دخلته الألف واللام كسر في موضع الجرّ وفي ذلك وجهان :

أحدهما : أنّ كسرة الجرّ سقطت تبعا لسقوط التنوين بسبب المشابهة وسقوطه بالألف واللام والإضافة بسبب آخر فلا يسقط الجرّ تبعا له ؛ ولذلك قال النحويّون فأمن فيه التنوين أي أنّ سقوط التنوين بسبب المشابهة كان استحسانا لا ضرورة ؛ ولذلك يجوز للشاعر اتّباعه فأمّا سقوط الألف واللام والإضافة فكالضرورة ؛ ولذلك لا يسوغ للشاعر الجمع بينهما.

والوجه الثاني : أنّه بالألف واللام والإضافة يبعد من شبه الفعل الحاصل بالفرعية فيعود إلى حقّه من الجرّ.

فإن قيل : فحرف الجرّ من خصائص الاسم وكذلك الفاعليّة والمفعوليّة ولا تردّه هذه الأشياء إلى الصرف؟

قيل : أمّا حرف الجرّ فلا يحدث في الاسم معنى ينافيه فيه الفعل فإنّ الاسم يبقى معناه مع حرف الجرّ بحاله بخلاف الألف واللام والإضافة فإنّهما تحدثان فيه التخصيص الذي ينبو عنه الفعل ، وأمّا كونه فاعلا أو مفعولا فهو أمر يرجع إلى ما يحدثه العامل.

مسألة : الاسم بعد دخول الألف واللام والإضافة غير منصرف لما تقدّم أنّ مانع الصرف قائم وأنّ الجرّ سقط لزوال ما سقط تبعا له وقال قوم هو منصرف وبنوه على أصلين.

أحدهما : أنّ الجرّ من الصرف.

والثاني : أنّه بدخول الألف واللام والإضافة ضعف شبه الاسم بالفعل على ما تقدّم.

مسألة : يجوز للشاعر أن يصرف مالا ينصرف للضرورة على الإطلاق.

٣٢٩

وقال الكوفيّون : ليس له ذلك في أفعل منك.

وحجّة الأوّلين : أنّه اسم معرب نكرة فجاز للشاعر صرفه كبقيّة الأسماء التي لا تنصرف.

واحتجّ الآخرون بأنّ منك تجري مجرى الألف واللام والإضافة ؛ ولذلك ينوبان عن من فكما لا تنوّن مع الألف واللام والإضافة لا تنون مع من.

والجواب : أنّ ذلك لا يصحّ ؛ لأن من ، وإن خصّصت ولكن بعض التخصيص والاسم بعد ذلك نكرة بخلاف الألف واللام والإضافة.

مسألة : يجوز للشاعر ترك صرف ما ينصرف للضرورة ومنعه المبرّد.

واحتجّ الأوّلون بقول العبّاس بن مرداس (١) : [المتقارب]

وما كان حصن ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

وبأنّ التنوين زائد دالّ على خفّة الاسم وبالتعريف يحدث له نوع ثقل فلذلك جاز له إجراء السبب مجرى السببين ويدلّ عليه أنّ الشاعر يجري الوصل مجرى الوقف حتّى إنّه يصل الاسم المؤنّث بالهاء كما يقف عليه فلأن يجوز له حذف التنوين وإبقاء الحركة أولى والمبرّد يروي البيت :

يفوقان شيخي في مجمع

وما رواه سيبويه ثابت في الرواية فلا طريق إلى إنكاره.

__________________

(١) العباس بن مرداس : (١٨ ه‍ / ٦٣٩ م) وهو العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي ، من مضر ، أبو الهيثم.

شاعر فارس ، من سادات قومه ، أمّه الخنساء الشاعرة. أدرك الجاهلية والإسلام ، وأسلم قبيل فتح مكة ، وكان من المؤلفة قلوبهم ويدعى فارس العبيد ، وهو فرسه ، وكان بدويا قحا ، لم يسكن مكة ولا المدينة وإذا حضر الغزو مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يلبث بعده أن يعود إلى منازل قومه وكان ينزل في بادية البصرة وبيته في عقيقها ، وهو واد مما يلي سفوان ، وأكثر من زيارة البصرة ، وقيل : قدم دمشق وابتنى بها دارا.

وكان ممن ذمّ الخمر وحرّمها في الجاهلية. مات في خلافة عمر.

٣٣٠

باب الأفعال

قد ذكرنا في أول الكتاب حدّ الفعل وعلاماته وذكرنا في باب المصدر أنّه مشتقّ من المصدر وبقي الكلام في أقسامه وأحكامه.

فصل : وأقسام الأفعال ثلاثة ماض (١) وحاضر ومستقبل. وأنكر قوم فعل الحال.

وحجّة الأولين : أنّ الفعل اشتقّ من المصدر ليدلّ على الزمان فينبغي أن ينقسم بحسب انقسامه ولا أحد ينكر زمن الحال وهو الآن فكذلك الفعل الدالّ عليه فهو واسطة بين الماضي والمستقبل ؛ ولذلك قال تعالى : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) [مريم : ٦٤] قالوا :

أراد الأزمنة الثلاثة.

ومنه قول زهير : [الطويل]

وأعلم علم اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عمي

واحتجّ الآخرون بأن ما وجد من أجزاء الفعل صار ماضيا وما لم يوجد فهو مستقبل وليس بينهما واسطة.

والجواب : أنّ النّحويين يريدون بفعل الحال فعلا ذا أجزاء يتّصل بعضها ببعض كالصلاة والأكل ونحوهما وهذا يعقل فيه الحال قسما ثالثا ؛ لأنه يشار إليه وهو متشاغل به ولم يقضه ويفرّق بين حاله الآن وحاله قبل الشّروع وبعد الفراغ.

__________________

(١) يبنى الماضي على الفتح ، وهو الأصل في بنائه ، نحو «كتب». فإن كان معتلّ الآخر بالألف ، كرمى ، ودعا ، بني على فتح مقدّر على آخره. فإن اتصلت به تاء التأنيث ، حذف آخره ، لاجتماع الساكنين الألف والتاء ، نحو «ردت ودعت» والأصل «رمات ودعات». ويكون بناؤه على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين.

وليست حركة ما قبل تاء التأنيث هنا حركة بناء الماضي على الفتح ، لأن حركة البناء ـ كحركة الإعراب ـ لا تكون إلا على الأحرف الأخيرة من الكلمة والحرف الأخير هنا محذوف كما رأيت).

وإن كان معتل الآخر بالواو أو الياء ، فهو كالصحيح الآخر ـ مبني على فتح ظاهر كسروت ورضيت.

ويبنى على الضم إن اتصلت به واو الجماعة ، لأنها حرف مد وهو يقتضي أن يكون قبله حركة تجانسه ، فيبنى على الضم لمناسبة الواو نحو «كتبوا» ..

٣٣١

فصل : واختلفوا أيّ أقسام الفعل أصل لغيره ، فقال الأكثرون : هو فعل الحال ؛ لأن الأصل في الفعل أن يكون خبرا ، والأصل في الخبر أن يكون صدقا.

وفعل الحال يمكن الإشارة إليه فتحقّق وجوده فيصدق الخبر عنه ، وقال قوم : الأصل هو المستقبل ؛ لأنه يخبر عنه عن المعدوم ثم يخرج الفعل إلى الوجود فيخبر عنه بعد وجوده.

وقال الآخرون : هو الماضي ؛ لأنه لا زيادة فيه ولأنّه كمل وجوده فاستحقّ أن يسمّى أصلا.

فصل : الأصل في الفعل البناء ؛ لأن الإعراب دخل للفعل بين الفاعل والمفعول وليس في الفعل فاعل ولا مفعول فصار كالحرف.

فصل : والأصل أن يبنى على السكون ؛ لأن البناء ضدّ الإعراب على ما ذكر في صدر الكتاب إلا أنّ الفعل الماضي حرّك لشبهه بالمضارع إذ كان يقع موقعه في نحو قوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ) [النمل : ٨٧] أي : فيفزع.

وفي الشّرط والجزاء : إذا ذهبت ذهبت.

وفي الحال كقولك : مررت بزيد قد كتب كقولك : يكتب والشّبه يقتضي إثبات حكم من أحكام المشابه للمشابه والحركة من أحكام المضارع إلّا أنّ حركة المضارع إعراب وحركة الماضي بناء وعلّة ذلك أنّ إعراب المضارع فرع على الاسم والماضي فرع على المضارع والفروع تنقص عن الأصول فكيف بفرع الفرع.

فصل : وإنّما جعلت حركته فتحة لأمرين :

أحدهما : أنّ أمثلة الفعل الماضي كثيرة فاختير له أخفّ الحركات تعديلا.

والثاني : أنّ الغرض تمييز هذا المبنيّ على المبنيّ على السكون والتمييز يحصل بالفتحة وهي أخفّ فلا يصار إلى الثقيل.

وقيل : لو كسر لبني على كسرة لازمة والفعل لم يدخله الجرّ مع أنه عارض ولم يضمّ ؛ لأن من العرب من

يحذف واو الجمع ويجعل الضمة دليلا عليها نحو ضرب في ضربوا وهذا وجه ضعيف.

٣٣٢

مسألة : فعل الأمر (١) الذي ليس فيه حرف مضارعة مبنيّ على السكون وقال الكوفيّون هو معرب بالجزم واحتجّ الأوّلون من وجهين :

أحدهما : أنّ الأصل في الفعل البناء وإنّما أعرب لمشابهته الإسم والمشابهة تتحقّق بحرف المضارعة فقط فإذا فقد فقدت فيخرج على الأصل.

والثاني : أن نزال وبابه مبنيّ لقيامه مقام الأمر فلو كان معربا لم يبن ما قام مقامه.

واحتجّ الآخرون من وجهين :

أحدهما : أنّ الأصل في قم لتقم فحذف تخفيفا ، وقد جاء ذلك في المضارع الصريح قال الشاعر (٢) : [الطويل]

على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي

لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى

وقال آخر (٣) : [الوافر]

محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا

أي لتفد وقرئ : (فبذلك فلتفرحوا) على الخطاب ، أي : فافرحوا.

والوجه الثاني : أنّ حروف العلّة تسقط من هذا الفعل نحو اغز واسع وارم كما تسقط بالجازم.

والجواب عن الأول من وجهين :

__________________

(١) ما لزم البناء على السكون أو نائبه وهو نوع واحد وهو فعل الأمر وذلك لأنه يبنى على ما يجزم به مضارعه فيبنى على السكون في نحو اضرب وعلى حذف النون في نحو اضربا ، واضربوا واضربي وعلى حذف حرف العلة في نحو اغز واخش وارم.

(٢) البيت من شعر متمّم بن نويرة اليربوعي : (٣٠ ه‍ / ٦٥٠ م) وهو متمّم بن نويرة بن حمزة بن شداد اليربوي التميمي أبو نهشل.

شاعر فحل ، صحابي ، من أشراف قومه ، اشتهر في الجاهلية والإسلام ، وكان قصيرا أعور ، أشهر شعره رثاؤه لأخيه مالك ومنه قوله :

وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قبل لن يتصدعا ، وندمانا جذيمة : مالك وعقيل. سكن متمم المدينة في أيام عمر وتزوج بها امرأة لم ترض أخلاقه لشدة حزنه على أخيه.

(٣) من شعر أبي طالب بن عبد المطلب عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٣٣

أحدهما : أنّ قم واذهب أصل بنفسه وليس الأصل فيه ما ذكروا ؛ لأنه لو كان كذلك للزم منه حذف العامل وحرف المضارعة وتغيير الضيغة وكلّ ذلك مخالف للأصل ولا سماع يدلّ عليه.

والثاني : يقدّر أنّ الأصل ما ذكروا ولكن بهذا الحذف زال شبه الفعل بالاسم فعاد إلى البناء.

والثالث : أنّ الجزم يحتاج إلى جازم وتقدير الجازم ممتنع لوجهين :

أحدهما : أنّه لا يصحّ ظهوره مع هذه الصيغة فلا تقول لاذهب والمقدّر كالمنطوق به.

والثاني : الجازم أضعف من الجارّ والجارّ لا يبقى عمله بعد حذفه فالجازم أولى.

فأمّا البيت فهو خبر وليس بأمر وحذف الياء ضرورة ولو قدّر أنه حذف اللام فلا يصح مثله في مسألتنا لوجهين :

أحدهما : أنّ حرف المضارعة باق هناك وليس بموجود هنا فلا يلزم من حذف شيء واحد حذف شيئين ولا يلزم من حذف ما عليه دليل وهو حرف المضارعة حذف ما لا دليل عليه.

والثاني : أنّ ذلك شاذّ سوّغته الضرورة.

وأمّا الوجه الثاني فليس بشيء ؛ لأن البناء يذهب الحركة فيذهب الحرف القائم مقامها وحروف العلّة قامت مقام الحركة على ما نبيّنه.

مسألة : الفعل المضارع أعرب لشبهه بالاسم من أوجه :

أحدها : أنّه يكون شائعا فتخصص بالحرف كقولك : زيد يصلّي فيحتمل أن يكون في الصلاة وأن يكون لم يشرع فيها ، وإذا قلت : سيصلي اختص كما أنّ رجلا يحتمل غير واحد ثم يختصّ بواحد بالألف واللام.

والثاني : أنّ اللام تدخل عليه في خبر إنّ كقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ) [النحل : ١٢٤] ولا تدخل على الأمر والماضي وحقّها أن تدخل على الاسم ؛ لأنها لام الابتداء زحلقت إلى الخبر فلو لا قوة الشّبه لم تدخل على هذا الفعل.

٣٣٤

والثالث : أنه على زنة اسم الفاعل عدة وحركة وسكونا ف (يضرب) مثل ضارب في ذلك ويكرم مثل مكرم ، وقد شذّ عنه ينصب فهو نصب وبابه ولما أشبهه من هذه الأوجه الخاصّة أعطي حكما من أحكامه ؛ لأن ذلك قضاه الشّبه كما أنّ الاسم لمّا شابه الفعل منع الصرف.

فإن قيل : لم لم يجعل من أحكام الاسم غير الإعراب؟

قيل : الإعراب لا يغيّر معنى الفعل وغيره من أحكام الاسم تغيّر معنى الفعل فينبو عن قبوله.

مسألة : إعراب الفعل المضارع استحسان وقال الكوفيون أعرب كما أعرب الاسم واحتجّ الأولون بأنّ معنى الفعل واحد في كلّ حال وهو الدّلالة على الحدث وزمانه ولا يضاف إليه بالعامل الدّاخل عليه معنى آخر وإعراب الأسماء يفرق بين المعاني المختلفة الحادثة العارضة على المسمّى وإنما أعرب الفعل للشبه على ما تقدّم.

واحتجّ الآخرون بأنّ الإعراب في الفعل يفرق بين المعاني ألا ترى أنّ قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن إذا جزمت الثاني : كان له معنى فإذا نصبته أو رفعته كان له معنى آخر وكذلك أريد أن أزورك فيمنعني البواب فالرفع يدلّ على خلاف ما يدل عليه النصب وكذلك لا يسعني شيء ويعجز عنك وكذلك لتضرب زيدا إن جزمت كان أمرا ، وإن نصبت كان علّة.

والجواب : إنّ اختلاف المعنى فيما ذكروا حاصل بالإعراب لا بعدم الإعراب فإنّك لو سكّنت في هذه المواضع كلّها لعرفت المعنى بدليل آخر فالواو في قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن للعطف فيحتمل أن يعطف على لفظ الفعل الأوّل فيكون نهيا عنهما جميعا مجتمعين ومنفردين فعند ذلك يجزم على تقدير ولا تشرب اللبن ويحتمل أن تريد به العطف على الموضع ومعنى الجمع ولا يصحّ ذلك إلا بإرادة أن ليصير المعنى لا تجمع بين أكل السمك وشرب اللبن ولو ظهرت أن لفهم المعنى بدون الإعراب ، وكذلك لو ظهرت لا فاللّبس جاء من حذف العامل فأقمت الحركات مقام ظهوره لا أنّ معنى الفعل تغيّر بالعامل كما تغيّر الاسم بالفعل فيكون تارة فاعلا وتارة مفعولا والفعل مع عامله قد يكون له موضع الاسم المفرد المفتقر الى عامل ومن ها هنا كان الرفع في قولك : فيمنعني البواب هو الوجه لأنك لو نصبت عطفته على أزورك ، وذلك مراد والمنع ليس بمراد فيفسد المعنى بسبب العطف الموجب

٣٣٥

للتشريك ؛ ولذلك لو سكنت لم يفسد المعنى فقد رأيت الإعراب بالنصب كيف أفسد المعنى ولو نصبت العرب الفاعل ورفعت المفعول لحصل الفرق ولو نصبت هنا لفسد المعنى لما ذكرنا والرفع فيه لم يتعيّن ليصحح المعنى بل النصب هو المتعين لفساد المعنى وكذلك لا يسعني شيء ويعجز عنك الرفع يفسد المعنى ؛ لأنه يصير لا يسعني شيء ولا يعجز عنك فبوجود الرفع يفسد المعنى وفي الأسماء بعدم الإعراب يفسد المعنى وأما قولك : ليضرب زيد فلا يلتبس إذا كان هذا الكلام وحده بل يكون أمرا لا محالة فإذا انضمّ إليه كلام آخر يصلح أن يكون علّة له فهم المعنى ، وإن سكّنته.

فصل : لا يصير الفعل مضارعا إلا بزيادة الحروف ؛ لأن الحركات موجودة في الماضي من ضمّ وفتح وكسر وإنّما زيدت الحروف المذكورة ؛ لأن أولى ما زيد حروف المدّ لما ذكرنا في أوّل الكتاب إلّا أنّ الألف لسكونها لا يمكن الابتداء بها فجعلت الهمزة بدلها إذ كانت أختها في المخرج والواو لا تزاد أولا لوجهين :

أحدهما : ثقلها ؛ ولذلك لم تزد أولا في موضع ما.

والثاني : أنّه يؤدي في بعض المواضع إلى اجتماع ثلاث واوات فاء الكلمة وحرف المضارعة وحرف العطف ، وذلك مستثقل مستنكر فجعلت التاء بدلها لما ذكرناه في القسم ولم يعرض للياء مانع واحتيج إلى حرف آخر لتمام أدلّة المعاني فزيدت النون إذ كانت تشبه الواو.

فصل : والفعل هنا إمّا أن يكون خبرا عن المتكلّم وحده أو عنه وعمّن معه أو عن المخاطب أو عن الغائب ؛ ولذلك كانت حروفه أربعة.

فصل : وإنّما خصّت الهمزة بالمتكلم لوجهين :

أحدهما : أنّها أوّل الحروف مخرجا فجعلت دليلا على المتكلم إذ كان مبدءا للكلام.

والثاني : أنّ الواحد مقابل للجمع وعلامة الجمع الواو فجعل علامة الواحد المتكلم الهمزة التي مخرجها مقابل لمخرج الواو فمخرجحما أوّل ومخرج الواو آخر وما بينهما وسط كما أنّ الواحد أوّل والجمع آخر والتثنية وسط.

فصل : وإنّما جعلت النون للجمع لوجهين :

أحدهما : أنّها تشبه الواو والواو علامة الجمع.

٣٣٦

والثاني : أنّها جعلت ضميرا لجمع المؤنث نحو ضربن فلذلك زيدت أولا للجمع.

فصل : وأما التاء فمختصّ بها المخاطب المذكّر كما جعلت ضميرا له في قولك : ضربت وفي المؤنث هي علامة تأنيث الفاعل نحو قامت فجعلت أولا في المضارع لهذا المعنى ، وأمّا الياء فجعلت للغائب لما فيها من الخفاء المناسب لحال الغائب ؛ ولذلك لم يكن للغائب الواحد ضمير ملفوظ به في الفعل نحو زيد قام.

فصل : وإنّما جعلت هذه الحروف أولا لأمرين :

أحدهما : أنها ناقلة للفعل من معنى إلى معنى آخر فكونها أولا يدل على المعنى المنقول إليه بأوّل نظر.

والثاني : أنّ الآخر موضع الإعراب والحشو موضع اختلاف الأبنية فلم يبق سوى الأوّل.

مسألة : إذا تجرّد المضارع عن عامل الجزم والنصب ارتفع لوقوعه موقع الاسم وقال الفرّاء يرتفع لتعرّيه من الجوازم والنواصب وقال الكسائيّ يرتفع بحرف المضارعة.

واحتجّ الأوّلون بأن وقوعه موقع الاسم يكسبه قوّة يشبه بها الاسم وأوّل أحوال الاسم في الاعراب الرفع فيصير كالمبتدأ في ارتفاعه لأوّليته وأنّ الرفع أوّل ولا فرق بين أن يكون ذلك الاسم مرفوعا أو غيره ؛ لأنه ارتفع لوقوعه موقع الاسم من حيث هو اسم لا من حيث هو مرفوع.

واحتجّ الفرّاء من وجهين :

أحدهما : أن تعرّيه من العوامل اللفظية واستقلاله دونها يدلّ على قوّته فأشبه بذلك المبتدأ.

والثاني : أنّ ارتفاعه لوقوعه موقع الاسم باطل بخبر كاد ؛ فإنه مرفوع ولا يقع موقع الاسم ومذهب الكسائي فاسد فتعيّن التعليل بالتعرّي واحتجّ للكسائي بأنّ الفعل قبل حرف المضارعة مبنيّ وبعد وجوده وحده مرفوع والرفع عمل لا بدّ له من عامل ولم يحدث سوى الحرف فوجب أن يضاف العمل إليه وإنّما بطل عمله بعامل آخر ؛ لأنه أقوى منه كما إن الشرطية يبطل عملها ب (لم).

والجواب عن كلام الفرّاء من ثلاثة أوجه :

٣٣٧

أحدها : أنه تعليل بالعدم المحض ، وقد أفسدناه في باب المبتدأ.

والثاني : ما ذكرتموه يؤول إلى ما قلناه ؛ لأنه بيّن قوة الفعل باستقلاله وبذلك وقع موقع الاسم.

والثالث : أنّ ما قاله يفضي إلى أنّ أوّل أحوال الفعل مع النّاصب والجازم والأمر بعكسه ، وأمّا خبر كاد فالأصل أن يكون اسما لما ذكرنا في بابه وإنّما أقيم الفعل مقامه ليدلّ على قرب الزّمان ، وأمّا كلام الكسائيّ إن حمل على ظاهره ففاسد لثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه عدّد حرف المضارعة وغيره وهو وقوعه موقع الاسم فلم يلزم إضافة العمل إلى الحرف.

والثاني : أنّ حرف المضارعة صار من سنخ الكلمة وبعض الكلمة لا يعمل فيها.

والثالث : أنّ الناصب والجازم يزيل الرفع ولو كان حرف المضارعة عاملا لما بطل بعامل قبله بخلاف إن ؛ لأن عملها بطل بعامل بعدها.

مسألة : مثلة الخمسة وهي تفعلان ويفعلان وتفعلون ويفعلون وتفعلين معربة وليس لها حرف إعراب والدليل على أنّها معربة من وجهين :

أحدهما : أنّ المعنى الذي أعرب به المضارع موجود فيها من غير مانع.

والثاني : أنّ النون تثبت في رفعها وتسقط في غيره.

وهذا الاختلاف إعراب والدليل على أنه لا حرف إعراب لها أنّه لو كان لكان إمّا الحرف الذي قبل حرف العلة أو حرف العلة أو النون ، والأوّل باطل ؛ لأنه لو كان حرف إعراب لكانت حركته حركة إعراب وليست كذلك بل هي تابعة لحرف العلّة مناسبة لطبيعته ، والثاني باطل أيضا ؛ لأنه اسم في موضع رفع معمول للفعل فليس منه ولا علامة لشيء هو فيه ، والثالث باطل أيضا لوجهين :

أحدهما : أنّ النون حرف صحيح تسقط في النّصب والجزم فلم تكن حرف إعراب كسائر الحروف.

والثاني : أنّها واقعة بعد الفاعل الموصول بالفعل وهذا الحائل يحيل كونها من الفعل لفظا أو حكما فثبت ما قلنا.

٣٣٨

مسألة : الفعل المعرب يعرض له البناء لشيئين :

أحدهما : نون التّوكيد ؛ لأن حركة آخره صارت دالّة على معنى وهو كون الفاعل واحدا أو جماعة أو مؤنثا فلم يبق الحرف محلّا لحركة الإعراب فيعود إلى أصله من البناء.

والثاني : نون جماعة المؤنث نحو يضربن ؛ لأن هذه النون أوجبت تسكين الحرف الأخير في الماضي فوجب إسكانه في المضارع وإنما كان ذلك لأمرين :

أحدهما : أنّ الماضي سكّن لئلّا تتوالى أربع حركات وكذلك هو في المضارع وسكون الثاني : عارض لا يعتدّ به ، وإن السّاكن غير حصين وحرف المضارعة متحرّك وهو من نفس الفعل وإنّ زيادة الحرف ناب مناب الحركة.

والثاني : أنّه أشبه الماضي في أنّ حروفه باقية فيه وأنّ أحدهما يقع موقع الآخر فحمله عليه في البناء أقرب من حمل الفعل على الاسم في الإعراب.

مسألة : الفعل المعتلّ الآخر نحو يغزو ويرمي لا يحرّك آخره بالضمة لثقلها عليه على الاسم المنقوص بل أكثر فأمّا تقدير الضمّة فيحتمل وجهين كما ذكرنا في ياء قاضي وأما الالف فتقدّر الحركة عليها البتة كالاسم المقصور.

مسألة : تقول الرجال يعفون والنّساء يعفون فاللفظ واحد والتقدير مختلف ففعل الرجال حذفت منه اللام لسكونها وسكون واو الضمير بعدها كما حذفت الياء من يرمون والنون علامة الرفع وفعل النّساء لم يحذف منه شيء ؛ لأنه مبنيّ وواوه لامه والنون اسم مضمر ؛ ولذلك ثبتت في الأحوال الثلاث على صورة واحدة.

٣٣٩

باب نواصب الفعل

أصلها أن المصدريّة (١) وإنّما عملت لاختصاصها بالفعل وإنّما نصبت ؛ لأنها أشبهت أنّ العاملة في الأسماء من أربعة أوجه :

أحدها : أنّ لفظها قريب من لفظها ، وإذا خفّفت صارت مثلها في اللفظ.

الثاني : أنّها وما عملت فيه مصدر مثل أنّ الثقيلة.

والثالث : أنّ لها ولما عملت فيه موضعا من الإعراب كالثقيلة.

والرابع : أنّ كلّ واحدة منهما تدخل على جملة.

فصل : وأن والفعل في تقدير المصدر ؛ ولذلك يقدّر المصدر بأن والفعل وأنه لا يجوز تقديم معمول أن عليها ولا معمول معمولها عليها ولا عليه كقولك : أريد زيدا أن تضرب ولا أريد أن زيدا تضرب ؛ لأن الصّلة لا تتقدّم على الموصول.

مسألة : إذا حذفت أن فالجيّد أن لا يبقى عملها إلّا أن يكون ثمّ بدل مثل الفاء ونحوها وقال الكوفيون يبقى عملها.

وحجّة الأوّلين قوله تعالى : (تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤] وبأنّ عوامل الأفعال ضعيفة ولا تعمل محذوفة.

واحتج الآخرون بأشياء جاءت في الشعر وهي شاذّة أو متأوّلة ، وقد قاسوا ذلك على عوامل الأسماء وهو قياس فاسد ؛ لأنها أقوى من عوامل الأفعال ولو جاز مثل ذلك لجاز يضرب زيد وأنت تريد ليضرب.

فصل : وأما لن فتعمل لاختصاصها وتنصب لشبهها بأن من وجهين :

أحدهما : أنّها تخلّص الفعل للاستقبال كما تخلّصه أن.

والثاني : أنها نقيضتها فتلك تثبته وهذه تنفي ما ثبتته تلك ولن جواب سيفعل أو سوف تفعل وجواب أريد أن تفعل ؛ فإنه يقول : لن أفعل.

مسألة : لن مفردة وقال الخليل هي مركّبة من لا وأن إلّا أنّ الهمزة حذفت تخفيفا ثم حذفت الألف لسكونها وسكون النون بعدها.

__________________

(١) التي تنصب الفعل المضارع ، وتؤول هي والفعل بعدها بمصدر.

٣٤٠