الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

* قلنا لها قفى لنا قالت قاف (١) *

لو نقل إلينا هذا الشاعر شيئا آخر من جملة الحال فقال مع قوله «قالت قاف» : (وأمسكت بزمام بعيرها) ، أو (عاجته علينا) لكان أبين لما كانوا عليه ، وأدلّ على أنها أرادت : وقفت ، أو توقّفت ، دون أن يظنّ أنها أرادت : قفى لنا! أى يقول لى : قفى لنا! متعجّبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها (قاف) إجابة له ، لا ردّ لقوله وتعجّب منه فى قوله «قفى لنا».

وبعد فالحمّالون والحمّاميّون ، والساسة ، والوقّادون ، ومن يليهم ويعتدّ منهم ، يستوضحون من مشاهدة الأحوال ما لا يحصّله أبو عمرو من شعر الفرزدق إذا أخبر به عنه ، ولم يحضره ينشده. أولا تعلم أن الإنسان إذا عناه أمر فأراد أن يخاطب به صاحبه ، وينعم تصويره له فى نفسه استعطفه ليقبل عليه ؛ فيقول له : يا فلان ، أين أنت ، أرنى وجهك ، أقبل علىّ أحدّثك ، أما أنت حاضر يا هناه. فإذا أقبل عليه ، وأصغى إليه ، اندفع يحدّثه أو يأمره أو ينهاه ، أو نحو ذلك. فلو كان استماع الأذن مغنيا عن مقابلة العين ، مجزئا عنه لما تكلّف القائل ، ولا كلّف صاحبه الإقبال عليه ، والإصغاء إليه. وعلى ذلك قال :

العين تبدى الذى فى نفس صاحبها

من العداوة أو ودّ إذا كانا (٢)

وقال الهذلىّ :

رفونى وقالوا : يا خويلد لا ترع

فقلت ـ وأنكرت الوجوه ـ : هم هم (٣)

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى اللسان (وقف) والتهذيب ١٥ / ٦٧٩ ، والتاج (سين). رفونى : سكّنونى. وقال ابن هانئ يريد رفئونى ، فألقى الهمزة. ومعناه أنى فزعت فطار قلبى فضموا بعضى إلى بعض. وانظر اللسان (رفأ ، رفو).

(٢) البيت فى بيان الجاحظ بتحقيق الأستاذ هارون ١ / ٧٩. وقبله :

والعين تنطق ، والأفواه صامتة

حتى ترى من ضمير القلب تبيانا (نجار).

(٣) البيت له فى خزانة الأدب ١ / ٤٤٠ ، ٤٤٢ ، ٥ / ٨٦ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ٣٣٧ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٨٣ ، ولسان العرب (رفأ) ، (روع) ، (رفا) ، (ها) ، والمعانى الكبير ص ٩٠٢ ، وللهذلى دون تحديد فى إصلاح المنطق ص ١٥٣ ، وأمالى المرتضى ١ / ٣٥٠ ، وتذكرة النحاة ص ٥٧١ ، وبلا نسبة فى الاشتقاق ص ٤٨٨ ، وجمهرة اللغة ص ٧٨٨.

٢٦١

أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه ، وجعلها دليلا على ما فى النفوس.

وعلى ذلك قالوا : «رب إشارة أبلغ من عبارة» وحكاية الكتاب من هذا الحديث ، وهى قوله : (ألا تا) و (بلى فا). وقال لى بعض مشايخنا رحمه‌الله : أنا لا أحسن أن أكلّم إنسانا فى الظلمة.

ولهذا الموضع نفسه ما توقّف أبو بكر عن كثير ممّا أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق ، واحتجّ أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ، ولم ندر ما حديثها ، ومثّل له بقولهم (رفع عقيرته) إذا رفع صوته. قال له أبو بكر : فلو ذهبنا نشتقّ لقولهم (ع ق ر) من معنى الصوت لبعد الأمر جدّا ؛ وإنما هو أنّ رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته ، فقال الناس : رفع عقيرته ، أى رجله المعقورة. قال أبو بكر : فقال أبو إسحاق : لست أدفع هذا.

ولذلك قال سيبويه فى نحو من هذا : أو لأن الأوّل وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر ، يعنى ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.

فليت شعرى إذا شاهد أبو عمرو وابن أبى إسحاق ، ويونس ، وعيسى بن عمر ، والخليل ، وسيبويه ، وأبو الحسن ، وأبو زيد ، وخلف الأحمر ، والأصمعىّ ، ومن فى الطبقة والوقت من علماء البلدين ، وجوه العرب فيما تتعاطاه من كلامها ، وتقصد له من أغراضها ، ألا تستفيد بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤدّيه الحكايات ، ولا تضبطه الروايات ، فتضطرّ إلى قصود العرب ، وغوامض ما فى أنفسها ، حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلّته عليه إشارة ، لا عبارة ، لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقا فيه ، غير متّهم الرأى والنحيزة والعقل.

فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا ، وكأنه حاضر معنا ، مناج لنا.

وأمّا ما روى لنا فكثير. منه ما حكى الأصمعىّ عن أبى عمرو قال : سمعت رجلا من اليمن يقول : فلان لغوب ، جاءته كتابى فاحتقرها. فقلت له : أتقول جاءته كتابى! قال : نعم أليس بصحيفة. أفتراك تريد من أبى عمرو وطبقته وقد نظروا ، وتدرّبوا ، وقاسوا ، وتصرّفوا أن يسمعوا أعرابيّا جافيا غفلا ، يعلّل هذا

٢٦٢

الموضع بهذه العلّة ، ويحتجّ لتأنيث المذكّر بما ذكره ، فلا (يهتاجواهم) لمثله ، ولا يسلكوا فيه طريقته ، فيقولوا : فعلوا كذا لكذا ، وصنعوا كذا لكذا ، وقد شرع لهم العربىّ ذلك ، ووقفهم على سمته وأمّه.

وحدّثنا أبو علىّ عن أبى بكر عن أبى العباس أنه قال : سمعت عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير يقرأ (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [سورة يس : ٤٠] فقلت له ما تريد؟ قال : أردت : سابق النهار. فقلت له : فهلا قلته؟ فقال : لو قلته لكان أوزن. ففى هذه الحكاية لنا ثلاثة أغراض مستنبطة منها : أحدها تصحيح قولنا : إن أصل كذا كذا ، والآخر قولنا : إنها فعلت كذا لكذا ؛ ألا تراه إنما طلب الخفّة ، يدلّ عليه قوله : لكان أوزن : أى أثقل فى النفس وأقوى ، من قولهم : هذا درهم وازن : أى ثقيل له وزن. والثالث أنها قد تنطق بالشىء غيره فى أنفسها أقوى منه ؛ لإيثارها التخفيف.

وقال سيبويه حدّثنا من نثق به أن بعض العرب قيل له أما بمكان كذا وكذا وجد (١)؟ فقال : بلى وجاذا ، أى أعرف بها وجاذا ، وقال أيضا : وسمعنا بعضهم يدعو على غنم رجل ، فقال : اللهم ضبعا وذئبا ، فقلنا : له ما أردت؟ فقال : أردت : اللهمّ اجمع فيها ضبعا وذئبا ، كلّهم يفسّر ما ينوى.

فهذا تصريح منهم بما ندّعيه عليهم ، وننسبه إليهم.

وسألت الشجرىّ يوما فقلت : يا أبا عبد الله ، كيف تقول ضربت أخاك؟ فقال : كذاك. فقلت : أفتقول : ضربت أخوك؟ فقال : لا أقول : أخوك أبدا. قلت : فكيف تقول ضربنى أخوك؟ فقال : كذاك. فقلت : ألست زعمت أنك لا تقول : أخوك أبدا؟ فقال أيش ذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا فى معناه إلا كقولنا نحن : صار المفعول فاعلا ، وإن لم يكن بهذا اللفظ البتّة فإنه هو لا محالة.

ومن ذلك ما يروى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قوما من العرب أتوه ، فقال لهم : من أنتم؟ فقالوا : نحن بنو غيّان ، فقال : بل أنتم بنو رشدان (٢). فهل هذا إلا كقول

__________________

(١) الوجذ : النقرة فى الجبل تمسك الماء ويستنقع فيها ، والجمع وجذان ووجاذ. اللسان (وجذ).

(٢) قال النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رشدان ـ بالفتح ـ ليحاكى به غيّان ، قال ابن سيده : وهذا واسع كثير

٢٦٣

أهل الصناعة : إن الألف والنون زائدتان ، وإن كان ـ عليه‌السلام ـ لم يتفوّه بذلك ، غير أن اشتقاقه إيّاه من الغىّ بمنزلة قولنا نحن : إن الألف والنون فيه زائدتان. وهذا واضح. وكذلك قولهم : إنما سمّيت هانئا لتهنأ ، قد عرفنا منه أنهم كأنهم قد قالوا : إن الألف فى هانئ زائدة ، وكذلك قولهم : فجاء (١) يدرم من تحتها ـ أى يقارب خطاه ، لثقل الخريطة بما فيها ، فسمى دارما ـ قد أفادنا اعتقادهم زيادة الألف فى دارم عندهم.

* * *

__________________

فى ـ كلام العرب ؛ يؤثرون المحاكاة تاركين القياس ، كقولهم : عيناء حوراء ، من الحير العين. وانظر اللسان (رشد).

(١) «ابن مالك بن حنظلة أبو حىّ من تيم وكان يسمى بحرا لأنّ أباه أتاه قوم فى حمالة فقال له يا بحر ائتني بخريطة المال فجاءه يحملها وهو يدرم تحتها : يقارب خطاه وأصله من درمت الفأرة والأرنب والقنفذ تدرم ـ بالكسر ـ درما ، فسمّى دارما لذلك. اللسان والقاموس (درم).

٢٦٤

باب فى الحمل على الظاهر

 وإن أمكن أن يكون المراد غيره

اعلم أن المذهب هو هذا الذى ذكرناه ، والعمل عليه ، والوصيّة به. فإذا شاهدت ظاهرا يكون مثله أصلا أمضيت الحكم على ما شاهدته من حاله ، وإن أمكن أن تكون الحال فى باطنه بخلافه ؛ ألا ترى أن سيبويه حمل سيدا على أنه مما عينه ياء ، فقال فى تحقيره : سييد ، كديك ودييك ، وفيل وفييل. وذلك أن عين الفعل لا ينكر أن تكون ياء ، وقد وجدت فى سيد ياء ، فهى فى ظاهر أمرها ، إلى أن يرد ما يستنزل عن بادى حالها.

فإن قلت : فإنا لا نعرف فى الكلام تركيب (س ى د) فهلا لمّا لم يجد ذلك ، حمل الكلمة على ما فى الكلام مثله ، وهو ما عينه من هذا اللفظ واو ، وهو السواد والسّودد ، ونحو ذلك؟

قيل : هذا يدلّك على قوّة الظاهر عندهم ، وأنه إذا كان ممّا تحتمله القسمة ، وتنتظمه القضيّة ، حكم به وصار أصلا على بابه. وليس يلزم إذا قاد الظاهر إلى إثبات حكم تقبله الأصول ولا تستنكره ألّا يحكم به ، حتى يوجد له نظير. وذلك أن النظير ـ لعمرى ـ مما يؤنس به ، فأمّا ألا تثبت الأحكام إلا به فلا ؛ ألا ترى أنه قد أثبت فى الكلام فعلت تفعل ، وهو كدت تكاد ، وإن لم يوجدنا غيره ، وأثبت بانقحل باب (انفعل) ، وإن لم يحك هو غيره ، وأثبت بسخاخين (فعاعيلا) وإن لم يأت بغيره.

فإن قلت : فإنّ (سيدا) ممّا يمكن أن يكون من باب ريح وديمة ، فهلا توقّف عن الحكم بكون عينه ياء ؛ لأنه لا يأمن أن تكون واوا؟ قيل : هذا الذى تقوله إنما تدّعى فيه ألا يؤمن أن يكون من الواو ؛ وأمّا الظاهر فهو ما تراه. ولسنا ندع حاضرا له وجه من القياس لغائب مجوّز ليس عليه دليل.

فإن قيل : كثرة عين الفعل واوا تقود إلى الحكم بذاك ، قيل : إنما يحكم بذاك مع عدم الظاهر ، فأمّا والظاهر معك ، فلا معدل عنه بك. لكن ـ لعمرى ـ إن لم

٢٦٥

يكن معك ظاهر احتجت إلى التعديل ، والحكم بالأليق ، والحمل على الأكثر.

وذلك إذا كانت العين ألفا مجهولة فحينئذ ما تحتاج إلى تعديل الأمر ، فتحمل على الأكثر. فلذلك قال فى ألف (آءة) (١) : إنها بدل من واو. وكذلك ينبغى أن تكون ألف (الراء) لضرب من النبت ، وكذلك ألف (الصاب) لضرب من الشجر. فأمّا ألا يجيء من ذلك اللفظ نظير فتعلّل بغير نافع ولا مجد ؛ ألا ترى أنك تجد من الأصول ما لم يتجاوز به موضع واحد كثيرا. من ذلك فى الثلاثى حوشب (٢) ، وكوكب ، ودودرّى (٣) ، وأبنبم. فهذه ونحوها لا تفارق موضعا واحدا ، ومع ذلك فالزوائد فيها لا تفارقها.

وعلى نحو ممّا جئنا به فى (سيد) حمل سيبويه عيّنا ، فأثبت به (فيعلا) ممّا عينه ياء ، وقد كان يمكن أن يكون (فوعلا) و (فعولا) من لفظ العين ومعناها ، ولو حكم بأحد هذين المثالين لحمل على مألوف غير منكور ؛ [ألا ترى أن فوعلا وفعولا] لا مانع لكلّ واحد منهما أن يكون فى المعتلّ كما يكون فى الصحيح ، وأمّا (فيعل) ـ بفتح العين ـ ممّا عينه معتلّة فعزيز ، ثمّ لم يمنعه عزّة ذلك أن حكم به على (عيّن) وعدل عن أن يحمله على أحد المثالين اللذين كل واحد منهما لا مانع له من كونه فى المعتلّ العين كونه فى صحيحها. وهذا أيضا مما يبصّرك بقوّة الأخذ بالظاهر عندهم ، وأنه مكين القدم راسيها فى أنفسهم.

وكذلك يوجب القياس فيما جاء من الممدود لا يعرف له تصرّف ، ولا مانع من الحكم بجعل همزته أصلا ، فينبغى حينئذ أن يعتقد فيها أنها أصلية. وكذلك همزة (قساء) (٤) فالقياس يقتضى اعتقاد كونها أصلا ، اللهمّ إلّا أن يكون (قساء) هو (قسى) فى قوله :

__________________

(١) آءة تجمع على آء بوزن عاع : هو نوع من الشجر. اللسان (أوأ).

(٢) الحوشب : العظيم البطن ، المنتفخ الجبين. وانظر اللسان (حشب).

(٣) الدّودرىّ : العظيم الخصيتين ، لم يستعمل إلا مزيدا إذ لا يعرف فى الكلام مثل ددر. اللسان (ددر).

(٤) قساء : موضع ، وقد قيل : هو قسى بعينه. قال الوزير : قساء ـ بكسر القاف ـ اسم موضع مصروف ، وقساء ـ بضم القاف ـ اسم موضع غير مصروف. اللسان (قسا).

٢٦٦

بجوّ من قسى ذفر الخزامى

تداعى الجربياء به الحنينا (١)

فإن كان كذلك وجب أن يحكم بكون همزة (قساء) أنها بدل من حرف العلّة الذى أبدلت منه ألف (قسى). وأن يكون ياء أولى من أن يكون واوا ؛ لما ذكرناه فى كتابنا فى شرح المقصور والممدود ليعقوب بن السكّيت.

فإن قلت : فلعلّ (قسى) هذا مبدل من (قساء) والهمزة فيه هى الأصل. قيل :

هذا حمل على الشذوذ ؛ لأن إبدال الهمز شاذّ ، والأوّل أقوى ؛ لأن إبدال حرف العلة همزة إذا وقع طرفا بعد ألف زائدة هو الباب.

وذكر محمد (٢) بن الحسن (أروى) فى باب (أرو) فقلت لأبى على : من أين له أن اللام واو؟ وما يؤمنه أن تكون ياء ، فتكون من باب التّقوى ، والرعوى؟ فجنح إلى ما نحن عليه : من الأخذ بالظاهر ، وهو القول.

فاعرف بما ذكرته قوّة اعتقاد العرب فى الحمل على الظاهر ، ما لم يمنع منه مانع. وأمّا حيوة ، والحيوان فيمنع من حمله على الظاهر أنا لا نعرف فى الكلام ما عينه ياء ولامه واو ، فلا بدّ أن تكون الواو بدلا من ياء ، لضرب من الاتساع مع استثقال التضعيف فى الياء ، ولمعنى العلميّة فى حيوة. وإذا كانوا قد كرهوا تضعيف الياء مع الفصل حتى دعاهم ذلك إلى التغيير فى حاحيت ، وهاهيت ، وعاعيت كان إبدال اللام فى الحيوان ـ ليختلف الحرفان ـ أولى وأحجى.

فإن قلت : فهلا حملت الحيوان على ظاهره ، وإن لم يكن له نظير ، كما حملت سيدا على ظاهره ، وإن لم تعرف تركيب (س ى د)؟ قيل : ما عينه ياء كثر ، وما عينه ياء ولامه واو مفقود أصلا من الكلام. فلهذا أثبتنا سيدا ، ونفينا (ظاهر أمر) الحيوان.

__________________

(١) البيت لابن أحمر فى ديوانه ص ١٥٩ ، ولسان العرب (قسأ) ، (جرب) ، (هجل) ، وجمهرة اللغة ص ٢٦٦ ، ٢٨٩ ، والتاج (فقأ) ، (جنن) ، (قسا) ، ويروى البيت :

بهجل من قسا ذفر الخزامى

تهادى الجربياء به الحنينا

و «الهجل» المطمئن من الأرض ذفر الخزامى : ذكىّ ريح الخزامى ، طيّبها. والخزامى : نبت. ويقال للشمال «الجربياء» وانظر الكامل ٢ / ٣٦٧.

(٢) هو ابن دريد. وانظر اللسان (روى).

٢٦٧

وكذلك القول فى نون عنتر ، وعنبر : ينبغى أن تكون أصلا ، وإن كان قد جاء عنهم نحو عنبس ، وعنسل ؛ لأن ذينك أخرجهما الاشتقاق. وأما عنتر وعنبر ، وخنشلت (١) وحنزقر (٢) ، وحنبتر (٣) ، ونحو ذلك فلا اشتقاق يحكم له بكون شيء منه زائدا ، فلا بدّ من القضيّة بكونه كله أصلا. فاعرف ذلك ، واكتف به بإذن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) الخنشل : المسن من الناس والإبل. اللسان (خنشل). الحنزقر : القصير الدميم من الناس. اللسان (حنزقر). والحنبتر : الشدة. اللسان (حنبتر).

٢٦٨

باب فى مراتب الأشياء

 وتنزيلها تقديرا وحكما ، لا زمانا ووقتا

هذا الموضع كثير الإيهام لأكثر من يسمعه ، لا حقيقة تحته. وذلك كقولنا : الأصل فى قام قوم ، وفى باع بيع ، وفى طال طول ، وفى خاف ، ونام ، وهاب خوف ، ونوم ، وهيب ، وفى شدّ شدد ، وفى استقام استقوم ، وفى يستعين يستعون ، وفى يستعدّ يستعدد. فهذا يوهم أن هذه الألفاظ وما كان نحوها ـ مما يدّعى أن له أصلا يخالف ظاهر لفظه ـ قد كان مرّة يقال ؛ حتى إنهم كانوا يقولون فى موضع قام زيد : قوم زيد ، وكذلك نوم جعفر ، وطول محمد ، وشدد أخوك يده ، واستعدد الأمير لعدوّه ؛ وليس الأمر كذلك ، بل بضدّه. وذلك أنه لم يكن قطّ مع اللفظ به إلا على ما تراه وتسمعه.

وإنما معنى قولنا : إنه كان أصله كذا : أنه لو جاء مجىء الصحيح ولم يعلل لوجب أن يكون مجيئه (على ما ذكرنا). فأمّا أن يكون استعمل وقتا من الزمان كذلك ، ثم انصرف عنه فيما بعد إلى هذا اللفظ فخطأ لا يعتقده أحد من أهل النظر.

ويدلّ على أن ذلك عند العرب معتقد كما أنه عندنا مراد معتقد إخراجها بعض ذلك مع الضرورة ، على الحدّ الذى نتصوّره نحن فيه. وذلك قوله :

صددت فأطولت الصدود وقلّما

وصال على طول الصدود يدوم (١)

هذا يدلّك على أن أصل أقام أقوم ، وهو الذى نومئ نحن إليه ونتخيّله ، فربّ حرف يخرج هكذا منبهة على أصل بابه ، ولعلّه إنما أخرج على أصله فتجشّم ذلك فيه لما يعقب من الدلالة على أوّليّة أحوال أمثاله.

وكذلك قوله :

__________________

(١) البيت للمرار الفقعسى فى ديوانه ص ٤٨٠ ، الأزهية ص ٩١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٢٦ ، ٢٢٧ ، ٢٢٩ ، خزانة الأدب ١ / ١٤٥ ، ولسان العرب (طول) ، (قلل) وهمع الهوامع ٢ / ٨٣ ، ٢٢٤.

٢٦٩

* أنى أجود لأقوام وإن ضننوا (١) *

فأنت تعلم بهذا أن أصل شلّت يده شللت : أى لو جاء مجىء الصحيح لوجب فيه إظهار تضعيفه. وقد قال الفرزدق :

ولو رضيت يداى بها وضنّت

لكان علىّ فى القدر الخيار (٢)

(فأصل ضنّت إذا ضننت ، بدلالة قوله : ضننوا).

وكذلك قوله :

تراه ـ وقد فات الرماة ـ كأنه

أمام الكلاب مصغى الخدّ أصلم (٣)

تعلم منه أن أصل قولك : هذا معطى زيد : معطى زيد.

ومن أدلّ الدليل على أن هذه الأشياء التى ندّعى أنها أصول مرفوضة لا يعتقد أنها قد كانت مرّة مستعملة ثم صارت من بعد مهملة ما تعرضه الصنعة فيها من تقدير ما لا يطوع النطق به لتعذّره. وذلك كقولنا فى شرح حال الممدود غير المهموز الأصل ؛ نحو سماء ، وقضاء. ألا ترى أن الأصل سماو ، وقضاى ، فلمّا وقعت الواو والياء طرفا بعد ألف زائدة قلبتا ألفين ، فصار التقدير بهما إلى سماا ،

__________________

(١) عجز البيت لقعنب ابن أم صاحب فى سمط اللآلى ص ٥٧٦ ، والكتاب ١ / ٢٩ ، ٣ / ٥٣٥ ، ولسان العرب (ظلل) ، (صنن) ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، ٢ / ٣٠٣ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ١ / ١٥٠ ، ٢٤٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤١ ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، ٢٥٣ ، ٣ / ٢٥٤. ويروى صدره :

* مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقى*

(٢) البيت للفرزدق فى ديوانه ١ / ٢٩٤ ، والمحتسب ٢ / ١٨١ ، والمقرب ١ / ٢٥٢ ، ويروى (للقدر) مكان فى القدر. والكامل ١ / ١٧٨ بتحقيقى. وقبله.

ندمت ندامة الكسعىّ لما

غدت مني مطلّقة نوار

وكانت جنّتى فخرجت منها

كآدم حين أخرجه الضّرار

ولو أنى ملكت يدى ونفسى

لكان علىّ للقدر الخيار

«ونوار» هذه كانت زوجته. تاقت نفسه إليها بعد أن طلقها ثلاثا.

(٣) البيت لأبى خراش الهذلى فى شرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢١٩ ، والمعانى الكبير ص ٧٣٠ ، وبلا نسبة فى الممتع فى التصريف ٢ / ٥٥٦ ، والمنصف ٢ / ٨١. أصلم : مقطوع الأذنين.

٢٧٠

وقضاا ، فلمّا التقت الألفان تحرّكت الثانية [منهما] فانقلبت همزة ، فصار ذلك إلى سماء ، وقضاء. أفلا تعلم أن أحد ما قدّرته ـ وهو التقاء الألفين ـ لا قدرة لأحد على النطق به.

(وكذلك) ما نتصوّره وننبّه عليه أبدا من تقدير (مفعول) مما عينه أحد حرفى العلّة ؛ وذلك نحو مبيع ، ومكيل ، ومقول ، ومصوغ ؛ ألا تعلم أن الأصل مبيوع ، ومكيول ، ومقوول ، ومصووغ ، فنقلت الضمّة من العين إلى الفاء ، فسكنت ، وواو مفعول بعدها ساكنة ، فحذفت إحداهما ـ على الخلاف فيهما ـ لالتقاء الساكنين.

فهذا جمع لهما تقديرا وحكما. فأمّا أن يمكن النطق بهما على حال فلا.

واعلم مع هذا أن بعض ما ندّعى أصليته من هذا الفنّ قد ينطق به على ما ندّعيه من حاله ـ وهو أقوى الأدلّة على صحّة ما نعتقده من تصوّر الأحوال الأول ـ وذلك اللغتان تختلف فيهما القبيلتان كالحجازيّة والتميميّة ؛ ألا ترى أنا نقول فى الأمر من المضاعف فى التميمية ـ نحو شدّ ، وضنّ ، وفرّ ، واستعدّ ، واصطبّ (١) يا رجل ، واطمئن يا غلام ـ : إن الأصل اشدد ، واضنن ، وافرر ، واستعدد ، واصطبب ، واطمأنن ، ومع هذا فهكذا لغة أهل الحجاز ، وهى اللغة الفصحى القدمى.

ويؤكّد ذلك قول الله سبحانه : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [الكهف : ٩٧] ، أصله استطاعوا ، فحذّفت التاء لكثرة الاستعمال ، ولقرب التاء من الطاء ، وهذا الأصل مستعمل ؛ ألا ترى أن عقيبه قوله تعالى : (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) [الكهف : ٩٧].

وفيه لغة أخرى ؛ وهى : استعت بحذف الطاء كحذف التاء ؛ ولغة ثالثة : اسطعت ، بقطع الهمزة مفتوحة ، ولغة رابعة : أستعت ، مقطوعة الهمزة مفتوحة أيضا. فتلك خمس لغات : استطعت ، واسطعت ، واستعت ، واسطعت ، وأستعت. وروينا بيت الجران :

وفيك إذا لا لاقيتنا عجرفيّة

فما نستيع من يتعجرف (٢)

__________________

(١) اصطب : صب.

(٢) البيت لجران العود فى ديوانه ص ٥٧ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٠٢ ، وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ٣٩٤.

٢٧١

بضمّ حرف المضارعة وبالتاء.

ومن ذلك اسم المفعول من الثلاثيّ المعتلّ العين ؛ نحو مبيع ، ومخيط ، ورجل مدين ، من الدّين. فهذا كله مغيّر. وأصله مبيوع ، ومديون ، ومخيوط ، فغير ، على ما مضى. ومع ذلك فبنو تميم ـ على ما حكاه أبو عثمان عن الأصمعىّ ـ يتمّون مفعولا من الياء ، فيقولون : مخيوط ومكيول ؛ قال :

قد كان قومك يزعمونك سيّدا

وإخال أنك سيّد معيون (١)

وأنشد أبو عمرو بن العلاء :

* وكأنها تفّاحة مطيوبة (٢) *

وقال علقمة بن عبدة :

* يوم رذاذ عليه الدجن مغيوم (٣) *

ويروى : يوم رذاذ.

وربما تخطّوا الياء فى هذه إلى الواو ، وأخرجوا مفعولا منها على أصله ؛ وإن كان (أثقل منه من) الياء. وذلك قول بعضهم : ثوب مصوون ، وفرس مقوود ، ورجل معوود من مرضه. وأنشدوا فيه :

* والمسك فى عنبره مدووف (٤) *

__________________

(١) البيت للعباس بن مرداس فى ديوانه ص ١٠٨ ، وجمهرة اللغة ص ٩٥٦ ، والحيوان ٢ / ١٤٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٩٥ ، ولسان العرب (عين) وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٤٠٤ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٧٦٦ ، والمقتضب ١ / ١٠٢. والمعيون : المصاب بالعين.

(٢) البيت لشاعر تميمى فى المقاصد النحوية ٤ / ٥٧٤ ، وبلا نسبة فى أوضح المسالك ٤ / ٤٠٤ ، والمقتضب ١ / ١٠١ ، والمنصف ١ / ٢٨٦ ، ٣ / ٤٧.

(٣) عجز البيت لعلقمة بن عبدة فى ديوانه ص ٥٩ ، وجمهرة اللغة ص ٩٦٣ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٩٥ ، وشرح المفصل ١٠ / ٧٨ ، ٨٠ ، والمقتضب ١ / ١٠١ ، والممتع فى التصريف ٢ / ٤٦٠ ، وبلا نسبة فى شرح الأشمونى ٣ / ٨٦٦ ، وصدر البيت :

* حتّى تذكّر بيضات وهيّجه*

(٤) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (دوف) ، وتاج العروس (دوف) وشرح المفصل ١٠ / ٨٠ والممتع فى التصريف ٢ / ٣٦١ ، والمنصف ١ / ٢٨٥.

٢٧٢

ولهذا نظائر كثيرة ؛ إلا أن هذا سمتها وطريقها.

فقد ثبت بذلك أن هذه الأصول المومأ إليها على أضرب :

منها ما لا يمكن النطق به أصلا ؛ نحو ما اجتمع فيه ساكنان ؛ كسماء ، ومبيع ، ومصوغ ، ونحو ذلك.

ومنها ما يمكن النطق به ، غير أن فيه من الاستثقال ما دعا إلى رفضه واطّراحه ، إلا أن يشذّ الشىء القليل منه فيخرج على أصله منبهة ودليلا على أوليّة حاله ؛ كقولهم : لححت عينه ، وألل السقاء ، إذا تغيّرت ريحه ، وكقوله :

لا بارك الله فى الغوانى هل

يصبحن إلا لهنّ مطّلب (١)

ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الياء فى نحو موسر ، وموقن ، والواو فى نحو ميزان ، وميعاد ، وامتناعهم من إخراج افتعل وما تصرّف منه إذا كانت فاؤه صادا ، أو ضادا ، أو طاء ، أو ظاء ، أو دالا ، أو ذالا ، أو زايا على أصله ، وامتناعهم من تصحيح الياء والواو إذا وقعتا طرفين بعد ألف زائدة ، وامتناعهم من جمع الهمزتين فى كلمة واحدة ملتقيتين غير عينين. فكل هذا وغيره مما يكثر تعداده ، يمتنع منه استكراها للكلفة فيه ، وإن كان النطق به ممكنا غير متعذّر.

وحدّثنا أبو علىّ رحمه‌الله فيما حكاه ـ أظنه ـ عن خلف الأحمر : قال : يقال التقطت النوى ، واشتقطته ، واضتقطته. فصحّح تاء افتعل وفاؤه ضاد ، ونظائره ـ مما يمكن النطق به إلا أنه رفض استثقالا له ـ كثيرة. قال أبو الفتح : ينبغى أن تكون الضاد فى اضتقطت بدلا من شين اشتقطت ، فلذلك ظهرت ؛ كما تصحّ التاء مع الشين. ونظيره قوله :

* مال إلى أرطاة حقف فالطجع (٢) *

__________________

(١) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات فى ديوانه ص ٣ ، والأزهيّة ص ٢٠٩ ، والدرر ١ / ١٦٨ ، وشرح شواهد المغنى ص ٦٢ والكتاب ٣ / ٣١٤ ، واللسان (غنا) ، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب ص ٢٤٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٣.

(٢) الرجز لمنظور بن حبة الأسدى فى شرح التصريح ٢ / ٣٦٧ ، وبلا نسبة فى التنبيه والإيضاح ٢ / ٢٣٤ والتاج (أبز) ، (أرط) ، (ضجع) والأشباه والنظائر ٢ / ٣٤٠ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٧١

٢٧٣

اللام بدل من الضاد ، فلذلك أقرّت الطاء بدلا من التاء ، وجعل ذلك دليلا على البدل.

ومنها ما يمكن النطق به إلا أنه لم يستعمل ، لا لثقله لكن لغير ذلك : من التعويض منه ، أو لأن الصنعة أدّت إلى رفضه. وذلك نحو (أن) مع الفعل إذا كان جوابا للأمر والنهى ، وتلك الأماكن السبعة ؛ نحو اذهب فيذهب معك (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] وذلك أنهم عوضوا من (أن) الناصبة حرف العطف ، (وكذلك) قولهم : لا يسعنى شيء ويعجز عنك ، وقوله :

 ... إنما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (١)

صارت أو [والواو] فيه عوضا من (أن) ، وكذلك الواو التى تحذف (معها ربّ) فى أكثر الأمر ؛ نحو قوله :

* وقاتم الأعماق خاوى المخترق (٢) *

__________________

 ـ ولسان العرب (أبز) ، (أرط) (ضجع) ، (رطا) ، والمحتسب ١ / ١٠٧ ، المنصف ٢ / ٣٢٩.

وقبله :

* لما رأى أن لا دعه ولا شبع*

فإنه أراد فاضطجع ، فأبدل الضاد لاما ، وهو شاذّ. وقد روى : فاضطجع ، ويروى : فاطّجع ، على إبدال الضاد طاء ثم إدغامها فى الطاء ، ويروى أيضا : فاضّجع ، بتشديد الضاد ، على لغة من قال : مصّبر فى مصطبر. انظر اللسان (ضجع).

(١) البيت لامرئ القيس فى ديوانه ص ٦٦ ، وكتاب العين ٨ / ٤٣٨ ، ولسان العرب (أوا) والأزهية ص ١٢٢ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢١٢ ، ٨ / ٥٤٤ ، ٥٤٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٥٩ ، وشرح المفصل ٧ / ٢٢ ، ٣٣ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٢٨ ، والكتاب ٣ / ٤٧ ، واللامات ص ٦٨ ، والمقتضب ٢ / ٢٨ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ١ / ٣١٣ ، وشرح الأشمونى ٣ / ٥٥٨ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٤٤ ، واللمع ص ٢١١.

(٢) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٠٤ ، والأغانى ١٠ / ١٥٨ ، وجمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، ٦١٤ ، ٩٤١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٥ ، الخصائص ٢ / ٢٢٨ ، الدرر ٤ / ١٩٥ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٢٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٧٦٤ ، ٧٨٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٧٢ ، ٥ / ٥٨ ، وأساس البلاغة (قتم) ولسان العرب (خفق) ، (عمق) ، (غلا) ومغنى اللبيب ١ / ٣٤٢ والمقاصد النحوية ١ / ٣٨ ، المنصف ٢ / ٣ ، ٣٠٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٦ ، وتهذيب اللغة ١ / ٢٩٠ ، ٩ / ٦٦ ، وتاج العروس (هرجب) ، (خفق) ، (عمق) ، (كلل) ، جمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، ٦١٤ ، ٩٤١ ، وبلا نسبة فى الخصائص ٢ / ٢٦٠ ، ٣٢٠ ، ورصف المبانى ص ٣٥٥ ، ـ

٢٧٤

غير أن الجرّ لربّ لا للواو ، كما أن النصب فى الفعل إنما هو لأن المضمرة ، لا للفاء ولا للواو ولا (لأو).

ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره. مصدرا كان أو غيره ؛ نحو ضربا زيدا ، وشتما عمرا. وكذلك دونك زيدا ، وعندك جعفرا ، ونحو ذلك : من الأسماء المسمّى بها الفعل. فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب.

ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة ؛ نحو قولك إذا رأيت قادما : خير مقدم ، أى قدمت خير مقدم. فنابت الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب. وكذلك قولك للرجل يهوى بالسيف ليضرب به : عمرا ، وللرامى للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتا : القرطاس والله : أى اضرب عمرا ، وأصاب القرطاس.

فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله ؛ بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه ، ومؤد تأديته. وقد ذكرنا فى كتابنا الموسوم «بالتعاقب» من هذا النحو ما فيه كاف بإذن الله تعالى.

* * *

__________________

وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٩٣ ، ٥٠٢ ، ٦٣٩ ، وشرح الأشمونى ١ / ١٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٣٧٢ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٨ ، والعقد الفريد ٥ / ٥٠٦ ، والكتاب ٤ / ١١٠ ولسان العرب (هرجب) ، (قيد) ، (قتم) ، (وجه) ، وهمع الهوامع ٢ / ٨٠ ، وكتاب العين ١ / ١٨٨ ، وتاج العروس (وجه).

٢٧٥

باب فى فرق بين البدل والعوض

جماع ما فى هذا أن البدل أشبه بالمبدل منه من العوض بالمعوّض منه. وإنما يقع البدل فى موضع المبدل منه ، والعوض لا يلزم فيه ذلك ؛ ألا تراك تقول فى الألف من قام : إنها بدل من الواو التى هى عين الفعل ، ولا تقول فيها : إنها عوض منها ، وكذلك يقال فى واو جون وياء مير : إنها بدل للتخفيف من همزة جؤن ومئر (١) ، ولا تقول : إنها عوض منها. وكذلك تقول فى لام غاز ، وداع : إنها بدل من الواو ، ولا تقول : إنها عوض منها. وتقول فى العوض : إن التاء فى عدة ، وزنة ، عوض من فاء الفعل ، ولا تقول : إنها بدل منها. فإن قلت ذاك فما أقلّه! وهو تجوّز فى العبارة. وسنذكر لم ذلك. وتقول فى ميم (اللهمّ) : إنها عوض من (يا) فى أوّله ، ولا تقول : بدل. وتقول فى ياء زنادقة : إنها عوض من ياء زناديق ، ولا تقول : بدل. وتقول فى ياء (أينق) : إنّها عوض من عين (أنوق) فيمن جعلها أيفل ، ومن جعلها عينا مقدّمة مغيّرة إلى الياء ، جعلها بدلا من الواو.

فالبدل أعمّ تصرّفا من العوض. فكل عوض بدل ، وليس كل بدل عوضا.

وينبغى أن تعلم أن العوض من لفظ (عوض) ـ وهو الدهر ـ ومعناه ؛ قال الأعشى :

رضيعى لبان ثدى أمّ تقاسما

بأسحم داج : عوض لا نتفرّق (٢)

والتقاؤهما أن الدهر إنما هو مرور الليل والنهار ، وتصرّم أجزائهما ، فكلّما

__________________

(١) الجؤن جمع الجؤنة : سلّة مستديرة مغشّاة أدما يجعل فيها الطّيب والثّياب. اللسان (جأن). مئر جمع مئرة وهى الذحل والعداوة.

(٢) البيت للأعشى فى ديوانه ص ٢٧٥ ، وأدب الكاتب ص ٤٠٧ ، وإصلاح المنطق ص ٢٩٧ ، والأغانى ٩ / ١١١ ، وجمهرة اللغة ص ٩٠٥ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٣٨ ، ١٤٠ ، ١٣٤ ، ١٤٤ ، الدرر ٣ / ١٣٣ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٣٠٣ وشرح المفصل ٤ / ١٠٧ ، والصاحبى فى فقه اللغة ص ١٥٦ ، ولسان العرب (عوض) ، (سحم) ، (لبن) ومغنى اللبيب ١ / ١٥٠ ، وبلا نسبة فى الاشتقاق ص ٢٤٠ ، والإنصاف ١ / ٤٠١ ، وهمع الهوامع ١ / ٢١٣ ، وتاج العروس (عوض) ، (سحم).

٢٧٦

مضى جزء منه خلفه جزء آخر يكون عوضا منه. فالوقت الكائن الثانى غير الوقت الماضى الأول. فلهذا كان العوض أشدّ مخالفة للمعوّض منه من البدل.

وقد ذكرت فى موضع من كلامى مفرد اشتقاق أسماء الدهر والزمان ، وتقصيّته هناك. وأتيت أيضا فى كتابى الموسوم بـ «التعاقب» على كثير من هذا الباب ، ونهجت الطريق إلى ما أذكره بما نبّهت به عليه.

* * *

٢٧٧

باب [فى] الاستغناء بالشىء عن الشىء

قال سيبويه : واعلم أن العرب قد تستغنى بالشىء [عن الشىء] حتى يصير المستغنى عنه مسقطا من كلامهم البتّة.

فمن ذلك استغناؤهم بترك عن (ودع) ، و (وذر). فأمّا قراءة بعضهم (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ٣] وقول أبى الأسود (حتى ودعه) فلغة شاذّة ، وقد تقدّم القول عليها.

ومن ذلك استغناؤهم بلمحة عن ملمحة ، وعليها كسّرت ملامح ، وبشبه عن مشبه ، وعليه جاء مشابه ، وبليلة عن ليلاة ، وعليها جاءت ليال ؛ وعلى أن ابن الأعرابى قد أنشد :

فى كلّ يوم ما وكلّ ليلاه

حتى يقول كلّ راء إذ راه (١)

يا ويحه من جمل ما أشقاه! (٢)

وهذا شاذّ لم يسمع إلا من هذه الجهة. وكذلك استغنوا بذكر عن مذكار ، أو مذكير ، وعليه جاء مذاكير. وكذلك استغنوا بـ «أينق» عن أن يأتوا به والعين فى موضعها ، فألزموه القلب ، أو الإبدال ، فلم يقولوا (أنوق) إلا فى شيء شاذّ حكاه الفرّاء. وكذلك استغنوا بقسىّ عن قووس ، فلم يأت إلا مقلوبا. ومن ذلك استغناؤهم بجمع القلّة عن جمع الكثرة ؛ نحو قولهم أرجل ، لم يأتوا فيه بجمع الكثرة. وكذلك شسوع : لم يأتوا فيه بجمع القلّة. وكذلك أيّام : لم يستعملوا فيه

__________________

(١) الرجز لدلم أبى زغيب فى تاج العروس (دلم) ، ولسان العرب (دلم) ، وبلا نسبة فى اللسان (عوج) ، (ليل) ، (رأى) والأشباه والنظائر ١ / ١٢٣ ، الدرر ٦ / ٢٨١ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٢٧٧ ، ٢ / ٢٠٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤١١ وشرح شواهد الشافية ص ١٠٢ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ١٥٠ ، والمحتسب ١ / ٢١٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٨٢ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٥٠ ، وتاج العروس (ليل).

(٢) الرجز لدلم أبى زغيب فى لسان العرب (دلم) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ليل) والمخصص (٩ / ٤٤) ، وتاج العروس (ليل).

٢٧٨

جمع الكثرة. فأمّا جيران فقد أتوا فيه بمثال القلّة ؛ أنشد الأصمعىّ :

* مذمّة الأجوار والحقوق*

وذكره أيضا ابن الأعرابىّ فيما أحسب. فأمّا دراهم ، ودنانير ، ونحو ذلك ـ من الرباعىّ وما ألحق به ـ فلا سبيل فيه إلى جمع القلّة. وكذلك اليد التى هى العضو ، قالوا فيها أيد البتّة. فأمّا أياد فتكسير أيد لا تكسير يد ؛ وعلى أن (أياد) أكثر ما تستعمل فى النعم ، لا فى الأعضاء. وقد جاءت أيضا فيها ؛ أنشد أبو الخطّاب :

ساءها ما تأمّلت فى أيادي

نا وإشناقها إلى الأعناق (١)

وأنشد أبو زيد :

أمّا واحدا فكفاك مثلى

فمن ليد تطاوحها الأيادى (٢)

ومن أبيات المعانى فى ذلك [قوله] :

ومستامة تستام وهى رخيصة

تباع بساحات الأيادى وتمسح (٣)

(مستامة) يعنى أرضا تسوم فيها الإبل ، من السير لا من السوم الذى هو البيع ، و (تباع) أى تمدّ فيها الإبل أبواعها ، وأيديها ، و (تمسح) من المسح وهو القطع ، من قول الله تبارك وتعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [ص : ٣٣] وقال العجّاج :

وخطرت فيه الأيادى وخطر

راى إذا أورده الطعن صدر (٤)

__________________

(١) البيت لعدى بن زيد فى ديوانه ص ١٥٠ ، وشرح المفصل ٥ / ٧٤ ، ولسان العرب (شنق) ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ٧ / ٤٨١ ، ولسان العرب (يدى) وتاج العروس (يدى) ، ويروى (أسيافنا) مكان (إشناقها). والإشناق : أن ترفع يده بالغل إلى عنقه.

(٢) البيت لنفيع (أو نقيع) بن حرموز فى شرح شواهد الإيضاح ص ٥٢٣ ، ونوادر أبى زيد ص ٥٦ ، وبلا نسبة فى شرح المفصل ٥ / ٧٥ ، ولسان العرب (طوح) ، (يدى).

(٣) البيت لذى الرمّة فى ملحق ديوانه ص ١٨٥٦ ، ولسان العرب (مسح) ، (بوع) ، (سوم) ، وتاج العروس (بوع) ، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة (١ / ٣١٩).

(٤) الرجز فى ديوانه ١ / ٥٧ ، والكتاب ٣ / ٥٩٦ ، والمقتضب ١ / ١٥٣ ، وبلا نسبة فى المنصف ـ

٢٧٩

وقال الراجز :

كأنه بالصحصحان الأنجل

قطن سخام بأيادى غزّل (١)

ومن ذلك استغناؤهم بقولهم : ما أجود جوابه عن (هو أفعل منك) من الجواب. فأمّا قولهم : ما أشدّ سواده ، وبياضه ، وعوره ، وحوله ، فما لا بدّ منه.

ومنه أيضا استغناؤهم باشتدّ وافتقر عن قولهم : فقر ، وشدّ. وعليه جاء فقير. فأمّا شدّ فحكاها أبو زيد فى المصادر ، ولم يحكها سيبويه. ومن ذلك استغناؤهم عن الأصل مجرّدا من الزيادة بما استعمل منه حاملا للزيادة ، وهو صدر صالح من اللغة. وذلك قولهم (حوشب) هذا لم يستعمل منه (حشب) عارية من الواو الزائدة ، ومثله (كوكب) ألا ترى أنك لا تعرف فى الكلام (حشب) عاريا من الزيادة ، ولا (ككب) ومنه قولهم (دودرّى) لأنا لا نعرف (ددر) ومثله كثير فى ذوات الأربعة. وهو فى الخمسة أكثر منه فى الأربعة. فمن الأربعة فلنقس (٢) ، وصرنفح (٣) ، وسميدع ، وعميثل (٤) ، وسرومط (٥) ، وجحجبى (٦) ، وقسقبّ ، وقسحبّ (٧) ، وهرشفّ (٨). ومن ذوات الخمسة جعفليق ، وحنبريت ، ودردبيس ،

__________________

٢ / ١٤٤ ، والمخصص ٦ / ٢٠٤ ، ١٧ / ٧٤ ، ويروى (أيدى الكماة) مكان (فيه الأيادى).

والرواية فيه :

* وخطرت أيدى الكماة وخطر*

(١) الرجز لجندل بن المثنى الحارثى الطهوى فى لسان العرب (رود) ، (غزل) (هجل) ، (سخم) ، (يدى) ، وتاج العروس (رود) ، (غزل) ، (هجل) ، (سخم) ، (ثجل) (يدى) ، وأساس البلاغة (سخم) ، وبلا نسبة فى شرح المفصل ٥ / ٧٤ ، وديوان الأدب ١ / ٤٤٦. الصحصحان : ما استوى من الأرض. الأنجل : الواسع. السّخام من القطن : اللين. اللسان (سخم).

(٢) الفلنقس : البخيل اللئيم ، الفلنقس : الذى أبوه مولى وأمه عربية. اللسان (فلقس).

(٣) الصّرنفح : الشديد الخصومة والصوت. اللسان (صرفح).

(٤) العميثل : الذى يطيل ثيابه ، والعميثل من كل شيء : البطيء لعظمه أو ترهّله. وانظر اللسان (عمثل).

(٥) سرومط : الجمل الطويل.

(٦) جحجبى : حىّ من الأنصار.

(٧) قسقب ، وقسحب : الضخم.

(٨) الهرشفّ والهرشفة : العجوز البالية ، ومن الرجال : الكبير المهزول. والهرشفّ : الكثير الشرب. اللسان (هرشف).

٢٨٠