الخصائص - ج ٢

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٣٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

باب فى تعليق الأعلام على المعانى دون الأعيان

هذا باب من العربيّة غريب الحديث ، أراناه أبو علىّ ، رحمه‌الله تعالى. وقد كنت شرحت حاله فى صدر تفسيرى أسماء شعراء الحماسة بما فيه مقنع ؛ إلا أنّا أردنا ألا نخلى كتابنا هذا منه لإغرابه ، وحسن التنبيه عليه.

اعلم أن الأعلام أكثر وقوعها فى كلامهم إنما هو على الأعيان دون المعانى.

والأعيان هى الأشخاص ؛ نحو : زيد ، وجعفر ، وأبى محمد ، [وأبى القاسم] ، وعبد الله ، وذى النّون ، وذى يزن ، وأعوج ، [وسبل] ، والوجيه ، ولاحق ، وعلوى ، وعتوة ، والجديل ، و [شدقم] وعمان ، ونجران ، والحجاز ، والعراق ، والنجم ، والدّبران ، والثريّا ، وبرقع ، والجرباء. ومنه محوة للشّمال ؛ لأنها على كلّ حال جسم ، وإن لم تكن مرئية.

وكما جاءت الأعلام فى الأعيان ، فكذلك أيضا قد جاءت فى المعانى ؛ نحو قوله :

أقول لمّا جاءنى فخره

سبحان من علقمة الفاخر (١)

فسبحان [اسم] علم لمعنى البراءة والتنزيه ، بمنزلة عثمان ، وحمران.

ومنه قوله :

وإن قال غاو من تنوخ قصيدة

بها جرب عدّت علىّ بزوبرا (٢)

__________________

(١) البيت من السريع ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٩٣ ، وأساس البلاغة ص ٢٠٠ (سبح) ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٩ ، وجمهرة اللغة ص ٢٧٨ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، ٧ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨ ، والدرر ٣ / ٧٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٥٧ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٩٠٥ ، وشرح المفصّل ١ / ٣٧ ، ١٢٠ ، والكتاب ١ / ٣٢٤ ، ولسان العرب (سبح) ، وتاج العروس (شتت) ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٣ / ٣٨٨ ، ٦ / ٢٨٦ ، والدرر ٥ / ٤٢ ، ومجالس ثعلب ١ / ٢٦١ ، والمقتضب ٣ / ٢١٨ ، والمقرب ١ / ١٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٠ ، ٢ / ٥٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لابن أحمر فى ديوانه ص ٨٥ ، والاشتقاق ص ٤٨ ، وسمط اللآلى ـ ـ

٣

سألت أبا علىّ عن ترك صرف (زوبر) فقال : علّقه علما على القصيدة ، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث ؛ كما اجتمع فى (سبحان) التعريف والألف والنون.

ومنه ـ فيما ذكره أبو علىّ ـ ما حكاه أبو زيد من قولهم : كان ذلك الفينة ، وفينة ، وندرى ، والندرى. فهذا ممّا اعتقب عليه تعريفان : العلميّة ، والألف واللام. وهو كقولك : شعوب ، والشعوب للمنيّة. [وعروبة والعروبة]. كما أن الأوّل كقولك : فى الفرط والحين. [ومثله (غدوة) جعلوها علما للوقت].

وكذلك أعلام الزمان ، نحو صفر ، ورجب ، وبقيّة الشهور ، [وأوّل وأهون وجبار ، وبقيّة تلك الأسماء].

ومنه أسماء الأعداد ، كقولك : ثلاثة نصف ستّة ، وثمانية ضعف أربعة ، إذا أردت قدر العدد لا نفس المعدود ، فصار هذا اللفظ علما لهذا المعنى.

ومنه ما أنشده صاحب الكتاب من قوله :

أنا اقتسمنا خطّتينا بيننا

فحملت برّة واحتملت فجار (١)

فبرّة اسم على لمعنى البرّ ، فلذلك لم يصرف للتعريف والتأنيث. وعن مثله عدل فجار ، أى عن فجره. وهى علم مصروف ؛ كما أن برّة كذلك. وقول سيبويه : إنها

__________________

ص ٥٥٤ ، ولسان العرب (زبر) ، والمعانى الكبير ص ٨٠١ ، ١١٧٨ ، وللطرماح فى ملحق ديوانه ص ٥٧٤ ، وللطرماح أو لابن أحمر فى شرح المفصل ١ / ٣٨ ، وللفرزدق فى ديوانه ١ / ٢٠٦ ، ٢٩٦ ، والإنصاف ٢ / ٤٩٥ ، ولسان العرب (حقق) ، وللفرزدق أو لابن أحمر فى خزانة الأدب ١ / ١٤٨ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ١ / ٣٣٧. ويروى : أإن بدلا من : وإن ، وعاو بدلا من غاو. يقال : أخذ الشىء بزبره وزوبره وزغبره وزابره ، أى بجميعه فلم يدع منه شيئا. اللسان (زبر).

(١) البيت من الكامل للنابغة ، يهجو زرعة بن عمرو الكلابىّ ، وكان لقى النابغة بسوق عكاظ ، وحبب إليه الغدر ببنى أسد ، فأبى عليه النابغة. وانظر ديوانه ص ٥٥ ، وإصلاح المنطق ص ٣٣٦ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٢٧ ، ٣٣٠ ، ٣٣٣ ، والدرر ١ / ٩٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢١٦ ، وشرح التصريح ١ / ١٢٥ ، وشرح المفصل ٤ / ٥٣ ، والكتاب ٣ / ٢٧٤ ، ولسان العرب (برر) ، (فجر) ، (حمل) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٥ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٣٤٩ ، وجمهرة اللغة ص ٤٦٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٨٧ ، وشرح الأشمونى ١ / ٦٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ١٤١ ، وشرح المفصل ١ / ٣٨ ، ولسان العرب (أنن) ، ومجالس ثعلب ٢ / ٤٦٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٩ ، وتاج العروس (أنن).

٤

معدولة عن الفجرة تفسير على طريق المعنى ، لا على طريق اللفظ. وذلك أنه أراد أن يعرّف أنه معدول عن فجرة علما ، ولم تستعمل تلك علما فيريك ذلك ، فعدل عن لفظ العلمية المراد إلى لفظ التعريف فيها المعتاد. وكذلك لو عدلت عن برّة هذه لقلت : برار ؛ كما قال : فجار. وشاهد ذلك أنهم عدلوا حذام وقطام عن حاذمة وقاطمة ، وهما علمان ؛ فكذلك يجب أن تكون فجار معدولة عن فجرة علما أيضا.

ومن الأعلام المعلّقة على المعانى ما استعمله النحويون فى عباراتهم من المثل المقابل بها الممثّلات ؛ نحو قولهم : (أفعل) إذا أردت به الوصف وله (فعلاء) لم تصرفه. فلا تصرف أنت (أفعل) هذه ؛ من حيث صارت علما لهذا المثال ؛ نحو أحمر ، وأصفر ، وأسود ، وأبيض. فتجرى (أفعل) هذا مجرى أحمد ، وأصرم علمين. وتقول : (فاعلة) لا تنصرف معرفة ، وتنصرف نكرة. فلا تصرف (فاعلة) ؛ لأنها علم لهذا الوزن ، فجرت مجرى فاطمة وعاتكة. وتقول : (فعلان) إذا كانت له (فعلى) فإنه لا ينصرف معرفة ولا نكرة. فلا تصرف (فعلان) هذا ؛ لأنه علم لهذا الوزن ، بمنزلة حمدان ، وقحطان. ونقول : وزن طلحة (فعلة) ، ومثال عبيثران (فعيللان) ، ومثال إسحارّ (١) (إفعالّ) ، ووزن إستبرق (استفعل) ، ووزن طريفة (فعيلة). وكذلك جميع ما جاء من هذا الطرز. وتقول : وزن إبراهيم (فعلاليل) فتصرف هذا المثال ، لأنه لا مانع له من الصرف ؛ ألا ترى أنه ليس فيه أكثر من التعريف ، والسبب الواحد لا يمنع الصرف. ولا تصرف إبراهيم للتعريف والعجمة. وكذلك وزن جبرئيل (فعلئيل) فلا تصرف جبرئيل ، وتصرف مثاله.

والهمزة فيه زائدة ؛ لقولهم : جبريل. وتقول : مثال جعفر (فعلل) فتصرفهما جميعا ؛ لأنه ليس فى كل واحد منهما أكثر من التعريف.

وقد يجوز إذا قيل لك ما مثال (أفكل) أن تقول : مثاله (أفعل) فتصرفه حكاية لصرف أفكل ؛ كما جررته حكاية لجرّه ؛ ألا تراك إذا قيل لك : ما مثال ضرب ، قلت : فعل ، فتحكى فى المثال بناء ضرب ، فتبنيه كما بنيت مثال المبنىّ ، كذلك حكيت إعراب أفكل وتنوينه فقلت فى جواب ما مثال أفكل : مثال أفعل ، فجررت

__________________

(١) اسحارّ : هو بقل يسمن عليه المال ، أى الإبل.

٥

كما صرفت. فاعرف ذلك.

ومن ذلك قولهم : قد صرّحت (١) بجدّان ، وجلدان. فهذا علم لمعنى الجدّ.

ومنه قولهم : أتى على ذى بليان. فهذا علم للبعد ؛ قال :

تنام ويذهب الأقوام حتّى

يقال أتوا على ذى بلّيان (٢)

فإن قلت : ولم قلّت الأعلام فى المعانى ، وكثرت فى الأعيان ؛ نحو زيد ، وجعفر ، وجميع ما علّق عليه علم وهو شخص؟ قيل : لأن الأعيان أظهر للحاسّة ، وأبدى إلى المشاهدة ، فكانت أشبه بالعلمية ممّا لا يرى ولا يشاهد حسّا ، وإنما يعلم تأمّلا واستدلالا ، وليست كمعلوم الضرورة للمشاهدة.

* * *

__________________

(١) هذا مثل يضرب للأمر إذا بان وصرح ووضح بعد التباسه.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (بلل) ، (بلا) وتهذيب اللغة ١٥ / ٣٩٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٢٣٦ ، وكتاب العين ٨ / ٣٢٠ ، ومقاييس اللغة ١ / ٢٩٥ ، وتاج العروس (بلل) ، (بلا).

٦

باب فى الشىء يرد مع نظيره مورده مع نقيضه

وذلك أضرب :

منها اجتماع المذكّر والمؤنّث فى الصفة المؤنّثة ؛ نحو رجل علامة ، وامرأة علامة ، ورجل نسّابة ، وامرأة نسّابة ، ورجل همزة لمزة ، وامرأة همزة لمزة ، ورجل صرورة ، وفروقة ، وامرأة صرورة ، وفروقة ، ورجل هلباجة فقاقة ، وامرأة ، كذلك. وهو كثير.

وذلك أن الهاء فى نحو ذلك لم تلحق لتأنيث الموصوف بما هى فيه ، وإنما لحقت لإعلام السامع أن هذا الموصوف بما هى فيه قد بلغ الغاية والنهاية ، فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة ، وسواء كان ذلك الموصوف بتلك الصفة مذكّرا أم مؤنّثا. يدلّ على ذلك أن الهاء لو كانت فى نحو امرأة فروقة إنما لحقت لأن المرأة مؤنّثة لوجب أن تحذف فى المذكّر ، فيقال : رجل فروق ؛ كما أن التاء فى [نحو امرأة] قائمة ، وظريفة لمّا لحقت لتأنيث الموصوف حذفت مع تذكيره فى نحو رجل ظريف ، وقائم ، وكريم. وهذا واضح.

ونحو من تأنيث هذه الصفة ليعلم أنها بلغت المعنى الذى هو مؤنث أيضا تصحيحهم العين فى نحو حول ، وصيد ، واعتونوا واجتوروا ، إيذانا بأن ذلك فى معنى ما لا بدّ من تصحيحه. وهو احولّ ، واصيدّ ، وتعاونوا ، وتجاوروا ، وكما كرّرت الألفاظ لتكرير المعانى ؛ نحو الزلزلة ، والصلصلة والصرصرة. وهذا باب واسع.

ومنها اجتماع المذكّر والمؤنّث فى الصفة المذكّرة. وذلك نحو رجل خصم ، وامرأة خصم ، ورجل عدل ، وامرأة عدل ، ورجل ضيف ، وامرأة ضيف ، ورجل رضا ، وامرأة رضا. وكذلك ما فوق الواحد ؛ نحو رجلين رضا ، وعدل ، وقوم رضا ، وعدل ؛ قال زهير :

متى يشتجر قوم يقل سرواتهم

هم بيننا فهم رضا وهم عدل (١)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبى سلمى فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٥ ، والأضداد ـ ـ ص ٧٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٠٧ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ٢١٣ ، ولسان العرب (رضى) ، وبلا نسبة فى المحتسب ٢ / ١٠٧.

٧

وسبب اجتماعهما هنا فى هذه الصفة أن التذكير إنما أتاها من قبل المصدرية ؛ فإذا قيل : رجل عدل فكأنه وصف بجميع الجنس مبالغة ؛ كما تقول : استولى على الفضل ، وحاز جميع الرئاسة والنبل ، ولم يترك لأحد نصيبا فى الكرم والجود ، ونحو ذلك. فوصف بالجنس أجمع ؛ تمكينا (لهذا الموضع) ، وتوكيدا.

وقد ظهر منهم ما يؤيّد هذا المعنى ويشهد به. وذلك نحو قوله ـ أنشدناه أبو علىّ ـ :

ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل

وضنّت علينا والضنين من البخل (١)

فهذا كقولك : هو مجبول من الكرم ، ومطين من الخير ، وهى مخلوقة من البخل. وهذا أوفق معنى من أن تحمله على القلب ، وأنه يريد به : والبخل من الضنين ؛ لأن فيه من الإعظام والمبالغة ما ليس فى القلب.

ومنه ما أنشدناه أيضا من قوله :

*وهنّ من الإخلاف قبلك والمطل (٢) *

و [قوله] :

*وهنّ من الإخلاف والولعان (٣) *

وأقوى التأويلين فى قولها :

*فإنما هى إقبال وإدبار (٤) *

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للبعيث (خداش بن بشر) فى لسان العرب (جذم) ، (ضنن) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٥ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٢٢ ، والمحتسب ٢ / ٤٦ ، ومغنى اللبيب ١ / ٣١١.

(٢) الشطر من الطويل ، وهو للبعيث فى لسان العرب (ولع).

(٣) عجز البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (ولع) ، (ضنن) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٩٩ ، وتاج العروس (ولع) ، والمخصص ٣ / ٨٦ ، وديوان الأدب ٣ / ٢٥٩ ، وصدر البيت :

*لخلابة العينين كذّابة المنى*

(٤) عجز البيت من البسيط ، وهو للخنساء فى ديوانها ص ٣٨٣ ، والأشباه والنظائر ١ / ١٩٨ ، ـ ـ

٨

أن يكون من هذا ، أى كأنها مخلوقة من الإقبال والإدبار ، لا على أن يكون من باب حذف المضاف ، أى ذات إقبال وذات إدبار. ويكفيك من هذا كلّه قول الله ـ عزوجل ـ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] وذلك لكثرة فعله إيّاه ، واعتياده له. وهذا أقوى معنى من أن يكون أراد : خلق العجل من الإنسان ؛ لأنه أمر قد اطّرد واتّسع ، فحمله على القلب يبعد فى الصنعة ، و (يصغّر المعنى).

وكأنّ هذا الموضع لمّا خفى على بعضهم قال فى تأويله : إن العجل هنا الطين.

ولعمرى إنه فى اللّغة كما ذكر ؛ غير أنه فى هذا الموضع لا يراد به إلا نفس العجلة والسرعة ؛ ألا تراه ـ عزّ اسمه ـ كيف قال عقبه (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء : ٣٧] فنظيره قوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] ، (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ؛ لأن العجلة ضرب من الضعف ؛ لما تؤذن به من الضرورة والحاجة.

فلمّا كان الغرض فى قولهم : رجل عدل ، وامرأة عدل إنما هو إرادة المصدر والجنس جعل الإفراد والتذكير أمارة للمصدر المذكّر.

فإن قلت : فإن نفس لفظ المصدر قد جاء مؤنّثا ؛ نحو الزيادة ، والعبادة ، والضئولة ، والجهومة ، والمحمية ، والموجدة ، والطلاقة ، والسباطة. وهو كثير جدّا.

فإذا كان نفس المصدر قد جاء مؤنثا ، فما هو معناه ، ومحمول بالتأويل عليه أحجى بتأنيثه.

قيل : الأصل ـ لقوّته ـ أحمل لهذا المعنى ، من الفرع لضعفه. وذلك أن الزيادة ، والعبادة ، والجهومة ، والطلاقة ، ونحو ذلك مصادر غير مشكوك فيها ، فلحاق التاء لها لا يخرجها عمّا ثبت فى النفس من مصدريتها. وليس كذلك الصفة ؛ لأنها ليست فى الحقيقة مصدرا ؛ وإنما هى متأوّلة عليه ، ومردودة بالصنعة إليه. فلو قيل : رجل عدل ، وامرأة عدلة ـ وقد جرت صفة كما ترى ـ لم يؤمن أن يظنّ بها

__________________

وخزانة الأدب ١ / ٤٣١ ، ٢ / ٣٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٨٢ ، والشعر والشعراء ١ / ٣٥٤ ، والكتاب ١ / ٣٣٧ ، ولسان العرب (رهط) ، (قبل) ، (سوا) ، والمقتضب ٤ / ٣٠٥ ، والمنصف ١ / ١٩٧ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٧ ، ٤ / ٦٨ ، وشرح الأشمونى ١ / ٢١٣ ، وشرح المفصل ١ / ١١٥ ، والمحتسب ٢ / ٤٣. وصدر البيت :

*ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت*

٩

أنها صفة حقيقية ؛ كصعبة من صعب ، وندبة من ندب ، وفخمة من فخم ، ورطبة من رطب. فلم يكن فيها من قوّة الدلالة على المصدرية ما فى نفس المصدر ؛ نحو الجهومة ، والشهومة ، والطلاقة ، والخلاقة. فالأصول لقوّتها يتصرّف فيها ، والفروع لضعفها يتوقّف بها ، ويقصر عن بعض ما تسوّغه القوّة لأصولها.

فإن قلت : فقد قالوا : رجل عدل ، وامرأة عدلة ، وفرس طوعة القياد ، وقال أميّة ـ أنشدناه ـ :

والحيّة الحتفة الرّقشاء أخرجها

من بيتها آمنات الله والكلم (١)

قيل : هذا ممّا خرج على صورة الصفة ؛ لأنهم لم يؤثروا أن يبعدوا كلّ البعد عن أصل الوصف الذى بابه أن يقع الفرق فيه بين مذكّره ومؤنّثه ، فجرى هذا فى حفظ الأصول ، والتلفت إليها ، ، (للمباقاة لها) ، والتنبيه عليها ، مجرى إخراج بعض المعتلّ على أصله ؛ نحو استحوذ ، وضننوا ـ وقد تقدّم ذكره ـ ومجرى إعمال صغته وعدته ، وإن كان قد نقل إلى (فعلت) لمّا كان أصله (فعلت). وعلى ذلك أنّث بعضهم فقال : خصمة ، وضيفة ؛ وجمع ، فقال :

يا عين هلا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم فى كبد (٢)

وعليه قول الآخر :

إذا نزل الأضياف كان عذوّرا

على الحىّ حتى تستقلّ مراجله (٣)

الأضياف هنا بلفظ القلّة ومعناها أيضا ؛ وليس كقوله :

*وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (٤) *

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأميّة بن أبى الصلت فى ديوانه ص ٥٧ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٨٩ ، ولسان العرب (حتف) ، (عدل).

(٢) البيت من المنسرح ، وهو للبيد فى ديوانه ص ١٦٠ ، وتذكرة النحاة ص ١١٨ ، ولسان العرب (كبد) ، (عدل).

(٣) البيت من الطويل ، وهو لزينب بنت الطثريّة فى لسان العرب (عذر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٦٧ ، وجمهرة اللغة ص ٦٢ ، وتاج العروس (عدر) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ضيف) ، (عدل) ، وأساس البلاغة (عذر) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٢٥٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤٦١.

(٤) عجز بيت من الطويل ، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه ص ١٣١ ، وأسرار العربية ص ٣٥٦

١٠

فى أن المراد به معنى الكثرة. وذلك أمدح ؛ لأنه إذا قرى الأضياف وهم قليل بمراجل الحىّ أجمع ، فما ظنك به لو نزل به الضيفان الكثيرون!

فإن قيل : فلم أنّث المصدر أصلا؟ وما الذى سوّغ التأنيث فيه مع معنى العموم والجنس ، وكلاهما إلى التذكير ، حتى احتجت إلى الاعتذار له بقولك : إنه أصل ، وإن الأصول تحمل ما لا تحمله الفروع؟.

قيل : علّة جواز تأنيث المصدر مع ما ذكرته من وجوب تذكيره أنّ المصادر أجناس للمعانى ، (كما غيرها) أجناس للأعيان ؛ نحو رجل ، وفرس ، وغلام ، ودار ، وبستان. فكما أن أسماء أجناس الأعيان قد تأتى مؤنّثة الألفاظ ، ولا حقيقة تأنيث فى معناها ؛ نحو غرفة ، ومشرقة ، وعلّية ، ومروحة ، ومقرمة (١) ؛ كذلك جاءت أيضا أجناس المعانى مؤنّثا بعضها لفظا لا معنى. وذلك نحو المحمدة ، والموجدة ، والرشاقة ، والجباسة ، والضئولة ، والجهومة.

نعم ، وإذا جاز تأنيث المصدر وهو على مصدريّته غير موصوف به ، لم يكن تأنيثه وجمعه ، وقد ورد وصفا على المحلّ الذى من عادته أن يفرق فيه بين مذكّره ومؤنثه ، وواحده وجماعته ، قبيحا ولا مستكرها ؛ أعنى ضيفة وخصمة ، وأضيافا وخصوما ؛ وإن كان التذكير والإفراد أقوى فى اللغة ، وأعلى فى الصنعة ؛ قال الله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) [ص : ٢١].

وإنما كان التذكير والإفراد أقوى من قبل أنك لمّا وصفت بالمصدر أردت المبالغة بذلك ، فكان من تمام المعنى وكماله أن تؤكّد ذلك بترك التأنيث والجمع ؛ كما يجب للمصدر فى أوّل أحواله ؛ ألا ترى أنك إذا أنّثت وجمعت سلكت به مذهب الصفة الحقيقيّة التى لا معنى للمبالغة فيها ، نحو قائمة ، ومنطلقة ، وضاربات ، ومكرمات.

__________________

، ـ ـ وخزانة الأدب ٨ / ١٠٦ ، ١٠٧ ، ١١٠ ، ١١٦ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٦٧١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٢١ ، وشرح المفصل ٥ / ١٠ ، والكتاب ٣ / ٥٧٨ ، ولسان العرب (جدا) ، والمحتسب ١ / ١٨٧ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٢٧ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ١٣٥ ، والمقتضب ٢ / ١٨٨. وصدر البيت :

*لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى*

(١) مقرمة : هى ستر رقيق.

١١

فكان ذلك يكون نقضا للغرض ، أو كالنقض له. فلذلك قلّ حتى وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنّثا أو مجموعا.

وممّا جاء من المصادر مجموعا ومعملا أيضا قوله :

*مواعيد عرقوب أخاه بيثرب (١) *

و (بيثرب).

ومنه عندى قولهم : تركته بملاحس البقر أولادها. فالملاحس جمع ملحس ؛ ولا يخلو أن يكون مكانا ، أو مصدرا ، فلا يجوز أن يكون هنا مكانا ؛ لأنه قد عمل فى الأولاد فنصبها ، والمكان لا يعمل فى المفعول به ، كما أن الزمان لا يعمل فيه.

وإذا كان الأمر على ما ذكرنا ، كان المضاف هنا محذوفا مقدّرا ، وكأنه قال : تركته بمكان ملاحس البقر أولادها ؛ كما أن قوله :

وما هى إلا فى إزار وعلقة

مغار ابن همّام على حىّ خثعما (٢)

محذوف المضاف ، أى وقت إغارة ابن همام على حىّ خثعم ؛ ألا تراه قد عدّاه إلى [(على) فى] قوله (على حىّ خثعما). ف (ملاحس البقر) إذا مصدر مجموع معمل فى المفعول به ؛ كما أن (مواعيد عرقوب أخاه بيثرب) كذلك. وهو غريب.

وكان أبو علىّ ـ رحمه‌الله ـ يورد (مواعيد عرقوب) مورد الطريف المتعجّب منه.

فأمّا قوله :

__________________

(١) عجز بيت من الطويل ، ونسب لأكثر من شاعر ، فهو لابن عبيد الأشجعى فى خزانة الأدب ١ / ٥٨ ، وللأشجعى فى لسان العرب (ترب) ، (عرقب) ، ولعلقمة فى جمهرة اللغة ص ١١٢٣ ، وللشماخ فى ملحق ديوانه ص ٤٣٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٤٣ ، وللشماخ أو للأشجعى فى الدرر ٥ / ٢٤٥ ، وشرح المفصل ١ / ١١٣ (بروايتين مختلفتين فى الصدر) وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ١٧٣ ، ٢٥٣ ، ١١٩٨ ، وشرح قطر الندى ص ٢٦١ ، والكتاب ١ / ٢٧٢ ، والمقرب ١ / ١٣١. وصدر البيت :

*وعدت وكان الخلف منك سجيّة*

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحميد بن ثور الهلالىّ فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٤ ، والكتاب ١ / ٢٣٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣٤٧ ، وليس فى ديوانه ، وبلا نسبة فى أمالى الحاجب ص ٣٥١ ، وشرح المفصل ٦ / ١٠٩ ، ولسان العرب (لحس) ، (علق) ، والمحتسب ٢ / ١٢١.

١٢

قد جرّبوه فما زادت تجاربهم

أبا قدامة إلا المجد والفنعا (١)

فقد يجوز أن يكون من هذا. وقد يجوز أن يكون (أبا قدامة) منصوبا ب (زادت) أى فما زادت أبا قدامة تجاربهم إيّاه إلا المجد. والوجه أن ينصب ب (تجاربهم) ؛ لأنه العامل الأقرب ، ولأنه لو أراد إعمال الأوّل لكان حرى أن يعمل الثانى أيضا ، فيقول : فما زادت تجاربهم إيّاه أبا قدامة إلا كذا ؛ كما تقول : (ضربت فأوجعته زيدا) ، وتضعّف (ضربت فأوجعت زيدا) على إعمال الأوّل. وذلك أنك إذا كنت تعمل الأوّل على بعده ، وجب إعمال الثانى أيضا لقربه ؛ لأنه لا يكون الأبعد أقوى حالا من الأقرب.

فإن قلت : أكتفى بمفعول العامل الأوّل من مفعول العامل الثانى ؛ قيل لك : فإذا كنت مكتفيا مختصرا فاكتفاؤك بإعمال الثانى الأقرب أولى من اكتفائك بإعمال الأوّل الأبعد. وليس لك فى هذا ما لك فى الفاعل ، لأنك تقول : لا أضمر على غير تقدّم ذكر إلا مستكرها ، فتعمل الأوّل فتقول (قام وقعدا أخواك). فأمّا المفعول فمنه بدّ ، فلا ينبغى أن تتباعد بالعمل إليه ، وتترك ما هو أقرب إلى المعمول فيه منه.

ومن ذلك (فرس وساع) الذكر والأنثى فيه سواء ، وفرس جواد ، وناقة ضامر ، وجمل ضامر ، وناقة بازل ، وجمل بازل ، وهو لباب قومه ، وهى لباب قومها ، وهم لباب قومهم ؛ قال جرير :

تدرّى فوق متنيها قرونا

على بشر وآنسة لباب (٢)

وقال ذو الرمة :

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٥٩ ، وتذكرة النحاة ص ٤٦٣ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٩٤ ، ولسان العرب (جرب) ، (ضغ) ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٤ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٣٥. الفنع : الكرم والعطاء الجزيل.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لجرير فى ملحق ديوانه ص ١٠٢١ ، ولسان العرب (لبب) ، وتاج العروس (لبب) ، والمذكر والمؤنث للأنبارى ص ٢٥٤ ، والمخصص ١٧ / ٣٣ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (بشر). ويروى : بسر بدلا من بشر.

١٣

سبحلا أبا شرخين أحيا بناته

مقاليتها فهى اللباب الحبائس (١)

فأمّا ناقة هجان ، ونوق هجان ، ودرع دلاص ، وأدرع دلاص فليس من هذا الباب ؛ فإن فعالا منه فى الجمع تكسير فعال فى الواحد. وقد تقدّم ذكر ذلك فى باب ما اتفق لفظه واختلف تقديره.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص ١١٣٦ ، ولسان العرب (لبب) ، (شرخ) ، (حبس) ، (سجل) ، وكتاب العين ٤ / ١٦٩ ، ٨ / ٣١٧ ، والمخصّص ١٣ / ٧٧ ، ١٧ / ٣٣ ، وتهذيب اللغة ٧ / ٨٢ ، ١٥ / ٣٣٧ ، وتاج العروس (لبب) ، (نفض) ، (سجل) والمذكر والمؤنث للأنبارى ص ٢٥٤. يصف فحل الإبل. والسبحل : الضخم ، والشرخ : نتاج السنة من أولاد الإبل. والمقاليت جمع المقلات ، وهى التى لا يعيش لها ولد. والحبائس : يحبسها من يملكها عليه.

* * *

١٤

باب فى ورود الوفاق مع وجود الخلاف

هذا الباب ينفصل من الذى قبله بأن ذلك تبع فيه اللفظ ما ليس وفقا له ؛ نحو رجل نسّابة ، وامرأة عدل. وهذا الباب الذى نحن فيه ليس بلفظ تبع لفظا ، بل هو قائم برأسه. وذلك قولهم : غاض الماء ، وغضته ؛ سوّوا فيه بين المتعدّى وغير المعدّى. ومثله جبرت يده ، وجبرتها ، وعمر المنزل ، وعمرته ، وسار الدابّة ، وسرته ، ودان الرجل ودنته ، من الدين فى معنى أدنته ـ وعليه جاء (مديون) فى لغة التميميّين ـ ، وهلك الشىء وهلكته ؛ قال العجّاج :

*ومهمه هالك من تعرّجا (١) *

فيه قولان : أحدهما أن (هالكا) بمعنى مهلك ، أى مهلك من تعرّج فيه.

والآخر : ومهمه هالك المتعرّجين فيه ؛ كقولك : هذا رجل حسن الوجه ، فوضع (من) موضع الألف واللام. ومثله هبط الشىء وهبطته ؛ قال :

ما راعنى إلا جناح هابطا

على البيوت قوطه العلابطا (٢)

أى مهبطا قوطه. وقد يجوز أن يكون أراد : هابطا بقوطه ، فلمّا حذف حرف الجرّ نصب بالفعل ضرورة. والأوّل أقوى.

فأمّا قول الله سبحانه (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤] فأجود القولين فيه أن يكون معناه : وإن منها لما يهبط من نظر إليه لخشية الله. وذلك أن

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢ / ٤٣ ، ٤٥ ، ولسان العرب (هلك) ، وجمهرة اللغة ص ٩٨٣ ، وديوان الأدب ٢ / ١٧٨ ، وكتاب العين ٣ / ٣٧٨ ، وتاج العروس (هلك) ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٦ / ١٥ ، والمخصص ٦ / ١٢٧. وبعده :

*هائلة أهواله من أدلجا*

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (جنح) ، (قوط) ، (لعط) ، (هبط) ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٨ ، والمنصف ١ / ٢٧ ، ونوادر أبى زيد ص ١٧٣ ، وتهذيب اللغة ٢ / ١٦٥ ، وتاج العروس (جنح) ، (علبط) ، (قوط) ، (لعط) ، وجمهرة اللغة ص ٣٦٣ ، ٤٠٣ ، ٩٢٥ ، ١١٢٦ ، ١٢٦٢. جناح : اسم راع. والقوط : القطيع من الغنم. والعلابط : القطيع أيضا وأقله خمسون. اللسان (قوط).

١٥

الإنسان إذا فكّر فى عظم هذه المخلوقات تضاءل وتخشّع ، وهبطت نفسه ؛ لعظم ما شاهد. فنسب الفعل إلى تلك الحجارة ، لمّا كان السقوط والخشوع مسبّبا عنها ، وحادثا لأجل النظر إليها ؛ كقول الله سبحانه (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] وأنشدوا بيت الآخر :

فاذكرى موقفى إذا التقت الخي

ل وسارت إلى الرجال الرجالا (١)

أى وسارت الخيل الرجال إلى الرجال.

وقد يجوز أن يكون أراد : وسارت إلى الرّجال بالرّجال ، فحذف حرف الجرّ ، فنصب. والأوّل أقوى. وقال خالد بن زهير :

فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها

فأوّل راض سيرة من يسيرها (٢)

ورجنت الدابّة بالمكان إذا أقامت فيه ، ورجنتها ، وعاب الشىء وعبته ، وهجمت على القوم ، وهجمت غيرى عليهم أيضا ، وعفا الشىء : كثر ، وعفوته : كثّرته ، وفغر فاه ، وفغر فوه ، وشحا فاه ، وشحا فوه ، وعثمت يده ، وعثمتها أى جبرتها على غير استواء ، ومدّ النهر ، ومددته ؛ قال الله عزوجل (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧] وقال الشاعر :

*ماء خليج مدّه خليجان (٣) *

وسرحت الماشية ، وسرحتها ، وزاد الشىء ، وزدته ، وذرا الشىء وذروته : طيّرته ، وخسف المكان ، وخسفه الله ، ودلع لسانه ودلعته ، وهاج القوم ، وهجتهم،

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (سير). ويروى : فاذكرن موضعا بدلا من : فاذكرى موقفى.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لخالد بن زهير فى أشعار الهذليين ص ٢١٣ ، وجمهرة اللغة ص ٧٢٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٨٤ ، ٨ / ٥١٥ ، ٩ / ٥٩ ، ولسان العرب (سير) ، ولخالد بن عتبة الهذلىّ فى لسان العرب (سنن) ، ولزهير فى الأشباه والنظائر ٢ / ٣٩٩ ، وليس فى ديوان زهير بن أبى سلمى ، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب ٢ / ٥٢٤. ويروى : سنة بدلا من : سيرة.

(٣) الرجز لأبى النجم فى كتاب العين ٤ / ١٦١ ، وبلا نسبة فى لسان العرب (خلج) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٦٠ ، وتاج العروس (خلج) ، والمخصّص ١٠ / ٣٢ ، ١٥ / ٥٤ ، وأساس البلاغة (مدد).

وقبله :

*إلى فتى فاض أكفّ الفتيان*

١٦

وطاخ الرجل وطخته ، أى لطخته بالقبيح ـ فى معنى أطخته ، ووفر الشىء ووفرته. وقال الأصمعىّ : رفع البعير ورفعته ـ فى السير المرفوع ـ وقالوا : نفى الشىء ونفيته ، أى أبعدته ؛ قال القطامىّ :

*فأصبح جاراكم قتيلا ونافيا (١) *

ونحوه نكرت البئر ونكرتها أى أقللت ماءها ، ونزفت ونزفتها.

فهذا كلّه شاذّ عن القياس وإن كان مطّردا فى الاستعمال ؛ إلا أن له عندى وجها لأجله جاز. وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه فإنما الفعل منه شيء أعيره وأعطيه وأقدر عليه ، فهو وإن كان فاعلا فإنه لما كان معانا مقدرا صار كأنّ فعله لغيره ؛ ألا ترى إلى قوله سبحانه (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] نعم ، وقد قال بعض الناس : إن الفعل لله وإن العبد مكتسبه ، وإن كان هذا خطأ عندنا فإنه قول لقوم. فلمّا كان قولهم : غاض الماء أن غيره أغاضه وإن جرى لفظ الفعل له ، تجاوزت العرب ذلك إلى أن أظهرت هناك فعلا بلفظ الأوّل متعدّيا ؛ لأنه قد كان فاعله فى وقت فعله إياه إنما هو مشاء (٢) إليه ، أو معان عليه. فخرج اللفظان لما ذكرنا خروجا واحدا. فاعرفه.

* * *

__________________

(١) صدر البيت من الطويل ، وهو للقطامى فى لسان العرب (نفى) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٤٧٦ ، وتاج العروس (نفى) ، وليس فى ديوانه وللأخطل فى ديوانه ص ٣١٥ ، وبلا نسبة فى ديوان الأدب ٤ / ٨٦. وعجز البيت :

*أصمّ فزادوا فى مسامعه وقرا*

(٢) مشاء إليه : هو وصف من أشاءه إلى الشىء : ألجأه إليه ، وهو لغة فى أجاءه ، وتنسب إلى تميم. انظر القاموس (شيأ).

١٧

باب فى نقض العادة

المعتاد المألوف فى اللغة أنه إذا كان فعل غير متعدّ كان أفعل متعدّيا ؛ لأن هذه الهمزة كثيرا ما تجيء للتعدية. وذلك نحو قام زيد ، وأقمت زيدا ، وقعد بكر ، وأقعدت بكرا. فإن كان فعل متعدّيا إلى مفعول واحد فنقلته بالهمزة صار متعدّيا إلى اثنين ؛ نحو طعم زيد خبزا ، وأطعمته خبزا ، وعطا بكر درهما ، وأعطيته درهما.

فأمّا كسى زيد ثوبا ، وكسوته ثوبا ، فإنه وإن لم ينقل بالهمزة فإنه نقل بالمثال ؛ ألا تراه نقل من فعل إلى فعل. وإنما جاز نقله بفعل لمّا كان فعل وأفعل كثيرا ما يعتقبان على المعنى الواحد ؛ نحو جدّ فى الأمر ، وأجدّ ، وصددته عن كذا ، وأصددته ، وقصر عن الشىء وأقصر ، وسحته الله وأسحته ، ونحو ذلك. فلما كانت فعل وأفعل على ما ذكرنا : من الاعتقاب والتعاوض ، ونقل بأفعل ، نقل أيضا فعل بفعل ؛ نحو كسى وكسوته ، وشترت عينه وشترها ، وعارت وعرتها ، ونحو ذلك.

هذا هو الحديث : أن (تنقل بالهمز) فيحدث النقل تعدّيا لم يكن قبله.

غير أن ضربا من اللغة جاءت فيه هذه القضيّة معكوسة مخالفة ؛ فتجد فعل فيها متعدّيا ، وأفعل غير متعدّ.

وذلك قولهم : أجفل الظليم ، وجفلته الريح ، وأشنق البعير إذا رفع رأسه ، وشنقته ، وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ، ونزفتها ، وأقشع الغيم ، وقشعته الريح ، وأنسل ريش الطائر ، ونسلته ، وأمرت الناقة إذا درّ لبنها ومريتها (١).

ونحو من ذلك ألوت الناقة بذنبها ، ولوت ذنبها ، وصرّ الفرس أذنه ، وأصرّ (٢) بأذنه ، وكبّه الله على وجهه ، وأكبّ هو ، وعلوت الوسادة ، وأعليت عنها.

__________________

(١) أى مسحت ضرعها لتدرّ.

(٢) أى سوى أذنه ونصبها للاستماع ، وذلك إذا جدّ فى السير.

١٨

فهذا نقض عادة الاستعمال ؛ لأن فعلت فيه متعدّ ، وأفعلت غير متعدّ.

وعلّة ذلك ـ عندى ـ أنه جعل تعدّى فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من غلبة أفعلت لها على التعدّى ؛ نحو جلس وأجلسته ، ونهض وأنهضته ؛ كما جعل قلب الياء واوا فى التقوى والرعوى والثنوى والفتوى عوضا للواو من كثرة دخول الياء عليها ؛ وكما جعل لزوم الضرب الأوّل من المنسرح لمفتعلن وحظر مجيئه تامّا أو مخبونا ، بل توبعت فيه الحركات الثلاث ألبتّة تعويضا للضرب من كثرة السواكن فيه ؛ نحو مفعولن ومفعولان ومستفعلان ونحو ذلك ممّا التقى فى آخره من الضروب ساكنان.

ونحو من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول ، وذلك نحو أحببته فهو محبوب ، وأجنّه الله فهو مجنون ، وأزكمه فهو مزكوم ، وأكزّه (١) فهو مكزوز ، وأقرّه فهو مقرور ، وآرضه الله فهو مأروض ، وأملأه الله فهو مملوء ، وأضأده (٢) الله فهو مضئود ، وأحمّه الله ـ من الحمّى ـ فهو محموم ، وأهمّه ـ من الهم ـ فهو مهموم ، وأزعقته فهو مزعوق أى مذعور.

ومثله ما أنشدناه أبو علىّ من قوله :

إذا ما استحمّت أرضه من سمائه

جرى وهو مودوع وواعد مصدق (٣)

وهو من أودعته. وينبغى أن يكون جاء على ودع.

وأما أحزنه الله فهو محزون فقد حمل على هذا ؛ غير أنه قد قال أبو زيد : يقولون : الأمر يحزننى ، ولا يقولون : حزننى ، إلا أنّ مجىء المضارع يشهد للماضى. فهذا أمثل ممّا مضى. وقد قالوا فيه أيضا : محزن ، على القياس. ومثله قولهم : مجبّ. منه بيت عنترة :

__________________

(١) أكزّه : أصابه بالكزاز. وهو تشنج يصيب الإنسان من شدة البرد ، وتعتريه منه رعدة.

(٢) أضأده : أى أصابه بالزكام.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لخفاف بن ندبة فى ديوانه ص ٣٣ ، وإصلاح المنطق ص ٧٣ ، والأصمعيّات ص ٢٤ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٧٢ ، ولسان العرب (أرض) ، (ودع) ، (صدق) ، ولسلمة بن الخرشب فى المعانى الكبير ص ١٥٦ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤٠٤ ، والدرر ٥ / ١٩٣ ، والمحتسب ٢ / ٢٤٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٤.

١٩

ولقد نزلت فلا تظنّى غيره

منّى بمنزلة المحبّ المكرم (١)

ومثله قول الأخرى :

لأنكحنّ ببّه

جارية خدبّه

مكرمة محبّه

تجبّ أهل الكعبة (٢)

وقال الآخر :

ومن يناد آل يربوع يجب

يأتيك منهم خير فتيان العرب

المنكب الأيمن والردف المحبّ (٣)

قالوا : وعلّة ما جاء من أفعلته فهو مفعول ـ نحو أجنّه الله فهو مجنون وأسلّه الله فهو مسلول ، وبابه ـ أنهم إنما جاءوا به على فعل ؛ نحو جنّ فهو مجنون ، وزكم فهو مزكوم ، وسلّ فهو مسلول. وكذلك بقيّته.

فإن قيل لك من بعد : وما بال هذا خالف فيه الفعل مسندا إلى الفاعل صورته مسندا إلى المفعول ، وعادة الاستعمال غير هذا ؛ وهو أن يجيء الضربان معا فى عدّة واحدة ؛ نحو ضربته وضرب ، وأكرمته وأكرم ، وكذلك مقاد هذا الباب؟

قيل : إنّ العرب لمّا قوى فى أنفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لعنترة فى ديوانه ص ١٩١ ، وأدب الكاتب ص ٦١٣ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٤٠٥ ، والاشتقاق ص ٣٨ ، والأغانى ٩ / ٢١٢ ، وجمهرة اللغة ص ٥٩١ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٢٧ ، ٩ / ١٣٦ ، والدرر ٢ / ٢٥٤ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٨٦ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٤٨٠ ، ولسان العرب (حبب) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤١٤ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٢ / ٧٠ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٦٤ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٢٥ ، والمقرب ١ / ١١٧ ، وهمع الهوامع ١ / ١٥٢.

(٢) الرجز لبنت أبى سفيان والدة عبد الله بن الحارث فى سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٩٩ ، الدرر ١ / ٢٢٦ ، وشرح المفصل ١ / ٣٢ ، ولسان العرب (ببب) ، (خدب) ، والمقاصد النحوية ١ / ٤٠٣ ، ولامرأة من قريش فى جمهرة اللغة ص ٦٣ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤٠٥ ، والمنصف ٢ / ١٨٢ ، وتاج العروس (ببب) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٤٢ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٥٩٣. ببّه : حكاية صوت الصبى. خدبّه : ضخمة.

(٣) الرجز بلا نسبة فى الأشباه والنظائر ٢ / ٤٠٥.

٢٠