الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

ولفظها. وذلك نحو قولهم فى الخبر : أخوت عشرة ، وأبوت عشرة ، وأنشدنا أبو على عن الرياشىّ :

وبشرة يأبونا كأنّ خباءنا

جناح سمانى فى السماء تطير (١)

وقالوا أيضا : يديت (٢) إليه يدا وأيديت ، ودميت تدمى دمى ، وغدوت عليه ، وفهت بالشىء وتفوّهت به. فقد استعملت الأفعال من هذه الكلم ، كما استعملت فيما أوردته.

قيل : وهذا أيضا ساقط عنا ؛ وذلك أنا إنما قلنا : إن هذه المثل من الأفعال تجرى مجرى المثال الواحد ؛ لقيام بعضها قيام بعض ، واشتراكها فى اللفظ. وليس كذلك أب وأخ ونحوهما ؛ ألا ترى أنّ أب ليس بمثال من أمثلة الفعل ولا باسم فاعل ، ولا مصدر ، ولا مفعول ، فيكون رجوع المحذوف منه فى أبوت كأنه موجود فى أب ، وإنما أب من أبوت كمدقّ ومكحلة من دققت وكحلت. وكذلك القول فى أخ ، ويد ، ودم ، وبقيّة تلك الأسماء. فهذا فرق.

فقد علمت ـ بما قدّمناه وهضبنا (٣) فيه ـ قوّة تداخل الأصول الثلاثة الاسم والفعل والحرف وتمازجها ، وتقدّم بعضها على بعض تارة ، وتأخّرها عنه أخرى.

فلهذا ذهب أبو على ـ رحمه‌الله ـ إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة ، كالرّقم تضعه على المرقوم ، والميسم يباشر به صفحة الموسوم ، لا يحكم لشيء منه بتقدّم فى الزمان ، وإن اختلفت بما فيه من الصنعة القوّة والضعف فى الأحوال. وقد كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف ؛ نحو هاهيت ، وحاحيت ، وعاعيت ، وجأجأت ، وحأحأت ، وسأسأت ، وشأشأت (٤). وهذا كثير فى الزّجر.

وقد كانت حضرتنى وقتا فيه نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف فى كتاب ثابت فى الزّجر ؛ فاطلبها فى جملة ما أثبتّه عن نفسى فى هذا وغيره.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٦٩٣ ، ولسان العرب (بشر).

(٢) يديت إليه يدا وأيديت : أسديت إليه نعمة.

(٣) يقال هضب فى الحديث وأهضب : أفاض فيه وأكثر.

(٤) ها هيت : أى زجرت الإبل قائلا : ها ، ها. وكذلك حاحيت. عاعيت : يقال : عاعى بالغنم زجرها. جأجأت : زجرت الإبل قائلا : جؤجؤ. حأحأت : زجر للكبش. سأسأت : زجر للحمار ، وكذلك شأشأت.

٤٢١

باب فى اللغة المأخوذة قياسا

هذا موضع كأنّ فى ظاهره تعجرفا ، وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلّق بهذه الصناعة ، فضلا عن صدور الأشياخ. وهو أكثر من أن أحصيه فى هذا الموضع لك ، لكنى أنبّهك على كثير من ذلك لتكثر التعجّب ممن تعجّب منه ، أو يستبعد الأخذ به. وذلك أنك لا تجد مختصرا من العربية إلا وهذا المعنى منه فى عدّة مواضع ؛ ألا ترى أنهم يقولون فى وصايا الجمع : إنّ ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على أفعل ؛ ككلب وأكلب ، وكعب وأكعب ، وفرخ وأفرخ. وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثيّ فتكسيره فى القلّة على أفعال ؛ نحو جبل وأجبال ، وعنق وأعناق ، وإبل وآبال ، وعجز وأعجاز ، وربع وأرباع ، وضلع وأضلاع ، وكبد وأكباد ، وقفل وأقفال ، وحمل وأحمال. فليت شعرى هل قالوا هذا ليعرف وحده ، أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره ؛ ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة بل سمعته منفردا أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسّر عليه نظيره؟.

لا ، بل كنت تحمله عليه للوصيّة التى تقدّمت لك فى بابه. وذلك كأن يحتاج إلى تكسير الرجز الذى هو العذاب فكنت قائلا لا محالة : أرجاز ؛ قياسا على أحمال ، وإن لم تسمع أرجازا فى هذا المعنى. وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر من قولهم : وظيف عجر لقلت : أعجار ؛ قياسا على يقظ وأيقاظ ، وإن لم تسمع أعجارا. وكذلك لو احتجت إلى تكسير شبع بأن توقعه على النوع لقلت : أشباع ، وإن لم تسمع ذلك ؛ لكنك سمعت نطع وأنطاع ، وضلع وأضلاع. وكذلك لو احتجت إلى تكسير دمثر لقلت : دماثر ؛ قياسا على سبطر وسباطر. وكذلك قولهم : إن كان الماضى على فعل فالمضارع منه على يفعل ، فلو أنك على هذا سمعت ماضيا على فعل لقلت فى مضارعه : يفعل ، وإن لم تسمع ذلك ؛ كأن يسمع سامع ضؤل ، ولا يسمع مضارعه ، فإنه يقول فيه : يضؤل ، وإن لم يسمع ذلك ، ولا يحتاج أن يتوقّف إلى أن يسمعه ؛ لأنه لو كان محتاجا إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التى وضعها المتقدمون (وتقبلوها) وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ، ولا عرض ينتحيه الاعتماد ، ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضى ، والمضارعات ، وأسماء الفاعلين ، والمفعولين ، والمصادر ، وأسماء الأزمنة والأمكنة ،

٤٢٢

والآحاد والتثانى والجموع ، والتكابير ، والتصاغير ، ولما أقنعهم أن يقولوا : إذا كان الماضى كذا وجب أن يكون مضارعه كذا ، واسم فاعله كذا ، واسم مفعوله كذا ، واسم مكانه كذا ، واسم زمانه كذا ، ولا قالوا : إذا كان المكبّر كذا فتصغيره كذا ، وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا ، دون أن يستوفوا كل شيء (من ذلك) ، فيوردوه لفظا منصوصا معيّنا لا مقيسا ، ولا مستنبطا ، كغيره من اللغة التى لا تؤخذ قياسا ، ولا تنبيها ؛ نحو دار ، وباب ، وبستان ، وحجر ، وضبع ، وثعلب ، وخزز ؛ لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين : أحدهما ما لا بدّ من تقبله كهيئته ، لا بوصيّة فيه ، ولا تنبيه عليه ؛ نحو حجر ، ودار ، وما تقدّم ؛ ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس ، وتخفّ الكلفة فى علمه على الناس ، فقنّنوه وفصّلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب ، المغنى عن المذهب الحزن البعيد.

وعلى ذلك قدّم الناس فى أوّل المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات ، ثم أتلوه ما لا بدّ له من السماع والروايات ، فقالوا : المقصور من حاله كذا ؛ (ومن صفته كذا ؛ والممدود من أمره كذا ، ومن سببه كذا ، وقالوا فى المذكر والمؤنث : علامات التأنيث كذا وأوصافها كذا) ، ثم لمّا أنجزوا ذلك قالوا : ومن المؤنث الذى روى رواية كذا وكذا. فهذا من الوضوح على ما لا خفاء به.

فلمّا رأى القوم كثيرا من اللغة مقيسا منقادا وسموه بمواسمه ، وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز. ثم لمّا تجاوزوا ذلك إلى ما لا بدّ من إيراده ونصّ ألفاظه التزموا (وألزموا) كلفته ؛ إذ لم يجدوا منها بدّا ، ولا عنها منصرفا. ومعاذ الله أن ندّعى أن جميع اللغة تستدرك بالأدلّة قياسا ، لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به ونبّهنا عليه ؛ كما فعله من قبلنا ممن نحن له متّبعون ، وعلى مثله وأوضاعه حاذون ، فأمّا هجنة الطبع وكدورة الفكر ، وخمود النفس ، وخيس (١) الخاطر ، وضيق المضطرب ، فنحمد الله على أن حماناه ، ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه ، ويستعملنا به فيما يدنى منه ويوجب الزلفة لديه بمنّه.

فهذا مذهب العلماء بلغة العرب وما ينبغى أن يعمل عليه ويؤخذ به ، فأمضه على ما أريناه وحدّدناه ، غير هائب له ولا مرتاب به. وهو كثير ، وفيما جئنا به منه كاف.

__________________

(١) خيس الخاطر : كساده ووقوفه.

٤٢٣

باب فى تداخل الأصول الثلاثية

 والرباعية والخماسية

ولنبدأ من ذلك بذكر الثلاثيّ منفردا بنفسه ، ثم مداخلا لما فوقه.

اعلم أن الثلاثى على ضربين : أحدهما ما يصفو ذوقه ، ويسقط عنك التشكّك فى حروف أصله ؛ كضرب ، وقتل ، وما تصرّف منهما. فهذا ما لا يرتاب به فى جميع تصرفه ؛ نحو ضارب ، ويضرب ، ومضروب ، وقاتل ، وقتال ، واقتتل القوم ، واقتل ، ونحو ذلك. فما كان هكذا مجرّدا واضح الحال من الأصول ، فإنه يحمى نفسه ، وينفى الظنّة عنه.

والآخر أن تجد الثلاثيّ على أصلين متقاربين والمعنى واحد ، فههنا يتداخلان ، ويوهم كل واحد منهما كثيرا من الناس أنه من أصل صاحبه ، وهو فى الحقيقة من أصل غيره ؛ وذلك كقولهم : شيء رخو ورخودّ (١). فهما ـ كما ترى ـ شديدا التداخل لفظا ، وكذلك هما معنى. وإنما تركيب (رخو) من ر خ و، وتركيب (رخود) من ر خ د ، وواو (رخودّ) زائدة ، وهو فعولّ كعلودّ (٢) ، وعسودّ (٣) ، والفاء والعين من (رخو) و (رخودّ) متفقتان ، لكن لاماهما مختلفتان. فلو قال لك قائل : كيف تحقّر (رخودّا) على حذف الزيادة ، لقلت : رخيد ، بحذف الواو وإحدى الدالين. ولو قال لك : كيف تبنى من رخو مثل جعفر ، لقلت (رخوى) ومن (رخودّ) : رخدد ؛ أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماسّ المعنيين ؛ وذلك أن الرخو الضعيف ، والرخودّ المتثنىّ ، والتثني عائد إلى معنى الضعف ، فلما كانا كذلك أوقعا الشكّ لمن ضعف نظره ، وقلّ من هذا الأمر ذات يده.

ومن ذلك قولهم : رجل ضيّاط ، وضيطار (٤). فقد ترى تشابه الحروف ، والمعنى

__________________

(١) الرخودّ اللين. وهو من الرجال : اللين العظام الرخوها.

(٢) رجل علودّ : غليظ الرقبة.

(٣) رجل عسودّ : قوى شديد.

(٤) الضياط : العظيم الجنبين ، والضيطار يقال لهذا ، وللئيم.

٤٢٤

مع ذلك واحد ، فهو أشدّ لإلباسه. وإنما (ضياط) من تركيب (ض ى ط) ، وضيطار من تركيب (ض ط ر). ومنه (قول جرير) :

تعدّون عقر النيب أفضل مجدكم

بنى ضوطرى! لو لا الكمىّ المقنعا (١)

فضيّاط يحتمل مثاله ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون فعّالا كخيّاط وربّاط ، والآخر أن يكون فيعالا كخيتام وغيداق ، والثالث أن يكون فوعالا كتوراب. فإن قلت : إن فوعالا لم يأت صفة ، قيل اللفظ يحتمله وإن كانت اللغة تمنعه. ومن ذلك لوقة وألوقة ، وصوص وأصوص ، وينجوج وألنجوج ويلنجوج (٢) ، وضيف وضيفن فى قول أبى زيد. ومن ذلك حيّة وحوّاء ، فليس حوّاء من لفظ حيّة كعطّار من العطر ، وقطّان من القطن ، بل حيّة من لفظ (ح ى ى) من مضاعف الياء ، وحوّاء من تركيب (ح وى) كشوّاء وطوّاء. ويدلّ على أن الحيّة من مضاعف الياء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم فى الإضافة إلى حيّة بن بهدلة : حيوىّ. فظهور الياء عينا فى حيوىّ قد علمنا منه كون العين ياء ، وإذا كانت العين ياء واللام معتلّة فالكلمة من مضاعف الياء البتة ؛ ألا ترى أنه ليس فى كلامهم نحو حيوت. وهذا واضح. ولو لا هذه الحكاية لوجب أن تكون الحيّة والحوّاء من لفظ واحد ؛ لضربين من القياس : أمّا أحدهما فلأن فعّالا فى المعاناة إنما يأتى من لفظ المعانى ؛

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير فى ديوانه ص ٩٠٧ ، وتخليص الشواهد ص ٤٣١ ، وجواهر الأدب ص ٣٩٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٥٥ ، ٥٧ ، ٦٠ ، والدرر ٢ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٧٢ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٦٦٩ ، وشرح المفصل ٢ / ٣٨ ، ٨ / ١٤٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٧٥ ، ولسان العرب (أما لا) وتاج العروس (لو) وللفرزدق فى الأزهية ١٦٨ ، ولسان العرب (ضطر) ، ولجرير أو للأشهب بن رميلة فى شرح المفصل ٨ / ١٤٥ ، وبلا نسبة فى الأزهية ص ١٧٠ ، والأشباه والنظائر ١ / ٢٤٠ ، والجنى الدانى ص ٦٠٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٤٥ ، ورصف المبانى ص ٢٩٣ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٦١٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٦٠٠ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٢١ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠٢ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٦٤ ، ١٨٢ ، ومغنى اللبيب ١ / ٢٧٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٨. يقال للقوم إذا كانوا لا يغنون : بنو ضوطرى. وجرير يهجو بهذا الفرزدق وقومه. انظر اللسان (ضطر).

(٢) اللوقة والألوقة : طعام طيب يكون من الزبد والرطب. الصوص : البخيل. والأصوص : الناقة الكريمة الموثقة الخلق. ينجوج وألنجوج ويلجوج : هو عود طيب الريح يتبخر به.

٤٢٥

نحو عطّار من العطر ، وعصّاب من العصب. وأمّا الآخر فلأن ما عينه واو ولامه ياء أكثر مما عينه ولامه ياءان ؛ ألا ترى أن باب طويت وشويت أكثر من باب حييت وعييت. وإذا كان الأمر كذلك علمت قوّة السماع وغلبته للقياس ؛ ألا ترى أن سماعا واحدا غلب قياسين اثنين.

نعم وقد يعرض هذا التداخل فى صنعة الشاعر فيرى أو يرى أنه قد جنّس وليس فى الحقيقة تجنيسا ، وذلك كقول القطامى :

* مستحقبين فؤادا ما له فاد (١) *

ففؤاد من لفظ (ف أد) وفاد من تركيب (ف د ى) ، لكنهما لمّا تقاربا هذا التقارب دنوا من التجنيس. وعليه قول الحمصىّ :

* وتسويف العدات من السوافى (٢) *

فظاهر هذا يكاد لا يشكّ أكثر الناس أنه مجنّس ، وليس هو كذلك. وذلك أن تركيب (تسويف) من (س وف) وتركيب (السوافى) من (س ف ى) ، لكن لمّا وجد فى كل واحد من الكلمتين سين وفاء وواو جرى فى بادى السمع مجرى الجنس الواحد ؛ وعليه قال الطائى الكبير :

__________________

(١) صدره :

* كنية الحىّ من ذى الغيضة احتملوا*

وهو من قصيدته التى مطلعها :

ما اعتاد حب سليمى حين معتاد

ولا تقضى بوافى دينها الطادى

يقول فيها :

ما للكواعب ودعن الحياة كما

ودعننى واتخذن الشيب ميعادى

ثم يقول : كنية الحىّ ... ، ونية الحىّ : بعده وتحوله عن منتجعه إلى آخر. يقول : ودعننى وبعدن عنى كبعد هذا الحى إذا احتملوا من ذى الغيضة ، وهو موضع ، ويقول : إنهم استحقبوا معهم واحتملوا أسيرا لا فداء له من الأسر ، يعنى نفسه وقع أسيرا لمن سلبت فؤاده من الحى.

(٢) «العدات» كذا فى أ، ب ، ش. وفى ج : «العذاب» ، وفى رسالة الغفران : «الظنون». و «السوافى» كذا فى أ، ج. وفى ش ، ب : «السواف». والسوافى جمع السافى ، وهو الريح التى تسفى التراب أو هو التراب نفسه ، ضربه مثلا لما يبعث الأذى. والسواف : الهلاك ، وقد فسر بهذا فى رسالة الغفران. (نجار).

٤٢٦

ألحد حوى حيّة الملحدين!

ولدن ثرى حال دون الثراء! (١)

فيمن رواه هكذا (حوى حيّة الملحدين) أى قاتل المشركين ، وكذلك قال فى آخر البيت أيضا :

* ولدن ثرى حال دون الثراء*

فجاء به مجىء التجنيس ، وليس على الحقيقة تجنيسا صحيحا. وذلك أن التجنيس عندهم أن يتّفق اللفظان ويختلف أو يتقارب المعنيان ؛ كالعقل ، والمعقل ، والعقلة ، والعقيلة ومعقلة. وعلى ذلك وضع أهل اللغة كتب الأجناس. وليس الثرى من لفظ الثراء على الحقيقة ؛ وذلك أن الثرى ـ وهو الندى ـ من تركيب (ث ر ى) لقولهم : التقى الثريان. وأمّا الثراء ـ لكثرة المال ـ فمن تركيب (ث ر و) ؛ لأنه من الثروة ؛ ومنه الثريّا ؛ لأنها من الثروة لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها ، فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحلّ. ومنه قولهم : ثرونا بنى فلان ، نثروهم ثروة ، إذا كنا أكثر منهم. فاللفظان ـ كما ترى ـ مختلفان ، فلا تجنيس إذا إلا للظاهر. وقد ذكرت هذا الموضع فى كتابى فى شرح المقصور والممدود عن ابن السكيت ، وأن الفرّاء تسمح فى ذكر مثل هذا على اختلاف أصوله ، وأن عذره فى ذلك تشابه اللفظين بعد القلب.

ومن ذلك قولهم : عدد طيس ، وطيسل. فالياء فى طيس أصل ، وتركيبه من (ط ى س) و [هى] فى طيسل زائدة ، وهو من تركيب (ط س ل). ومثله الفيشة ، والفيشلة : حالهما فى ذلك سواء. وذهب سيبويه فى (عنسل) إلى زيادة النون ، وأخذها من قوله :

عسلان الذئب أمسى قاربا

برد الليل عليه فنسل (٢)

__________________

(١) هذا فى مرثية لخالد بن يزيد بن مزيد الشيبانى. وترى «ألحد» و «لدن» مرفوعين ، وهو ما فى الديوان. وفى أصول الخصائص : ألحدا ، ولدن بنصبهما. والوجه ما أثبته. يقول : أيحوى لحد حية الملحدين! يعجب من هذا. والملحدون : الكافرون ، وحيتهم : مهلكهم كما يهلك الحية من لدغه. و «لدن ثرى» فاللدن الناعم ، وهو من إضافة الصفة للموصوف : أى أيحول الثرى ـ وهو هنا تراب القبر ـ دون الغنى والوفر الحالين فيه بحلول المرثى. (نجار).

(٢) البيت من الرمل ، وهو للبيد فى ديوانه ص ٢٠٠ ، ولسان العرب (عسل) ، وتاج العروس ـ

٤٢٧

وذهب محمد بن حبيب فى ذلك إلى أنه من لفظ (العنس) وأن اللام زائدة ، وذهب بها مذهب زيادتها فى ذلك ، وأولالك ، وعبدل وبابه. وقياس قول محمد بن حبيب هذا أن تكون اللام فى فيشلة وطيسل زائدة. وما أراه إلا أضعف القولين ؛ لأن زيادة النون ثانية أكثر من زيادة اللام فى كل موضع ، فكيف بزيادة النون غير ثانية. وهو أكثر من أن أحصره لك.

فهذه طريق تداخل الثلاثى [بعضه فى بعض. فأمّا تداخل الثلاثيّ] والرباعىّ لتشابههما فى أكثر الحروف فكثير ؛ منه قولهم : سبط ، وسبطر. فهذان أصلان لا محالة ؛ ألا ترى أن أحدا لا يدّعى زيادة الراء. ومثله سواء دمث ، ودمثر ، وحبج ، وحبجر (١). وذهب أحمد بن يحيى فى قوله :

* يردّ قلخا وهديرا زغدبا (٢) *

إلى أن الباء زائدة ، وأخذه من زغد البعير يزغد زغدا فى هديره. وقوله : إن الباء زائدة كلام تمجّه الآذان ، وتضيق عن احتماله المعاذير. وأقوى ما يذهب إليه فيه أن يكون أراد أنهما أصلان مقتربان كسبط وسبطر. وإن أراد ذلك أيضا فإنه قد تعجرف. ولكن قوله فى أسكفّة الباب : إنها من استكفّ الشىء أى انقبض أمر لا ينادى (٣) وليده ، روينا ذلك عنه. وروينا عنه أيضا أنه قال فى (تنّور) : إنه تفعول من النار. وروينا عنه أيضا أنه قال : الطيخ : الفساد [قال] : فهو من تواطخ القوم. وسنذكر ذلك فى باب سقطات العلماء بإذن الله.

__________________

(عسل) ، وللنابغة الجعدى فى ديوانه ص ٩٠ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٩٦ ، ١٢ / ٤٢٨ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٣٥ ، ٨٤٢ ، ومقاييس اللغة ٤ / ٣١٤ ، وديوان الأدب ٢ / ١٧٩ ، والمخصص ٧ / ١٢٦ ، ٨ / ٦٨ ، وكتاب العين ١ / ٣٣٣ ، ٧ / ٢٥٧ ، وتاج العروس (نسل) ، ولسان العرب (نسل).

(١) الحبج : المنتفخ السمين. والحبجر أيضا : الغليظ.

(٢) الرجز لرؤبة بن العجاج فى لسان العرب (ددن) ، وتهذيب اللغة ٢ / ٢٤٩ ، وتاج العروس (ببب) ، وليس فى ديوانه ، وللعجاج فى ملحق ديوانه ٢ / ٢٧٠ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٢٢ ، ولسان العرب (زغدب) ، (زغد). القلخ والزغدب : هدير البعير.

(٣) أمر لا ينادى وليده : هذا مثل يضرب للشيء الشديد الذى ينادى فيه العظماء لا الصغار.

٤٢٨

ولكن من الأصلين المتداخلين : الثلاثيّ والرباعىّ قولهم : زرم ، وازرأمّ ، وخضل ، واخضألّ ، وأزهر ، وازهأرّ ، وضفد واضفأدّ ، وزلم القوم ، وازلأمّوا ، وزغب الفرخ ، وازلغبّ. ومنه قولهم : مبلع ، وبلعوم ، وحلق ، وحلقوم ، وشيء صلد ، وصلادم ، وسرطم ، وسرواط. وقالوا للأسد : هرماس ؛ وحدثنا أبو علىّ عن الأصمعىّ أنه قال فى هرماس : إنه (من الهرس). وحدثنا أيضا أنهم يقولون :

لبن فمارص. وقالوا دلاص ، ودلامص ، ودمالص (١). وأنشد ابن الأعرابىّ :

فباتت تشتوى والليل داج

ضماريط استها فى غير نار (٢)

ومن هذا أيضا قولهم : بعير أشدق ، وشدقم.

وينبغى أن يكون جميع هذا من أصلين ثلاثىّ ، ورباعيّ. وهو قياس قول أبى عثمان ؛ ألا تراه قال فى دلامص : إنه رباعيّ ، وافق أكثره حروف الثلاثيّ ؛ كسبط ، وسبطر ، ولؤلؤ ، ولآل. فلؤلؤ رباعيّ ، ولآل ثلاثىّ. وقياس مذهب الخليل بزيادة الميم فى دلامص ، أن تكون الميم فى هذا كله زائدة ، وتكون على مذهب أبى عثمان أصلا ، وتكون الكلم التى اعتقبت هذه الحروف عليها أصلين ، لا أصلا واحدا. نعم ، وإذا جاز للخليل أن يدّعى زيادة الميم حشوا ـ وهو موضع عزيز عليها ـ فزيادتها آخرا أقرب مأخذا ؛ لأنها لمّا تأخّرت شابهت بتطرّفها أوّل الكلمة الذى هو معان لها ومظنّة منها. فقياس قوله فى دلامص : إنه فعامل أن يقول فى دمالص : فماعل ، وكذلك فى قمارص ، وأن يقول فى بلعوم ، وحلقوم : إنه فعلوم ؛ لأن زيادة الميم آخرا أكثر منها أوّلا ؛ ألا ترى إلى تلقّيهم كل واحد من دلقم ، ودردم ، ودقعم ، وفسحم ، وزرقم ، وستهم ، ونحو ذلك بزيادة الميم فى آخره. ولم نر أبا عثمان خالف فى هذا خلافه فى دلامص. وينبغى أن يكون ذلك لأن آخر الكلمة مشابه لأوّلها ، فكانت زيادة الميم فيه أمثل من زيادتها حشوا. فأما ازرأمّ ، واضفأدّ ، ونحو ذلك فلا تكون همزته إلا أصلا ، ولا تحملها على باب

__________________

(١) زرم وازرأم : انقطع. ضفد واضفأد : كان كثير اللحم ثقيلا فى حمق. زلم وازلأموا : أسرعوا. دلاص ودلامص ودمالص : أى برّاق.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للقضم بن مسلم البكائى فى لسان العرب (ضرط) ، ورصف المبانى ص ٣٠٥.

٤٢٩

شأمل ، وشمأل ؛ لقلّة ذلك. وكذلك لام ازلغبّ هى أحرى أن تكون أصلا.

ومن الأصلين الثلاثيّ والرباعىّ المتداخلين قولهم : قاع قرق ، وقرقر ، وقرقوس ، وقولهم : سلس ، وسلسل ، وقلق ، وقلقل. وذهب أبو إسحاق فى نحو قلقل ، وصلصل ، وجرجر ، وقرقر ، إلى أنه فعفل ، وأن الكلمة لذلك ثلاثيّة ، حتى كأن أبا إسحاق لم يسمع فى هذه اللغة الفاشية المنتشرة بزغد ، وزغدب ، وسبط ، وسبطر ، ودمث ، ودمثر ، وإلى قول العجّاج :

* ركبت أخشاه إذا ما أحبجا (١) *

هذا مع قولهم وتر حبجر ؛ للقوىّ الممتلئ. نعم ، وذهب إلى مذهب شاذّ غريب فى أصل منقاد عجيب ؛ ألا ترى إلى كثرته فى نحو زلز ، وزلزل ، ومن أمثالهم (توقّرى يا زلزة) فهذا قريب من قولهم : قد تزلزلت أقدامهم إذا قلقت فلم تثبت. ومنه قلق ، وقلقل ، وهوّة ، وهوهاءة ، وغوغاء ، وغوغاء ؛ لأنه مصروفا رباعيّ ، وغير مصروف ثلاثىّ. ومنه رجل أدرد ، وقالوا : عضّ على دردره ، ودردوره (٢). ومنه صلّ ، وصلصل ، وعجّ ، وعجعج. ومنه عين ثرّة وثرثارة.

وقالوا : تكمكم من الكمّة ، وحثحثت ، وحثّثت ، ورقرقت ، ورقّقت ؛ قال الله تعالى : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) [الشعراء : ٩٤] وهذا باب واسع جدّا ، ونظائره كثيرة : فارتكب أبو إسحاق مركبا وعرا ، وسحب فيه عددا جمّا ، وفى هذا إقدام وتعجرف. ولو قال ذلك فى حرف أو حرفين كما قال الخليل فى دلامص ، بزيادة الميم ، لكان أسهل ؛ لأن هذا شيء إنما احتمل القول به فى كلمة عنده شاذّة ، أو عزيرة النظير. فأمّا الاقتحام بباب منقاد ، فى مذهب متعاد ، ففيه ما قدّمناه ؛ ألا ترى أن تكرير الفاء لم يأت به ثبت إلا فى مرمريس ، وحكى غير صاحب الكتاب أيضا مرمريت ، وليس بالبعيد أن تكون التاء بدلا من السين ، كما أبدلت منها فى ستّ ، وفيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر :

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢ / ٤٥ ، ولسان العرب (حبج) ، (خشى) ، وتهذيب اللغة ٤ / ١٦٣ ، ٧ / ٤٦١ ، وتاج العروس (حبج) ، وكتاب العين ٣ / ٨٦.

(٢) الذى فى اللسان والقاموس الدردور موضع فى وسط البحر يجيش ماؤه ، لا تكاد تسلم السفينة منه الدردر : منبت الأسنان.

٤٣٠

يا قاتل الله بنى السعلات

عمرو بن يربوع شرار النات

غير أعفّاء ولا أكيات (١)

فأبدل السين تاء.

فإن قلت : فإنا نجد للمرمريت أصلا يحتازه إليه وهو المرت (٢) ، قيل : هذا هو الذى دعانا إلى أن قلنا : إنه قد يجوز أن تكون التاء فى مرمريت بدلا من سين مرمريس. ولو لا أن معنا مرتا لقلنا فيه : إن التاء بدل من السين البتّة ، كما قلنا ذلك فى ستّ ، والنات ، وأكيات. فإن قال قائل منتصرا لأبى إسحاق : لا ينكر أن يأتى فى المعتلّ من الأمثلة ما لا يأتى فى الصحيح ؛ نحو سيد وميت ، وقضاة ودعاة ، وقيدودة ، وصيرورة ، وكينونة ، وكذلك يجيء فى المضاعف ما لا يأتى فى غيره من تكرير الفاء. بل إذا كانوا قد كرّروها فى مرمريت ، ومرمريس ، ولم نر فى الصحيح فيعلا ولا فعلة فى جمع فاعل ، ولا فيعلولا مصدرا كان ما ذهب إليه أبو إسحاق من تكرير الفاء فى المضاعف أولى بالجواز ، وأجدر بالتقبّل ، فهو قول ، غير أن الأول أقوى ؛ ألا ترى أن المضاعف (لا ينتهى) فى الاعتلال إلى غاية الياء والواو ، وأن ما أعلّ منه فى نحو ظلت ، ومست ، و (ظنت فى ظننت) ، وتقصّيت ، وتقضّيت ، وتفضّيت من الفضّة ، وتسرّيت من السّرّيّة ، ليس شيء من إعلال ذلك ونحوه بواجب ، بل جميعه لو شئت لصحّحته ، وليس كذلك حديث الياء والواو والألف فى الاعتلال ، بل ذلك فيها فى عامّ أحوالها التى اعتلّت فيها أمر واجب أو مستحسن فى حكم الواجب ، أعنى باب حارىّ ، وطائى وياجل ، وياءس ، وآية فى قول سيبويه. فإن قلت فقد قرأ الأعمش بعذاب بيئس ، فإنما ذاك لأن الهمزة وإن لم تكن حرف علّة فإنها معرّضة للعلّة ، وكثيرة الانقلاب عن

__________________

(١) الرجز لعلباء بن أرقم فى لسان العرب (نوت) ، (سين) ، (تا) ، ونوادر أبى زيد ص ١٠٤ ، وتاج العروس (كيت) ، (نوت) ، (عسل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (أنس) ، (مرس) ، والإنصاف ١ / ١١٩ ، وجمهرة اللغة ص ٨٤٢ ، والحيوان ١ / ١٨٧ ، ٦ / ١٦١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٥٥ ، وسمط اللآلى ص ٧٠٣ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٢١ ، وشرح المفصل ١٠ / ٣٦ ، ٤١ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٠٩ ، والممتع فى التصريف ١ / ٣٨٩ ، ونوادر أبى زيد ص ١٤٧ ، والمخصص ٣ / ٢٦ ، ١٣ / ٢٨٣ ، وتاج العروس (سين).

(٢) المرت : هو المكان لا نبت فيه.

٤٣١

حروف العلّة ، فأجريت (بيئس) عنده مجرى سيّد ، وهيّن ، كما أجريت التجزئة مجرى التعزية فى باب الحذف والتعويض ، وتابع أبو بكر البغداديين فى أن الحاء الثانية فى حثحثت بدل من ثاء ، وأن أصله حثّثت. وكذلك قال فى نحو ثرّة ، وثرثارة : إن الأصل فيها ثرّارة ، فأبدل من الراء الثانية ثاء ، فقالوا : ثرثارة. وكذلك طرد هذا الطرد. وهذا وإن كان عندنا غلطا لإبدال الحرف مما ليس من مخرجه ، ولا مقاربا فى المخرج له فإنه شقّ آخر من القول. ولم يدّع أبو بكر فيه تكرير الفاء ، وإنما هى عين أبدلت إلى لفظ الفاء ، فأمّا أن يدّعى أنها فاء مكررة فلا.

فهذا طريق تزاحم الرباعى مع الثلاثيّ. وهو كثير جدّا فاعرفه ، وتوقّ حمله عليه أو خلطه به ، ومز كلّ واحد منهما عن صاحبه ، وواله دونه ؛ فإن فيه إشكالا. وأنشدنى الشجرىّ لنفسه :

أناف على باقى الجمال ودفّفت

بأنوار عشب مخضئلّ عوازبه

وأما تزاحم الرباعىّ مع الخماسىّ فقليل. وسبب ذلك قلّة الأصلين جميعا ، فلمّا قلا قلّ ما يعرض من هذا الضرب فيهما ؛ إلا أن منه قولهم : ضبغطى ، وضبغطرى (١) ، وقوله أيضا :

* قد دردبت والشيخ دردبيس (٢) *

ف (دردبت) رباعيّ و (دردبيس) خماسىّ. ولا أدفع أن يكون استكره نفسه على أن بنى من (دردبيس) فعلا فحذف خامسه ؛ كما أنه لو بنى من سفرجل فعلا عن ضرورة لقال : سفرج.

* * *

__________________

(١) الضبغطى والضبغطرى : كلمة يفزع بها الصبيان.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (دردب) ، (دردبس) ، وتاج العروس (دردبس) ، والمخصص ١ / ٤٥. الدردبة : الخضوع والذل. والدردبيس : الشيخ الكبير.

٤٣٢

باب فى (المثلين) : كيف حالهما فى الأصلية والزيادة

 وإذا كان أحدهما زائدا فأيهما هو؟

اعلم أنه متى اجتمع معك فى الأسماء والأفعال حرف أصل ومعه حرفان مثلان لا غير فهما أصلان ، متّصلين كانا أو منفصلين. فالمتّصلان نحو الحفف ، والصدد ، والقصص ، وصببت ، وحللت ، وشددت ، وددن ، ويين. وأمّا المنفصلان فنحو دعد ، وتوت ، وطوط ، وقلق ، وسلس. وكذلك إن كان هناك زائد فالحال واحدة ؛ نحو حمام ، وسمام ، وثالث ، وسالس ؛ روينا عن الفرّاء قول الراجز :

ممكورة غرثى الوشاح السالس

تضحك عن ذى أشر غضارس (١)

وكذلك كوكب ، ودودح. وليس من ذلك دؤادم ؛ لأنه مهموز.

وكذلك إن كان هناك حرفان تسقطهما الصنعة جريا فى ذلك مجرى الحرف الواحد (كألف حمام وسمام ، وواو كوكب ودودح) وذلك ألندد ، ويلندد ؛ يوضّح ذلك الاشتقاق فى ألندد ؛ لأنه هو الألدّ. وأمّا ألنجج فإنّ عدّة حروفه خمسة ، وثالثه نون ساكنة ، فيجب أن يحكم بزيادتها فتبقى أربعة ؛ فلا يخلو حينئذ أن يكون مكرر اللام ؛ كباب قعدد وشربب ، أو مزيدة فى أوّله الهمزة ؛ كأحمر ، وأصفر ، وإثمد. وزيادة الهمزة أوّلا أكثر من تكرير اللام آخرا. فعلى ذلك ينبغى أن يكون العمل. فتبقى الكلمة من تركيب (ل ج ج) ، (فمثلاها إذن أصلان) وكذلك يلنجج ؛ لأن الياء فى ذلك كالهمزة ؛ كما قدّمناه. فمثلا ألنجج ويلنجج أصلان كمثلى ألندد ويلندد.

فهذه أحكام المثلين إذا كان معهما أصل واحد فى أنهما أصلان لا محالة.

فأمّا إذا كان معك أصلان ومعهما حرفان مثلان فعلى أضرب : منها أن يكون هناك تكرير على تساوى حال الحرفين. فإذا كانا كذلك كانت الكلمة كلها أصولا ،

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (سلس) ، (عطمس) ، (غضرس) ، وديوان الأدب ٢ / ٥٨. السالس: السلس اللين. غضارس : بارد عذب.

٤٣٣

وذلك نحو قلقل ، وصعصع ، وقرقر ، فالكلمة إذا لذلك رباعية. وكذلك إن اتفق الأوّل والثالث ، واختلف الثانى والرابع ؛ فالمثلان أيضا أصلان. وذلك نحو فرفخ وقرقل ، وزهزق ؛ وجرجم (١). وكذلك إن اتفق الثانى والرابع ؛ واختلف الأوّل والثالث ؛ نحو كربر (٢) ، وقسطاس ، وهزنبزان ، وشعلّع ، فالمثلان أيضا أصلان.

وكلّ ذلك أصل رباعيّ. وكذلك إن اتفق الأوّل والرابع ، واختلف الثانى والثالث ؛ فالمثلان أصلان ، والكلمة أيضا من بنات الأربعة. وذلك نحو قربق ، وصعفصة (٣) [وسلعوس]. وكذلك إن اتفق الأوّل والثانى ، واختلف الثالث والرابع ، فالمثلان أصلان ، والكلمة أيضا رباعيّة. وذلك نحو ديدبون ، وزيزفون (٤) : هما رباعيّان ؛ كباب ددن وكوكب فى الثلاثة. ومثالهما (فيعلول) كخيسفوج ، وعيضموز. فهذه حال الرباعىّ.

وكذلك أيضا إن حصل معك ثلاثة أحرف أصول ، ومعهما مثلان غير ملتقيين ، فهما أيضا أصلان ، وذلك كقولهم زبعبق ، وشمشليق ، وشفشليق.

فهذه هى الأصول التى يكون فيها المثلان أصلين. وما علمنا أنّ وراء ما حضرنا وأحضرناه منها مطلوبا فيتعب بالتماسه وتطلّبه.

فأمّا متى يكون أحد المثلين زائدا فهو أن يكون معك حرفان أصلان من بعدهما حرفان مثلان ، فأحدهما زائد. وسنذكر أيّهما هو الزائد عقيب الفراغ من تقسيم ذلك. وذلك كمهدد ، وسردد ، وجلبب ، وشملل ، وصعرر ، واسحنكك ، واقعنسس. وكذلك إن كان معك حرفان أصلان بينهما حرفان مثلان ، فأحد المثلين أيضا زائد. وذلك نحو سلّم ، وقلّف ، وكسّر ، وقطّع. وكذلك إن فصل بين المثلين المتأخّرين عن الأصلين المتقدّمين ، أو المتوسّطين بينهما زائد ؛ فالحال واحدة.

__________________

(١) يقال صعصع القوم : فرّقهم. فرفخ : هو نبات الرجلة. قرقل : هو قميص للنساء. زهزق : أكثر من الضحك. وجرجم الشراب : شربه.

(٢) فى القاموس واللسان أن ابن جنى ذكره ولم يفسره ، ويقول صاحب القاموس : «وعندى ، أنه تصحيف والصواب بالزاى آخره» وهو يريد الكربز وهو القثاء الكبار.

(٣) قربق : هو دكان البقال. صعفصة : هو السّكباج ، وهو لحم يطبخ بخل.

(٤) الديدبون : اللهو. يقال ناقة زيزفون : سريعة.

٤٣٤

وذلك نحو قردود ، وسحتيت ، وصهميم. وقرطاط ، وصفنات (١) ، (وعثوثل) ، (واعشوشب ، واخلولق).

فهذا حكم المثلين يجيئان مع الأصلين.

وكذلك إن جاءا بعد الثلاثة الأصول ؛ وذلك نحو قفعدد ، وسبهلل ، وسبحلل ، وهرشفّ ، وعربدّ ، وقسحبّ ، وقسقبّ ، وطرطبّ.

وكذلك إن التقى المثلان حشوا ؛ وذلك نحو علّكد ، وهلّقس ، ودبّخس ، وشمّخر ، وضمّخر ، وهمّقع ، وزمّلق ، وشعلّع ، وهملّع ، وعدبّس ، وعجنّس (٢).

وكذلك إن حجز بين المثلين زائد. وذلك نحو جلفزيز ، وهلبسيس ، وخربصيص ، وحندقوق. فهذه الكلم كلها رباعية الأصل ، وأحد مثليها زائد.

فأما همّرش فخماسىّ ، وميمه الأولى نون ، وأدغمت فى الميم لمّا لم يخف هناك لبس ؛ ألا ترى أنه ليس فى بنات الأربعة مثال (جعّفر) فيلتبس به همّرش.

ولو حقّرت (همّرشا) لقلت (هنيمر) فأظهرت نونها لحركتها. وكذلك لو استكرهت على تكسيرها لقلت (هنامر). ونظير إدغام هذه النون إذا لم يخافوا لبسا قولهم امّحى ، وامّاز ، وامّاع. ولما لم يكن فى الكلام (افّعل) علم أنّ هذا انفعل ؛ قال أبو الحسن : ولو أردت مثال انفعل من رأيت ولحزت لقلت : ارّأى ، والحزّ.

فإن قلت : فما تقول فى مثل عذوّر ، وسنّور ، واعلوّط ، واخروّط ، وهبيّخ ، وهبيّغ ، وجبروّة ، وسمعنّة ، ونظرنّة ، وزونّك ، فيمن أخذه من زاك يزوك ـ وعليه حمله أبو زيد لأنه صرّف فعله عقيبه معه ـ فإنّ هذا سؤال ساقط عنا ؛ وذلك أنا إنما كلامنا على ما أحد مثليه زائد ليذكر فيما بعد. فأمّا ما مثلاه جميعا زائدان فليس فيه كلام ولا توقّف فى القطع (بزائديه معا).

__________________

(١) قردود : هو ما ارتفع من الأرض وغلظ. صهميم : من معانيه السيد الشريف. قرطاط : هو كالبردعة يوضع تحت السّرج. صفنات : هو الجسم الشديد.

(٢) القفعدد : القصير. سبحلل : ضخم. قسحبّ : هو الضخم. قسقب : الضخم. طرطب : هو الثدى الضخم المسترخى. علكد : هو الغليظ الشديد العنق. هلقس : من معاينة الجوع الشديد شمخر : هو المتكبر. ضمخر : المتكبر أيضا. عجنس : هو الجمل الضخم.

٤٣٥

فإن قيل : فهذا ؛ ولكن ما تقول فى صمحمح ، ودمكمك ، وبابهما؟ قيل : هذا فى جملة ما عقدناه ؛ ألا ترى أن معك فى أوّل المثال الصاد ، والميم ، وهما لفظ أصلين ثم تكرّر كلّ واحد من الثانى والثالث فصار عود الثانى ملحقا له بباب (فعل) وعود الثالث ملحقا له بباب (فعلل) فقد ثبت أن كل واحد من الحرفين الثانى والثالث قد عاد عليه نفس لفظه كما عاد على طاء (قطّع) لفظها ، وعلى دال (قعدد) أيضا لفظها. فباب (فعلعل) ونحوه أيضا ثلاثىّ ؛ كما أن كل واحد من (سلّم) و (قطّع) و (قعدد) و (شملل) ثلاثى. وهذا أيضا جواب من سأل عن مرمريس ومرمريت سؤاله عن صمحمح ، ودمكمك ؛ لأن هذين أوّلا كذينك آخرا.

الآن قد أتينا على أحكام المثلين : متى يكونان أصلين ، ومتى يكون أحدهما زائدا ، بما لا تجده متقصّى متحجّرا فى غير كلامنا هذا.

وهذا أوان القول على الزائد منهما إذا اتفق ذلك أيّهما هو.

فمذهب الخليل فى ذلك أن الأوّل منهما هو الزائد ؛ ومذهب يونس ـ وإياه كان يعتمد أبو بكر ـ أن الثانى منهما هو الزائد. وقد وجدنا لكل من القولين مذهبا ، واستوسعنا له بحمد الله مضطربا. فجعل الخليل الطاء الأولى من قطّع ونحوه كواو حوقل ، وياء بيطر ؛ وجعل يونس الثانية منه كواو جهور ، ودهور (١). وجعل الخليل باء جلبب الأولى كواو جهور ، ودهور ؛ وجعل يونس الثانية كياء سلقيت ، وجعبيت. وهذا قدر من الحجاج مختصر ، وليس بقاطع ، وإنما فيه الأنس بالنظير ، لا القطع باليقين. ولكن من أحسن ما يقال فى ذلك ما كان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ يحتجّ به لكون الثانى هو الزائد قولهم : اقعنسس ، واسحنكك ؛ قال : ووجه الدلالة من ذلك أن نون افعنلل بابها إذا وقعت فى ذوات الأربعة أن تكون بين أصلين ؛ نحو احرنجم ، واخرنطم. واقعنسس ملحق بذلك ؛ فيجب أن يحتذى به طريق ما ألحق بمثاله. فلتكن السين الأولى أصلا كما أن الطاء المقابلة لها من (اخرنطم) أصل. وإذا كانت السين الأولى من اقعنسس أصلا كانت الثانية الزائدة ، من غير ارتياب ولا شبهة. وهذا فى معناه سديد حسن جار على أحكام

__________________

(١) جهور : اسم موضع. دهوره : قذفه فى مهواة.

٤٣٦

هذه الصناعة. ووجدت أنا أشياء فى هذا المعنى يشهد بعضها لهذا المذهب ، وبعضها لهذا المذهب. فمما يشهد لقول يونس قول الراجز :

بنى عقيل ماذه الخنافق!

المال هدى ، والنساء طالق (١)

فالخنافق جمع خنفقيق ، وهى الداهية. ولن تخلو القاف المحذوفة أن تكون الأولى أو الثانية ؛ فيبعد أن تكون الأولى ؛ لأنه لو حذفها لصار التقدير به فى الواحد إلى (خنفيق) ولو وصل إلى ذاك لوقعت الياء رابعة فيما عدّته خمسة ، وهذا موضع يثبت فيه حرف اللين بل يجتلب إليه تعويضا أو إشباعا. فكان يجب على هذا خنافيق. فلمّا لم يكن كذلك علمت أنه إنما حذف القاف الثانية فبقى (خنفقى) فلمّا وقعت الياء خامسة حذفت فبقى (خنفق) فقيل فى تكسيره خنافق.

فإن قلت : ما أنكرت أن يكون حذف القاف الأولى فبقى (خنفيق) وكان قياس تكسيره خنافيق ؛ غير أنه اضطرّ إلى حذف الياء ؛ كضرورته إلى حذفها فى قوله :

* والبكرات الفسّج العطامسا (٢) *

قيل : الظاهر غير هذا ، وإنما العمل على الظاهر لا على المحتمل. فإذا صحّ أنه إنما حذف الثانية علمت أنها هى الزائدة دون الأولى. ففى هذا بيان وتقوية لقول يونس.

ويقوّى قوله أيضا أنهم لمّا ألحقوا الثلاثة بالأربعة فقالوا مهدد ، وجلبب ، بدءوا باستعمال الأصلين ، وهما الميم ، والهاء ، والجيم واللام ، فهذان أصلان لا محالة.

فكما تبعت الهاء الميم والهاء أصل كما أن الميم أصل ، فكذلك يجب أن تكون

__________________

(١) «والنساء طالق» ، كذا بإفراد الخبر ، وكأنه ذهب إلى أنه يريد : كل امرأة طالق. ولو قال : والنساء طوالق ؛ لاستغنى عن هذا.

(٢) الرجز لغيلان بن حريث الربعى فى شرح شواهد الإيضاح ص ٥٩٨ ، والكتاب ٣ / ٤٤٥ ، والدرر ٦ / ٢٤٣ ، ولسان العرب (ظبظب) ، (فسج) (وعع) ، (صرف) ، (حمم) ، (غنم) ، (دهده) ، (عدا) ، والمحتسب ١ / ٩٤ ، ٣٠٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧ ، وتاج العروس (فسج) ، والمخصص (٤ / ٤٧ ، ٧ / ٦١ ، ١٣٨). البكرات جمع البكرة وهى الناقة الفتية. والفسّج : جمع فاسج وهى الحائل السمينة. والعطامس : جمع العطيموس ، وهى الناقة الحسناء ، والقياس العطاميس ؛ فحذف الياء. انظر اللسان (عطمس).

٤٣٧

الدال الأولى أصلا لتتبع الهاء التى هى أصل. فكما لا يشكّ أن الهاء أصل تبع أصلا ، فكذلك ينبغى أن تكون الدال الأولى أصلا تبعت أصلا ، من حيث تساوت أحوال الأصول الثلاثة ؛ وهى الفاء والعين واللام. فلمّا استوفيت الأصول الثلاثة المقابل بها من (جعفر) الأصول الأول الثلاثة وبقيت هناك بقيّة من الأصل الممثّل ـ وهى اللام الثانية التى هى الراء ـ استؤنفت لها لام ثانية مكررة ، وهى الدال الثانية. نعم وإذا كانت اللام الثانية من الرباعىّ مشابهة بتجاوزها الثلاثة للزائد كان الحرف المكرر الذى هو أحد حرفين أحدهما زائد لا محالة إذا وقع هناك هو الزائد لا محالة.

فهذا كله ـ كما ترى ـ شاهد بقوّة قول يونس.

فأمّا ما يشهد للخليل فأشياء. منها ما جاء من نحو فعوعل ، وفعيعل ، وفعنلل ، وفعاعل ، وفعاعيل ؛ نحو غدودن ، وخفيدد ، وعقنقل ، وزرارق ، وسخاخين (١).

وذلك أنك قد علمت أن هذه المثل التى تكررت فيها العينان إنما يتقدّم على الثانية منهما الزائد لا محالة ؛ أعنى واو فعوعل ، وياء فعيعل ، ونون فعنلل ، وألف فعاعل وفعاعيل. فكما أنهما لمّا اجتمعا فى هذه المثل ما قبل الثانية زائد لا محالة ، فكذلك ينبغى أن يكونا إذا التقيا غير مفصول بينهما فى نحو فعّل ، وفعّل ، وفعّال ، وفعّال ، وفعّيل ، وما كان نحو ذلك : الزائدة منهما أيضا هى الأولى ؛ لوقوعها موقع الزوائد مع التكرير فيهما لا محالة. فكما لا يشكّ فى زيادة ما قبل العين الثانية فى فعوعل ، وبابه ، فكذلك ينبغى ألا يشكّ فى زيادة ما قبل العين الثانية ممّا التقت عيناه ؛ نحو فعّل ، وفعّل ، وبقيّة الباب. وهذا واضح.

فإن عكس عاكس هذا فقال : إن كان هذا شاهدا لقول الخليل عندك كان هو أيضا نفسه شاهدا لقول يونس عند غيرك. وذلك أن له أن يقول : قد رأينا العينين فى بعض المثل إذا التقتا مفصولة إحداهما من الأخرى فإن ما بعد الأولى منهما زائد لا محالة ، ويورد هذه المثل عينها ؛ نحو عثوثل ، وخفيدد ، وعقنقل ، وبقيّة الباب ، فيقول لك : فكما أنّ ما بعد العين الأولى منها زائد لا محالة ، فليكن أيضا ما بعد العين الأولى فى فعّل ، وفعّل ، وبقيّة الباب هو الزائد لا محالة.

__________________

(١) يقال شاب غدودن : ناعم. خفيدد : هو السريع. ماء سخاخين : حارّ.

٤٣٨

فالجواب أنّ هذه الأحرف الزوائد فى فعوعل ، وفعيعل ، [وفعنلل] وبقيّة الباب أشبه بالعين الأولى منها بالعين الآخرة ، وذلك لسكونها ، كما أن العينين إذا التقتا فالأولى منهما ساكنة لا غير ؛ نحو فعّل ، وفعّل ، وفعّيل وبقيّة الباب. ولا نعرف فى الكلام عينين التقتا والأولى منهما متحركة ؛ ألا ترى أنك لا تجد فى الكلام نحو فععل ، ولا فععل ، ولا فععل ولا شيئا من هذا الضرب لم نذكره. فإذا كان كذلك علمت أن واو (فعوعل) لسكونها أشبه بعين (فعّل) الأولى لسكونها أيضا منها بعينها الثانية لحركتها ، فاعرف ذلك فرقا ظاهرا.

ومنها أن أهل الحجاز يقولون للصوّاغ : الصّيّاغ ، فيما رويناه عن الفرّاء ؛ وفى ذلك دلالة على ما نحن بسبيله. ووجه الاستدلال منه أنهم كرهوا التقاء الواوين ـ لا سيّما فيما كثر استعماله ـ فأبدلوا الأولى من العينين ياء ـ كما قالوا فى أمّا : (أيما) ونحو ذلك ـ فصار تقديره : الصّيواغ ، فلما التقت الواو والياء على هذا أبدلوا الواو للياء قبلها ، فقالوا (الصّيّاغ). فإبدالهم العين الأولى من الصوّاغ دليل على أنها هى الزائدة ؛ لأن الإعلال بالزائد أولى منه بالأصل.

فإن قلت : فقد قلبت العين الثانية أيضا فقلت (صيّاغ) فلسنا نراك إلا وقد أعللت العينين جميعا ، فمن جعلك بأن تجعل الأولى هى الزائدة دون الآخرة ، وقد انقلبتا جميعا؟

قيل قلب الثانية لا يستنكر ؛ لأنه كان عن وجوب (وذلك) لوقوع الياء ساكنة قبلها ، فهذا غير بعيد ولا معتذر منه ؛ لكن قلب الأولى ـ وليس هناك علّة تضطرّ إلى إبدالها أكثر من الاستخفاف مجرّدا ـ هو المعتدّ المستنكر المعوّل عليه المحتجّ به ، فلذلك اعتمدناه ، وأنشأنا الاحتجاج للخليل عنه ؛ إذ كان تلعّبا بالحرف من غير قوّة سبب ، ولا وجوب علّة. فأمّا ما يقوى سببه ويتمكّن حال الداعى إليه فلا عجب منه ، ولا عصمة للحرف ـ وإن كان أصليّا ـ دونه. وإذا كان الحرف زائدا كان بالتلعّب به قمنا.

واذكر قول الخليل وسيبويه فى باب مقول ومبيع ، و [أن] الزائد عندهما هو المحذوف ، أعنى واو مفعول ؛ من حيث كان الزائد أولى بالإعلال من الأصل.

فإن قلت : فما أنكرت أن يكونوا إنما أبدلوا العين الثانية فى صوّاغ دون

٤٣٩

الأولى ، فصار التقدير به إلى صوياغ ، ثم وقع التغيير فيما بعد؟

قيل : يمنع من ذلك أن العرب إذا غيّرت كلمة عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم. وذلك أنك تحتاج إلى أن تنيب شيئا عن شيء ، فأولى أحوال الثانى بالصواب أن يشابه الأوّل. ومن مشابهته له أن يوافق أمثلة القوم ، كما كان المناب عنه مثالا من مثلهم أيضا ؛ ألا ترى أن الخليل لمّا رتّب أمر أجزاء العروض المزاحفة ، فأوقع للزحاف مثالا مكان مثال عدل عن الأوّل المألوف الوزن إلى آخر مثله فى كونه مألوفا ، وهجر ما كان بقّته صنعة الزحاف من الجزء المزاحف مما كان خارجا عن أمثلة لغتهم ..

وذلك أنه لمّا طوى (١) (مس تف علن) فصار إلى (مس تعلن) ثناه إلى مثال معروف وهو (مفتعلن) لمّا كره (مستعلن) إذ كان غير مألوف ولا مستعمل. وكذلك لمّا ثرم (٢) (فعولن) فصار إلى (عول) وهو مثال غير معروف ، عدله إلى (فعل).

وكذلك لمّا خبل (٣) (مستفعلن) فصل إلى (متعلن) فاستنكر ما بقى منه ، جعل خالفة الجزء (فعلتن) ليكون ما صير إليه مثالا مألوفا ، كما كان ما انصرف عنه مثالا مألوفا.

ويؤكّد ذلك عندك أن الزحاف إذا عرض فى موضع فكان ما يبقى بعد إيقاعه مثالا معروفا لم يستبدل به غيره. وذلك كقبضه (٤) (مفاعيلن) إذا صار إلى (مفاعلن) ، وككفّه (٥) أيضا لمّا صار إلى (مفاعيل) فلمّا كان ما بقى عليه الجزء بعد زحافه مثالا غير مستنكر أقرّه على صورته ولم يتحشّم تصوير مثال آخر [غيره] عوضا منه ، وإنما أخذ الخليل بهذا لأنه أحزم ، وبالصنعة أشبه.

فكذلك لمّا أريد التخفيف فى صوّاغ أبدل الحرف الأول فصار من (صيواغ) إلى لفظ (فيعال) كغيداق وخيتام. ولو أبدل الثانى لصار (صوياغ) إلى لفظ (فعيال) ،

__________________

(١) الطىّ من أضرب الزحاف. وهو حذف الساكن الرابع من التفعيلة. وهو هنا الفاء.

(٢) الثرم فى (فعولن) : حذف فائه ـ ويسمى خرما ـ مع حذف نونه ـ ويسمى قبضا.

(٣) الخبل فى (مستفعلن) : حذف تائه بالخبن ، مع حذف فائه بالطى.

(٤) القبض : حذف الخامس الساكن ، وهو فى (مفاعيلن) حذف الياء.

(٥) الكف : سقوط السابع الساكن. وهو فى (مفاعيلن) : حذف النون.

٤٤٠