الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

سماع ، فإذا حذا إنسان على مثلهم ، وأمّ مذهبهم لم يجب عليه أن يورد فى ذلك سماعا ، ولا أن يرويه رواية.

قيل : إذا تركت العرب أمرا من الأمور لعلّة داعية إلى تركه وجب اتّباعها عليه ، ولم يسع أحدا بعد ذلك العدول عنه. وعلّة امتناع ذلك عندى ما أذكره لتتأمّله فتعجب منه ، وتأنق لحسن الصنعة فيه.

وذلك أن العرب زادت هذه النون الثالثة الساكنة فى موضع حروف اللين أحقّ به ، وأكثر من النون فيه ؛ ألا ترى أنك إذا وجدت النون ثالثة ساكنة فيما عدّته خمسة أحرف ، قطعت بزيادتها ؛ نحو نون جحنفل (١) ، وعبنقس (٢) ، وجرنفس (٣) ، وفلنقس (٤) ، وعرندس (٥) ؛ عرفت الاشتقاق أو لم تعرفه ، حتى يأتيك ثبت بضدّه.

قال أصحابنا : وإنما كان ذلك لأنّ هذا الموضع إنما هو للحروف الثلاثة الزوائد ؛ نحو واو فدوكس (٦) ، وسرومط (٧) ، وياء سميدع وعميثل ، وألف جرافس ، وعذافر. والنون حرف من حروف الزيادة أغنّ ومضارع لحروف اللين ، وبينه وبينها من القرب والمشابهات ما قد شاع وذاع. فألحقوا النون فى ذلك بالحروف اللينة الزائدة. وإذا كان كذلك ، فيجب أن تكون هذه النون ـ إذا وقعت ثالثة فى هذه المواضع ـ قويّة الشّبه بحروف المدّ ؛ وإنما يقوى شبهها بها متى كانت ذات غنّة لتضارع بها حروف المدّ للينها ، وإنما تكون فيها الغنّة متى كانت من الأنف ، وإنما تكون من الأنف متى وقعت ساكنة ، وبعدها حرف فموىّ لا حلقيّ ، نحو جحنفل وبابه. أوكذلك أيضا طريقها وحديثها فى الفعل ؛ ألا ترى أن النون فى باب احرنجم وادلنظى ، إنما هى محمولة من حيث كانت ثالثة ساكنة على الألف ، نحو

__________________

(١) الجحنفل : الغليظ الشفة.

(٢) العبنقس : السّيئ الخلق. والناعم الطويل من الرجال. والذى جدتاه من قبل أبيه وأمه أعجميتان. اللسان (عبقس).

(٣) الجرنفس والجرافس : الضخم الشديد من الرجال. اللسان (جرفس).

(٤) الفلنقس : البخيل اللئيم. والهجين من قبل أبويه. اللسان (فلقس).

(٥) العرندس : الأسد الشديد ، وكذلك الجمل ، والأنثى بالهاء. اللسان (عردس).

(٦) هو الشديد من الأسود والرجال. اللسان (فدكس).

(٧) سرومط : هو الجمل الطويل.

٣٦١

اشهاببت ، وادهاممت ، وابياضضت ، واسواددت ؛ والواو فى نحو اغدودن ، واعشوشب ، واخلولق ، واعروريت ، واذلوليت (١) ، واقطوطيت (٢) ، واحلوليت.

وإذا كانت النون فى باب احرنجم واقعنسس إنما هى أيضا محمولة على الواو والألف فى هذه الألفاظ التى ذكرناها (وغيرها) وجب أن تضارعها ، وهى أقوى شبها بها. وإنما يقوى شبهها بها إذا كانت غنّاء ، وإنما تكون كذلك إذا وقعت قبل حروف الفم ، نحوها فى اسحنكك ، واقعنسس ، واحرنجم ، واخرنطم (٣). وإذا كان كذلك لم يجز أن يقع بعدها حرف حلقى ؛ لأنها إذا كانت كذلك كانت من الفم ، وإذا كانت من الفم سقطت غنّتها ، وإذا سقطت غنّتها زال شبهها بحرفى المدّ : الواو والألف. فلذلك أنكره الخليل ، وقال : هذا لا يكون. وذلك أنه رأى نون (ارفنعع) فى موضع لا تستعملها العرب فيه إلا غنّاء غير مبيّنة ، فأنكره ، وليست كذلك فى اقعنسس لأنها قبل السين ، وهذا موضع تكون فيه مغنّة مشابهة لحرفى اللين ، ولهذا ما كانت النون فى (عجنّس) (٤) و (هجنع) (٥) كباء (عدبّس) (٦) ولامى (شلعلع) (٧) ولم يقطع على أن الأولى منهما لزائدة ، كما قطع على نون (جحنفل) بذلك من حيث كانت مدغمة ، وادّغامها يخرجها من الألف ؛ لأنها تصير إلى لفظ المتحركة بعدها ، وهى من الفم. وهذا أقوى ما يمكن أن يحتجّ به فى هذا الموضع.

وعلى ما نحن عليه فلو قال لك قائل : كيف تبنى من ضرب مثل (حبنطى) ؛ لقلت فيه : (ضرنبى). ولو قال : كيف تبنى مثله من قرأ ؛ لقلت : هذا لا يجوز ؛

__________________

(١) اذلولى : ذلّ وانقاد. اللسان (ذلا).

(٢) القطو : مقاربة الخطو مع النشاط ، يقال منه : قطا فى مشيته يقطو ، واقطوطى مثله ، اللسان (قطا).

(٣) واخرنطم الرجل : عوّج خرطومه وسكت على غضبه ، وقيل : رفع أنفه واستكبر والمخرنطم : الغضبان المتكبر مع رفع رأسه. اللسان (خرطم).

(٤) العجنس : الجمل الشديد الضخم.

(٥) الهجنع : هو الطويل الضخم.

(٦) العدبّس : هو الجمل الضخم.

(٧) الشلعلع : الطويل.

٣٦٢

لأنه يلزمنى أن أقول : (قرنأى) ؛ فأبيّن النون لوقوعها قبل الهمزة ، وإذا بانت ذهبت عنها غنّتها ، وإذا ذهبت غنّتها زال شبهها بحروف اللين فى نحو عثوثل (١) ، وخفيدد (٢) ، وسرومط ، وفدوكس ، وزرارق ، وسلالم ، وعذافر ، وقراقر ـ على ما تقدّم ـ ولا يجوز أن تذهب عنها الغنّة فى هذا الموضع الذى هى محمولة فيه على حروف اللين بما فيها من الغنة التى ضارعتها بها ، وكذلك جميع حروف الحلق.

فلا يجوز أيضا أن تبنى من صرع ، ولا من جبه ، ولا من سنح ، ولا من سلخ ، ولا من فرغ ؛ لأنه كان يلزمك أن تقول : صرنعى ، وجبنهى ، وسننحى ، وسلنخى ، وفرنغى ؛ فتبيّن النون فى هذا الموضع. وهذا (لا يجوز) ؛ لما قدّمنا ذكره. ولكنّ من أخفى النون عند الخاء والغين فى نحو منخل ، ومنغل ، يجوز على مذهبه أن يبنى نحو حبنطى من سلخ وفرغ ؛ لأنه قد يكون هناك فى لغته من الغنّة ما يكون مع حروف الفم.

وقلت مرة لأبى على ـ رحمه ـ : الله قد حضرنى شيء فى علة الإتباع فى (نقيذ) وإن عرى أن تكون عينه حلقية ، وهو قرب القاف من الخاء والغين ، فكما جاء عنهم النخير والرغيف ، كذلك جاء عنهم (النقيذ) فجاز أن تشبّه القاف لقربها من حروف الحلق بها ، كما شبّه من أخفى النون عند الخاء والغين إيّاهما بحروف الفم ، فالنقيذ فى الإتباع كالمنخل والمنغل فيمن أخفى النون ؛ فرضيه وتقبّله. ثم رأيته وقد أثبته فيما بعد بخطّه فى تذكرته ، ولم أر أحدا من أصحابنا ذكر (امتناع فعنلى) وبابه فيما لامه حرف حلقىّ ؛ لما يعقب ذلك من ظهور النون وزوال شبهها بحروف اللين ، والقياس يوجبه فلنكن عليه. ويؤكّده عندك أنك لا تجد شيئا من باب فعنلى ولا فعنلل ولا فعنعل بعد نونه حرف حلقى.

وقد يجوز أن يكون إنكار الخليل قوله (فارفنععا) إنما هو لتكرر الحرف الحلقىّ مع استنكارهم ذلك. ألا ترى إلى قلّة التضعيف فى باب المهه (٣) ، والرخخ (٤) ،

__________________

(١) العثوثل : الكثير اللحم الرّخو.

(٢) الخفيدد : السريع.

(٣) يقال : مههت : أى لنت. ومهّ الإبل : رفق بها. وسير مهه ومهاه : رفيق. اللسان (مهه).

(٤) الرخخ : السهولة واللين.

٣٦٣

والبعاع (١) ، والبحح ، والضغيغة (٢) ، والرغيغة ؛ هذا مع ما قدّمناه من ظهور النون فى هذا الموضع.

ومن ذلك قول أصحابنا : إن اسم المكان والمصدر على وزن المفعول فى الرباعىّ قليل ، إلا أن تقيسه. وذلك نحو المدحرج ، تقول : دحرجته مدحرجا ، وهذا مدحرجنا ، وقلقلته مقلقلا ، وهذا مقلقلنا ، وكذلك أكرمته مكرما وهذا مكرمك ، أى موضع إكرامك ، وعليه قول الله تعالى : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩] أى تمزيق ، وهذا ممزّق الثياب ، أى الموضع الذى تمزّق فيه. قال أبو حاتم : قرأت على الأصمعىّ فى جيميّة العجّاج :

* جأبا ترى بليته مسحّجا (٣) *

فقال : تليله ، فقلت : بليته ، فقال : هذا لا يكون ، فقلت : أخبرنى به من سمعه من فلق فى رؤبة ، أعنى أبا زيد الأنصارىّ ، فقال : هذا لا يكون ، فقلت :

جعله مصدرا ، أى تسحيجا ، فقال : هذا لا يكون ، فقلت : فقد قال جرير :

ألم تعلم مسرّحى القوافى

فلا عيّا بهنّ ولا اجتلابا (٤)

أى تسريحى ، فكأنه أراد أن يدفعه ، فقلت له : فقد قال الله عزوجل : (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩] فأمسك.

وتقول على ما مضى : تألّفته متألّفا ، وهذا متألّفنا ، وتدهورت متدهورا ، وهذا متدهورك ، وتقاضيتك متقاضى ، وهذا متقاضانا. وتقول : اخروّط (٥) مخروّطا ،

__________________

(١) البعاع : الجهاز والمتاع. والبعاع : ثقل السحاب من الماء. ألقت السحابة بعاعها أى ماءها وثقل مطرها. اللسان (بعع).

(٢) الضغيغة : الروضة الناضرة المتخيّلة. والضغيغة والرغيغة : العجين الرقيق. اللسان (ضغغ).

(٣) الرجز لرؤبة فى لسان العرب (سحج) ، وللعجاج فى ديوانه ٢ / ٥٣ ، ولسان العرب (سحج) ، وتاج العروس (سحج) ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٤ / ١٢١. الجأب : حمار الوحش. والليت : صفحة العنق.

(٤) البيت لجرير فى ديوانه ص ٦٥١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٩٧ ، والكتاب ١ / ٢٣٣ ، ٣٣٦ ، ولسان العرب (جلب) ، (سحج) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (يسر) ، والمقتضب ١ / ٧٥ ، ٢ / ١٢١.

(٥) اخروّط السير بهم : امتدّ.

٣٦٤

وهذا مخروّطنا ، واغدودن مغدودنا ، وهذا مغدودننا ، وتقول : اذلوليت مذلولى ، وهذا مذلولانا ، ومذلولاكنّ يا نسوة ، وتقول : اكوهدّ (١) مكوهدا ، وهذا مكوهدّكما فهذا كله من كلام العرب ، ولم يسمع منهم ، ولكنك سمعت ما هو مثله ، وقياسه قياسه ؛ ألا ترى إلى قوله :

أقاتل حتّى لا أرى لى مقاتلا

وأنجو إذا غمّ الجبان من الكرب (٢)

وقوله :

أقاتل حتى لا أرى لى مقاتلا

وأنجو إذا لم ينج إلا المكيّس (٣)

وقوله :

* كأنّ صوت الصنج فى مصلصله (٤) *

فقوله (مصلصله) يجوز أن يكون مصدرا أى فى صلصلته ، ويجوز أن يكون موضعا للصلصلة.

وأمّا قوله :

* ... حتى لا أرى لى مقاتلا (٥) *

فمصدر ، ويبعد أن يكون موضعا أى حتى لا أرى لى موضعا للقتال : المصدر هنا أقوى وأعلى. وقال :

__________________

(١) اكوهدّ الشيخ والفرخ : ارتعد.

(٢) البيت لكعب بن مالك فى ديوانه ص ١٨٤ ، ولسان العرب (قتل) ، ولوالده مالك بن أبى كعب فى حماسة البحترى ص ٤٢ ، وشرح المفصل ٦ / ٥٥ ، والكتاب ٤ / ٩٦ ، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر ١ / ٢٩١ ، وأمالى ابن الحاجب ص ٣٧٥ ، وشرح الأشمونى ٢ / ٣٥١ ، والمحتسب ٢ / ٦٤ ، والمقتضب ١ / ٧٥.

(٣) البيت لزيد الخيل فى ديوانه ص ١٣٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٨٩ ، وفصل المقال ص ٤٨٢ ، والكتاب ٤ / ٩٦ ، ولسان العرب (قتل) ، ونوادر أبى زيد ص ٧٩ ، وبلا نسبة فى خزانة الأدب ١٠ / ٤٨٠ ، وفصل المقال ص ٣١٤ ، والمحتسب ٢ / ٦٤ ، وسمط اللآلى ص ٣٤٥.

(٤) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (صلل) ، وشرح المفصل ٦ / ٥٥ ، والمنصف ٣ / ٢٧ ، وتاج العروس (صلل).

(٥) سبق تخريجه.

٣٦٥

تراد على دمن الحياض فإن تعف

فإنّ المندّى رحلة فركوب (١)

أى مكان تنديتنا (٢) إيّاها أن نرحلها ، فنركبها. وهذا كقوله :

* تحيّة بينهم ضرب وجيع (٣) *

أى ليست هناك تحيّة ، بل مكان التحيّة ضرب. فهذا كقول الله سبحانه (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران ٢١ ، التوبة : ٣٤ ، الانشقاق : ٢٤]. وقال رؤبة :

* جدب المندّى شئز المعوّه (٤) *

فهذا اسم لموضع التندية أى جدب هذا المكان. وكذلك (المعوّه) مكان أيضا ، والقول فيهما واحد.

وهذا باب مطّرد متقاود. وقد كنت ذكرت طرفا منه فى كتابى (شرح تصريف أبى عثمان) ؛ غير أن الطريق ما ذكرت لك. فكل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم. ولهذا قال من قال فى العجّاج ورؤبة : إنهما قاسا اللغة وتصرّفا فيها ، وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما. وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات ، ويأمر بإلقائها على ابن أبى إسحاق.

وحكى الكسائىّ أنه سأل بعض العرب عن أحد مطايب الجزور ، فقال : مطيب ؛ وضحك الأعرابىّ من نفسه كيف تكلّف لهم ذلك من كلامه. فهذا ضرب من

__________________

(١) البيت لعلقمة الفحل فى ديوانه ص ٤٢ ، وسمط اللآلى ص ٢٥٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٧١ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٥٨٩ ، وشرح المفصل ٦ / ٥٤ ، والكتاب ٣ / ١٩ ، ولسان العرب (ركب) ، (دمن) ، (ندى) ، وبلا نسبة فى شرح ديوان الحماسة للمرزوقى (٧٢٦) ، ولسان العرب (رحل) والمقتضب ٢ / ٣٩.

(٢) التندية : أن تورد الإبل فتشرب قليلا ثم تجيء بها ترعى ثم تردها إلى الماء. اللسان (ندى).

(٣) عجز بيت لعمرو بن معد يكرب فى ديوانه ص ١٤٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٥٢ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٠٠ ، والكتاب ٣ / ٥٠ ، ونوادر أبى زيد ص ١٥٠ ، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والكتاب ٢ / ٣٢٣ ، والمقتضب ٢ / ٢٠ ، ٤ / ٤١٣ ، ويروى صدره :

* وخيل قد دلفت لها بخيل*

(٤) الرجز لرؤبة فى ديوانه ص ١٦٦ ، ولسان العرب (شأز) ، (عوه) وتهذيب اللغة ٣ / ٢٢ ، ١١ / ٣٨٨ ، وبلا نسبة فى تاج العروس (عوه).

٣٦٦

القياس ركبه الأعرابى ، حتى دعاه إلى الضحك من نفسه ، فى تعاطيه إيّاه.

وذكر أبو بكر أنّ منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشكّ فيها ، فإذا رأى الاشتقاق قابلا لها أنس بها وزال استيحاشه منها. فهل هذا إلا اعتماد فى تثبيت اللغة على القياس. ومع هذا أنك لو سمعت ظرف ، ولم تسمع يظرف ؛ هل كنت تتوقف عن أن تقول يظرف ، راكبا له غير مستحى منه. وكذلك لو سمعت سلم ، ولم تسمع مضارعه ؛ أكنت ترع أو ترتدع أن تقول يسلم ، قياسا أقوى من كثير من سماع غيره. ونظائر ذلك فاشية كثيرة.

* * *

٣٦٧

باب فى الفصيح يجتمع فى كلامه لغتان فصاعدا

من ذلك قول لبيد :

سقى قومى بنى مجد ، وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (١)

وقال :

أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النجم حاديها (٢)

وقال :

فظلت لدى البيت العتيق أخيلهو

ومطواى مشتاقان له أرقان (٣)

فهاتان لغتان : أعنى إثبات الواو فى «أخيلهو» ، وتسكين الهاء فى قوله : «له» ؛ لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السّراة ، وإذا كان كذلك فهما لغتان. وليس إسكان الهاء فى «له» عن حذف لحق بالصنعة الكلمة ؛ لكن ذاك لغة.

ومثله ما رويناه عن قطرب :

وأشرب الماء ما بى نحو هو عطش

إلا لأنّ عيونه سيل واديها (٤)

__________________

(١) البيت فى ديوانه ص ٩٣ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٢٨ ، ١٠ / ٦٨٤ ، وتاج العروس (مجد) ، (سقى) ، والمخصص ١٤ / ١٦٩ ، ونوادر أبى زيد ص ٢١٣ ، وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ٥٠ ، ولسان العرب (مجد).

(٢) البيت لطفيل الغنوى فى ديوانه ص ١١٣ ، ولسان العرب (قلص) ، (وفى) وتاج العروس (قلص) (وفى).

(٣) البيت ليعلى بن الأحول ، وبلا نسبة فى لسان العرب (أرق) ، وتاج العروس (أرق) ومقاييس اللغة ١ / ٨٣. ومطواى : صاحباى ، ومعنى أخيله : أنظر إلى مخيلته ، والهاء عائدة على البرق فى بيت قبله. ومطو الرجل : صديقه وصاحبه ونظيره. اللسان (مطا).

(٤) البيت بلا نسبة فى خزانة الأدب ٥ / ٢٧٠ ، ٦ / ٤٥٠ ، ورصف المبانى ص ١٦ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٧٢٧ ، ولسان العرب (ها) ، والمحتسب ١ / ٢٤٤ ، والمقرب ٢ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٩.

٣٦٨

فقال «نحوهو» بالواو ، وقال «عيونه» ساكن الهاء.

وأمّا قول الشمّاخ :

له زجل كأنه صوت حاد

إذا طلب الوسيقة أو زمير (١)

فليس هذا لغتين ؛ لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة قبلها لغة ، فينبغى أن يكون ذلك ضرورة (وصنعة) ، لا مذهبا ولغة. وكذلك يجب عندى وينبغى ألا يكون لغة ؛ لضعفه فى القياس. ووجه ضعفه أنه ليس على مذهب الوصل ، ولا مذهب الوقف. أما الوصل فيوجب إثبات واوه كلقيتهو أمس. وأمّا الوقف فيوجب الإسكان كلقيته وكلمته ؛ فيجب أن يكون ذلك ضرورة للوزن ، لا لغة.

وأنشدنى الشجرىّ لنفسه :

وإنا ليرعى فى المخوف سوامنا

كأنه لم يشعر به من يحاربه

فاختلس ما بعد هاء «كأنه» ، ومطل ما بعد هاء «بهى) ، واختلاس ذلك ضرورة (وصنعة) على ما تقدّم به القول.

ومن ذلك قولهم : بغداد ، وبغدان. وقالوا أيضا : مغدان ؛ وطبرزل ، وطبرزن.

وقالوا للحيّة : أيم ، وأين. وأعصر ، ويعصر : أبو باهلة. والطنفسة ، والطنفسة.

(وما اجتمعت) فيه لغتان أو ثلاث أكثر من أن يحاط به. فإذا ورد شيء من ذلك ـ كأن يجتمع فى لغة رجل واحد لغتان فصيحتان ـ فينبغى أن تتأمّل حال كلامه ؛ فإن كانت اللفظتان فى كلامه متساويتين فى الاستعمال ، كثرتهما واحدة ، فإنّ أخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت فى ذلك المعنى على (ذينك اللفظين) ؛ لأن

__________________

(١) البيت للشمّاخ فى ديوانه ص ١٥٥ ، والدرر ١ / ١٨١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٣٧ ، والكتاب ١ / ٣٠ ، ولسان العرب (ها) وبلا نسبة فى الإنصاف ٢ / ٥٦١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٧٩) ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٨٨ ، ٥ / ٢٧٠ ، ٢٧١ ، ولسان العرب (زجل) والمقتضب ١ / ٢٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٥٩. يصف حمارا وحشيا. الوسيقة : الأتان. يقول إذا طلب وسيقته وهى أنثاه ، صوت بها فى تطريب وترجيع ، كالحادى يتغنى بالإبل ، أو كأن صوته صوت مزمار. وانظر ديوان الشماخ ٣٦ ، والكتاب ١ / ٣٠.

٣٦٩

العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه فى أوزان أشعارها ، وسعة تصرّف أقوالها. وقد يجوز أن تكون لغته فى الأصل إحداهما ، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى ، وطال بها عهده ، وكثر (استعماله لها) ، فلحقت ـ لطول المدّة واتصال استعمالها ـ بلغته الأولى.

وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر فى كلامه من صاحبتها فأخلق الحالين به فى ذلك أن تكون القليلة فى الاستعمال هى المفادة ، والكثيرة هى الأولى الأصليّة.

نعم ، وقد يمكن فى هذا أيضا أن تكون القلى منهما إنما قلّت فى استعماله لضعفها فى نفسه ، وشذوذها عن قياسه ، وإن كانتا جميعا لغتين له ولقبيلته. وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى فى القياس منه ؛ ألا ترى إلى حكاية أبى العباس عن عمارة قراءته (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] بنصب النهار ، وأن أبا العباس قال له : ما أردت؟ فقال : أردت «سابق النهار» قال أبو العباس فقلت له. فهلا قلته؟ فقال : لو قلته لكان أوزن ؛ أى أقوى. فهذا يدلك على أنهم قد يتكلّمون بما غيره عندهم أقوى منه ، (وذلك) لاستخفافهم الأضعف ؛ إذ لو لا ذلك لكان الأقوى أحقّ وأحرى ؛ كما أنهم لا يستعملون المجاز إلا لضرب من المبالغة ؛ إذ لو لا ذلك لكانت الحقيقة أولى من المسامحة.

[وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت فى لغة إنسان واحد فإن أخرى ذلك أن يكون قد أفاد أكثرها أو طرفا منها ؛ من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ فى المعنى الواحد على ذلك كلّه. هذا غالب الأمر ، وإن كان الآخر فى وجه من القياس جائزا.

وذلك كما جاء عنهم فى أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك ، وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد] نحو قولهم : هى رغوة اللبن ، ورغوته ، ورغوته ، ورغاوته ، ورغاوته ، ورغايته. وكقولهم : الذروح ، والذرّوح ، والذّرّيح ، والذرّاح ، والذرّح ، والذرنوح ، والذرحرح ، والذرّحرح (١) ؛ روينا ذلك كله. وكقولهم : جئته من عل ، ومن عل ، ومن علا ، ومن علو ، ومن علو ، ومن علو ، ومن علو ، ومن عال ، ومن معال. فإذا أرادوا النكرة قالوا : من عل. وهاهنا من هذا ونحوه

__________________

(١) كل ذلك : دويبّة أعظم من الذباب شيئا مجزع مبرقش بحمرة وسواد وصفرة. اللسان (ذرح).

٣٧٠

أشباه له كثيرة].

وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغات لجماعات ، اجتمعت لإنسان واحد ، من هنّا ومن هنّا. ورويت عن الأصمعىّ قال : اختلف رجلان فى الصقر ، فقال أحدهما : الصقر (بالصاد) ، وقال الآخر : السّقر (بالسين) ؛ فتراضيا بأوّل وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه. فقال : لا أقول كما قلتما ؛ إنما هو الزّقر. أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة ، كيف أفاد فى هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها. وهكذا تتداخل اللغات. وسنفرد لذلك بابا بإذن الله عزوجل.

فقد وضح ما أردنا بيانه من حال اجتماع اللغتين أو اللغات فى كلام الواحد من العرب.

* * *

٣٧١

باب فى تركب اللغات

اعلم أن هذا موضع قد دعا أقواما ضعف نظرهم ، وخفّت إلى تلقّى ظاهر هذه اللغة أفهامهم ، أن جمعوا أشياء على وجه الشذوذ عندهم ، وادّعوا أنها موضوعة فى أصل اللغة على ما سمعوه بأخرة من أصحابها ، وأنسوا ما كان ينبغى أن يذكروه ، وأضاعوا ما كان واجبا أن يحفظوه. ألا تراهم كيف ذكروا فى الشذوذ ما جاء على فعل يفعل ؛ نحو نعم ينعم ، ودمت تدوم ، ومتّ تموت. وقالوا أيضا فيما جاء من فعل يفعل ، وليس عينه ولا لامه حرفا حلقيّا ؛ نحو قلى يقلى ، وسلا يسلى ، وجبى يجبى ، وركن يركن ، وقنط يقنط.

ومما عدّوه شاذا ما ذكروه من فعل فهو فاعل ؛ نحو طهر فهو طاهر ، وشعر فهو شاعر ، وحمض فهو حامض ، وعقرت المرأة فهى عاقر ؛ ولذلك نظائر كثيرة.

واعلم أن أكثر ذلك وعامّته إنما هو لغات تداخلت فتركّبت ، على ما قدّمناه فى الباب الذى هذا الباب يليه. هكذا ينبغى أن يعتقد ، وهو أشبه بحكمة العرب.

وذلك أنه قد دلّت الدلالة على وجوب مخالفة صيغة الماضى لصيغة المضارع ؛ إذ الغرض فى صيغ هذه المثل إنما هو لإفادة الأزمنة ، فجعل لكل زمان مثال مخالف لصاحبه ، وكلّما ازداد الخلاف كانت فى ذلك قوّة الدلالة على الزمان.

فمن ذلك أن جعلوا بإزاء حركة فاء الماضى سكون فاء المضارع ، وخالفوا بين عينيهما ، فقالوا : ضرب يضرب ، وقتل يقتل ، وعلم يعلم.

فإن قلت : فقد قالوا : دحرج يدحرج ؛ فحرّكوا فاء المضارع والماضى جميعا ، وسكّنوا عينيهما أيضا ؛ قيل : لمّا فعلوا ذلك فى الثلاثيّ الذى هو أكثر استعمالا ، وأعمّ تصرّفا ، وهو كالأصل للرباعىّ ، لم يبالوا ما فوق ذلك ممّا جاوز الثلاثة.

وكذلك أيضا قالوا : تقطع يتقطّع ، وتقاعس يتقاعس ، وتدهور يتدهور ، ونحو ذلك ؛ لأنهم أحكموا الأصل الأوّل الذى هو الثلاثيّ ، فقلّ حفلهم بما وراءه ؛ كما أنهم لمّا أحكموا أمر المذكور فى التثنية ، فصاغوها على ألفها ، لم يحفلوا بما عرض فى المؤنّث من اعتراض علم التأنيث بين الاسم وبين ما هو مصوغ عليه من

٣٧٢

علمها ؛ نحو قائمتان وقاعدتان.

فإن قلت : فقد نجد فى الثلاثيّ ما تكون حركة عينيه فى الماضى والمضارع سواء ، وهو باب فعل ؛ نحو كرم يكرم ، وظرف يظرف.

قيل : على كل حال فاؤه فى المضارع ساكنة ، وأمّا موافقة حركة عينيه فلأنه ضرب قائم فى الثلاثيّ برأسه ؛ ألا تراه غير متعدّ البتّة ، وأكثر باب فعل وفعل متعدّ. فلمّا جاء هذا مخالفا لهما ـ وهما أقوى وأكثر منه ـ خولف بينهما وبينه ، فوفّق بين حركتى عينيه ، وخولف بين حركتى عينيهما. وإذا ثبت وجوب خلاف صيغة الماضى صيغة المضارع وجب أن يكون ما جاء من نحو سلا يسلى ، وقلى يقلى (ونحو ذلك) ، ممّا التقت

فيه حركتا عينيه منظورا فى أمره ، ومحكوما عليه بواجبه. فنقول : إنهم قد قالوا : قليت الرجل وقليته. فمن قال : قليته فإنه يقول أقليه ، ومن قال قليته قال : أقلاه. وكذلك من قال : سلوته قال : أسلوه ؛ ومن قال سليته قال : أسلاه ، ثم تلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا ، وهذا لغة هذا ، فأخذ كل واحد منهما من صاحبه ما ضمّه إلى لغته ، فتركّبت هناك لغة ثالثة ؛ كأنّ من يقول سلا أخذ مضارع من يقول سلى ، فصار فى لغته سلا يسلى.

فإن قلت : فكان يجب على هذا أن يأخذ من يقول سلى مضارع من يقول سلا ، فيجىء من هذا أن يقال : سلى يسلو.

قيل : منع من ذلك أن الفعل إذا أزيل ماضيه عن أصله ، سرى ذلك فى مضارعه ، وإذا اعتلّ مضارعه سرى ذلك فى ماضيه ؛ إذ كانت هذه المثل تجرى عندهم مجرى المثال الواحد ؛ ألا تراهم لمّا أعلّوا «شقى» أعلّوا أيضا مضارعه ، فقالوا يشقيان : ولمّا أعلّوا «يغرى» أعلّوا أيضا أغريت ؛ ولمّا أعلّوا «قام» أعلّوا أيضا يقوم. فلذلك لم يقولوا : سليت تسلو ، فيعلّوا الماضى ويصحّحوا المضارع.

فإن قيل : فقد قالوا : محوت تمحى ، وبأوت تبأى ، وسعيت تسعى ، ونأيت تنأى ؛ فصحّحوا الماضى وأعلّوا المستقبل.

قيل : إعلال الحرفين إلى الألف لا يخرجهما كل الإخراج عن أصلهما ؛ ألا ترى أن الألف حرف ينصرف إليه عن الياء والواو جميعا ، فليس للألف خصوص

٣٧٣

بأحد حرفى العلّة ، فإذا قلب واحد منهما إليه فكأنه مقرّ على بابه ؛ ألا ترى أن الألف لا تكون أصلا فى الأسماء ولا فى الأفعال ، وإنما هى مؤذنة بما هى بدل منه ، وكأنها هى هو ؛ وليست كذلك الواو والياء ؛ لأن كل واحدة منهما قد تكون أصلا كما تكون بدلا. فإذا أخرجت الواو إلى الياء اعتدّ ذلك ؛ لأنك أخرجتها إلى صورة تكون الأصول عليها ، والألف لا تكون أصلا أبدا فيهما ، فكأنها هى ما قلبت عنه البتّة ؛ فاعرف ذلك ، فإن أحدا من أصحابنا لم يذكره.

ومما يدلّك على صحّة الحال فى ذلك أنهم قالوا : غزا يغزو ، ورمى يرمى ، فأعلّوا الماضى بالقلب ، ولم يقلبوا المضارع ، لمّا كان اعتلال لام الماضى إنما هو بقلبها ألفا ، والألف لدلالتها على ما قلبت عنه كأنها هى هو ، فكأن لا قلب هناك : فاعرف ذلك.

ويدلّك على استنكارهم أن يقولوا : سليت تسلو ؛ لئلا يقلبوا فى الماضى ولا يقلبوا فى المضارع أنهم قد جاءوا فى الصحيح بذلك لمّا لم يكن فيه من قلب الحرف فى الماضى ، وترك قلبه فى المضارع ما جفا عليهم ؛ وهو قولهم : نعم ينعم ، وفضل يفضل. وقالوا فى المعتلّ : مت تموت ، ودمت تدوم ؛ وحكى فى الصحيح أيضا حضر القاضى يحضره. فنعم فى الأصل ماضى ينعم ، وينعم فى الأصل مضارع نعم ، ثم تداخلت اللغتان ، فاستضاف من يقول نعم لغة من يقول ينعم ، فحدثت هناك لغة ثالثة.

فإن قلت : فكان يجب على هذا أن يستضيف من يقول : نعم مضارع من يقول نعم ، فتركّب من هذا أيضا لغة ثالثة ؛ وهى نعم ينعم.

قيل : منع من هذا أن فعل لا يختلف مضارعه أبدا ، وليس كذلك نعم ؛ لأن نعم قد يأتى فيه ينعم وينعم جميعا ، فاحتمل خلاف مضارعه ، وفعل لا يحتمل مضارعه الخلاف ؛ ألا تراك كيف تحذف فاء وعد فى يعد ؛ لوقوعها بين ياء وكسرة ، وأنت مع ذلك تصحّح نحو وضؤ ووطؤ ، إذا قلت : يوضؤ ويوطئ ، وإن وقعت الواو بين ياء وضمة ، ومعلوم أن الضمّة أثقل من الكسرة ، لكنه لمّا كان مضارع فعل لا يجيء مختلفا لم يحذفوا فاء وضؤ ، ولا وطؤ ، ولا وضع ؛ لئلا يختلف باب ليس من عادته أن يجيء مختلفا.

٣٧٤

فإن قلت : فما بالهم كسروا عين ينعم ، وليس فى ماضيه إلا نعم ، ونعم ، وكل واحد من فعل وفعل ليس له حظّ من باب يفعل.

قيل : هذا طريقه غير طريق ما قبله. فإما أن يكون ينعم ـ بكسر العين ـ جاء على ماض وزنه فعل ، غير أنهم لم ينطقوا به استغناء عنه بنعم ونعم ، كما استغنوا بترك عن وذر ، وودع ، وكما استغنوا بملامح عن تكسير لمحة ؛ وغير ذلك. أو يكون فعل فى هذا داخلا على فعل ؛ فكما أن فعل بابه يفعل ، كذلك شبّهوا بعض فعل به فكسروا عين مضارعه ، كما ضمّوا فى ظرف عين ماضيه ومضارعه. فنعم ينعم فى هذا محمول على كرم يكرم ، كما دخل يفعل فيما ماضيه فعل ؛ نحو قتل يقتل على باب يشرف ويظرف. وكأن باب يفعل إنما هو لما ماضيه فعل ، ثم دخلت يفعل فى فعل على يفعل ؛ لأن ضرب يضرب أقيس من قتل يقتل. ألا ترى أن ما ماضيه فعل إنما بابه فتح عين مضارعه ؛ نحو ركب يركب ، وشرب يشرب. فكما فتح المضارع لكسر الماضى ، فكذلك أيضا ينبغى أن يكسر المضارع لفتح الماضى.

وإنما دخلت يفعل فى باب فعل على يفعل من حيث كانت كل واحدة من الضمّة والكسرة مخالفة للفتحة ، ولمّا آثروا خلاف حركة عين المضارع لحركة عين الماضى ووجدوا الضمة مخالفة للفتحة خلاف الكسرة لها عدلوا فى بعض ذاك إليها ، فقالوا : قتل يقتل ، ودخل يدخل ، وخرج يخرج.

وأنا أرى أنّ يفعل فيما ماضيه فعل فى غير المتعدّى أقيس من يفعل ؛ فضرب يضرب إذا أقيس من قتل يقتل ، وقعد يقعد أقيس من جلس يجلس. وذلك أن يفعل إنما هى فى الأصل لما لا يتعدّى ؛ نحو كرم يكرم ، على ما شرحنا من حالها. فإذا كان كذلك كان أن يكون فى غير المتعدّى فيما ماضيه فعل أولى وأقيس.

فإن قيل : فكيف ذلك ونحن نعلم أن يفعل فى المضاعف المتعدّى أكثر من يفعل ؛ نحو شدّه يشدّه ، ومدّه يمدّه ، وقدّه يقدّه ، وجزّه يجزّه ، وعزّه يعزّه ، وأزّه يؤزّه ، وعمّه يعمّه ، وأمّه يؤمّه ، وضمّه يضمّه ، وحلّه يحلّه ، وسلّه يسلّه ، وتلّه يتلّه. ويفعل فى المضاعف قليل محفوظ ، نحو هرّه يهرّه ، وعلّه يعلّه ، وأحرف قليلة. وجميعها يجوز فيه «أفعله» نحو علّه يعلّه ، وهرّه يهرّه ؛ إلا حبّه يحبّه فإنه

٣٧٥

مكسور المضارع لا غير.

قيل : إنما جاز هذا فى المضاعف لاعتلاله ، والمعتلّ كثيرا ما يأتى مخالفا للصحيح ؛ نحو سيّد ، وميّت ، وقضاة ، وغزاة ، ودام ديمومة ، وسار سيرورة. فهذا شيء عرض قلنا فيه ، ولنعد.

وكذلك حال قولهم قنط يقنط ، إنما هو لغتان تداخلتا. وذلك أن قنط يقنط لغة ، وقنط يقنط أخرى ، ثم تداخلتا فتركّبت لغة ثالثة. فقال من قال قنط : يقنط ، ولم يقولوا : قنط يقنط ؛ لأن آخذا إلى لغته لغة غيره قد يجوز أن يقتصر على بعض اللغة التى أضافها إلى لغته دون بعض. وأمّا حسب يحسب ، ويئس ييئس ، ويبس ييبس فمشبّه بباب كرم يكرم ، على ما قلنا فى نعم ينعم. وكذلك متّ تموت ، ودمت تدوم ، وإنما تدوم وتموت على من قال متّ ودمت ، وأمّا مت ودمت فمضارعهما تمات وتدام ؛ قال :

يا ميّ لا غرو ولا ملاما

فى الحبّ إن الحبّ لن يداما (١)

وقال :

بنىّ يا سيّدة البنات

عيشى ولا يؤمن أن تمانى (٢)

ثم تلاقى صاحبا اللغتين ، فاستضاف هذا بعض لغة هذا ، وهذا بعض لغة هذا ، فتركّبت لغة ثالثة. قال الكسائىّ : سمعت من أخوين من بنى سليم يقولان : نما ينمو ، ثم سألت بنى سليم عنه فلم يعرفوه. وأنشد أبو زيد لرجل من بنى عقيل :

ألم تعلمى ما ظلت بالقوم واقفا

على طلل أضحت معارفه قفرا (٣)

فكسروا الظاء فى إنشادهم وليس من لغتهم.

وكذلك القول فيمن قال : شعر فهو شاعر ، وحمض فهو حامض ، وخثر فهو

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (دوم) ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٨ ، وتاج العروس (دوم).

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (موت) ، وجمهرة اللغة ص ١٣٠٧ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ١٣٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ٥٧ وتاج العروس (موت). وفى الصحاح «بنيتى سيدة» ، «ولا نأمن».

(٣) البيت لرجل من بنى عقيل فى لسان العرب (ظلل) ، وتاج العروس (ظلل).

٣٧٦

خاثر : إنما هى على نحو من هذا. وذلك أنه يقال : خثر وخثر ، وحمض وحمض ، وشعّر وشعر ، وطهر وطهر ، فجاء شاعر ، وحامض ، وخاثر ، وطاهر على حمض ، وشعر ، وخثر ، وطهر ، ثم استغنى بفاعل عن «فعيل» وهو فى أنفسهم وعلى بال من تصوّرهم. يدلّ على ذلك تكسيرهم لشاعر : شعراء لمّا كان فاعل هنا واقعا موقع «فعيل» كسّر تكسيره ؛ ليكون ذلك أمارة ودليلا على إرادته ، وأنه مغن عنه ، وبدل منه ؛ كما صحّح العواور ليكون دليلا على إرادة الياء فى العواوير ، ونحو ذلك.

وعلى ذلك قالوا : عالم وعلماء ـ قال سيبويه : يقولها من لا يقول عليم ـ لكنه لمّا كان العلم إنما يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة ، ولم يكن على أوّل دخوله فيه ، ولو كان كذلك لكان متعلّما لا عالما ، فلمّا خرج بالغريزة إلى باب فعل صار عالم فى المعنى كعليم ، فكسّر تكسيره ، ثم حملوا عليه ضدّه ، فقالوا : جهلاء كعلماء ، وصار علماء كحلماء ؛ لأن العلم محلمة لصاحبه ، وعلى ذلك جاء عنهم فاحش وفحشاء ، لم ٣ كان الفحش ضربا من ضروب الجهل ، ونقيضا للحلم ؛ أنشد الأصمعىّ ـ فيما روينا عنه ـ :

* وهل علمت فحشاء جهله (١) *

وأما غسا يغسى ، وجبى يجبى ، فإنه كأبى يأبى. وذلك أنهم شبّهوا الألف فى آخره بالهمزة فى قرأ يقرأ ، وهدأ يهدأ. وقد قالوا غسى يغسى ، فقد يجوز أن يكون غسا يغسى من التركّب الذى تقدّم ذكره. وقالوا أيضا جبى يجبى ، وقد أنشد أبو زيد :

* يا إبلى ما ذا مه فتأبيه (٢) *

فجاء به على وجه القياس ، كأتى يأتى. كذا رويناه عنه ، وقد تقدم ذكره ، وأننى

__________________

(١) البيت من الرجز لصخر بن عمير فى اللسان (مغث) وبعده :

* ممغوثة أعراضهم ممرطلة*

(٢) الرجز للزّفيان السعدى فى ديوانه ص ١٠٠ ، ولسان العرب (ذيز) ، وتاج العروس (ذيز) ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٥ / ٢٤١ ، ١٣ / ٢٧٠ ، ٢٧٩ ، ١٥ / ٣١٣ ، وتاج العروس (زبى) ، وبعده :

* ماء رواء ونصى حوليه*

٣٧٧

قد شرحت حال هذا الرجز فى كتابى «فى النوادر الممتعة».

واعلم أن العرب يختلف أحوالها فى تلقّى الواحد منها لغة غيره ؛ فمنهم من يخفّ ويسرع قبول ما يسمعه ، ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتّة ، ومنهم من إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به ، ووجدت فى كلامه ؛ ألا ترى إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قيل : يا نبئ الله ، فقال : «لست بنبيء الله ولكننى نبىّ الله» (١) وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز فى اسمه فردّه على قائله ، لأنه لم يدر بم سمّاه ، فأشفق أن يمسك على ذلك ، وفيه شيء يتعلق بالشرع ، فيكون بالإمساك عنه مبيح محظور ، أو حاظر مباح.

وحدّثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال : اجتمع أبو عبد الله بن الأعرابىّ وأبو زياد الكلابىّ على الجسر ببغداد ، فسأل أبو زياد أبا عبد الله عن قول النابغة الذبيانىّ :

* على ظهر مبناة ... (٢) *

فقال أبو عبد الله (٣) : النّطع (٤) ، فقال أبو زياد : لا أعرفه ، فقال : النطع ، فقال أبو زياد : نعم ، أفلا ترى كيف أنكر غير لغته على قرب بينهما.

وحدّثنى أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد عن أبى بكر محمد بن هارون الرّويانى

__________________

(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك (٢ / ٢٣١) ، من طريق حمران بن أعين عن أبى الأسود الديلى عن أبى ذر مرفوعا ، وقال : «صحيح على شرط الشيخين» ، وردّه الذهبى بقوله : «قلت : بل منكر لم يصح ، قال النسائى : حمران ليس بثقة ، وقال أبو داود : رافضى روى عن موسى بن عبيدة وهو واه ..».

(٢) جزء من بيت له فى الديوان ص ٣١ ، ولسان العرب (نطع) ، (بنى) ، وكتاب العين (٧ / ٤٣٣ ، ٨ / ٣٨٢) وتهذيب اللغة ١٣ / ٣٥٧ ، ٥ / ٤٩٤ ، وتاج العروس (نطع) ، (بنى) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (لطم) ، ومقاييس اللغة ١ / ٣٠٥ ، ويروى البيت كاملا :

على ظهر مبناة جديد سيورها

يطوف بها وسط اللطيمة بائع

والمبناة : الحصير أو النطع يبسطه التاجر على بيعه ، وكانوا يجعلون الحصر على الأنطاع يطوفون بها ، وإنما سميت بمناة لأنها تتخذ من أدم يوصل بعضها ببعض.

(٣) أبو عبد الله : هو ابن الأعرابى.

(٤) القصة فى اللسان (نطع).

٣٧٨

عن أبى حاتم قال : قرأ علىّ أعرابىّ بالحرم : «طيبى لهم وحسن مآب» [الرعد : ٢٩] ، فقلت : طوبى ، فقال طيبى ، قلت طوبى ، قال طيبى. فلمّا طال علىّ قلت : طوطو ، فقال طى طى. أفلا ترى إلى استعصام هذا الأعرابىّ بلغته وتركه متابعة أبى حاتم.

والخبر المرفوع فى ذلك ؛ وهو سؤال أبى عمرو أبا خيرة عن قولهم : استأصل الله عرقاتهم (١) ؛ فنصب أبو خيرة التاء من «عرقاتهم» ، فقال له أبو عمرو : هيهات أبا خيرة ، لان جلدك. وذلك أن أبا عمرو استضعف النصب بعد ما كان سمعها منه بالجرّ ، قال : ثم رواها فيما بعد أبو عمرو بالنصب والجرّ ، فإمّا أن يكون سمع النصب من غير أبى خيرة ممن يرضى عربيّته ، وإما أن يكون قوى فى نفسه ما سمعه من أبى خيرة من نصبها. ويجوز أيضا أن يكون قد أقام الضعف فى نفسه فحكى النصب على اعتقاده ضعفه ، وذلك أن الأعرابىّ قد ينطق بالكلمة يعتقد أن غيرها أقوى فى نفسه منها ؛ ألا ترى أن أبا العباس حكى عن عمارة أنه كان يقرأ (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] بالنصب ؛ قال أبو العباس : فقلت له ما أردت؟ فقال : سابق النهار ، فقلت له فهلا قلته؟ فقال : لو قلته لكان أوزن ؛ أى أقوى.

وقد ذكرنا هذه الحكاية للحاجة إليها فى موضع آخر ؛ ولا تستنكر إعادة الحكاية ، فربما كان فى الواحدة عدّة أماكن مختلفة يحتاج فيها إليها.

فأمّا قولهم : عقرت فهى عاقر ؛ فليس «عاقر» عندنا بجار على الفعل جريان قائم وقاعد عليه ، وإنما هو اسم بمعنى النسب بمنزلة امرأة طاهر ، وحائض ، وطالق.

وكذلك قولهم : طلقت فهى طالق ؛ فليس عاقر من عقرت بمنزلة حامض من حمض ، ولا خاثر من خثر ، ولا طاهر من طهر ، ولا شاعر من شعر ؛ لأن كل واحد من هذه هو اسم الفاعل ، وهو جار على فعل (فاستغنى به عما يجرى على فعل ، وهو) فعيل على ما قدّمناه.

وسألت أبا على ـ رحمه‌الله ـ ، فقلت : قولهم حائض بالهمزة يحكم بأنه جار

__________________

(١) تقول العرب : استأصل الله عرقاتهم وعرقاتهم ، أى شأفتهم ، فعرقاتهم بالكسر ، جمع عرق ، كأنه عرق وعرقات ، كعرس وعرسات. وقد يكون عرقاتهم بالفتح ، جمع عرق وعرقة ، ومنهم من أجراه مجرى سعلاة وانظر اللسان (عرق).

٣٧٩

على حاضت ؛ لاعتلال عين فعلت. فقال : هذا لا يدلّ. وذلك أن صورة فاعل مما عينه معتلّة لا يجيء إلا مهموزا ، جرى على الفعل أو لم يجر ؛ لأن بابه أن يجرى عليه ، فحملوا ما ليس جاريا عليه ، على حكم الجارى عليه ؛ لغلبته إيّاه فيه. وقد ذكرت هذا فيما مضى.

فاعرف ما رسمت لك ، واحمل [ما يجيء منه عليه] ؛ فإنه كثير ، وهذا طريق قياسه.

* * *

٣٨٠