الخصائص - ج ١

أبي الفتح عثمان بن جنّي

الخصائص - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح عثمان بن جنّي


المحقق: الدكتور عبد الحميد الهنداوي
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٣
ISBN: 978-2-7451-3245-1
الصفحات: ٥٤٤

فتقول فى القافية : رأيت سعادا ، فأنت فى هذه النون مخيّر : إن شئت اعتقدت أنها نون الصرف ، وأنك صرفت الاسم ضرورة ، أو على لغة من صرف جميع ما لا ينصرف (١) ، كقول الله تعالى : (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً) [الإنسان : ٤] وإن شئت جعلت هذه النون فى سعادا نون الإنشاد كقوله.

داينت أروى والديون تقضن

فمطلت بعضا وأدّت بعضن

وكذلك أيضا تكون النون التى فى قوله : وأدّت بعضن ، هى اللاحقة للإنشاد ؛ كقوله :

* يا أبتا علّك أو عساكن (٢) *

ولكن إنما يفعل ذلك فى لغة من وقف على المنصوب بلا ألف ؛ كقول الأعشى :

* وآخذ من كل حىّ عصم (٣) *

وكما رويناه عن قطرب من قول آخر :

شئز جنبى كأنّى مهدأ

جعل القين على الدّفّ إبر (٤)

وعليه قال أهل هذه اللغة فى الوقف : رأيت فرح. ولم يحك سيبويه هذه اللغة ، لكن حكاها الجماعة : أبو الحسن ، وأبو عبيدة ، وقطرب ، وأكثر الكوفيّين.

__________________

(١) هذه لغة حكاها ثعلب على ما فى الأشمونى والتصريح فى أواخر باب ما لا ينصرف. وحكاها الأخفش على ما فى الهمع ١ / ٣٧ ، وانظر البحر لأبى حيان ٨ / ٣٩٤.

(٢) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب ١٤ / ٣٤٩ (روى).

(٣) عجز بيت من المتقارب ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ٨٧ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٤٧٧ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٩١ ، وبلا نسبة فى رصف المبانى ص ٣٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٢ / ٢٧٢ ، ٢٧٥ ، ٢٧٩ ، وشرح المفصل ٩ / ٧٠ ، ولسان العرب (رأف).

(٤) البيت من الرمل ، وهو لعدى بن زيد فى ديوانه ص ٥٩ ، وإصلاح المنطق ص ١٥٦ ، ولسان العرب (هدأ) ، ورصف المبانى ص ٣٥ ، وسرّ صناعة الإعراب ٢ / ٤٧٧ ، ٦٧٦ ، وشرح المفصل ٩ / ٦٩ ، والمقرب ٢ / ٢٥. شئز : قلق ، يقال : شئز الرجل إذا قلق من هم أو مرض وأصل الشأز : الغلظة ، ومهدأ من أهدأ الصبى إذا علله لينام ، والدّف : الجنب ، والقين : وهو الحداد.

٤٦١

فعلى هذه اللغة يكون قوله :

* فمطلت بعضا ، وأدّت بعضن*

إنما نونه نون الإنشاد لا نون الصّرف ؛ ألا ترى أن صاحب هذه اللغة إنما يقف على حرف الإعراب ساكنا ، فيقول : رأيت زيد ، كالمرفوع والمجرور. هذا هو الظاهر من الأمر.

فإن قلت : فهل تجيز أن يكون قوله : وأدّت بعضا ، تنوينه تنوين الصرف ، لا تنوين الإنشاد ، إلا أنه على إجراء الوقف مجرى الوصل ؛ كقوله :

* بل جوز تيهاء كظهر الحجفت*

فإن هذا وإن كان ضربا من ضروب المطالبة فإنه يبعد ؛ وذلك أنه لم يمرر بنا عن أحد من العرب أنه يقف فى غير الإنشاد على تنوين الصرف ، فيقول فى غير قافية الشعر : رأيت جعفرن ، ولا كلّمت سعيدن ، فيقف بالنون. فإذا لم يجئ مثله قبح حمله عليه. فوجب حمل قوله : وأدّت بعضن على أنه تنوين الإنشاد على ما تقدّم ، من قوله :

* ولا تبقى خمور الأندرينا (١) *

و: * أقلّى اللوم عاذل والعتابن (٢) *

و: * ما هاج أحزانا وشجوا قد شجن*

ولم تحضرنا هذه المسألة فى وقت علمنا الكتاب «المعرب» فى تفسير قوافى أبى الحسن ، فنودعها إيّاه ، فلتلحق هذه المسألة به بإذن الله. فإذا مرّ بك فى الحروف ما هذه سبيله ، فأضفه إليه.

ومن ذلك الحركات.

هذه الحال موجودة فى الحركات وجدانها فى الحروف. وذلك كامرأة سمّيتها

__________________

(١) عجز بيت من الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم فى ديوانه ص ٦٤ ، وتهذيب اللغة ١٤ / ١٢٢ ، وتاج العروس (مدر) ، وخزانة الأدب ٣ / ١٧٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٥١ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ١١٩ ، ولسان العرب (مدر) ، (ندر) ، (صحن).

(٢) سبق تخريجه.

٤٦٢

بحيث ، وقبل ، وبعد ، فإنك قائل فى رفعه : هذه حيث ، وجاءتنى قبل ، وعندى بعد. فالضمّة الآن إعراب ، وقد كانت فى هذه الأسماء قبل التسمية بها بناء.

وكذلك لو سميتها بأين ، وكيف ، فقلت : رأيت أين ، وكلّمت كيف ، لكانت هذه الفتحة إعرابا ، بعد ما كانت قبل التسمية فى أين وكيف بناء. وكذلك لو سمّيت رجلا بأمس ، وجير ، لقلت مررت بأمس وجير ، فكانت هذه الكسرة إعرابا ، بعد ما كانت قبل التسمية بناء. وهذا واضح. فإن سمّيته بهؤلاء ، فقلت (فى الجرّ) : مررت بهؤلاء ، كانت كسرة الهمزة بعد التسمية به ، هى (الكسرة قبل) التسمية به.

وخالف (هؤلاء) باب أمس وجير ، وذلك أن (هؤلاء) ممّا يجب بناؤه ، وحكايته بعد التسمية به على ما كان من قبل التسمية ؛ ألا ترى أنه اسم ضمّ إليه حرف ، فأشبه الجملة ؛ كرجل سمّيته بلعلّ ؛ فإنك تحكى الاسم ؛ لأنه حرف ضمّ إليه حرف ، وهو (علّ) ضمّت إليه اللام ؛ كما أنك لو سمّيته بأنت لحكيته أيضا فقلت : رأيت أنت ، ولعلّ ، فكانت الفتحة فى التاء بعد التسمية به هى التى كانت فيه قبلها ، لكنك إن سمّيته بأولاء أعربته فقلت : هذا أولاء ، ورأيت أولاء ، ومررت بأولاء ، فكانت الكسرة الآن فيه إعرابا لا غير ؛ لأن أولاء اسم مفرد مثاله فعال ؛ كغراب وعقاب.

ومن الحركات فى هذا الباب أن ترخّم اسم رجل يسمى منصورا ، فتقول على لغة من قال يا حار : يا منص ، ومن قال يا حار قال كذلك أيضا بضمّ الصاد فى الموضعين جميعا. أمّا على يا حار فلأنك حذفت الواو وأقررت الضمّة بحالها ؛ كما أنك لمّا حذفت الثاء أقررت الكسرة بحالها. وأمّا على يا حار فلأنك حذفت الواو والضمة قبلها ؛ كما أنك فى يا حار حذفت الثاء والكسرة قبلها ، ثم اجتلبت ضمّة النداء فقلت : يا منص. فاللفظان كما ترى واحد ، والمعنيان مختلفان.

وكذلك إن سمّيته بيرثن ، وثرتم ، ويعقوب (١) ، ويربوع ، ويعسوب.

ومثل ذلك قول العرب فى جمع الفلك : الفلك ؛ كسّروا فعلا على فعل ، من حيث كانت فعل تعاقب فعلا على المعنى الواحد ؛ نحو الشغل ، والشغل ،

__________________

(١) يعقوب : يريد به ذكر الحجل ، وهو عربى فأما يعقوب أبو يوسف عليهما‌السلام فهو أعجمى ، والحكم فيهما من جهة الترخيم واحد.

٤٦٣

والبخل ، والبخل ، والعجم ، والعجم ، والعرب ، والعرب. وفعل ممّا يكسّر على فعل ، كأسد ، وأسد ، ووثن ، ووثن. حكى صاحب (١) الكتاب (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) [النساء : ١٧] وذكر أنها قراءة. وكما كسّروا فعلا على فعل ، وكانت فعل وفعل أختين معتقبتين على (المعنى) الواحد كعجم وعجم وبابه جاز أيضا أن يكسّر فعل على فعل ؛ كما ذهب إليه صاحب الكتاب فى الفلك إذ كسّر على الفلك ؛ ألا ترى أن قوله عزّ اسمه (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [الشعراء : ١١٩ ، يس : ٤١] يدلّ على أنه واحد ، وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] فهذا يدل على الجمعيّة. فالفلك إذا فى الواحد بمنزلة القفل ، والخرج ، والفلك فى الجميع بمنزلة الحمر والصفر.

فقد ترى اتّفاق الضمّتين لفظا واختلافهما تقديرا ومعنى. وإذا كان كذلك فكسرة الفاء فى هجان ، ودلاص فى الواحد ككسرة الفاء فى كناز وضناك ، وكسرة الفاء فى هجان ودلاص فى الجمع ككسرة الفاء فى كرام ولئام.

ومن ذلك قولهم قنو وقنوان ، وصنو وصنوان ، وخشف وخشفان ، ورئد ورئدان ، ونحو ذلك مما كسّر فيه فعل على فعلان ؛ كما كسّروا فعلا على فعلان. وذلك أن فعلا وفعلا قد اعتقبا على المعنى الواحد ؛ نحو بدّل وبدل ، وشبه وشبه ، ومثل ومثل. فكما كسّروا فعلا على فعلان كشبث وشبثان ، وخرب وخربان (٢) ، ومن المعتلّ تاج وتيجان ، وقاع وقيعان ، كذلك كسّروا أيضا فعلا على فعلان ، فقالوا : قنو وقنوان ، وصنو وصنوان.

ومن وجه آخر أنهم رأوا فعلا وفعلا قد اعتقبا على المعنى الواحد ؛ نحو العلو والعلو ، والسفل والسفل ، والرجز والرجز ؛ فكما كسّروا فعلا على فعلان ككوز وكيزان ، وحوت وحيتان ، كذلك كسّروا أيضا فعلا على فعلان ؛ نحو صنو

__________________

(١) الذى فى الكتاب ٢ / ١٧٧ : «وذلك نحو : أسد وأسد ، ووثن ووثن ، بلغنا أنها قراءة» وقراءة أثن ذكرها أبو حيان ولم يعزها ، وأثن عليها مبدلة من وثن. وانظر البحر ٣ / ٣٥٢ عند قوله تعالى فى سورة النساء الآية ١١٧ : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً). (نجار).

(٢) شبث وشبثان : هو دويبة كثيرة الأرجل. خرب وخربان : هو ذكر الحبارى.

٤٦٤

وصنوان ، وحسل وحسلان (١) ، وخشف وخشفان. فكما أن كسرة فاء شبثان ، وبرقان غير فتحة فاء شبث ، وبرق لفظا ، فكذلك كسرة فاء صنو غير كسرة فاء صنوان تقديرا. وكما أنّ كسرة فاء حيتان وكيزان غير ضمّة فاء كوز وحوت لفظا ، فكذلك أيضا كسرة فاء صنوان غير كسرة فاء صنو تقديرا. وسنذكر فى كتابنا هذا (باب حمل) المختلف فيه على المتفق عليه بإذن الله. وعلى هذا فكسرة فاء هجان ودلاص لفظا غير كسرة فاء هجان ودلاص تقديرا ؛ كما أن كسرة فاء كرام ولئام غير فتحة فاء كريم ولئيم لفظا. وعلى هذا استمرار ما هذه سبيله فاعرفه.

وأمّا السكون فى هذه الطريقة فهو كسكون نون صنو وقنو ؛ فينبغى أن يكون فى الواحد غير سكون نون صنوان وقنوان ؛ لأن هذا شيء أحدثته الجمعيّة ، وإن كان بلفظ ما كان فى الواحد ؛ ألا ترى أن سكون عين شبثان وبرقان غير فتحة عين شبث وبرق ؛ فكما أن هذين مختلفان لفظا ، وفكذلك ذانك السكونان هما مختلفان تقديرا.

ونظير فعل وفعلان فى هذا الموضع فعل وفعلان فى قولهم فوم (٢) وفومان ، وخوط وخوطان. فواجب إذا أن تكون الضمّة والسكون فى فوم غير الضمّة والسكون فى فومان ، وكذلك خوط وخوطان. ومثله أنّ سكون عين بطنان وظهران غير سكون عين بطن وظهر ؛ الباب واحد غير مختلف. وكذلك كسرة اللام من دهليز ينبغى أن تكون غير كسرتها فى دهاليز ؛ لأن هذه كسرة ما يأتى بعد ألف التكسير (وإن لم يكن فى الواحد مكسورا) ؛ (نحو مفتاح) ومفاتيح ، وجرموق ، وجراميق. وعلى هذا أيضا يجب أن تكون ضمة فاء رباب (٣) غير ضمة فاء ربّى ؛ لأن ربابا كعراق ، وظؤار ، وتؤام. فكما أن أوائل كل منهن على غير [أوّل] واحده الذى هو عرق ، وظئر ، وتوأم لفظا ، فكذلك فليكن أوّل ربّى ورباب تقديرا.

__________________

(١) حسل وحسلان : هو ولد الضب.

(٢) الفم : الزرع أو الحنطة ، وقيل الحمّص ، وقيل الخبز أيضا ، ويقال : قوموا لنا : أى اختبزوا ، وقيل : الفوم : لغة فى الثوم. اللسان : (فومى).

(٣) الرّبى : الشاة الحديثة النتاج. والرّباب جمعها.

٤٦٥

باب فى اتفاق المصاير ، على اختلاف المصادر

من ذلك اسم الفاعل والمفعول فى (افتعل) ممّا عينه معتلّة ، أو ما فيه تضعيف.

فالمعتلّ نحو قولك : اختار فهو مختار ، واختير فهو مختار : الفاعل والمفعول واحد لفظا ، غير أنهما مختلفان تقديرا ؛ ألا ترى أن أصل الفاعل (مختير) بكسر العين ، وأصل المفعول (مختير) بفتحها. وكذلك هذا رجل معتاد للخير ، وهذا أمر معتاد ، وهذا فرس مقتاد ، إذا قاده صاحبه ، والصاحب مقتاد له.

وأمّا المدغم فنحو قولك : أنا معتدّ لك بكذا وكذا ، وهذا أمر معتدّ به. فأصل الفاعل (معتدد) كمقتطع ، وأصل المفعول (معتدد) كمقتطع. ومثله هذا فرس مستنّ ، لنشاطه ، وهذا مكان مستنّ فيه ، إذا استنّت فيه الخيل ؛ ومنه قولهم (استنّت الفصال حتى القرعى) (١).

وكذلك افعلّ وافعالّ من المضاعف أيضا ؛ نحو هذا بسر محمرّ ومحمارّ ، وهذا وقت محمرّ فيه ، ومحمارّ فيه. فأصل الفاعل محمرر ، ومحمارر مكسور العين ؛ وأصل المفعول محمرر فيه ومحمارر فيه مفتوحها.

وليس كذلك اسم الفاعل والمفعول فى افعلّ وافعال (إذا ضعّف فيه حرفا علّة) بل ينفصل فيه اسم الفاعل من اسم المفعول عندنا. وذلك قولك : هذا رجل مرعو ، وأمر مرعوى إليه ، وهذا رجل مغزاو ، وهذا وقت مغزاوى فيه ؛ لكنه على مذهب الكوفيين لا فرق بينهما ؛ لأنهم يدغمون هذا النحو من مضاعف المعتلّ ، ويجرونه مجرى الصحيح ، فيقولون اغزاوّ ، يغزاوّ ، واغزوّ ، يغزوّ. واستشهد أبو الحسن على فساد مذهبهم بقول العرب : ارعوى. قال ولم يقولوا : ارعوّ. ومثله من كلامهم قول يزيد بن الحكم ـ أنشدنيه أبو على وقرأته فى القصيدة عليه ـ :

__________________

(١) أى جرت الفصال مرحا حتى القرعى منهما ، وهى تنزو تشبها بالصحاح. وهو مثل يضرب للرجل يدخل نفسه فى قوم ليس منهم.

٤٦٦

تبدّل خليلا بى كشكلك شكله

فإنى خليلا صالحا بك مقتوى (١)

فهذا عندنا مفعلّ من القتو وهو المراعاة والخدمة ؛ كقوله :

إنى امرؤ من بنى خزيمة لا

أحسن قتو الملوك والحفدا (٢)

وفيها أيضا : مدحوى ، وفيها أيضا محجوى :

فهذا كله مفعلّ كما تراه غير مدغم.

وانفعل فى المضاعف كافتعل ؛ نحو قولك هذا أمر منحلّ ، ومكان منحلّ فيه ، ويوم منحلّ فيه ، أى تنحلّ فيهما الأمور. فهذا طرف من هذا النحو.

ومن ذلك قولك فى تخفيف (فعل) من جئت على قول الخليل وأبى الحسن ؛ تقول فى القولين جميعا : جى ؛ غير أن هذين الفرعين المتفقين التقيا عن أصلين مختلفين.

وذلك أن الخليل يقول فى (فعل) من جئت : جيء كقوله فيه من بعت بيع.

وأصل الفاء عنده الضمّ ؛ لكنه كسرها لئلا تنقلب الياء واوا فيلزمه أن يقول : بوع.

ويستدلّ على ذلك بقول العرب فى جمع أبيض وبيضاء : بيض. وكذلك (عين) تكسير أعين وعيناء ، و (شيم) فى أشيم وشيماء.

وأبو الحسن يخالفه فيقرّ الضمّة فى الفاء ، فيبدل لها العين واوا فيقول : بوع وجوء. فإذا خفّفا جميعا صارا إلى جى لا غير. فأمّا الخليل فيقول : إذا تحركت العين بحركة الهمزة الملقاة عليها فقويت رددت ضمة الفاء لأمنى على العين القلب ، فأقول : جى ؛ وأما أبو الحسن فيقول : إنما كنت قلت : جوء فقلبت العين واوا لمكان الضمّة قبلها وسكونها ، فإذا قويت بالحركة الملقاة عليها تحصّنت فحمت نفسها من القلب ؛ فأقول : جى. أفلا ترى إلى ما ارتمى إليه الفرعان من الوفاق بعد ما كان عليه الأصلان من الخلاف. وهذا ظاهر.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو ليزيد بن الحكم فى ديوانه ص ٣٧٧ ، ولسان العرب (خصب) ، وأساس البلاغة (قوى) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (قتا) ، والمخصص ٣ / ١٤١.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو بلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٤٠٨ ، والمخصص ٣ / ١٤١ ، والمحتسب ٢ / ٢٥.

٤٦٧

ومن ذلك قولك فى الإضافة إلى مائة فى قول سيبويه ويونس جميعا فيمن ردّ اللام : مئوىّ كمعوىّ ، فيتوافى اللفظان على أصلين مختلفين. ووجه ذلك أن مائة أصلها عند الجماعة مئية ساكنة العين ، فلمّا حذفت اللام تخفيفا جاورت العين تاء التأنيث ، فانفتحت على العادة والعرف فى ذلك ، فقيل : مائة. فإذا رددت اللام فمذهب سيبويه أن يقرّ العين بحالها متحرّكة وقد كانت قبل الردّ مفتوحة ، فتقلب لها اللام ألفا ، فيصير تقديرها : مئا كمعى فإذا أضفت إليها أبدلت الألف واوا فقلت : مئوى كثنوىّ. وأمّا مذهب يونس فإنه كان إذا نسب إلى فعلة أو فعلة مما لامه ياء أجراه مجرى ما أصله فعلة أو فعلة ؛ ألا تراه كيف كان يقول فى الإضافة إلى ظبية : ظبوىّ. ويحتجّ بقول العرب فى النسب إلا بطية : بطوىّ ، وإلى زنية : زنويّ. فقياس هذا أن تجرى مائة ـ وإن كانت فعلة ـ مجرى فعلة ؛ فتقول فيها :

مئوىّ. فيتّفق اللفظان من أصلين مختلفين.

ومن ذلك أن تبنى من قلت ونحوه فعلا ، فتسكّن عينه استثقالا للضمّة فيها ، فتقول : (فول) كما يقول أهل الحجاز فى تكسير عوان ونوار : عون ونور ، فيسكّنون ، وإن كانوا يقولون : رسل وكتب بالتحريك. فهذا حديث فعل من باب قلت. وكذلك فعل منه أيضا قول ، فيتّفق فعل وفعل ، فيخرجان على لفظ متفق عن أوّل مختلف. وكذلك فعل من باب بعت ، وفعل فى قول الخليل وسيبويه : تقول فيهما جميعا بيع. وسألت أبا علىّ رحمه‌الله فقلت : لو أردنا فعلات مما عينه ياء لا نريد بها أن تكون جارية على فعلة كتينة وتينات؟ فقال أقول على هذا الشرط : تونات ؛ وأجراها لبعدها عن الطرف مجرى واو عوطط.

ومن ذلك أن تبنى من غزوت إصبع بضم الباء ، فتقول : اغز. وكذلك إن أردت مثل إصبع قلت أيضا : اغز. فيستوى لفظ إفعل ولفظ إفعل. وذلك أنك تبدل من الضمّة قبل الواو كسرة فتقلبها ياء ، فيستوى حينئذ لفظها ولفظ إفعل.

وإصبع ، وإن كانت مستكرهة لخروجك من كسر إلى ضمّ بناء لازما ، محكّية ؛ تروى عن متقدّمى أصحابنا.

وما يخرج إلى لفظ واحد عن أصلين مختلفين كثير ، لكن هذا مذهبه وطريقه ؛ فاعرفه وقسه.

٤٦٨

ومن ذلك قولك فى جمع تعزية وتعزوة (١) جميعا : تعاز ، (وكذلك اللفظ بمصدر تعازينا ؛ أى عزى بعضنا بعضا : تعاز) يا فتى. فهذه تفاعل كتضارب وتحاسد ، وأصلها تعازو ، ثم تعازى ، ثم تعاز. فأما (تعاز) فى الجمع فأصل عينها الكسر كتنافل وتناضب ، جمع تتفل وتنضب (٢). ونظائره كثيرة.

* * *

__________________

(١) تعزوة : اسم للعزاء. والواو مبدلة من الياء لمكان الضمة قبلها. انظر اللسان (عزا).

(٢) تتفل : هو ولد الثعلب. تنضب : هو شجر ينبت بالحجاز.

٤٦٩

باب فى ترافع (١) الأحكام

هذا موضع من العربيّة لطيف ، لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسما ، ولا نقلوا إلينا فيه ذكرا.

من ذلك مذهب العرب فى تكسير ما كان من (فعل) على (أفعال) ؛ نحو علم وأعلام ، وقدم وأقدام ، ورسن وأرسان ، وفدن وأفدان. قال سيبويه : فإن كان على (فعلة) كسّروه على (أفعل) ؛ نحو أكمة وآكم. ولأجل ذلك (ما حمل) أمة على أنها (فعلة) لقولهم فى تكسيرها : (آم) إلى هنا انتهى كلامه ، إلا أنه أرسله ولم يعلّله.

والقول فيه عندى أن حركة العين قد عاقبت فى بعض المواضع تاء التأنيث ، وذلك فى الأدواء ؛ نحو قولهم : رمث رمثا ، وحبط حبطا ، وحبج حبجا. فإذا ألحقوا التاء أسكنوا العين ؛ فقالوا : حقل حقلة ، ومغل مغلة (٢). فقد ترى إلى معاقبة حركة العين تاء التأنيث. ومن ذلك قولهم : جفنة وجفنات ، وقصعة وقصعات ؛ لمّا حذفوا التاء حرّكوا العين.

فلمّا تعاقبت التاء وحركة العين جريا لذلك مجرى الضدّين المتعاقبين. فلمّا اجتمعا فى (فعلة) ترافعا أحكامهما ، فأسقطت التاء حكم الحركة ، وأسقطت الحركة حكم التاء. فآل الأمر بالمثال إلى أن صار كأنه فعل ، و (فعل) باب تكسيره (أفعل).

وهذا حديث من هذه الصناعة غريب المأخذ ، لطيف المضطرب. فتأمّله فإنه

__________________

(١) يريد أنه قد يجتمع فى الكلمة أمران ، يقضى كل منهما إذا انفرد بحكم فى اللغة ، تكون عليه الكلمة ؛ فيكون ذلك داعيا إلى إلغاء تأثيرهما ، فكأنّ هذا رفع حكم هذا ، وهذا رفع حكم هذا وأبطله (نجار). وقد عرض المؤلف لهذا فى المحتسب عند قوله تعالى فى سورة آل عمران : (أَمَنَةً نُعاساً).

(٢) الحقلة : من أدواء الإبل ، يصيبها من أكل التراب مع البقل. المغلة : هو أيضا داء فى الحيوان من أكل البقل مع التراب.

٤٧٠

مجد عليك ، مقوّ لنظرك.

ومن (فعلة) و (أفعل) رقبة وأرقب ، وناقة وأينق.

ومن ذلك أنا قد رأينا تاء التأنيث تعاقب ياء المدّ ، وذلك نحو فرازين وفرازنة (١) ، وجحاجيح وجحاجحة ، وزناديق وزنادقة. فلمّا نسبوا إلى نحو حنيفة ، وبجيلة ، تصوّروا ذلك الحديث أيضا ، فترافعت التاء والياء أحكامهما ، فصارت حنيفة وبجيلة ، إلى أنهما كأنهما حنف وبجل ، فجريا لذلك مجرى شقر ونمر ؛ فكما تقول فيهما : شقرىّ ونمرىّ ، كذلك قلت أيضا فى حنيفة : حنفىّ ، وفى بجيلة : بجلىّ. يؤكّد ذلك عندك أيضا أنه إذا لم تكن هناك تاء كان القياس إقرار الياء ؛ كقولهم فى حنيف : حنيفىّ ، وفى سعيد : سعيدىّ. فأمّا ثقفىّ فشاذّ عنده ، ومشبّه بحنفىّ. فهذا طريق آخر من الحجاج فى باب حنفىّ وبجلىّ ، مضاف إلى ما يحتجّ به أصحابنا فى حذف تلك الياء.

وممّا يدلّك على مشابهة حرف المدّ قبل الطرف لتاء التأنيث قولهم : [رجل] صنع اليد ، وامرأة صناع اليد ؛ فأغنت الألف قبل الطرف مغنى التاء التى كانت تجب فى صنعة ، لو جاءت على حكم نظيرها ؛ نحو حسن وحسنة ، وبطل وبطلة. وهذا أيضا حسن فى بابه.

ويزيد عندك فى وضوح ذلك أنهم قالوا فى الإضافة إلى اليمن ، والشأم ، وتهامة : يمان ، وشآم ، وتهام ؛ فجعلوا الألف قبل الطرف عوضا من إحدى الياءين اللاحقتين بعدها. وهذا يدلّك أن الشيئين إذا اكتنفا الشىء من ناحيتيه ، تقاربت حالاهما (وحالاه) بهما. ولأجله وبسببه ما ذهب قوم إلى أن حركة الحرف تحدث قبله ، وآخرون إلى أنها تحدث بعده ، وآخرون إلى أنها تحدث معه. قال أبو علىّ : وذلك لغموض الأمر وشدّة القرب. نعم ، وربما احتجّ بهذا لحسن تقدّم الدلالة وتأخّرها ، هذا فى موضع (وهذا فى موضع). وذلك لإحاطتهما جميعا بالمعنى المدلول عليه.

فمما تأخر دليله قولهم : ضربنى وضربت زيدا ؛ ألا ترى أن المفسّر للضمير

__________________

(١) واحده فرزان ، وهو من لعب الشطرنج.

٤٧١

المتقدّم جاء من بعده. وضدّه زيد ضربته ؛ لأن المفسّر للضمير متقدّم عليه. وقريب من هذا أيضا إتباع الثانى للأوّل ؛ نحو شدّ ، وفرّ ، وضنّ ، وعكسه قولك : اقتل ، استضعف ، ضممت الأوّل للآخر.

فإن قلت : فإن فى تهامة ألفا ، فلم ذهبت إلى أن الألف فى تهام عوض من إحدى الياءين للإضافة؟ قيل : قال الخليل فى هذا : إنهم كأنهم نسبوه إلى فعل ، أو فعل ، وكأنهم فكّوا صيغة تهامة فأصاروها إلى تهم أو تهم ، ثم أضافوا إليه فقالوا : تهام.

وإنما ميّل الخليل بين فعل وفعل ، ولم يقطع بأحدهما ؛ لأنه قد جاء هذا العمل فى هذين المثالين جميعا ، وهما الشأم واليمن. وهذا الترجيم الذى أشرف عليه الخليل ظنا ، قد جاء به السماع نصّا ؛ أنشدنا أبو علىّ ، قال أنشد أحمد بن يحيى :

أرّقنى الليلة برق بالتهم

يا لك برقا من يشقه لا ينم (١)

فانظر إلى قوّة تصوّر الخليل إلى أن هجم به الظنّ على اليقين ؛ فهو المعنىّ بقوله :

الألمعىّ الذى يظنّ بك الظنّ

كأن قد رأى وقد سمعا (٢)

وإذا كان ما قدّمناه من أن العرب لا تكسّر فعلة على أفعال مذهبا لها فواجب أن يكون (أفلاء) من قوله :

مثلها يخرج النصيحة للقو

م فلاة من دونها أفلاء (٣)

تكسير (فلا) الذى هو جمع فلاة ، لا جمعا لفلاة ؛ إذ كانت فعلة. وعلى هذا فينبغى أيضا أن يكون قوله :

__________________

(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (تهم) ، وتاج العروس (تهم).

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لأوس بن حجر فى ديوانه ١ / ٢٧٣ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢١٤ ، والكامل ص ١٤٠٠ ، وذيل أمالى القالى ص ٣٤ ، ومعاهد التنصيص ١ / ١٢٨ ، ولأوس أو لبشر بن أبى خازم فى تاج العروس (لمع) ، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة ٥ / ٢١٢.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو للحارث بن حلزة فى ديوانه ص ٣٥ ، وشرح القصائد السبع ص ٥٠١ ، وشرح القصائد العشر ص ٤١٥ ، وشرح المعلقات السبع ص ٢٣٢ ، ولسان العرب (فلا).

٤٧٢

كأن متنيه من النفىّ

مواقع الطير على الصفىّ (١)

إنما هو تكسير صفا الذى هو جمع صفاة ؛ إذ كانت فعلة لا تكسّر على فعول ، إنما ذلك فعلة ؛ كبدرة وبدور ، ومأنة ومئون (٢). أو فعل ؛ كطلل وطلول ، وأسد وأسود. وقد ترى بهذا أيضا مشابهة فعلة لفعل فى تكسيرهما جميعا على فعول.

ومن ذلك قولهم فى الزكام : آرضه الله ، وأملأه ، وأضأده. وقالوا : هى الضؤدة ، والملأة ، والأرض. والصنعة فى ذلك أن (فعلا) قد عاقبت (فعلا) على الموضع الواحد ؛ نحو العجم والعجم ، والعرب والعرب ، والشغل والشغل ، والبخل والبخل. وقد عاقبتها أيضا فى التكسير على أفعال ؛ نحو برد وأبراد ، وجند وأجناد ؛ فهذا كقلم وأقلام ، وقدم وأقدام. فلمّا كان (فعل) من حيث ذكرنا كفعل صارت الملأة والضؤدة كأنها فعلة ، وفعلة قد كسّرت على أفعل ؛ على ما قدّمنا فى أكمة وآكم ، وأمة وآم. [فكما رفعت التاء فى (فعلة) حكم الحركة فى العين ، ورفعت حركة العين حكم التاء ، فصار الأمر لذلك إلى حكم (فعل) حتى قالوا : أكمة وآكم ، ككلب وأكلب ، وكعب وأكعب ، فكذلك جرت (فعلة) مجرى (فعل) حتى عاقبته فى الضؤدة والملأة والأرض ، فصارت الأرض كأنه أرضة ، أو صار الملأة والضؤدة كأنهما ملء وضأد. أفلا ترى إلى الضمّة كيف رفعت حكم التاء ، كما رفعت التاء حكم الضمّة ، وصار الأمر إلى (فعل)].

* * *

__________________

(١) الرجز للأخيل الطائى فى لسان العرب (صفا) ، (نفى) ، وتاج العروس (هيص) ، (وقع) ، (نفا) ، ولرؤبة فى ملحق ديوانه ص ١٨٨ ، وتاج العروس (صفا) ، وله أو للعجاج فى لسان العرب (هيص) ، وليس فى ديوان العجاج ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٩٤٥ ، ٩٧٢ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٥٠ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥١٤ ، وشرح المفصل ٥ / ٢٢ ، ولسان العرب (هيض) ، (وقع) ، وتاج العروس (هيض) ، وكتاب العين ٤ / ٧٠ ، والمخصص ٤ / ٤١ ، ١٠ / ٩٠ ، وكتاب الجيم ٣ / ٢٩٥ ، وتهذيب اللغة ٣ / ٣٧ ، ٦ / ٣٦٥ ، ١٥ / ٤٧٥. النفىّ : ما تطاير من الرشاش على ظهر المائح شبه الماء وقد وقع على متن الساقى بذرق الطائر.

(٢) هى من اللحم السرة وما حولها وقيل : هى شحمة قص الصدر.

٤٧٣

باب فى تلاقى المعانى ، على اختلاف الأصول والمبانى

هذا فصل من العربيّة حسن كثير المنفعة ، قوىّ الدلالة على شرف هذه اللغة.

وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة ، فتبحث عن أصل كلّ اسم منها ، فتجده مفضى المعنى إلى معنى صاحبه.

وذلك كقولهم : (خلق الإنسان) فهو (فعّل من خلّقت الشىء ، أى ملّسته ؛ ومنه صخرة خلقاء للملساء. ومعناه أن خلق الإنسان هو ما قدّر له ورتّب عليه ، فكأنه أمر قد استقرّ ، وزال عنه الشكّ. ومنه قولهم فى الخبر : (قد فرغ الله من الخلق والخلق). والخليقة فعيلة منه.

وقد كثرت فعيلة فى هذا الموضع. وهو قولهم : (الطبيعة) وهى من طبعت الشىء (أى قرّرته) على أمر ثبت عليه ، كما يطبع الشىء كالدرهم والدينار ، فتلزمه أشكاله ، فلا يمكنه انصرافه عنها ولا انتقاله.

ومنها (النحيتة) وهى فعيلة من نحتّ الشىء [أى] ملّسته وقرّرته على ما أردته منه. فالنحيتة كالخليقة : هذا من نحتّ ، وهذا من خلّقت.

ومنها (الغريزة) وهى فعيلة من غرزت كما قيل لها طبيعة ؛ لأن طبع الدرهم ونحوه ضرب من وسمه ، وتغريزه بالآلة التى تثبّت عليه الصورة. وذلك استكراه له وغمز عليه كالطبع.

ومنها (النقيبة) وهى فعيلة من نقبت الشىء ، وهو نحو من الغريزة.

ومنها (الضريبة) وذلك أن الطبع لا بدّ معه من الضرب ؛ لتثبت [له] الصورة المرادة.

ومنها (النحيزة) هى فعيلة من نحزت الشىء أى دققته ؛ ومنه المنحاز : الهاوون ؛ لأنه موضوع للدفع به والاعتماد على المدقوق ؛ قال :

* ينحزن من جانبيها وهى تنسلب (١) *

__________________

(١) الانسلاب : المضاء فى السير.

٤٧٤

أى تضرب الإبل حول هذه الناقة للّحاق بها ، وهى تسبقهن وتنسلب أمامهن.

ومنها (السجيّة) هى فعيلة من سجا يسجو إذا سكن ؛ ومنه طرف ساج ، وليل ساج ؛ قال :

يا حبّذا القمراء والليل الساج

وطرق مثل ملاء النسّاج (١)

وقال الراعى :

ألا اسلمى اليوم ذات الطوق والعاج

والدلّ والنظر المستأنس الساجى (٢)

وذلك أن خلق الإنسان أمر قد سكن إليه واستقرّ عليه ؛ ألا تراهم يقولون فى مدح الرجل : فلان يرجع إلى مروءة ، ويخلد إلى كرم ، ويأوى إلى سداد وثقة.

فيأوى إليه هو هذا ؛ لأن المأوى خلاف (المعتمل) لأنه إنما يأوى إلى (المنزل ونحوه) إذا أراد السكون.

ومنها (الطريقة) من طرّقت الشىء أى وطّأتة وذلّلته ، وهذا هو معنى ضربته ، ونقبته ، وغرزته ، ونحتّه ؛ لأن هذه كلها رياضات وتدريب واعتمادات وتهذيب.

ومنها (السجيحة) وهى فعيلة من سجح خلقه. وذلك أن الطبيعة قد قرّت واطمأنّت فسجحت وتذلّلت. وليس على الإنسان من طبعه كلفة ، وإنما الكلفة فيما يتعاطاه ويتجشّمه ؛ قال حسّان :

ذروا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا

إن الرجال ذوو عصب وتذكير (٣)

__________________

(١) الرجز للحارثى فى لسان العرب (سجا) ، وبلا نسبة فى المخصص ٩ / ٢٦ ، ١٦ / ٥٤ ، وشرح المفصل ٧ / ١٣٩ ، ١٤١ ، وتهذيب اللغة ١١ / ١٤٠ ، وتاج العروس (قمر) ، (سجا) ، وجمهرة اللغة ص ٤٨٦ ، ٤٩١ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٣٧ ، وأساس البلاغة (سجو).

(٢) البيت من البسيط ، وهو للراعى النميرى فى ديوانه ص ٢٧ ، ولسان العرب (أنس) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (سجا) ، وجمهرة اللغة ص ١٠٤١.

(٣) البيت من البسيط ، وهو لحسان بن ثابت فى ديوانه ص ١٧٩ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٣٧ ، وشرح شواهد المغنى ١ / ٢١٠ ، ولسان العرب (خجأ) ، (عصب) ، (سجح) ، وبلا نسبة فى الكتاب ٤ / ٢٤٤. التخاجؤ فسرها بعضهم بأنها مشية فيها تبختر. مشية سجحا : سهلة لينة.

٤٧٥

وقال الأصمعىّ : إذا استوت أخلاق القوم قيل : هم على سرجوجة واحدة ، ومرن واحد ، (ومنهم من يقول : سرجيجة وهى فعليلة من هذا) ، فسرجوجة : فعلولة ، من لفظ السرج ومعناه. والتقاؤهما أن السرج إنما أريد للراكب ليعدّله ، ويزيل اعتلاله وميله. فهو من تقويم الأمر. وكذلك إذا استبوا على ووتيرة واحدة فقد تشابهت أحوالهم ، وزاح خلافهم ، وهذا أيضا ضرب من التقرير والتقدير ؛ فهو بالمعنى عائد إلى النحيتة ، والسجيّة ، والخليقة ؛ لأن هذه كلّها صفات تؤذن بالمشابهة والمقاربة. والمرن مصدر كالحلف والكذب. والفعل منه مرن على الشىء إذا ألفه ، فلان له. وهو عندى من مارن الأنف لما لان منه. فهو أيضا عائد إلى أصل الباب ؛ ألا ترى أن الخليقة ، والنحيتة ، والطبيعة ، والسجيّة ، وجميع هذه المعانى التى تقدّمت ، تؤذن بالإلف والملاينة ، والإصحاب والمتابعة.

ومنها (السليقة) وهى من قولهم : فلان يقرأ بالسليقيّة أى بالطبيعة. وتلخيص ذلك أنها كالنحيتة. وذلك أن السليق ما تحاتّ من صغار الشجر ؛ قال :

تسمع منها فى السليق الأشهب

معمعة مثل الأباء الملهب (١)

وذلك أنه إذا تحاتّ لان وزالت شدّته. والحتّ كالنحت ، وهما فى غاية القرب. ومنه قول الله سبحانه (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) [الأحزاب : ١٩] أى نالوا منكم. وهذا هو نفس المعنى فى الشىء المنحوت المحتوت ؛ ألا تراهم يقولون : فلان كريم النّجار والنجر ؛ أى الأصل. والنجر ، والنحت ، والحتّ ، والضرب ، والدقّ ، والنحز ، والطبع ، والخلق ، والغرز ، والسلق ، كله التمرين على الشىء ، وتليين القوىّ ليصحب وينجذب.

فاعجب للطف صنع البارى سبحانه فى أن طبع الناس على هذا ، وأمكنهم من ترتيبه وتنزيله ، وهداهم للتواضع عليه وتقريره.

ومن ذلك قولهم للقطعة من المسك : (الصوار) قال الأعشى :

__________________

(١) الرجز لجندب بن مرثد فى تاج العروس (سلق) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (لهب) ، (سلق) ، وجمهرة اللغة ص ٢٩١ ، ٨٥٠ ، ومقاييس اللغة ٣ / ٩٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٨٧ ، والاشتقاق ص ٤٧٧.

٤٧٦

إذا تقوم يضوع المسك أصورة

والعنبر الورد من أردانها شمل (١)

فقيل له : (صوار) لأنه (فعال) من صاره يصوره إذا عطفه وثناه ؛ قال الله سبحانه (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) [البقرة : ٢٦٠] وإنما قيل له ذلك لأنه يجذب حاسّة من يشمّه إليه ، وليس من خبائث الأرواح فيعرض عنه ، وينحرف إلى شقّ غيره ؛ ألا ترى إلى قوله :

ولو أنّ ركبا يمّموك لقادهم

نسيمك حتى يستدلّ بك الركب

وكذا تجد أيضا معنى المسك. وذلك أنه (فعل) من أمسكت الشىء ، كأنه لطيب رائحته يمسك الحاسّة عليه ، ولا يعدل بها صاحبها عنه. ومنه عندى قولهم للجلد : (المسك) هو فعل من هذا الموضع ، ألا ترى أنه يمسك ما تحته من جسم الإنسان وغيره من الحيوان. ولو لا الجلد لم يتماسك ما فى الجسم : من اللحم ، والشحم والدم وبقيّة الأمشاج وغيرها.

فقولهم إذا : مسك يلاقى معناه معنى الصّوار ، وإن كانا من أصلين مختلفين ، وبناءين متباينين : أحدهما (م س ك) والآخر (ص ور) كما أن الخليقة من (خ ل ق) والسجيّة من (س ج و) والطبيعة من (ط ب ع) والنحيتة من (ن ح ت) والغريزة من (غ ر ز) والسليقة من (س ل ق) والضريبة من (ض ر ب) والسجيحة من (س ج ح) والسرجوجة والسرجيجة من (س ر ج) والنجار من (ن ج ر) والمرن من (م ر ن). فالأصول مختلفة ، والأمثلة متعادية (٢) ، والمعانى مع ذينك متلاقية.

ومن ذلك قولهم : صبىّ وصبيّة ، وطفل وطفلة ، وغلام وجارية ؛ وكله للّين والانجذاب وترك الشدّة والاعتياص. وذلك أن صبيا من صبوت إلى الشىء إذا ملت إليه ولم تستعصم دونه. وكذلك الطّفل : هو من لفظ طفّلت الشمس للغروب

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٠٥ ، ولسان العرب (صور) ، والمخصص ١٧ / ٢٥ ، وتاج العروس (بلد) ، (صور) ، وبلا نسبة فى كتاب العين ٧ / ١٥١. أردانها : الأكمام للثوب.

(٢) متعادية : أى متباينة من قولهم : تعادى ما بين القوم : تباعد ، أو من قولهم تعادى المكان : تفاوت ولم يستو.

٤٧٧

أى مالت إليه وانجذبت نحوه ؛ ألا ترى إلى قول العجّاج :

* والشمس قد كادت تكون دنفا (١) *

يصف ضعفها وإكبابها. وقد جاء به بعض المولّدين فقال :

* وقد وضعت خدّا إلى الأرض أضرعا (٢) *

ومنه قيل : فلان طفيلىّ ؛ وذلك أنه يميل إلى الطعام. وعلى هذا قالوا له : غلام ؛ لأنه من الغلمة وهى اللين وضعفة العصمة. وكذلك قالوا : جارية. فهى فاعلة من جرى الماء وغيره ؛ ألا ترى أنهم يقولون : إنها غضّة [بضّة] رطبة ، ولذلك قالوا : قد علاها ماء الشباب ؛ قال عمر :

وهى مكنونة تحيّر منها

فى أديم الخدّين ماء الشباب

وذلك أن الطفل والصّبىّ والغلام والجارية ليست لهم عصمة الشيوخ ولا جسأة الكهول. وسألت بعض بنى عقيل عن قول الحمصىّ :

لم تبل جدّة سمرهم سمر ولم

تسم السّموم لأدمهنّ أديما

فقال : هن بمائهنّ كما خلقنه. فإذا اشتدّ الغلام شيئا قيل حرور. وهو (فعوّل) من اللبن الحازر إذا اشتدّ للحموضة ؛ قال العجلىّ :

* وارضوا بإحلابة وطب قد حزر (٣) *

__________________

(١) الرجز للعجاج فى ديوانه ٢ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، ولسان العرب (دنف) ، (زحلف) ، (سدف) ، وتهذيب اللغة ٥ / ٣٢٥ ، ١٢ / ٣٦٧ ، ١٤ / ١٣٧ ، وتاج العروس (دنف) ، (زحلف) ، (سدف) ، وجمهرة اللغة ص ٦٧٩ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٣٠٤ ، ومجمل اللغة ٢ / ٢٩٣ ، وأساس البلاغة (دنف) ، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص ٢٧٤ ، وكتاب العين ٦ / ٢٨٨ ، ٨ / ٤٨ ، والمخصص ٩ / ٢٥ ، ١٧ / ٣١ ، ولسان العرب (خشف).

أى حين اصفرت. أراد عند غروبها تظهر كأنها مريضة. انظر اللسان.

(٢) صدره :

* ولاحظت النوار وهن مريضة*

وقبله فى وصف الشمس :

وقد رنّقت شمس الأصيل ونفضت

على الأفق الغربى ورسا مزعزعا

وودعت الدنيا لتقضى نحبها

وشوّل باقى عمرها فتشعشعا (نجار).

(٣) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (حزر) ، وجمهرة اللغة ص ٤٨٣ ، وتاج العروس (حزر).

٤٧٨

وقال :

* نزع الحزوّر بالرشاء المحصد (١) *

وكأنهم زادوا الواو وشدّدوها لتشديد معنى القوّة ؛ كما قالوا للسيّئ الخلق : عذوّر ، فضاعفوا الواو الزائدة لذلك ؛ قال.

إذا نزل الأضياف كان عذوّرا

على الحىّ حتى تستقلّ مراجله (٢)

ومنه رجل كروّس ؛ للصلب الرأس ، وسفر عطوّد ؛ للشديد ؛ قال :

إذا جشمن قذفا عطوّدا

رمين بالطّرف مداه الأبعدا (٣)

ومثل الأول : قولهم : غلام رطل وجارية رطلة للينها وهو من قولهم رطّل شعره إذا أطاله فاسترخى ومنه عندى الرطل الذى يوزن به. وذلك أن الغرض فى الأوزان أن تميل أبدا إلى أن يعادلها الموزون بها. ولهذا قيل لها : مثاقيل فهى مفاعيل من الثّقل ، والشىء إذا ثقل استرسل وارجحنّ ، فكان ضدّ الطائش الخفيف.

فهذا ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة اللطيفة. وإنما يسمع الناس هذه الألفاظ فتكون الفائدة عندهم منها إنما هى علم معنيّاتها. فأمّا كيف ، ومن أين فهو ما نحن عليه. وأحج به أن يكون عند كثير منهم نيّفا لا يحتاج إليه ، وفضلا غيره أولى منه.

ومن ذلك أيضا قالوا : ناقة ؛ كما قالوا : جمل. وقالوا (ما بها) دبيّج ؛ كما قالوا : تناسل عليه الوشاء (٤). والتقاء معانيهما أن الناقة كانت عندهم مما يتحسّنون به ويتباهون بملكه ، فهى (فعلة) من قولهم : تنوّقت فى الشىء إذا أحكمته

__________________

(١) عجز بيت من الكامل ، وهو للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص ٩٧ ، ولسان العرب (حزر) ، وتهذيب اللغة ٤ / ٣٥٧ ، وتاج العروس (حزر) ، (حصف).

(٢) البيت من الطويل ، وهو لزينب بنت الطثرية فى لسان العرب (عذر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٦٧ ، وجمهرة اللغة ص ٦٢ ، وتاج العروس (عذر) ، وبلا نسبة فى لسان العرب (ضيف) ، (عدل) ، وأساس البلاغة (عذر) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٢٥٦ ، ومجمل اللغة ٣ / ٤٦١.

(٣) يصف إبلا. ويريد بالقذف : الفلاة البعيدة.

(٤) الوشاء : هو فى الأصل كثرة المال أى الإبل والنعم. ويراد به هنا المال نفسه.

٤٧٩

وتخيرته ؛ قال ذو الرمّة :

 ... تنوقت

به حضرميّات الأكفّ الحوائك (١)

وعلى هذا قالوا : (جمل) لأن هذا (فعل) من الجمال ؛ كما أن تلك (فعلة) من تنوقت ـ وأجود اللغتين تأنّقت ـ قال الله سبحانه : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦]. وقولهم : (ما بها دبّيج) هو (فعّيل) من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس بهم العمارة وحسن الآثار ، وعلى أيديهم يتمّ الأنس وطيب الديار. ولذلك قيل لهم : ناس لأنه فى الأصل أناس ، فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. فهو (فعال) من الأنس ؛ قال :

أناس لا يملّون المنايا

إذا دارت رحى الحرب الزّبون (٢)

وقال :

أناس عدا علّقت فيهم وليتنى

طلبت الهوى فى رأس ذى زلق أشم (٣)

وكما اشتقّوا دبيجا من الديباج ؛ كذلك اشتقّوا الوشاء من الوشى ؛ فهو (فعال) منه. وذلك أن المال يشى الأرض ويحسّنها. (وعلى ذلك قالوا : الغنم لأنه من الغنيمة ؛ كما قالوا لها : الخيل ؛ لأنها فعل من الاختيال وكلّ ذلك مستحبّ).

أفلا ترى إلى تتالى هذه المعانى وتلاحظها ، وتقابلها وتناظرها ؛ وهى التنوّق ، والجمال ، والأنس ، والديباج ، والوشى ، والغنيمة ، [والاختيال. ولذلك قالوا : البقر ؛ من بقرت بطنه أى شققته ؛ فهو إلى السعة والفسحة ، وضدّ الضيق والضّغطة].

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لذى الرمة فى تتمة ديوانه ص ١٧١٤ ، ولسان العرب (نوق) ، وتاج العروس (نوق) ، (حاك).

(٢) البيتان من الوافر ، وهما لأبى الغول الطهوىّ فى أمالى القالى ١ / ٢٦٠ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص ٣٩ ، ٤٠ ، وشرح المفصل ٥ / ٥٥.

(٣) الأبيات من الطويل ، وهى لعمرو بن شأس فى شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ، والكتاب ٢ / ١٥١.

٤٨٠