الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

باب فى العربى الفصيح ينتقل لسانه

اعلم أن المعمول عليه فى نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه. فإن كان إنما انتقل من لغته إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التى انتقل إليها ، كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها ، حتى كأنه إنما حضر غائب من أهل اللغة التى صار إليها ، أو نطق ساكت من أهلها.

فإن كانت اللغة التى انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها [ويؤخذ بالأولى] ، حتى كأنه لم يزل من أهلها. وهذا واضح.

فإن قلت : فما يؤمنك أن تكون كما وجدت فى لغته فسادا بعد أن لم يكن فيها فيما علمت ، أن يكون فيها فساد آخر فيما لم تعلمه. فإن أخذت به كنت آخذا بفاسد عروض (١) ما حدث فيها من الفساد فيما علمت ، قيل هذا يوحشك من كل لغة صحيحة ؛ لأنه يتوجه منه أن تتوقّف عن الأخذ بها ؛ مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن ، ويجوز أن تعلمه بعد زمان ، كما علمت من حال غيرها فسادا حادثا لم يكن فيما قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك منه ألا تطيب نفسا بلغة ، وإن كانت فصيحة مستحكمة. فإذا كان أخذك بهذا مؤدّيا إلى هذا رفضته ولم تأخذ به ، وعملت على تلقّى كل لغة قويّة معربة بقبولها واعتقاد صحتها. وألا توجّه ظنّة إليها ، ولا تسوء رأيا فى المشهود تظاهره من اعتدال أمرها. وذلك كما يحكى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبى خيرة لمّا سأله فقال : كيف تقول استأصل الله عرقاتهم ، ففتح أبو خيرة التاء ، فقال له أبو عمرو : هيهات أبا خيرة لان جلدك! فليس لأحد أن يقول : كما فسدت لغته فى هذا ينبغى أن أتوقف عنها فى غيره (لما حذرناه) قبل ووصفنا.

فهذا هو القياس ، وعليه يجب أن يكون العمل.

* * *

__________________

(١) العروض : الطريقة والناحية ، والعروض أيضا : النظير.

٤٠١

باب فى العربى يسمع لغة غيره

أيراعيها ويعتمدها أم يلغيها ويطرح حكمها؟

أخبرنا أبو على عن أبى بكر عن أبى العباس عن أبى عثمان عن أبى زيد قال : سألت خليلا (١) عن الذين قالوا : مررت بأخواك ، وضربت أخواك ، فقال : هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا فى ييأس : ياءس ؛ أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها. قال (يعنى الخليل) : ومثله قول العرب من أهل الحجاز : (يا تزن وهم يا تعدون ، فرّوا من يوتزن ويوتعدون). فقوله : أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها يحتمل أمرين : أحدهما أن يكون يريد : أبدلوا الياء فى ييأس ؛ والآخر : أبدلوا الياء فى أخويك ألفا.

وكلاهما يحتمله القياس هاهنا ؛ ألا ترى أنه يجوز أن يريد أنهم أبدلوا ياء أخويك فى لغة غيرهم ممن يقولها بالياء ، وهم أكثر العرب ، فجعلوا مكانها ألفا فى لغتهم ؛ استخفافا للألف ؛ فأمّا فى لغتهم هم فلا. وذلك أنهم هم لم ينطقوا قطّ بالياء فى لغتهم فيبدلوها ألفا ولا غيرها. ويؤكّد ذلك عندك أن أكثر العرب يجعلونها فى النصب والجرّ ياء. فلمّا كان الأكثر هذا شاع على أسماع بلحارث ، فراعوه ، وصنعوا لغتهم فيه ، ولم تكن الياء فى التثنية شاذّة ولا دخيلة فى كلام العرب فيقلّ الحفل بها ، ولا ينسب بلحارث إلى أنهم راعوها ، أو تخيروا للغتهم عليها.

فإن قلت : فلعلّ الخليل يريد أن من قال : مررت بأخواك قد كان مرّة يقول : مررت بأخويك (كالجماعة) ثم رأى (فيما) بعد أن قلب هذه الياء ألفا للخفة أسهل عليه وأخفّ ، كما قد تجد العربىّ ينتقل لسانه من لغته إلى لغة أخرى ، قيل : إن الخليل إنما أخرج كلامه على ذلك مخرج التعليل للغة من نطق بالألف فى موضع جرّ التثنية ونصبها ، لا على الانتقال من لغة إلى أخرى. وإذا كان قولهم : مررت بأخواك معلّلا عندهم بالقياس فكان ينبغى أن يكونوا قد سبقوا إلى ذلك منذ أوّل أمرهم ؛ لأنهم لم يكونوا قبلها على ضعف قياس ثم تداركوا أمرهم فيما بعد ،

__________________

(١) يعنى : الخليل بن أحمد.

٤٠٢

فقوى قياسهم. وكيف كانوا يكونون فى ذلك على ضعف من القياس ، والجماعة عليه! أفتجمع كافّة اللغات على ضعف ونقص ، حتى ينبغ نابغ منهم فيردّ لسانه إلى قوّة القياس دونهم! نعم ، ونحن أيضا نعلم أن القياس مقتض لصحّة لغة الكافّة ، وهى الياء فى موضع الجرّ والنصب ؛ ألا ترى أن فى ذلك فرقا بين المرفوع وبينهما ، وهذا هو القياس فى التثنية ، كما كان موجودا فى الواحد. ويؤكّده لك أنا نعتذر لهم من مجيئهم بلفظ المنصوب فى التثنية على لفظ المجرور. وكيف يكون القياس أن تجتمع أوجه الإعراب الثلاثة على صورة واحدة! وقد ذكرت هذا الموضع فى كتابى فى (سرّ الصناعة) بما هو لاحق بهذا الموضع ومقوّ له.

فقد علمت بهذا أن صاحب لغة قد راعى لغة غيره. وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيرا منتشرين ، وخلقا عظيما فى أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين ، فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة فى دار واحدة.

فبعضهم يلاحظ [صاحبه] ويراعى أمر لغته ، كما يراعى ذلك من مهمّ أمره. فهذا هذا.

وإن كان الخليل أراد بقوله : تقلب الياء ألفا : أى فى ييأس ، فالأمر أيضا عائد إلى ما قدّمنا ؛ ألا ترى أنه إذا شبّه مررت بأخواك بقولهم : ييأس وياءس ، فقد راعى أيضا فى مررت بأخواك لغة من قال : مررت بأخويك. فالأمران إذا صائران إلى موضع واحد. ولهذا نظائر فى كلامهم ، وإنما أضع منه رسما ليرى به غيره بإذن الله.

وأجاز أبو الحسن أن يكون كانت العرب قدما تقول : مررت بأخويك وأخواك جميعا ، إلا أن الياء كانت أقيس للفرق ، فكثر استعمالها ، وأقام الآخرون على الألف ، أو أن يكون الأصل قبله الياء فى الجرّ والنصب ، ثم قلبت للفتحة قبلها ألفا فى لغة بلحارث بن كعب. وهذا تصريح بظاهر قول الخليل الذى قدّمناه.

ولغتهم عند أبى الحسن أضعف من (هذا جحر ضبّ خرب) قال : لأنه قد كثر عنهم الإتباع ؛ نحو شدّ وضرّ وبابه ، فشبّه هذا به.

ومن هذا حذف بنى تميم ألف (ها) من قولهم (هلمّ) لسكون اللام فى لغة أهل

٤٠٣

الحجاز ، إذا قالوا (المم) وإن لم يقل ذلك بنو تميم ، أو أن يكونوا حذفوا الألف لأن أهل الحجاز حذفوها. [و] أيّاما كان فقد نظر فيه بنو تميم إلى أهل الحجاز.

ومن ذلك قول بعضهم فى الوقف (رأيت رجلأ) بالهمزة. فهذه الهمزة بدل من الألف فى الوقف فى لغة من وقف بالألف ، لا فى لغته هو ؛ لأن من لغته هو أن يقف بالهمزة. أفلا تراه كيف راعى لغة غيره ، فأبدل من الألف همزة.

* * *

٤٠٤

باب فى الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع

سألت أبا علىّ رحمه‌الله فقلت : من أجرى المضمر مجرى المظهر فى قوله (أعطيتكمه) فأسكن الميم مستخفّا ، كما أسكنها فى قوله : أعطيتكم درهما ، كيف قياس قوله (على قول الجماعة) (١) : أعطيته درهما إذا أضمر الدرهم ، على قول الشاعر :

له رجل كأنّه صوت حاد

إذا طلب الوسيقة أو زمير (٢)

إذا وقع ذلك قافية؟ فقال : (لا يجوز ذلك) فى هذه المسألة ، وإن جاز فى غيرها ، لا لشيء يرجع إلى نفس حذف الواو من قوله : (كأنه صوت حاد) لأن هذا أمر قد شاع عنهم ، وتعولمت فيه لغتهم ، بل لقرينة انضمّت إليه ليست مع ذلك ؛ ألا ترى أنه كان يلزمك على ذلك أن تقول : أعطيتهه ، خلافا على قول الجماعة : أعطيتهوه. فإن جعل الهاء الأولى رويّا ، والأخرى وصلا ، لم يجز ذلك ؛ لأن الأولى ضمير والتاء متحركة قبلها ، وهاء الضمير لا تكون رويّا ، إذا تحرّك ما قبلها. فإن قلت : أجعل الثانية رويّا ، فكذلك أيضا ؛ لأن الأولى قبلها متحرّكة. فإن قلت : أجعل التاء رويّا ، والهاء الأولى وصلا ، قيل : فما تصنع بالهاء الثانية؟ أتجعلها خروجا؟ هذا محال ؛ لأن الخروج لا يكون إلا أحد الأحرف الثلاثة : الألف والياء والواو. فإذا أدّاك تركيب هذه المسألة فى القافية إلى هذا الفساد وجب ألا يجوز ذلك أصلا. فأما فى غير القافية فشائعة جائزة. هذا محصول معنى أبى علىّ ، فأمّا نفس لفظه فلا يحضرنى الآن حقيقة صورته.

وإذا كان كذلك وجب إذا وقع نحو هذا قافية أن تراجع فيه اللغة الكبرى ،

__________________

(١) قال الأستاذ : محمد على النجار فى (ط) هذه العبارة فى الأصول ، وهى قلقة فى هذا المكان ، ولو حذفت وضح المراد ، وقد يكون الأصل : «على خلاف قول الجماعة».

(٢) البيت من الوافر ، وهو للشماخ فى ديوانه ص ١٥٥ ، والدرر ١ / ١٨١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٣٧ ، والكتاب ١ / ٣٠ ، ولسان العرب (ها) ، وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٥٦١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٧٩ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٨٨ ، ٥ / ٢٧٠ ، ٢٧١ ، ولسان العرب (زجل) ، والمقتضب ١ / ٢٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٩.

٤٠٥

فيقال : أعطيتهوه البتّة ، فتكون الواو ردفا ، والهاء بعدها رويّا (وجاز أن يكون بعد الواو رويّا) ؛ لسكون ما قبلها.

ومثل ذلك فى الامتناع أن تضمر زيدا من قولك : هذه عصا زيد على قول من قال :

وأشرب الماء ما بى نحوه عطش

إلا لأنّ عيونه سيل واديها (١)

لأنه كان يلزمك على هذا أن تقول : هذه عصاه ، فتجمع بين ساكنين فى الوصل ، فحينئذ ما تضطرّ إلى مراجعة لغة من حرّك الهاء فى نحو هذا بالضمة وحدها ، أو الضمة والواو بعدها ، فتقول : هذه عصاه فاعلم ، أو عصا هو فاعلم ، على قراءة من قرأ «خذوهو فغلّوهو» [الحاقة : ٣٠] و «فألقى عصاهو» [الشعراء : ٣٢] ونحوه.

ونحو من ذلك أن يقال لك : كيف تضمر (زيدا) من قولك : مررت بزيد وعمرو ، فلا يمكنك أن تضمره هنا ، والكلام على هذا النضد حتى تغيّره فتقول :

مررت به وبعمرو ، فتزيد حرف الجرّ ؛ لما أعقب الإضمار من العطف على المضمر المجرور ، بغير إعادة الجارّ.

وكذلك لو قيل لك : كيف تضمر اسم الله تعالى ، فى قولك : والله لأقومنّ ونحوه ، لم يجز لك ، حتى تأتى بالباء التى هى الأصل ، فتقول : به لأقومنّ ؛ كما أنشده أبو زيد من قول الشاعر :

ألا نادت أمامة باحتمال

لتحزننى فلا بك ما أبالى (٢)

وكإنشاده أيضا :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة فى خزانة الأدب ٥ / ٢٧٠ ، ٦ / ٤٥٠ ، ١ / ١٢٨ ، ٣١٧ ، ٢ / ١٨ ، والدرر ١ / ١٨٢ ، ورصف المبانى ص ١٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٢٧ ، ولسان العرب (ها) ، والمحتسب ١ / ٢٤٤ ، والمقرب ٢ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٩.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لغوية بن سلمى فى لسان العرب (با) ، وتاج العروس (الباء) ، وبلا نسبة فى جواهر الأدب ص ٢٥٣ ، ورصف المبانى ص ١٤٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٠٤ ، ١٤٤ ، وشرح المفصل ٨ / ٣٤ ، ٩ / ١٠١ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٠٧ ، ولسان العرب (أهل) ، واللمع ص ٥٨ ، ٢٥٦. وروى «لتقتلنى» مكان «لتحزننى».

٤٠٦

رأى برقا فأوضع فوق بكر

فلا بك ما أسال ولا أغاما (١)

وكذلك لو قيل لك : أضمر ضاربا وحده من قولك : هذا ضارب زيدا لم يجز ؛ لأنه كان يلزمك عليه أن تقول : هذا هو زيدا ، فتعمل المضمر ، وهذا مستحيل.

فإن قلت ، فقد تقول : قيامك أمس حسن ، وهو اليوم قبيح ، فتعمل فى اليوم (هو) ، قيل : فى هذا أجوبة : أحدها أن الظرف يعمل فيه الوهم مثلا ؛ كذا عهد إلىّ أبو على رحمه‌الله فى هذا. وهذا لفظه لى فيه البتّة. والآخر أنه يجوز فى المعطوف ما لا يجوز فى المعطوف عليه. ولا تقول على هذا : ضربك زيدا حسن وهو عمرا قبيح ؛ لأن الظرف يجوز فيه من الاتّساع ما لا يجوز فى غيره. وثالث : وهو أنه قد يجوز أن يكون (اليوم) من قولك : قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح ظرفا لنفس (قبيح) ، يتناوله فيعمل فيه. نعم ، وقد يجوز أن يكون أيضا حالا للضمير الذى فى قبيح ، فيتعلّق حينئذ بمحذوف. نعم ، وقد يجوز أن يكون أيضا حالا من (هو) ، وإن تعلق بما العامل فيه (قبيح) ؛ لأنه قد يكون العامل فى الحال غير العامل فى ذى الحال. نحو قول الله تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] فالحال هاهنا من الحق ، والعامل فيه (هو) وحده ، أو (هو) والابتداء الرافع له.

وكلا ذينك لا ينصب الحال. وإنما جاز أن يعمل فى الحال غير العامل فى صاحبها ، من حيث كانت ضربا من الخبر ، والخبر العامل فيه غير العامل فى المخبر عنه. فقد عرفت بذلك فرق ما بين المسألتين.

وكذلك لو قيل لك : أضمر رجلا من قولك : رب رجل مررت به لم يجز ، (لأنك تصير) إلى أن تقول : ربه مررت به ، فتعمل ربّ فى المعرفة. فأما قولهم : ربّه رجلا وربّها امرأة ، فإنما جاز ذلك لمضارعة هذا المضمر للنكرة ؛ إذ كان إضمارا على غير تقدّم ذكر ، ومحتاجا إلى التفسير ، فجرى تفسيره مجرى الوصف له.

فلمّا كان المضمر لا يوصف ، ولحق هذا المضمر من التفسير ما يضارع الوصف ،

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن يربوع فى جمهرة اللغة ص ٩٦٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢٥ ، ونوادر أبى زيد ص ١٤٦ ، وبلا نسبة فى الحيوان ١ / ١٨٦ ، ٦ / ١٩٧ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٨ ، ورصف المبانى ص ١٤٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٠٤ ، ١٤٤ ، وشرح المفصل ٨ / ٣٤ ، ٩ / ١٠١ ، ولسان العرب (أهل).

٤٠٧

خرج بذلك عن حكم الضمير. وهذا واضح. نعم ، ولو قلت : ربه مررت به لوصفت المضمر ، والمضمر لا يوصف. وأيضا فإنك كنت تصفه بالجملة وهى نكرة ، والمعرفة لا توصف بالنكرة.

أفلا ترى إلى ما كان يحدث هناك من خبال الكلام ، وانتقاض الأوضاع. فالزم هذه المحجّة. فمتى كان التصرّف فى الموضع ينقض عليك أصلا ، أو يخالف بك مسموعا مقيسا ، فألغه ولا تطر بجنابه (١) ، فالأمثال واسعة. وإنما أذكر من كل طرفا يستدلّ به ، وينقاد على ووتيرته.

* * *

__________________

(١) ولا تطر : يقال : طار بجنابه يطور : قرب ودنا.

٤٠٨

باب فى الشىء يسمع من العربى الفصيح

 لا يسمع من غيره

وذلك ما جاء به ابن أحمر فى تلك الأحرف المحفوظة عنه. قال أحمد بن يحيى : حدّثنى بعض أصحابى عن الأصمعىّ أنه ذكر حروفا من الغريب ، فقال : لا أعلم أحدا أتى بها إلا ابن أحمر الباهلىّ. منها الجبر ، وهو الملك. وإنما سمّى بذلك ـ أظن ـ لأنه يجبر بجوده. وهو قوله :

اسلم براووق حبيت به

وانعم صباحا أيّها الجبر (١)

ومنها قوله : (كأس رنوناة) أى دائمة ، وذلك قوله :

بنّت عليه الملك أطنابها

كأس رنوناة وطرف طمرّ (٢)

ومنها الديدبون ، وهو قوله :

خلّوا طريق الديدبون وقد

فات الصبا وتنوزع الفخر (٣)

ومنها (ماريّة) أى لؤلؤيّة ، لونها لون اللؤلؤ.

ومنها قوله (البابوس) وهو أعجمىّ ، يعنى ولد ناقته. وذلك قوله :

حنّت قلوصى إلى بابوسيها جزعا

فما حنينك أم ما أنت والذكر (٤)

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٩٤ ، ولسان العرب (جبر) ، وتاج العروس (جبر) ، (جبرل) ، وتهذيب اللغة ١١ / ٥٩ ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٢٦٥.

(٢) البيت من السريع ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٦٢ ، ولسان العرب (ملك) ، (رنا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٢٢٦ ، وجمهرة اللغة ص ١٢١٦ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٤٤٣ ، ومجمل اللغة ٢ / ٤٢٣ ، وأساس البلاغة (رنو) ، وتاج العروس (ملك) ، (رنا) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٨٠٦.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لابن أحمر الباهلى فى ديوانه ص ٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٢٢٢ ، ولسان العرب (دبن) ، (ددن) ، وتاج العروس (دبن). ويروى : «النجر» مكان «الفخر». الديدبون : اللهو.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٦٢ ، ولسان العرب (ببس) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٢٧ ، وتاج العروس (ببس) ، (قلص) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٣١٨ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (زبر).

٤٠٩

ومنها (الربّان) وهو العيش ، وذلك قوله :

وإنما العيش بربّانه

وأنت من أفنانه مقتفر (١)

ومنها (المأنوسة) وهى النار ، وذلك قوله :

* كما تطاير عن مأنوسة الشرر (٢) *

قال أبو العباس أحمد بن يحيى أيضا : وأخبرنا أبو نصر عن الأصمعى قال : من قول ابن أحمر (الحيرم) وهو البقر ، ما جاء به غيره. انتهت الحكاية.

وقد أنشد أبو زيد :

كأنها بنقا العزّاف طاوية

لمّا انطوى بطنها واخروّط السفر

ماريّة لؤلؤان اللون أوّدها

طلّ وبنّس عنها فرقد خصر (٣)

وقال : الماريّة : البقرة الوحشيّة. وقوله. بنّس عنها هو من النوم ، غير أنه إنما يقال للبقرة. ولم يسند أبو زيد هذين البيتين إلى ابن أحمر ، ولا هما أيضا فى ديوانه ، ولا أنشدهما الأصمعىّ فيما أنشده من الأبيات التى أورد فيها كلماته.

وينبغى أن يكون ذلك شيئا جاء به غير ابن أحمر تابعا له فيه ومتقيّلا أثره. هذا أوفق لقول الأصمعىّ : إنه لم يأت به غيره من أن يكون قد جاء به غير متّبع أثره.

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٦١ ، ولسان العرب (عصر) ، وتهذيب اللغة ٢ / ١٨ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٤٨٣ ، ٤ / ٣٤٤ ، ومجمل اللغة ٢ / ٤٥٧ ، ٣ / ٤٩٤ ، وتاج العروس (ربب) ، (عصر) ، وبلا نسبة فى المخصص ١٢ / ٢٣٢. ويروى «مقتفر» مكان «معتصر».

(٢) عجز بيت من البسيط ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ١٠٠ ، ولسان العرب (أنس) ، (ممس) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٢٧ ، وتاج العروس (أنس) ، (ممس) ، وتهذيب اللغة ١٢ / ٣٢٥ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (زبر) ، والمخصص ١١ / ٣٨.

(٣) البيتان من البسيط ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٩٧ ، ولسان العرب (لألأ) ، (بنس) (مرا) ، وتاج العروس (لألأ) ، (بنس) ، (مرا) ، والمعانى الكبير ص ٦٥٨ ، ٧١٢ ، ٧٧٥ ، وتهذيب اللغة ١٣ / ١٢ ، ١٥ / ٢٨٩. بنقا العزاف : فى اللسان فى (بنس): «من نقا العزاف» والعزاف : رمل من جبال الدهناء. والنقا : القطعة من الرمل تنقاد محدودبة. واخروط السفر : امتدّ.

٤١٠

والظاهر أن يكون ما أنشده أبو زيد لم يصل إلى الأصمعىّ [لا] من متبع فيه ابن أحمر ، ولا غير متبع. [وجاء فى شعر أميّة الثّغرور ، ولم يأت به غيره].

والقول فى هذه الكلم المقدّم ذكرها وجوب قبولها. وذلك لما ثبتت به الشهادة من فصاحة ابن أحمر. فإمّا أن يكون شيئا أخذه عمّن ينطق بلغة قديمة لم يشارك فى سماع ذلك منه ، على حدّ ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح ؛ كقوله فى الذرحرح : الذرّحرح ، ونحو ذلك ، وإما أن يكون شيئا ارتجله ابن أحمر ؛ فإن الأعرابىّ إذا قويت فصاحته ، وسمت طبيعته تصرّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به ؛ فقد حكى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا إليها.

وعلى نحو من هذا قال أبو عثمان : ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. وقد تقدم نحو ذلك. وفى هذا الضرب غار أبو على فى إجازته أن تبنى اسما وفعلا وصفة ونحو ذلك من ضرب فتقول : ضربب زيد عمرا ، وهذا رجل ضربب وضرنبى ، ومررت برجل خرجج ، وهذا رجل خرجج ودخلخل ، وخرجج أفضل من ضربب ونحو ذلك. وقد سبق القول على مراجعتى إيّاه فى هذا المعنى ، وقولى له : أفترتجل اللغة ارتجالا؟ وما كان من جوابه فى ذلك.

وكذلك إن جاء نحو هذا الذى رويناه عن ابن أحمر عن فصيح آخر غيره كانت حاله فيه حاله. لكن لو جاء شيء من ذلك عن ظنين أو متّهم أو من لم ترق به فصاحته ، ولا سبقت إلى الأنفس ثقته كان مردودا غير متقبّل.

فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها فإنه لا يقنع فى قبوله أن تسمعه من الواحد ولا من العدّة القليلة ، إلا أن يكثر من ينطق به منهم. فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه فى القياس فإن ذلك مجازه وجهان : أحدهما أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه على لغة آبائهم ، وإمّا أن تكون أنت قصّرت عن استدراك وجه صحّته. ولا أدفع أيضا مع هذا أن يسمع الفصيح لغة غيره مما ليس فصيحا ، وقد طالت عليه وكثر لها استماعه فسرت فى كلامه ، ثم تسمعها أنت منه ، وقد قويت عندك فى كل شيء من كلامه غيرها فصاحته ، فيستهويك ذلك إلى أن تقبلها منه ، على فساد أصلها الذى وصل إليه

٤١١

منه. وهذا موضع متعب مؤذ ، يشوب النفس ، ويشرى (١) اللبس ؛ إلا أن هذا كأنه متعذّر ولا يكاد يقع مثله. وذلك أن الأعرابىّ الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يبهأ بها. سألت مرة الشجرىّ أبا عبد الله ومعه ابن عمّ له دونه فى فصاحته ، وكان اسمه غصنا ، فقلت لهما : كيف تحقّران (حمراء)؟ فقالا : حميراء. قلت : فسوداء؟ قالا : سويداء. وواليت من ذلك أحرفا وهما يجيئان بالصواب. ثم دسست فى ذلك (علباء) فقال غصن : (عليباء) وتبعه الشجرىّ. فلما همّ بفتح الباء تراجع كالمذعور ، ثم قال : آه! عليبىّ ورام (٢) الضمة فى الياء. فكانت تلك عادة له ، إلا أنهم أشدّا استنكارا لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة ؛ لأنّ بعضهم قد ينطق بحضرته بكثير من اللغات فلا ينكرها. إلا أن أهل الجفاء وقوّة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيغ الإعراب ؛ ألا ترى أن أبا مهديّة سمع رجلا من العجم يقول لصاحبه زوذ ، فسأل أبو مهدية عنها فقيل له : يقول له : اعجل ، فقال أبو مهدية : فهلا قال له : حيّهلك. فقيل له : ما كان الله ليجمع لهم إلى العجمية العربية. وحدّثنى المتنبى أنه حضرته جماعة من العرب منصرفه من مصر ، وأحدهم يصف بلدة واسعة ، فقال فى كلامه : تحير فيها العيون ، قال : وآخر من الجماعة يجيء إليه سرّا ويقول له : تحار ، تحار. والحكايات فى هذا المعنى كثيرة منبسطة.

ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ، ويحمل أمره على ما عرف من حاله ، لا على ما عسى أن يكون من غيره. وذلك كقبول القاضى شهادة من ظهرت عدالته ، وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به ؛ ألا تراه يمضى الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم بصحّتها ؛ لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله ، إنما أمر بحمل الأمور على ما تبدو ، وإن كان فى المغيّب غيره. فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشكّ فى لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئا من لغته مخافة أن يكون فيها بعض ما يخفى عليك فيعترض الشكّ على يقينك ،

__________________

(١) يشرى اللبس : أى يجعله يشرى أى يلج ويكثر.

(٢) روم الضمة هو أن يأتى بها فى الوقف على المضموم خفية. وهو من أنواع الوقف.

٤١٢

وتسقط بكل اللغات ثقتك. ويكفى من هذا ما تعلمه من بعد لغة حمير من لغة ابنى نزار. روينا عن الأصمعىّ أن رجلا من العرب دخل على ملك (ظفار) ـ وهى مدينة لهم يجيء منها الجزع الظفارىّ ـ فقال له الملك : ثب ، وثب بالحميرية : اجلس ، فوثب الرجل فاندقت رجلاه ، فضحك الملك ، وقال ليست عندنا عربيّت (١) ، من دخل ظفار حمر ، أى تكلم بكلام حمير. فإذا كان كذلك جاز جوازا قريبا كثيرا أن يدخل من هذه اللغة فى لغتنا وإن لم يكن لها فصاحتنا ، غير أنها لغة عربية قديمة.

* * *

__________________

(١) يريد العربية. فوقف على الهاء بالتاء. وكذلك لغتهم.

٤١٣

باب فى هذه اللغة : أفى وقت واحد وضعت

 أم تلاحق تابع منها بفارط؟

قد تقدّم فى أول الكتاب القول على اللغة : أتواضع هى أم إلهام. وحكينا وجوّزنا فيها الأمرين جميعا. وكيف تصرّفت الحال وعلى أىّ الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بدّ أن يكون وقع فى أوّل الأمر بعضها ، ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه ، لحصور الداعى إليه ، فزيد فيها شيئا فشيئا ، إلا أنه على قياس ما كان سبق منها فى حروفه ، وتأليفه ، وإعرابه المبين عن معانيه ، لا يخالف الثانى الأول ، ولا الثالث الثانى ، كذلك متّصلا متتابعا. وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول : إنه يحكى كلام أبيه وسلفه ، يتوارثونه آخر عن أوّل ، وتابع عن متّبع. وليس كذلك أهل الحضر ؛ لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مضاه لكلام فصحاء العرب فى حروفهم ، وتأليفهم ، إلا أنهم أخلّوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح. وهذا رأى أبى الحسن ؛ وهو الصواب.

وذهب إلى أنّ اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أنّ أوّل ما وضع منها وضع على خلاف وإن كان كله مسوقا على صحّة وقياس ، ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها ، غير أنها على قياس ما كان وضع فى الأصل مختلفا ، وإن كان كل واحد آخذا من صحة القياس حظّا. ويجوز أيضا أن يكون الموضوع الأوّل ضربا واحدا ، ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأوّل إلى قياس ثان جار فى الصحّة مجرى الأول.

ولا يبعد عندى ما قال من موضعين : أحدهما سعة القياس ، وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأوّل بالقياس الذى عدل إليه الثانى ، فلا عليك أيّهما تقدّم ، وأيهما تأخّر. فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به.

فأما أىّ الأجناس الثلاثة تقدّم ـ أعنى الأسماء ، والأفعال ، والحروف ـ فليس مما

٤١٤

نحن عليه فى شيء ، وإنما كلامنا هنا : هل وقع جميعها فى وقت واحد ، أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة ، وشيئا بعد شيء ، وصدرا بعد صدر.

وإذ قد وصلنا من القول فى هذا إلى هاهنا فلنذكر ما عندنا فى مراتب الأسماء ، والأفعال ، والحروف ؛ فإنه من أماكنه وأوقاته.

اعلم أن أبا علىّ ـ رحمه‌الله ـ كان يذهب إلى أن هذه اللغة ـ أعنى ما سبق منها ثم لحق به ما بعده ـ إنما وقع كلّ صدر منها فى زمان واحد ، وإن كان تقدّم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدّم على الفعل الاسم ، ولا أن يكون المتقدّم على الحرف الفعل ؛ وإن كانت رتبة الاسم فى النفس من حصّة القوّة والضعف أن يكون قبل الفعل ؛ والفعل قبل الحرف. وإنما يعنى القوم بقولهم : إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى فى النفس ، وأسبق فى الاعتقاد من الفعل ، لا فى الزمان. فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدّموا الاسم قبل الفعل. ويجوز أن يكونوا قدّموا الفعل فى الوضع قبل الاسم ، وكذلك الحرف. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم ، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعانى ، وأنها لا بدّ لها من الأسماء والأفعال والحروف ، فلا عليهم بأيّها بدءوا ، أبالاسم ، أم بالفعل أم بالحرف ؛ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهنّ جمع ؛ إذ المعانى لا تستغنى عن واحد منهن.

هذا مذهب أبى علىّ وبه كان يأخذ ويفتى. وهذا يضيّق الطريق على أبى إسحاق وأبى بكر فى اختلافهما فى رتبة الحاضر والمستقبل.

وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غيّر لكثرة استعماله إنما تصوّرته العرب قبل وضعه ، وعلمت أنه لا بدّ من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره ؛ علما بأن لا بدّ من كثرته الداعية إلى تغييره. وهذا فى المعنى كقوله :

رأى الأمر يفضى إلى آخر

فصيّر آخره أوّلا

وقد كان أيضا أجاز أن يكون قد كانت قديما معربة ، فلمّا كثرت غيّرت فيما بعد. والقول عندى هو الأوّل ؛ لأنه أدلّ على حكمتها ، وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها ، فتركوا بعض الكلام مبنيّا غير معرب ؛ نحو أمس ، وهؤلاء ، وأين ، وكيف ،

٤١٥

وكم ، وإذ ، واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس ؛ لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين ، فكان ذلك أخفّ عليهم من تجشّمهم اختلاف الإعراب واتقائهم الزيغ والزلل فيه ؛ ألا ترى أن من لا يعرب فيقول : ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول ، ولا يتجشّم خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى ؛ فإنّ تخلّل الإعراب من ضرب إلى ضرب يجرى مجرى مناقلة الفرس ، ولا يقوى على ذلك من الخيل إلا الناهض الرجيل ، دون الكودن (١) الثقيل ؛ قال جرير :

من كل مشترف وإن بعد المدى

ضرم الرّقاق مناقل الأجرال (٢)

ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا : اقتل ، فضمّوا الأول توقّعا للضمة تأتى من بعد. وكذلك قالوا : عظاءة ، وصلاءة ، وعباءة ، فهمزوا مع الهاء توقّعا لما سيصيرون إليه من طرح الهاء ، ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء والعباء. وعلى ذلك قالوا : الشىء منتن ، فكسروا أوّله لآخره ، وهو منحدر من الجبل ، فضمّوا الدال لضمّة الراء. وعليه قالوا : هو يجوؤك ، وينبؤك فأثّر المتوقّع ، لأنه كأنه حاضر. وعلى ذلك قالوا : امرأة شمباء ، وقالوا : العمبر ، ونساء شمب ، فأبدلوا النون ميما لما يتوقّع من مجىء الباء بعدها. وعليه أيضا أبدلوا الأول للآخر فى الإدغام ؛ نحو مرّأيت؟ ، واذهفّى ذلك ، واصحمّطرا (٣). فهدا كله وما يجرى مجراه [مما يطول ذكره] يشهد لأن كل ما يتوقّع إذ ثبت فى النفس كونه كان كأنه

__________________

(١) الرجيل : هو القوى على المشى. الكودن : هو الهجين غير الأصيل.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لجرير فى ديوانه ص ٩٥٨ ، ولسان العرب (جرل) ، (نقل) ، وتهذيب اللغة ٩ / ١٥١ ، ١١ / ٢٧ ، ١٢ / ٣١ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٦ ، ١٣٣٠ ، ومقاييس اللغة ١ / ٤٤٥ ، وديوان الأدب ٢ / ٣٩١ ، وأساس البلاغة (شرف) ، (نقل) ، وتاج العروس (جرل) ، (نقل) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ضرم) وجمهرة اللغة ص ٤٦٤ ، والمخصص ٦ / ١٦٨ ، ١٠ / ٩٨. المشترف : يريد به الفرس العالى الخلق. والرّقاق : الأرض السهلة لا رمل فيها. يناقل فى الأجرال : يسرع السير فيها فلا تقع قوائمه على الحجارة ، والأجرال جمع الجرل : وهو المكان الصلب الغليظ الذى به حجارة.

(٣) مرأيت : يريد من رأيت. واذهفى ذلك : يريد اذهب فى ذلك. واصحمطرا : يريد اصحب مطرا.

٤١٦

حاضر مشاهد. فعلى ذلك يكونون قدّموا بناء نحو كم ، وكيف ، وحيث ، وقبل ، وبعد ، علما بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها ، فيجب لذلك تغييرها.

فإن قلت : هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال فى الزمان ، كما أنها أسبق رتبة منها فى الاعتقاد ، واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه ؛ إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء ؛ لأنها عبارات عن الأشياء ، ثم يأتوا بعدها بالأفعال التى بها تدخل الأسماء فى المعانى والأحوال ، ثم جاءوا فيما بعد بالحروف ؛ لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركبها ، واستقلالها بأنفسها ؛ نحو إن زيدا أخوك ، وليت عمرا عندك ، وبحسبك أن تكون كذا؟ قيل يمنع من هذا أشياء : منها وجودك أسماء مشتقّة من الأفعال ؛ نحو قائم من قام ، ومنطلق من انطلق ؛ ألا تراه يصحّ لصحّته ، ويعتلّ لاعتلاله ؛ نحو ضرب فهو ضارب ، وقام فهو قائم ، (وناوم فهو مناوم). فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقّا من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل فى الزمان ، وقد رأيت الاسم مشتقّا منه ورتبة المشتقّ منه أن يكون أسبق من المشتقّ نفسه. وأيضا فإن المصدر مشتقّ من الجوهر ؛ كالنبات من النبت ، وكالاستحجار من الحجر ، وكلاهما اسم. وأيضا فإن المضارع يعتلّ لاعتلال الماضى ، وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضى.

وأيضا فإن كثيرا من الأفعال مشتقّ من الحروف ؛ نحو قولهم : سألتك حاجة فلوليت لى ، أى قلت لى : لو لا ، وسألتك حاجة فلا ليت لى ، أى قلت لى : لا.

واشتقّوا أيضا المصدر ـ وهو اسم ـ من الحرف ، فقالوا : اللالاة واللولاة ، وإن كان الحرف متأخّرا فى الرتبة عن الأصلين قبله : الاسم والفعل. وكذلك قالوا :

سوّفت الرجل ، أى قلت له : سوف ، وهذا فعل ـ كما ترى ـ مأخوذ من الحرف.

ومن أبيات الكتاب :

لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها

سوف العيوف لراح الركب قد قنع (١)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لابن مقبل فى ديوانه ص ١٧٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٨٤ ، ولسان العرب (سوف) ، والكتاب ٤ / ٢١٢ ، والمحتسب ١ / ٢٩٨. ساوفتنا : واعدتنا بسوف أفعل. العيوف : الكاره والكارهة ، يقول : لو وعدتنا بتحية فى المستقبل لقنعنا.

٤١٧

انتصب (سوف العيوف) على المصدر المحذوف الزيادة ، أى مساوفة العيوف.

وأنا أرى أن جميع تصرف (ن ع م) إنما هو من قولنا فى الجواب : نعم. من ذلك النّعمة والنّعمة ، والنعيم والتنعيم ، ونعمت به بالا ، وتنعّم القوم ، والنّعمى ، والنعماء ، وأنعمت به له ؛ وكذلك البقيّة. وذلك أن (نعم) أشرف الجوابين وأسرّهما للنفس ، وأجلبهما للحمد ، و (لا) بضدّها ؛ ألا ترى إلى قوله :

وإذا قلت نعم فاصبر لها

بنجاح الوعد ؛ إنّ الخلف ذم (١)

وقال الآخر ـ أنشدناه أبو على ـ :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله (٢)

يروى بنصب (البخل) وجرّه. فمن نصبه فعلى ضربين : أحدهما أن يكون بدلا من (لا) ؛ لأن (لا) موضوعة للبخل ، فكأنه قال : أبى جوده البخل ؛ والآخر أن تكون (لا) زائدة ، حتى كأنه قال أبى جوده البخل ، لا على البدل ، لكن على زيادة (لا). والوجه هو الأوّل ؛ لأنه قد ذكر بعدها نعم ، ونعم لا تزاد ، فكذلك ينبغى أن تكون (لا) هاهنا غير زائدة والوجه الآخر على الزيادة صحيح أيضا ؛ لجرى ذكر (لا) فى مقابلة نعم. وإذا جاز لـ (لا) أن تعمل وهى زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله :

لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها

إلىّ لامت ذوو أحسابها عمرا (٣)

كان الاكتفاء بلفظها من غير عمل له أولى بالجواز.

ومن جرّه فقال (لا البخل) فبإضافة (لا) إليه ؛ لأن (لا) كما تكون للبخل قد

__________________

(١) البيت من الرمل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (نعم) ، وتاج العروس (نعم).

(٢) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (نعم) ، وتاج العروس (لا). والذى فى مغنى اللبيب : لا يمنع الجود قاتله ، وقوله لا يمنع الجود ، فاعل يمنع عائد على الممدوح : والجود مفعول ثان ، وقاتله مفعول أول ، ويحتمل أن الجود فاعل يمنع ، أى جوده لا يحرم قاتله أى فإذا أراد إنسان قتله فجوده لا يحرم ذلك الشخص. انظر حاشية الدسوقى على مغنى اللبيب.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للفرزدق فى ديوانه ١ / ٢٣٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٠ ، ٣٢ ، ٥٠ ، والدرر ٢ / ٢٢٦ ، وشرح التصريح ١ / ٢٣٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٢٢ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٢ / ٣ ، ولسان العرب (غطف) ، وهمع الهوامع ١ / ١٤٧.

٤١٨

تكون للجود أيضا ؛ ألا ترى أنه لو قال لك إنسان : لا تطعم الناس ، ولا تقر الضيف ، ولا تتحمّل المكارم ، فقلت أنت : (لا) لكانت هذه اللفظة هنا للجود لا للبخل ، فلمّا كانت (لا) قد تصلح للأمرين جميعا أضيفت إلى البخل ؛ لما فى ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدّين.

فإن قلت : فكيف تضيفها وهى مبنيّة؟ ألا تراها على حرفين الثانى حرف لين ، وهذا أدلّ شيء على البناء ، قيل : الإضافة لا تنافى البناء ، بل لو جعلها جاعل سببا له لكان (أعذر من) أن يجعلها نافية له ؛ ألا ترى أن المضاف بعض الاسم ، وبعض الاسم صوت ، والصوت واجب بناؤه. فهذا من طريق القياس ؛ وأمّا من طريق السماع فلأنهم قد قالوا : كم رجل [قد] رأيت ، فكم مبنيّة وهى مضافة.

وقالوا أيضا : لأضربنّ أيّهم أفضل ، وهى مبنيّة عند سيبويه. فهذا شيء عرض قلنا فيه.

ثم لنعد إلى ما كنا عليه من أن جميع باب (ن ع م) إنما هو مأخوذ من (نعم) لما فيها من المحبّة للشيء والسرور به. فنعمت الرجل ، أى قلت له (نعم) فنعم بذلك بالا ، كما قالوا : بجلّته أى قلت له (بجل) أى حسبك حيث انتهيت ، فلا غاية من بعدك ، ثم اشتقّوا منه الشيخ البجال ، والرجل البجيل. فنعم ، وبجل كما ترى حرفان ، وقد اشتقّ منهما أحرف كثيرة.

فإن قلت : فهلّا كان نعم وبجل مشتقّين من النّعمة والنعيم ، والبجال والبجيل ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقّا منهما؟ قيل : الحروف يشتقّ منها ولا تشتقّ هى أبدا. وذلك أنها لمّا جمدت فلم تتصرّف شابهت بذلك أصول الكلام الأول التى لا تكون مشتقّة (من شيء) (لأنه ليس قبلها ما تكون فرعا له ومشتقّة منه) يؤكّد ذلك عندك قولهم : سألتك حاجة فلوليت لى ، أى قلت لى (لو لا) فاشتقّوا الفعل من الحرف المركب من (لو) و (لا) فلا يخلو هذا أن يكون (لو) هو الأصل ، أو (لو لا) لا يجوز أن يكون (لو لا) ، لأنه لو كان (لو لا) هو الأصل كان (لو) محذوفا منه ؛ والأفعال لا تحذف ؛ إنما تحذف الأسماء نحو يد ، ودم ، وأخ ، وأب ، وما جرى مجراه ، وليس الفعل كذلك. فأمّا خذ ، وكل ومر ، فلا يعتدّ ، إن شئت لقلته ، وإن شئت لأنه حذف تخفيفا فى موضع وهو ثابت فى تصريف

٤١٩

الفعل ؛ نحو أخذ يأخذ ، وأخذ وآخذ.

فإن قلت : فكذلك أيضا يد ، ودم ، وأخ ، وأب ، وغد ، وفم ، ونحو ذلك ؛ ألا ترى أن الجميع تجده متصرفا وفيه ما حذف منه ؛ وذلك نحو أيد وأياد ويدىّ ، ودماء ودمىّ ، وأدماء والدما فى قوله :

* فإذا هى بعظام ودما (١) *

وإخوة وأخوّة ، وآخاء وأخوان ، وآباء ، وأبوّة وأبوان :

* ... وغدوا بلاقع (٢) *

وأفواه وفويه ، وأفوه وفوهاء وفوه ، قيل : هذا كله إن كان قد عاد فى كل تصرّف منه ما حذف من الكلمة التى هى من أصله ، فدلّ ذلك على محذوفه ، فليست الحال فيه كحال خذ من أخذ ويأخذ. وذلك أنّ أمثلة الفعل وإن اختلفت فى أزمنتها وصيغها فإنها تجرى مجرى المثال الواحد ، حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوّض منه فى مثال آخر من أمثلته ؛ ألا ترى أنهم لمّا حذفوا همزة يكرم ونحوه عوّضوه منها أن أوجدوها فى مصدره ، فقالوا : إكراما. وكذلك بقيّة الباب. وليس كذلك الجمع (والواحد) ، ولا التكبير والتصغير (من الواحد) لأنه ليس كل واحد من هذه المثل جاريا مجرى صاحبه ، فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد ذلك المحذوف فى صاحبه كان كأنه فيه ، وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء ثم وجد ذلك المحذوف فى صاحبه صار كأنه فى المحذوف منه نفسه ، فكأن لم يحذف منه شيء.

فإن قلت : فقد نجد بعض ما حذف فى الأسماء موجودا فى الأفعال من معناها

__________________

(١) عجز بيت من الرمل ، وهو بلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١٣٠٧ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٩٧ ، وتخليص الشواهد ص ٧٧ ، وخزانة الأدب ٧ / ٤٩١ ، ٤٩٣ ، والدرر ١ / ١١١ ، ورصف المبانى ص ١٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٣٧٧ ، وشرح المفصل ٥ / ٨٤ ، ولسان العرب (برغز) ، (أطم) ، (أبى) ، والمنصف ٢ / ١٤٨ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٩ ، وتاج العروس (يدى).

(٢) بعض بيت من الطويل ، وهو للبيد فى ديوانه ص ١٦٩ ، وأمالى المرتضى ١ / ٤٥٣ ، وشرح المفصل ٦ / ٤ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٨٤ ، ولسان العرب (غدا) ، ولذى الرمة فى ملحق ديوانه ص ١٨٨٧ ، وللبيد أو لذى الرمة فى تاج العروس (غدا) ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٧ / ٤٧٩ ، والكتاب ٣ / ٣٥٨ ، والمنصف ١ / ٦٤ ، ٢ / ١٤٩.

٤٢٠